المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 412536
يتصفح الموقع حاليا : 389

البحث

البحث

عرض المادة

ما معنى أن الله جعل المسلمين أمة وسطا؟

قالوا من قديم: إن الفضيلة وسط بين رذيلتين، وسواء اطرد هذا القول أم لا يطرد فإن الحقيقة تضيع بين الإفراط والتفريط، والناس يعانون كثيراً من الغلو الشديد والإهمال البارد.

 

وعندما ظهر الإسلام كان اليهود معروفين بالحرص على الحياة والحب القوي للمال، وطلبه من الربا ومن وجوه السحت الأخرى، وأن المسيحيين يرون التقوى في الرهبانية والزهد واحتقار المال، حتى قيل في كتبهم: لأن يلج الجمل في سم الخياط أقرب من أن يدخل الغني ملكوت السموات!!.

 

وجاء الإسلام فرفض المسلكين، وعدَّ المال وسيلة لما بعده وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "وَإِنَّ هَذَا الْمَالَ خَضِرٌ حُلْوٌ وَنِعْمَ صَاحِبُ الْمُسْلِمِ هُوَ لِمَنْ أَعْطَى مِنْهُ الْمِسْكِينَ وَالْيَتِيمَ وَابْنَ السَّبِيلَ أَوْ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنَّهُ مَنْ يَأْخُذُهُ بِغَيْرِ حَقِّهِ كَانَ كَالَّذِي يَأْكُلُ وَلَا يَشْبَعُ وَيَكُونُ عَلَيْهِ شَهِيدًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ".

 

وكانت الصرامة والقسوة ملحوظتين في تعالين اليهود، كأن التقوى عقوبة مرصدة لكل ذنب، وكأن مرضاة الله لا تتم إلا بواجبات جافة ومظاهر محبوكة، فجاء عيسى عليه السلام يتحدث عن القلوب الرقيقة والبشرية الضعيفة الفقيرة إلى عفو الله.

 

وقالوا: إنه ترك امرأة اقتيدت متهمة بالإثم، وقال لليهود: من كان منكم بلا خطيئة فليتقدم ليرجمها..!

 

وجاء الإسلام فرفض العبادة المقرونة بالصلب والاستعلاء على الناس! ويسر التوبة لكل عاثر وأمر بستره والتجاوز عنه! وأقر العقاب لمن يتبجح بجرمه ويؤذي المجتمع بالإصرار عليه!!

 

أي إنه رفض الطاعة المستكبرة، ورحم المعصية النادمة وطلب الإصلاح المتواضع الرقيق! يقول على بن أبي طالب: الفقيه كل الفقيه من لم يقنِّط الناس من رحمة الله، ولم يؤمنهم مكره!

 

والحق أن عيسى عليه السلام لم يستهن بجريمة الزنى، ولكنه كما روى الإمام مالك عنه يقول: لا تنظروا في ذنوب الناس كأنكم أرباب، وانظروا في ذنوبكم كأنكم عبيد، فإنما الناس مبتلي ومعافي، فارحموا أهل البلاء واحمدوا الله على العافية..

 

والإسلام دين وسط يأمر الأمة بالتزام الصراط المستقيم ويجذرها من الخطوط المنحرفة يمياً والمنحرفة يساراً.

 

سئل ابن مسعود رضي الله عنه: ما الصراط المستقيم؟، فقال: تركنا محمد في أدناه، وطرفه في الجنة، وعن يمينه جواد وعن يساره جواد يعني طرقاً شتى – وثم رجال يدعون من مر بهم، فمن أخذ في تلك الجواد انتهت بهم إلى النار، ومن أخذ على الصراط المستقيم انتهى به إلى الجنة، ثم قرآ ابن مسعود {وَأَنَّ هَٰذَا صِرَٰطِى مُسْتَقِيمًا فَٱتَّبِعُوهُ ۖ  وَلَا تَتَّبِعُوا ٱلسُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِۦ...} [الأنعام: 153].

 

والغلو في الدين قد ينتج عن خطأ في الفكر أو عوج في الطبع، وغالباً ما يزيغ عن الحق وينتهي بالاتسلاخ عن الدين الصحيح لذلك بقوله تعالى لنبيه: {قُلْ يَٰٓأَهْلَ ٱلْكِتَٰبِ لَا تَغْلُوا فِى دِينِكُمْ غَيْرَ ٱلْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوٓا أَهْوَآءَ قَوْمٍۢ قَدْ ضَلُّوا مِن قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَن سَوَآءِ ٱلسَّبِيلِ} [المائدة: 77].

 

هناك من يبالغ في التعبد فينحرف يميناً بالابتداع والحماس الكاذب، وهناك من ينحرف يساراً بالإهمال المنتهي بالجحود والتمرد.. يقول الشيخ محمد عبدالله دراز: "كأنه أشار باليمين إلى طرف الإفراط والتعمق في الدين، وباليسار إلى طرف التفريط والتقصير، وكلاهما منحرف عن سواء السبيل، وعن الوسط الذي يميل إلى أحد الجانبين. ونحن لو تتبعنا أنواع البدع والضلالات الاعتقادية وفتن الشبهات التي أشارت إليها أحاديث افتراق الأمة على بضع وستين شعبة أو البدع والضلالات العملية وفنون الشهوات التي أشارت إليها أحاديث فتح الدنيا وبسطها لهذه الأمة وتنافسهم فيها وجعل بأسهم بينهم... إلخ، لوجدناها لا تعدو هذين الطرفين".

 

إن الإسلام يجعل التوسط فضيلة في شئون الدين والدنيا جميعاً، ففي مجال التعبد يرفض الإسلام الجهد المضني، ويؤثر الاعتدال المستمر قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِنَّ لِكُلِّ شَيْءٍ شِرَّةً - حماساً ونشاطاً - وَلِكُلِّ شِرَّةٍ فَتْرَةً- بروداً وعجزاً -  فَإِنْ كَانَ صَاحِبُهَا سَدَّدَ وَقَارَبَ فَارْجُوهُ وَإِنْ أُشِيرَ إِلَيْهِ بِالْأَصَابِعِ فَلَا تَعُدُّوهُ".

 

وفي شئون الدنيا يكره الإسلام التبذير والتقتير، ويجب الإنفاق المعقول وقد وصف الله عباد الرحمن فقال: {وَٱلَّذِينَ إِذَآ أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَٰلِكَ قَوَامًا} [الفرقان: 67].

 

في مجال العلم الديني رأيت ناساً متبجرين في المنقول والمعقول بهم فقه واسع، ومحفوظات كثيرة، لكن قلوبهم يشينها جفاف بالغ، تولى أحدهم القضاء، وقدمت إليه امرأة متهمة بالزنى، فما زال يستدرجها ويمكر بها حتى اعترفت له، وحكم برجمها؛ لأنها متزوجة!!

 

قلت: هذا منهج يهودي، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يرشد المتهم ليفر من العقاب ويتراجع عن قراره.. ويتحايل عليه لينصرف آمناً.. أما هذا القاضي فإنه احتال على المذنب ليقتله! ليس هذا أسلوب الإسلام، والعلة أن جانباً آخر من الثقافة الإسلامية لم يصلح قلب الرجل فبقى معتلاً، ولو ألف "علم القلوب" وذاق الجانب العاطفي من الإسلام لستر وغفر يستره الله ويغفر له!!

 

والمحزن أن هناك انفصالاً في علومنا الدينية بين الفقه والتصوف، مما جعل المتصوفين يجنحون أحياناً إلى الجنون، وجعل الفقهاء أحياناً يمثلون القانون العاتي الأصم..

 

والوسطية فضيلة تبرز في توجيهات الإسلام الاجتماعية والاقتصادية، ففي العلاقة بين الرجال والنساء مثلاً أبى أن تكون المرأة حبيسة البيت أو طريدته! وأن تكون نظرة الرجل إليها نظرة السجان أو الصياد!

 

البيت هو المحضن الذي تتولى المرأة فيه تربية الجيل الجديد وتنشئته على تعاليم الدين وتقاليده، وليس البيت سجناً كما تفهم ذلك بعض التقاليد السائدة عندنا، وليس ملتقى عابراً للأبوين والأولاد كما تألف ذلك أوربا حيث الأسر كلها لا موضوع له.

 

وللمجتمع العام حظ من حياة المرأة، فهي تتعلم وتعلم وتتداوي وتأمر وتنهي وتبايع، وقد تشارك الجيش في بعض الخدمات الطبية، وقد تقاتل إن اقتضى الأمر الدفاع، وينبغي أن تكون خبيرة بشئون أمتها الدينية والمدنية.

 

وهناك من يأبى على المرأة هذا كله أو بعضه.. في الوقت الذي أسرفت فيه المرأة الغريبة إسرافاً شائنا في الذوبان خارج البيت، وضد رسالتها الأولى.

 

لو التزمنا وسيطة الإسلام لكان ذلك أرضى لله وأسعد للأمة وأزكى للجنسين معاً.

 

وفي الناحية الاقتصادية أقر الإسلام حق الملكية الفردية، بيد أنه كبح جماحه بقيود الحلال والحرام، وانتقص أطرافه بحقوق الضعاف والمتعبين..

 

وبذلك ضمن إنتاجاً غزيراً لأن الحوافز قائمة، وحفظ الجماعة من التفكك لأن التواصي بالرحمة لم يدع ثغرة إلا سدها، ونجت الشعوب من الشيوعية الكافرة والرأسمالية الجائرة...

 

والمفروض أن المسلمين يتعلمون من نبيهم هذه الحقائق ويعونها ويطبقونها، فإن الله سائلهم عن الهدايات التي بلغتهم: هل انتفعوا بها ونفعوا بها الناس؟

 

وما من أمة إلا وهي موقوفة لتواجه هذا الحساب يوم القيامة {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍۢ وَجِئْنَا بِكَ عَلَىٰ هَٰٓؤُلَآءِ شَهِيدًا} [النساء: 41].

نعم ومحمد شهيد على المسلمين أنه أخذهم بتلك التعاليم الجليلة، وسيدلي بهذه الشهادة أمام الله، كما أن المسلمين سيُسألون: هل علموا كما تعلموا؟ إن الأمم كلها مكلفة أن تسمع منهم وتستفيد!

 

وهم شهداء على الأمم لأنهم حملة الرسالة العامة، ومبلغوا "الوسطية" التي شرحناها آنفا وكما كان محمد أستاذاً لهم فهم أساتذة لسائر شعوب الأرض!!

 

وذلك معنى قوله تعالى: {وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَٰكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَآءَ عَلَى ٱلنَّاسِ وَيَكُونَ ٱلرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143].

 

والمؤسف أن الأمة المكلفة بذلك فرطت في البلاغ والتعليم! بل فرطت في العمل والتأسي بنبيها، بل لقد أصبحت اليوم ذيلاً لأحزاب الميمنة والميسرة في الشرق والغرب ونسيت الصراط المستقيم.

 

  • الاربعاء PM 06:13
    2022-03-23
  • 1032
Powered by: GateGold