المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 412247
يتصفح الموقع حاليا : 322

البحث

البحث

عرض المادة

ما تأثير القرآن في الفكر الإنساني..؟

يحسب كثيرون أن صلة الدين بالقلب أسبق من صلته بالعقل، أو أنه بحسب الإنسان أن يكون صافي الروح نبيل الخلق صادق المشاعر ليتم دينه ويكتمل يقينه، مهما كان عقله بعد ذلك..

 

وذلك خطأ! فإن الإسلام يريد أولاً عقلاً سليماً وفكراً مستقيماً، فما قيمة امريء مشوش الذهن سقيم التفكير؟

 

إن صحة النظر إلى الأمور ودقة الحكم على الأشياء تجيء أولاً، ثم تجيء الطيبة والنية الحسنة بعد ذلك..

 

وعندما بدأت الدعوة إلى الإسلام أهاب القرآن بالناس أن ينفضوا عنهم ما ورثوا من خرافة، وأن يعيدوا اليقظة إلى عقولهم المغيبة {قُلْ إِنَّمَآ أَعِظُكُم بِوَٰحِدَةٍ ۖ  أَن تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَىٰ وَفُرَٰدَىٰ ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا ۚ مَا بِصَاحِبِكُم مِّن جِنَّةٍ ۚ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَّكُم بَيْنَ يَدَىْ عَذَابٍۢ شَدِيدٍۢ} [سبأ: 46].

 

كان المتعصبون للتقاليد القائمة يقولون: {إِنَّا وَجَدْنَآ ءَابَآءَنَا عَلَىٰٓ أُمَّةٍۢ وَإِنَّا عَلَىٰٓ ءَاثَٰرِهِم مُّهْتَدُونَ} [الزخرف: 22]. وكان النبي المكافح لإزالة هذه الغيبوبة العقلية يرفض هذا التقليد الأعمى {قَٰلَ أَوَلَوْ جِئْتُكُم بِأَهْدَىٰ مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ ءَابَآءَكُمْ..} [الزخرف: 24].

 

لابد من موازنة عادلة، ونتيجة صحيحة تحترمونها وتصيرون إليها! والحق أني لم أقرأ كتاباً منسوباً إلى السماء احتفى بالنظر العقلي وخط على ضوئه معالم الإيمان مثلما فعل القرآن الكريم..

 

إنه يخاطب الإنسان هكذا { أَلَمْ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ أَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً فَتُصْبِحُ ٱلْأَرْضُ مُخْضَرَّةً..}؟ [الحج: 63]. { أَلَمْ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِى ٱلْأَرْضِ وَٱلْفُلْكَ تَجْرِى فِى ٱلْبَحْرِ بِأَمْرِهِۦ وَيُمْسِكُ ٱلسَّمَآءَ أَن تَقَعَ عَلَى ٱلْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ}؟ [الحج: 65] {أَلَمْ تَرَ إِلَىٰ رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ ٱلظِّلَّ وَلَوْ شَآءَ لَجَعَلَهُۥ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا ٱلشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا...} [الفرقان: 45]  {أَلَمْ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ يُزْجِى سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُۥ ثُمَّ يَجْعَلُهُۥ رُكَامًا فَتَرَى ٱلْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَٰلِهِ} [النور: 43].

 

لعمري ما وجد العقل من بدء الخلق إلى يوم الناس هذا كتاباً يعترف به ويجلو بريقه ويمهد طريقه مثل هذا الكتاب الجليل! كان الدين عند كثيرين ينتظم مع أدب الخيال وأحلام الوجدان وهيام الشعر وتهاويل الفن حتى جاء القرآن الكريم، فإذا الدين علم يعتمد على الحقيقة، وقضايا تعتمد على البرهان، سواء اتصلت بعالم الغيب أو عالم الشهادة، أو كما يعبرون في عصرنا بالمادة وما وراء المادة...

 

وانضم العلماء بالدين إلى الملائكة المقربين في الشهادة بوحدانية الله وعدالته كما جاء في الآية: {شَهِدَ ٱللَّهُ أَنَّهُۥ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ وَٱلْمَلَٰٓئِكَةُ وَأُولُوا ٱلْعِلْمِ قَآئِمًۢا بِٱلْقِسْطِ ۚ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ} [آل عمران: 18].

 

وبديه أن العلم هنا ليس العلم النظري الجاف، لا، إنه علم صادق، مطابق للواقع، يمهد لما نسميه العاطفة العاقلة! ثم نتشبث به ونتعصب له، فلا نرخص قيمته ولا نتنازل عنه، إنها خيانة أن نتخفف من الحق عند ثقل الأعباء، أو نستدير له إذا أرهقنا الأعداء..!

 

وفي القرآن الكريم نماذج كثيرة للتعريف بالحق ولفت البصائر إليه، ولنختر هذا النموذج! يقول الله سبحانه وتعالى معرفاً نفسه لعباده: {وَهُوَ ٱلَّذِىٓ أَنشَأَ لَكُمُ ٱلسَّمْعَ وَٱلْأَبْصَٰرَ وَٱلْأَفْـِٔدَةَ ۚ  قَلِيلًا مَّا تَشْكُرُونَ وَهُوَ ٱلَّذِى ذَرَأَكُمْ فِى ٱلْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ وَهُوَ ٱلَّذِى يُحْىِۦ وَيُمِيتُ وَلَهُ ٱخْتِلَٰفُ ٱلَّيْلِ وَٱلنَّهَارِ ۚ  أَفَلَا تَعْقِلُونَ}؟؟ [المؤمنون: 78-80].

 

هذه إنارة للعقل لا يجوز أن يضل بعدها الطريق، ومنهج القرآن في الحديث عن الله جدير بالاحترام كله، إنه يضع أصابع الإنسان على ما حوله ثم يقول له: فكر! أتظن الشمس عقدت اتفاقاً مع الأرض لتعاقب الليل والنهار؟ أتظن كلتيهما حددت المدار الذي يخصها، ووضعت عقوبة لمن يتجاوزه؟ إن هذه الأجرام السابحة في الفضاء لا تعقل شيئاً، وإنما تديرها حكمة... (أفلا تعقلون)؟

 

وبعد استعراض للكون تناول عرشه وفرشه جاء هذا التقرير الحاكم { بَلْ أَتَيْنَٰهُم بِٱلْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَٰذِبُونَ مَا ٱتَّخَذَ ٱللَّهُ مِن وَلَدٍۢ وَمَا كَانَ مَعَهُۥ مِنْ إِلَٰهٍ ۚ إِذًا لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَٰهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍۢ ۚ سُبْحَٰنَ ٱللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ عَٰلِمِ ٱلْغَيْبِ وَٱلشَّهَٰدَةِ فَتَعَٰلَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [المؤمنون:90-92].

 

هذه عقيدة التوحيد، وتلك أسانيدها العقلية، تتابعت في سياق صريح قاطع يثبت لله كل كمال وينزهه عن كل نقص، ويسند إليه المدائح التي تنبغي له، وتليق بمجده!!

 

حسنا، فهل وقف الأمر عند هذا التقرير المدعوم ببراهينه؟ لا لقد جاء بعده تيار عاطفي يدفع إلى البراءة من كل شرك وجهل، ويخوف من عواقب هذا الإنحدار، جاء هذا التيار في صورة استعاذة من صاحب الرسالة أن يلحقه رشاش من الغضب الماحق الذي سينزل بالشاردين المعاندين، وغضب الجبار محذور، ومن شمائل العبودية أن نتوقاه، وننأى عن أسبابه { قُل رَّبِّ إِمَّا تُرِيَنِّى مَا يُوعَدُونَ رَبِّ فَلَا تَجْعَلْنِى فِى ٱلْقَوْمِ ٱلظَّٰلِمِينَ وَإِنَّا عَلَىٰٓ أَن نُّرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَٰدِرُونَ} [المؤمنون: 93-95].

 

والغريب أنه بعد تمزيق الحجب دون الحقيقة وبعد مواجهة البشر بما يحملهم عليها حملاً، يقول الله لنبيه صلى الله عليه وسلم: تمهل، وتذرع بالحلم، وقابل بإحسان من يسف { ٱدْفَعْ بِٱلَّتِى هِىَ أَحْسَنُ ٱلسَّيِّئَةَ ۚ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ وَقُل رَّبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَٰتِ ٱلشَّيَٰطِينِ} [المؤمنون: 96-97].

 

هذا نموذج من عشرات تنبني عليها السور في القرآن النازل بمكة والنازل بالمدينة على سواء، والغريب أن النموذج هنا من سورة مكية، والمستشرقون يرون أن القرآن المكي يعتمد على العاطفة أكثر مما يعتمد على الفكر.. فهل لديهم ما يوصف بأنه فكر أو عاطفة؟ إن ما لديهم فراغ!!

 

ولا يوجد كتاب بنى الإيمان على البرهان، إلا هذا القرآن، إن التفكير فريضة إسلامية كما يقول الأستاذ العقاد!

 

ومجال التفكير هو في العالم المادي، هنا يستطيع الإنسان أن يلاحظ ويستنتج ويتابع التجارب ويكرر الفروض ويصل آخر الأمر إلى ما يفيده في دينه ودنياه، وذلك ما نبه إليه القرآن الكريم عندما قال: {إِنَّ فِى خَلْقِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ وَٱخْتِلَٰفِ ٱلَّيْلِ وَٱلنَّهَارِ لَآيَٰتٍۢ لِّأُولِى ٱلْأَلْبَٰبِ ٱلَّذِينَ يَذْكُرُونَ ٱللَّهَ قِيَٰمًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِى خَلْقِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَٰذَا بَٰطِلًا سُبْحَٰنَكَ فَقِنَا عَذَابَ ٱلنَّارِ} [آل عمران: 190-191].

 

أولو الألباب هنا يتفكرون في خلق العالم! ويستنتجون من قوانينه المطردة، ونظامه المتناسق أنه مخلوق لرب حكيم، فلا عبث ولا فوضى..

 

وفي أول السورة نفسها ورد ذكر أولي الألباب على نحو آخر، إنهم لا يحاولون اكتناه الذات العليا، ولا يخوضون فيما يصعب دركه من شئونها، إنني شخصياً "أشعر" بأن الله ملك مستو على عرشه، لا يَنِدُّ شيء عن سلطانه، ولا يبعد أمر عن حكمه! لكن كيف ذلك؟ لا أدري!

 

أنا لا أدري علاقة روحي بجسدي، فكيف أدري استواء الله على عرشه!! الأفصل أن أتجاوز ذلك إلى غيره على نحو ما قيل:

إذا لم تستطع شيئاً فدعه وجاوزه إلى ما تستطيع!!

 

{وَٱلرَّٰسِخُونَ فِى ٱلْعِلْمِ يَقُولُونَ ءَامَنَّا بِهِۦ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا ۗ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّآ أُولُوا ٱلْأَلْبَٰبِ} [آل عمران: 7]. على أن هذا التسليم ليس جواز مرور للخرافة أو قبولاً للمتناقضات! وكما قيل: ما يعز على العقل فهمه شيء وما يحكم العقل باستحالته شيء آخر..!

 

وقد حارب القرآن الأوهام، وكم يعيش الناس صرعى أوهام! وحارب الظنون، وكم من ظنون توارثها البشر، وجعلوا منها عقائد مقدسة، وما كانت يوم وجدت إلا شعائعات لا أساس لها.. {وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا ۚ إِنَّ ٱلظَّنَّ لَا يُغْنِى مِنَ ٱلْحَقِّ شَيْـًٔا ۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌۢ بِمَا يَفْعَلُونَ} [يونس:36].

 

 

ومن هنا نهى الله سبحانه وتعالى أن نتبع ما لا نعلم وأن نتأثر بما لا أصل له، لقد وهب لنا الفكر والحواس لنستخدمها في تبين الحق، وسوف يسألنا عن طريقة استخدامنا لتلك المواهب {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِۦ عِلْمٌ ۚ إِنَّ ٱلسَّمْعَ وَٱلْبَصَرَ وَٱلْفُؤَادَ كُلُّ أُولَٰٓئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْـُٔولًا} [الإسراء:36]. ومن معالم الجماعة المسلمة أنها تحترم المنطق، وتسلم باليقينيات وتخضع لسطوة العلم! وقد مضى هذا المنهج إلى غايته وهو يحارب الشرك ويؤسس التوحيد، فترى الحملة على المشركين معللة بأنهم يتبعون ما لا دليل عليه! قال تعالى: {وَمَن يَدْعُ مَعَ ٱللَّهِ إِلَٰهًا ءَاخَرَ لَا بُرْهَٰنَ لَهُۥ بِهِۦ فَإِنَّمَا حِسَابُهُۥ عِندَ رَبِّهِۦٓ ۚ إِنَّهُۥ لَا يُفْلِحُ ٱلْكَٰفِرُونَ} [المؤمنون: 117]. بل إن ذلك يراعي عند قصص الأولين، وذكر أسباب الخروج على الضالين المستبدين، فقد جاء على ألسنة الفتية أهل الكهف {هَٰٓؤُلَآءِ قَوْمُنَا ٱتَّخَذُوا مِن دُونِهِۦٓ ءَالِهَةً ۖ  لَّوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِم بِسُلْطَٰنٍ بَيِّنٍۢ...} [الكهف:15] أي بدليل واضح مقبول!

 

الحق أن أثر القرآن الكريم في الفكر الإنساني عميق، إنه هو الذي أقام الإيمان على المنطق ورفع راية العقل!

 

  • الخميس AM 08:57
    2022-03-24
  • 891
Powered by: GateGold