المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 412283
يتصفح الموقع حاليا : 363

البحث

البحث

عرض المادة

ماذا عن القضاء والقدر؟ وكيف نوفق بين الآيات التي تدل على أن الإنسان مختار والأخرى التي تدل على أنه مجبر؟

يقول الله تعالى مبيناً عن حكمته في خلق العالم: {وَهُوَ ٱلَّذِى خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضَ فِى سِتَّةِ أَيَّامٍۢ وَكَانَ عَرْشُهُۥ عَلَى ٱلْمَآءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [هود:7]. أي إن هناك اختباراً كبيراً مفروضاً على الناس يتحقق بعده – مصيرهم!

 

ما هذا المصير؟ يقول جل شأنه في آية أخرى: {وَلِلَّهِ مَا فِى ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِى ٱلْأَرْضِ لِيَجْزِىَ ٱلَّذِينَ أَسَٰٓـُٔوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِىَ ٱلَّذِينَ أَحْسَنُوا بِٱلْحُسْنَى} [النجم: 31] هناك مسيء ينتظره العقاب ومحسن يبنتظره الثواب!

 

وتلك عدالة لا مطعن فيها! بيد أن بعض الناس يقول: هذا الامتحان مزور، وهذه النتائج مغشوشة والذي حدث أن الله هيأ للجنة أناساً وأجرى الأمور كما شاء وستر مشيئته وراء فصول هذه التمثيلية الهازلة!!!

 

الله يقول: إنه أرسل للبشر رسلاً يدلونهم على الصراط المستقيم، وقيل أولئك أقطع بهذا كله أعذاركم... أن تقولوا يوم القيامة {إِنَّا كُنَّا عَنْ هَٰذَا غَٰفِلِينَ} [الأعراف: 172].

 

أو تقولوا: {إِنَّمَآ أَشْرَكَ ءَابَآؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّنۢ بَعْدِهِمْ ۖ  أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ ٱلْمُبْطِلُونَ} [الأعراف: 173].

 

لن يقبل من أحد كلام بعد هذا البيان! ومع ذلك يجيء أناس معتوهون يقولون: لا شيء إلا الله لا عمل إلا الله، أصابعه وراء كل شيء، وبقي أن يقولوا: ما في الجنة إلا الله، لا موجود غيره، نحن وهم ما نصنعه وهم!!

 

وأعرف أن وراء هذا التماوت وإنكار الإرادة البشرية والقدرية البشرية من يزعم النقوى ويدعي التصوف، ولقد ظل أولئك يتماوتون حتى ماتوا أدبياً، وتحولوا إلى دواب يمتطيها المستعمرون، ويذللهونها لمآربهم!

 

بحثت عن السبب في هذا الكذب، فوجدته أحياناً رغبة البعض في أن ينحرف ثم يرمي بالتبعة على القدر القاهر!

 

ووجدته أحياناً أخرى سوء الفهم لآيات القرآن الكريم، وجنون الجدل الذي مس بعض العلماء ثم نضح على جماهير الغوغاء.

 

وربما نشأ هذا التعلل المردود عن الخلط بين مواطن الاختيار الحق ومواطن الجبر القاهر، فإن الإنسان يحيا بين جبر واختيار في كيانه الداخلي وفي حركاته الخارجية!

 

إن قلوبنا تدق دون استئذان وتمضي في أداء وظيفتها دون تدخل من إرادتنا، أفكذلك ألسنتنا حين نتكلم؟

 

وقد يكون بعضنا أبيض الجلد والآخر أسوده! أيسأل عن هذا التلوين كما يسأل الإنسان عندما يحسد ذا نعمة أو يزدري ذا عاهة؟

 

وندع هذه النماذج للقدر الظاهر والاختيار الحر، ونسوق أمثلة مما تشترك فيه الإرادة الإنسانية مع الإرادة الإلهية، فإن هذا الاشتراك هو غالباً المهرب الذي يلجأ إليه الجبريون ويسيئون فيه تفسير النصوص.

 

إننا نستغل الكهرباء في بيوتنا للإنارة والإذاعة والتبريد والتسخين، فتصور ساكناً جاءه المحصل يطلب منه ثمن ما أفاد من كهرباء، فقال له: إن التيار مر في الأسلاك من عندكم، والمصباح عندي لا يمكن أن يضيء من ذاته ولو بقي دهراً! يقول له المحصل: ماذا تقصد؟ يقول: لا أدفع ثمن شيء أنتم السبب الأول فيه! يقول المحصل: إنك تحرك المفاتيح فتسمع الإذاعة، وتنير المنازل... إلخ يقول له الساكن: لولا التيار الذي أرسلتموه ما تم شيء.. هكذا يقول بعض الناس لله: لولا إرادتك ما كان شيء، فلماذا أحاسب؟

 

وتصور فلاحاً – كما قلت في كتاب لي – زرع حشيشاً أو أفيوناً، أو أي نبت مخدر، ثم وقف أمام القضاء يدافع عن نفسه يقول: كيف أحاسب على ما زرع الله؟ صحيح أني وضعت بذرة تافهة، لكن من الذي نماها وحملها ثمرها؟ إنه القائل: {ءَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُۥٓ أَمْ نَحْنُ ٱلزَّٰرِعُونَ} [الواقعة: 64]

 

كثيير من الناس يعالج قضاياع الدينية بهذا المنطق!

 

نحن نعلم أن الإنسان إذا أراد الذهاب إلى المسجد أو إلى الخمارة بقي قلبه يدق بقدر الله، وبقي جهازه العصبي يصدر أوامره إلى الأقدام لتتحرك بقدر الله، وبقيت الأرض دون خسف ولا زالزال باسم الله! فهل معنى ذلك أن الله هو الذي دفع هذا إلى المسجد دفعاً ودفع ذلك إلى الخمارة دفعاً.

 

كلا كلا! إن للإنسان إرادة حرة، بها كلف، وبها صح اختياره، وبها تم جزاؤه. وكون الله أعانه على ما أراد لنفسه، أو أنضج له ما بذر في أرضه، أو أمده بالتيار الكهربي الذي أنار بيته لا ينفي مسئوليته التامة عما فعل!!

 

الإرادة ميزة محققة مؤكدة في الكيان الإنساني، بها حمل أمانة التكليف، وبها تميز عن الجماد الأصم والحيوان الأعجم، وبها يعلو أو يهوي ويشكر أو يكفر!

 

وعندما يتجه المرء – يمحض اختياره – إلى الإحسان والإساءة فإن تيار الإرادة المبعوث في أرجاء الوجود طيع بين أصابعه، إن شاء أضاء فمشى في النور، أو أطفأ فخبط في الظلام.

 

وآيات القرآن تؤكد هذه الحقائق، ويجب أن نعلم أن القرآن يفسر بعضه بعضاً ويصدفه ويكمله!

 

 

إذا قال تعالى: {كَذَٰلِكَ يُضِلُّ ٱللَّهُ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِى مَن يَشَآءُ ۚ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} [المدثر: 31] فلنسأل أنفسنا: من الذين يشاء الله إضلالهم؟ ولنسمع الإجابة من القرآن نفسه {وَيُضِلُّ ٱللَّهُ ٱلظَّٰلِمِينَ ۚ وَيَفْعَلُ ٱللَّهُ مَا يَشَآءُ} [إبراهيم: 27] {إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَهْدِى مَنْ هُوَ كَٰذِبٌ كَفَّارٌ} [الزمر: 3] {كَذَٰلِكَ يُضِلُّ ٱللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُّرْتَابٌ} [غافر: 34].

 

ليس الأمر إذن لي عنان رجل صالح كي يتعرض لعذاب الله، ولأن الله شاء إضلاله وتعذيبه، كلا، وحاشا للبر الرحيم، العدل الكريم أن يفعل ذلك.

 

هذا امرؤ اتجه إلى البشر فدفعته الأقدار في طريقه الذي اختاره، وهل يجنى العنب من بذر الشوك؟

 

وكلما أوغل الشرير في الطريق زاد سمك الغشاوة المضروبة على بصيرته، فيظلم القلب وتحجز أهل الأرض عن إنارته {كَلَّا ۖ  بَلْ ۜ رَانَ عَلَىٰ قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطفيفين: 14] وهكذا يصنع الله بالمجادلين في آياته، المستكبرين على الحق {كَذَٰلِكَ يَطْبَعُ ٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍۢ جَبَّارٍۢ } [غافر: 35].

 

الأساس أن هذا الذي شاء الله إضلاله، أضل نفسه أولاً، فأتم الله له مراده كما قال: {فَلَمَّا زَاغُوٓا أَزَاغَ ٱللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [الصف:5] وكما قال في موضع آخر {وَمَن يُشَاقِقِ ٱلرَّسُولَ مِنۢ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ ٱلْهُدَىٰ وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ ٱلْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِۦ مَا تَوَلَّىٰ...}    [النساء: 115]

 

ومن السفاهة الظن بأن الله أزاغ طالب هدى. أو أضل من اتبع سبيل المؤمنين!

 

وكما يشاء الله إضلال هؤلاء يهدي إلى الحق من ابتغاء ونشده: {وَٱلَّذِينَ ٱهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَءَاتَٰهُمْ تَقْوَٰهُمْ} [محمد: 17] وقال تبارك اسمه: {إِنَّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا ٱلصَّٰلِحَٰتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُم بِإِيمَٰنِهِمْ} [يونس: 9] وقال: {وَمَن يُؤْمِنۢ بِٱللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ}   [التغابن: 11] وقال: {وَيَهْدِىٓ إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ ٱللَّهِ ۗ  أَلَا بِذِكْرِ ٱللَّهِ تَطْمَئِنُّ ٱلْقُلُوبُ} [الرعد: 27-28].

 

إن المشيئة الإلهية ليست رمزاً للفوضى، وعندما يقول الله: {وَمَن يُضْلِلِ ٱللَّهُ فَمَا لَهُۥ مِنْ هَادٍۢ  وَمَن يَهْدِ ٱللَّهُ فَمَا لَهُۥ مِن مُّضِلٍّ} [الزمر:36-37] فالأمر كما شرحنا وكما شرحته آيات أخرى مثل {قُلْ مَن كَانَ فِى ٱلضَّلَٰلَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ ٱلرَّحْمَٰنُ مَدًّا} [مريم: 75] أي يزيده حيرة وعمي فيستحيل أن يعينه أو ينقذه أحد! {وَيَزِيدُ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ٱهْتَدَوْا هُدًى} [مريم: 76] فيستحيل أن يضرهم أو يتسرد بهم أحد بعد هذا العون الأعلى! حيث يكون التكليف الإلهي تكون الإرادة الحرة، وتكون المسئولية الخلقية والجنائية في الدنيا والآخرى!

 

فإذا انعدمت الإرادة لسبب ما فلا مسئولية البتة، وكيف يكلف الإنسان بما لا يطيق والله سبحانه يقول: {لَا يُكَلِّفُ ٱللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ۚ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا ٱكْتَسَبَتْ} [البقرة: 286].

 

قال لي أحدهم: كيف يكون للإنسان اختيار وإرادة الله نافذة في خلقه جميعاً؟

قلت: إن الله فاوت بين خلقه، فهناك فارق بين الجدار والحمار والإنسان! الجدار لا يحس والحمار لا يعقل، والإنسان يحس ويعقل، وله ميزة في تكونيه تجعل له معاملة أخرى غير معاملة الجدار والحمار!!

 

إن معاملتي لسائق السيارة غير معاملتي للسيارة نفسها، الفارق واسع بين القائد والمقود والراكب والمركوب!! والمساواة بينهما في التكليف حمق.

 

وذكر لي آخر قوله تعالى: { فَمَن يُرِدِ ٱللَّهُ أَن يَهْدِيَهُۥ يَشْرَحْ صَدْرَهُۥ لِلْإِسْلَٰمِ ۖ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُۥ يَجْعَلْ صَدْرَهُۥ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِى ٱلسَّمَآءِ ۚ كَذَٰلِكَ يَجْعَلُ ٱللَّهُ ٱلرِّجْسَ عَلَى ٱلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ } [الأنعام: 125].

 

وقال: أليست هذه الآية نصاً في سبق الهداية الإلهية والإضلال الإلهي؟ قلت له: أنت واهم تدبر ختام الآية الكريمة تجد مفتاح المعنى الذي غاب عنك { كَذَٰلِكَ يَجْعَلُ ٱللَّهُ ٱلرِّجْسَ عَلَى ٱلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ} [الأنعام: 125].

 

إن الرجس الذي خنق صدورهم نشأ عن عدم إيمانهم، فلما رفضوا الإيمان وغصت به حلوقهم جوزوا بهذا الضيق والحرج، أما الذين رضوا بالحق واستراحوا إليه فقد استحقزا الهداية العليا وكوفئوا بشرح الصدر؟

 

ذلك، والاختيار بين النهجين يصحب المرء في كل يوم، بل في كل لحظة وهذا هو السر في أننا نطلب من الله الهدى في صلواتنا اليومية نحو عشرين مرة بالليل والنهار.

 

إن ظرونا هائلة تحيط بنا لا تعرف إرادتنا ولا قدراتنا ما تصنع بإزائها، وما أشبه الإنسان بزورق هش الصنع، يعوم في بحر لجيَّ يغشاه موج من فوقه سحاب هنا يتشبث الإنسان بالتوفيق الإلهي ويسأل ربه النجاة.

 

ومن العقل أن نميز بين الأقدار التي تحيط بنا وتتحكم فينا، والأعمال التي طولبنا بها ونسأل غداً عنها!

 

وأرى أن إنكار الاختيار البشري فرار من وظائف العبودية، واتهام لصفات الربوبية، وهذه جريمة، ما الذي نحاوله بهذا المسلك؟ يقول الله سبحانه: {لِّلَّذِينَ أَحْسَنُوا ٱلْحُسْنَىٰ وَزِيَادَةٌ} [يونس: 26] ثم يقول: {وَٱلَّذِينَ كَسَبُوا ٱلسَّيِّـَٔاتِ جَزَآءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا} [يونس: 27]. ثم يقول عن الجزاء الأخير {هُنَالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍۢ مَّآ أَسْلَفَتْ ۚ وَرُدُّوٓا إِلَى ٱللَّهِ مَوْلَٰهُمُ ٱلْحَقِّ} [يونس: 30] فأين الظلم أو الجبر في هذا الصنيع؟


  • الاربعاء PM 06:02
    2022-03-23
  • 944
Powered by: GateGold