المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 408923
يتصفح الموقع حاليا : 344

البحث

البحث

عرض المادة

لماذا كانت المذاهب الفقهية المعمول بها أربعة، وما ضرورتها؟

أئمة الفقه الإسلامي المشهورون أربعة، وقد كانوا قديماً ضعف ذلك مرة أو مرتين، بيد أن الذين رسخت مكانتهم وخلد ذكرهم أولئك الأربعة، الكبار أبو حنيفة ومالك والشافعي وابن حنبل!

 

أكان ذلك لمصادفات عارضة؟ أم تم وفق سنة البقاء للأصلح؟ لا تعنيني الإجابة وإنما يعنيني القول بأن أولئك الرجال الأربعة كانوا قمماً في التقوى والمعرفة، والنصح للأمة، وإقصاء مشاعر الرغبة والرهبة مع كل حاكم مهما امتدت دولته وعظمت سلطته..

 

والخلاف الفقهي أول أمره كان علامة صحة، ولا ضير من بقائه إلى آخر الدهر مادام لا يعدو حدوده! وحدوده هي دائرة الأعمال الفرعية.

 

أما أركان الدين ومعالم الإيمان، ودعائم الأخلاق، ومعاقد الشريعة، فهي موضع اتفاق بين خاصة المسلمين وعامتهم. . .

 

والذي ضخم الخلاف الفقهي، وشغل الناس به على نحو مستهجن أمران:

أولهما: جهل الغوغاء، وفرح الواحد منهم بحكم عرفه، ومغالاته به كما يقول الناس في مصر: "الكعكة في يد اليتيم عجب"؛ ولذلك ترى هؤلاء يقدمون فقه المضمضة والاستنشاق على رعاية العهود والأمانات! وهذا ضلال مبين.

 

والأمر الثاني: طول أجل الفساد السياسي في تاريخنا، فقد أخرس الألسنة عن الكلام في الفقه الإداري والدستوري والدولي، وضمانات الشورى والمال العام، وأغرى أهل البطالة بالثرثرة المملة فيما وراء ذلك حتى جعل جماهير تهتاج لقضية "وضع اليدين" في أثناء الصلاة ولا تتحرك بقوة لضرب الاستعمار المغير، ومحو الأسباب التي جلبته. .

 

ولو تعاون المسلمون على تنفيذ ما اتفقوا عليه – وهو لب الدين وجمهرة تعاليمه – لكان الخلاف فيما وراء شيئاً لطيفاً وطريفاً، ومصدر تراحم لا خصام.

 

والأئمة الأربعة كما أسلفنا القول رجال كبار، لكنهم ليسوا معصومين، ولا فرض أحدهم نفسه على الأمة، ولا كلفنا شرعاً باتباع واحد بعينه منهم.

 

وأنما نحترمهم؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يُوَقِّرْ كَبِيرَنَا وَيَرْحَمْ صَغِيرَنَا ويعرف لعالمنا حقه".

 

وأحب أن أعرض نماذج متناثرة للخلاف الفقهي تومئ إلى طبيعته وعلته، أما التأصيل العلمي لأسباب الخلاف فقد شرح في أماكن أخرى.

 

هل القاذف الكذاب نقبل شهادته بعدما تتم توبته؟ ... من الأئمة من يرفض شهادته أبداً وإن تاب، ومنهم من يقبلها بعد توبته.

 

وأصل المسألة تفسير قوله تعالى: {وَٱلَّذِينَ يَرْمُونَ ٱلْمُحْصَنَٰتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَآءَ فَٱجْلِدُوهُمْ ثَمَٰنِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَٰدَةً أَبَدًا ۚ وَأُولَٰٓئِكَ هُمُ ٱلْفَٰسِقُونَ إِلَّا ٱلَّذِينَ تَابُوا مِنۢ بَعْدِ ذَٰلِكَ وَأَصْلَحُوا} [النور: 4-5].

 

قال البعض الاستثناء وقع من الوصف بالفسق، وبقي الحرمان من الشهادة على التأبيد، وقال آخرون: بل الاستثناء يلحق الجملتين معاً، وتقبل شهادته ليكن هذا أو ذاك، فلا حجر على فهم!

 

والتائبون من جريمة قطع الطريق، إذا استسلموا قبل إلقاء القبض عليهم، تقبل توبتهم وتسقط عقوبتهم لقوله تعالى: {إِلَّا ٱلَّذِينَ تَابُوا مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ ۖ  فَٱعْلَمُوٓا أَنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [المائدة:34] فهل يسقط الحد عمن ارتكب جريمة السرقة، أو الزنى؟ إذا تاب؟

 

من الفقهاء من أعمل القياس، واستشهد بالسنة، وأوقف الحد، جاء عن أنس بن مالك: كُنْتُ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أَصَبْتُ حَدًّا فَأَقِمْهُ عَلَيَّ قَالَ وَلَمْ يَسْأَلْهُ عَنْهُ قَالَ وَحَضَرَتْ الصَّلَاةُ فَصَلَّى مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا قَضَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصَّلَاةَ قَامَ إِلَيْهِ الرَّجُلُ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أَصَبْتُ حَدًّا فَأَقِمْ فِيَّ كِتَابَ اللَّهِ قَالَ: "أَلَيْسَ قَدْ صَلَّيْتَ مَعَنَا قَالَ نَعَمْ قَالَ فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ غَفَرَ لَكَ ذَنْبَكَ"!

 

وهناك فقهاء آخرون يرون ضرورة إقامة الحد رافضين القياس ومؤولين الحديث الوارد.. لكل رأيه ولا تثريب على أحد..!

 

وفي فقه الأسرة نقرأ شريعة الخلع! ولا أدري لماذا أهملت؟ ولماذا كان القضاء يأمر رجال الشرطة باقتياد الزوجة الكارهة إلى بيت زوجها لتسلمه جسدها!

 

وهل الخلع طلاق أو فسخ لعقد الزوجية؟ خلاف بين الفقهاء، وظاهر القرآن أن الخلع فسخ؛ لأن الله سبحانه يقول: {ٱلطَّلَٰقُ مَرَّتَانِ} [البقرة: 229] ثم يقول: {فَإِمْسَاكٌۢ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌۢ بِإِحْسَٰنٍۢ} [البقرة: 229] وفسر التسريح بعد ذلك بقوله: {فَإِن طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُۥ مِنۢ بَعْدُ حَتَّىٰ تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُۥ} [البقرة: 230].

 

وقد توسط الخلع أحكام الطلاق بقوله سبحانه: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ ٱللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا ٱفْتَدَتْ بِهِۦ} [البقرة: 229].

 

فالظاهر أن رد المرأة للمهر الذي قبضته عود في العقد! ويحكم القضاء بالفسخ.

 

ويرى آخرون أن الخلع طلاق بائن للحديث الوارد للإشهاد عليه، والحق أني حائر في ذلك مع قوله تعالى: {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍۢ وَأَشْهِدُوا ذَوَىْ عَدْلٍۢ مِّنكُمْ وَأَقِيمُوا ٱلشَّهَٰدَةَ لِلَّهِ ۚ ذَٰلِكُمْ يُوعَظُ بِهِۦ مَن كَانَ يُؤْمِنُ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلْآخِرِ} [الطلاق: 2].

 

كيف يكون الإشهاد نافلة مع هذه التوكيدات؟ ويغلب على ظني أن التقاليد التي ضامت المرأة من قديم لها دخل كبير في هذا الاضطراب.

 

إن التحقيق العلمي يوجب احترام شريعة الخلع التي أهملت، كما يوجب ضرورة الإشهاد على الطلاق.

 

ونترك فقه الأسرة إلى طرف من فقه العبادات، إنني قضيت ردحاً من الزمان أعمل في المساجد، ورأيت مظاهر الخلاف بين الأئمة الأربعة: هذا يقنت في الفجر وذاك يصمت! هذا يصلي نافلة قبل المغرب وذاك يأبى! هذا يحيي المسجد في أثناء الخطبة وذاك يجلس! هذا يقرأ فاتحة الكتاب وراء الإمام وهذا ينصت! هذا يقبض يديه إلى سرته، وهذا يقبضها إلى صدره، وهذا يسدلهما إلى جنبيه!

 

قال لي صديق: أيسرك هذا التفاوت؟ قلت: كنت أوثر وجدة الصورة، لكني أدع الوضع كما ترى؛ لأن عنايتي بالموضوع أكثر من عنايتي بالشكل، الأن هناك وجهات نظر فقهية محترمة وراء هذا التفاوت، أكره الاصطدام بها...!

 

المشكلة ليست في هذا الخلاف الفقهي، إنها فيما وراءه من غلو وتعصب، فالذي يمنع القنوت في الفجر وبعض جماعة القانتين يظن أنه استنقذ القدس من براثن اليهود! ومنع بدعة تقود إلى النار!

 

المشكلة في الضحالة الفكرية والضغائن النفسية التي تغلف أولئك الناس، وهي آفات تفسد الطاعات ولا أحسب أن صلاة تقبل معها!

 

إن هؤلاء المتعصبين يعيشون داخل حجب سميكة، كما يعيش الكتكوت داخل قشر البيضة قبل الفقس لا يرى أرضه ولا سماءه إلا هذه الدائرة الضيقة...

 

والدين بداهة غير هذا، الدين لا خلاف عناصره قلب خاشع وفكر فاضل، وامانات مرعية في تقلب المرء على ظهر الأرض منذ رشد إلى أن يلقى ربه!

 

ليختلف المسلمون في الفروع العملية وراء أئمة أربعة أو ثمانية، فالخطورة لا تنشأ من الخلاف الفرعي، إنما تنشأ من فساد الأفئدة والألباب...!

 

على أن الخلاف يحسم، ويختار رأي واحد حتماً عندما يتعلق الأمر بالدولة وشئونها الإدارية، وقوانينها الحاكمة في الدماء والأموال والأعراض!

 

لنفرض أن فقيهاً يرى أن طلاق البدعة يقع، وفقيهاً آخر يرى أن طلاق البدعة لغو، فهل تقف أجهزة الدولة في انتظار غلبة أحد الاجتهادين؟ إنها لن تدور أبداً والحالة هذه!

 

وإثبات الطلاق لا بد من تدوينه في سجلات ومن رعايته في النسب والتوارث!

 

ومن حق الدولة أن تختار مذهباً فقهياً لتدير الأمور على أساسه، وتحفظ الحقوق وفق نصوصه..

 

هل المخدرات خمر يعاقب على تناولها أم لا؟ من حق الدولة أن تختار مذهباً فقهياً تجرم به تناول المسكرات والمخدرات جميعاً، وتهمل المذاهب الأخرى.

 

ويطرد الأمر بالنسبة إلى قضايا القتل مع اختلاف الدين، ومع الملابسات الأخرى.

 

ويمكن أن يتغير القانون، وأن تترك الحكومة مذهباً وتؤثر عليه آخر، وذلك وفق نشاط الاجتهاد الفقهي ووزن الناس لمصالحهم المتجددة، وذاك ما نشرحه في فصل آخر إن شاء الله.

 

  • الخميس AM 09:20
    2022-03-24
  • 952
Powered by: GateGold