المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 411898
يتصفح الموقع حاليا : 274

البحث

البحث

عرض المادة

أفي الله شك؟

بقلم: فاتن صبري

Www.fatensabri.com

 

من كتاب: لماذا الدين ؟ رحلة من الذاكرة

 

لا ملجأ من الله إلا إليه!

لطالما في صغري أحببت عبارة " لا ملجأ من الله إلا إليه"، وكنت أرددها دائمًا لأستشعر قربي من الله، لكنني لم أفهمها جيدًا حتى حصل معي موقف طريف منذ أكثر من عشرين عامًا، عندما كان ابني طفلاً صغيرًا لا يتجاوز عمره الثلاثة أعوام يصر على لمس فرن الطهي وهو ساخن، حتى اضطررت أن أضربه على يده لأمنعه من العودة إلى هذا التصرف؛ فبكى وأخذ يجول من مكان إلى آخر في المنزل لا يدري أين يذهب، تزامن هذا مع نداء أبيه له ليرضيه، لكن المفاجئة أنه عاد لي مباشرة بدلاً من الذهاب لأبيه وبكى في حجري مما أضحك والده، وقال: سبحان الله.

أما أنا فتذكرت قوله تعالى "لَّا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ"[1]، وقلت في نفسي: الآن فهمتها، فالله سبحانه وتعالى يُذكرنا عندما نتعرض لبعض المصاعب للرجوع إليه كلما ابتعدنا عنه، وشعرت حينها بفرحة عارمة.

حكمة الله:

لقد وضع الخالق قوانين الطبيعة والسنن التي تحكمها وتصون نفسها بنفسها عند ظهور فساد أو خلل بيئي وتحافظ على وجود هذا التوازن بهدف الإصلاح في الأرض واستمرار الحياة على نحو أفضل، وأن ما ينفع الناس والحياة هو الذي يمكث ويبقى في الأرض، وعندما يقع في الأرض من كوارث يتضرر منها البشر كالأمراض، البراكين، الزلازل والفيضانات، تتجلى أسماء الله وصفاته كالشافي والحفيظ مثلاً، في شفائه للمريض وحفظه للناجي، و يتجلى اسمه العدل في عقاب الظالم لغيره والعاصي، ويتجلى اسمه الحكيم في ابتلاء وامتحان غير العاصي والذي يُجازى عليه بالإحسان إن صبر وبالعذاب إن ضجر، وبذلك يتعرف الإنسان على عظمة ربه من خلال هذه الابتلاءات تمامًا كما يتعرف على جماله من خلال العطايا، فإن لم يعرف الإنسان إلا صفات الجمال الإلهي فكأنه لم يعرف الله عز وجل.

سألني ملحد يومًا عن هؤلاء الذين وقع عليهم الابتلاء بالكوارث والأمراض أو ما شابه، فقلت له ببساطة:

إن الحياة الدنيا ليست إلا لحظة إذا قارنتها بالحياة الأخرى الأبدية، ومن ثم يهون كل ما عاناه المؤمن في الدنيا بغمسة واحدة في نعيم الجنة كما بشر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم.

إن وجود المصائب والشر والألم كان السبب وراء إلحاد كثير من الفلاسفة الماديين المعاصرين، ومنهم الفيلسوف "أنتوني فلو" وكان قد اعترف بوجود الإله قبل موته وكتب كتابًا أسماه "يوجد إله "، على الرغم من أنه كان زعيمًا للإلحاد خلال النصف الثاني من القرن العشرين، وعندما أقر بوجود إله قال:

 "إن وجود الشر والألم في حياة البشر لا ينفي وجود الإله، لكنه يدفعنا لإعادة النظر في الصفات الإلهية"، ويعتبر "أنتوني فلو" أن لهذه الكوارث الكثير من الإيجابيات، فهي تستفز قدرات الإنسان المادية فيبتكر ما يحقق له الأمان، كما تستفز أفضل سماته النفسية وتدفعه لمساعدة الناس. وقد كان لوجود الشر والألم الفضل في بناء الحضارات الإنسانية عبر التاريخ. وقال: إنه مهما تعددت أطروحات لتفسير هذه المعضلة فسيظل التفسير الديني هو الأكثر قبولاً والأكثر انسجامًا مع طبيعة الحياة[2].

إن المتأمل السطحي يرى ما يُسبِّبه مرض الكورونا اليوم من معاناة وحالات وفاة وما ترتب عليها من توقف لكافة أنشطة الحياة وانعزال الناس في بيوتهم اتقاءً لهذا المرض، يراه شرًا لا محالة، غير أن الشر نسبي وليس مطلقًا، فلو أننا تفحصنا الوضع من زاوية أخرى لوجدنا أن نسبة التلوث في هذه الفترة نزلت لأقل مستوياتها في كل أنحاء العالم نظرًا لتوقف حركة الطيران وحركة السيارات والذي بدوره أدى إلى تقليل الانبعاثات الصادرة عن هذه المحركات الملوثة للبيئة. وكأن الكرة الأرضية والبيئة دخلت في مرحلة نقاهة خلال فترة انتشار مرض الكورونا، ولا بد للإنسان أن يتأمل ويعيد النظر في أموره الحياتية.

تسبب هذا الوضع في لم شمل الأُسر داخل البيوت، كما ذكرهم بنعم الله عليهم وبتقصيرهم في الحمد والشكر لرب العالمين، فالإنسان لا يشعر بالنعمة إلا حينما يفقدها. كما بدأت الناس تعي أهمية النظافة أكثر من أي وقت مضى، وتعي ضرورة اتباع أساليب وقاية جادة واستخدام معقمات بصورة مفرطة، وغسل اليدين بالماء والصابون في كل وقت وحين، من كان يتوقع كل ذلك؟

مما لا شك فيه أن هذا الحدث الجلل أعاد ترتيب أولويات الحياة، كما أظهر مدى ضعف الإنسان وهشاشته وجبروته الكاذب، ومحاولاته البائسة ضد هذا الميكروب، هذا الجبروت الذي هزمه فيروس لا يرى بالعين المجردة. هذا الحدث كسر كبرياء الكثير ممن ظنوا أن البشر وصلوا لأعلى درجات العلم المادي، وصاروا أشبه بالآلهة، وظنوا أنهم بذلك استغنوا عن الدين والخالق.

إن مرض الكورونا يفتك بالصغير والكبير، الضعيف والقوي، الفقير والغني، الإنسان البسيط والملك ولا يفرق بين أحد. وقد سمعنا عن كثير من الأثرياء الذين فروا إلى الملاجئ أو القصور المنعزلة في محاولة للهروب من بطش هذا المرض. هؤلاء أنفسهم كانوا لا يكترثون بمعظم الأوبئة والأمراض لظنهم أنه يمكنهم القضاء عليها من خلال الإنفاق على العلاج. المشكلة الآن لدى الأثرياء أن الأموال متوفرة في حين أن العلاج غير متوفر. وكأن الفيروس جاء ليقيم المساواة بين البشر، لا يُفرق بين قوي وضعيف ولا بين غني وفقير.

إنه لمن العجيب أن نرى أن البشرية بأسرها توحدت لأول مرة في التاريخ لمواجهة هذا الميكروب.

إن لم يكن هناك إله فمن أين لنا هذا الخير؟

إن المتسائل من الملحدين عن سبب وجود الشر في هذه الحياة الدنيا كذريعة لنفي وجود الإله، يكشف لنا عن قصر نظره وهشاشة فكره عن الحكمة وراء ذلك، وعن غياب وعيه عن بواطن الأمور، وقد اعترف الملحد بسؤاله ضمنًا أن الشر استثناء.

لذلك قبل السؤال عن حكمة ظهور الشر، كان من الأحرى طرح السؤال الأكثر واقعية وهو "كيف وُجد الخير بدايةً؟"

لا شك أن السؤال الأكثر أهمية لا بد أن يبدأ من سبب وجود الخير. فلا بد أن نتفق على نقطة البداية أو المبدأ الأصيل أو السائد، ومن ثم يمكن أن نجد التعليلات للاستثناءات.

يضع العلماء قوانين ثابته ومحددة لعلوم الفيزياء والكيمياء والبيولوجيا بدايةً، ومن ثم يتم عمل دراسة للاستثناءات والحالات الشاذة عن هذه القوانين. وبالمثل لا يمكن للملحدين التغلب على فرضية ظهور الشر إلا حينما يُقروا بدايةً بوجود عالم مليء بالظواهر الجميلة، المنظمة والجيدة التي لا حصر لها.

ويمكننا مقارنة فترات الصحة والفترات التي يظهر فيها المرض على مدى متوسط ​​العمر، أو مقارنة عقود من الازدهار والرخاء وما يقابلها من فترات الخراب والدمار، وكذلك قرون من هدوء الطبيعة والسكينة وما يقابلها من ثوران البراكين والزلازل. من أين يأتي الخير السائد بدايةً؟ إن عالمـًا قائمًا على الفوضى والمصادفة لا يمكن أن ينتج عالمـًا جيدًا.

ومن المفارقات أن التجارب العلمية تؤكد ذلك. ينص القانون الثاني للديناميكا الحرارية على أن الإنتروبيا الكلية (درجة الاضطراب أو العشوائية) في نظام معزول بدون أي تأثير خارجي ستزداد دائمًا، وأن هذه العملية لا رجعة فيها.

بمعنى آخر، الأشياء المنظمة ستنهار وتتلاشى دائمًا ما لم يجمعها شيء من الخارج. على هذا النحو، فإن القوى الديناميكية الحرارية العمياء لم تكن لتنتج أبدًا أي شيء جيد من تلقاء نفسها، أو أن تكون جيدة على نطاق واسع كما هي دون أن ينظم الخالق هذه الظواهر العشوائية التي تظهر في الأشياء الرائعة مثل الجمال والحكمة والفرح والحب، وهذا كله فقط بعد إثبات أن القاعدة هي الخير والشر هو الاستثناء.

يقول ابن القيم:

"إن الشرَّ والألم: إما إحْسانٌ ورَحمة، وإما عَدلٌ وحِكمة، وإما إصلاحٌ وتهيئة لخَير يحَدثُ بعدَها، وإما دفعٌ لشَرّ هو أَصعب مِنهُ".

في حوار لي مع ملحد روسي طرح كثير من الأسئلة من ضمنها المتاعب والالآم التي يعاني منها البشر.

قلت له ما قرأته يومًا[3]:

إن نظرتنا إلى الشر والألم تتوقف على نظرتنا إلى حقيقة الحياة الدنيا والغرض من الوجود الإنساني فيها والتي تختلف لدى المتدينين عنها لدى الماديين.

قلت له: إن المنظور المادي يعتبر أن الحياة الدنيا ليس وراءها غرض تحكمها غاية، وأن الإنسان اذا مات صار عدمًا، إذ ليس هناك بعث تتبعه حياة أخرى، فعلى الإنسان أن يحصل على أقصى ما يستطيع من متع، وبالتالي يصبح ما قد يشعر به من ألم وكل ما يحجبه عن هذه المتع شر لا جدال فيه، وانطلاقًا من هذا المنظور يصبح ما يتعرض له الإنسان من شرور وآلام أمورًا عشوائية تمر به خلال حياته في دنيا نشأت بأسلوب عشوائي أيضًا، ومن ثم يصبح القول بوجود إله كله رحمة ومحبة ينظم هذه الحياة هراء وعبث بالنسبة لهم، وهذا يعني أن كل ما يحجبهم عن هذه المتعة يُعتبر ألم بالنسبة لهم.

معرفة الله:

" وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ "[4] .

نفهم هنا من الآية الكريمة أن الله تعالى مَيَّز الجن والأنس منفردين دون سائر المخلوقات بحرية الاختيار. وأن تميز الإنسان هو بتوجهه لرب العالمين مباشرة وإخلاص العبودية له بمحض إرادته، ويكون بذلك حقق حكمة الخالق بجعل الإنسان على رأس المخلوقات.

تتحقق معرفة رب العالمين من خلال إدراك أسمائه الحسنى وصفاته العليا والتي تنقسم إلى مجموعتين أساسيتين وهي:

أسماء جمال: وهي كل صفة تختص بالرحمة، العفو واللطف، منها الرحمن، الرحيم، الرزاق، الوهاب، البر، الرؤوف...إلخ.

أسماء جلال: وهي كل صفة تختص بالقوة والمقدرة والعظمة والهيبة، ومنها العزيز، الجبار، القهار، القابض، الخافض...إلخ.

ويترتب على معرفتنا لصفات الله عز وجل القيام بعبادته على النحو الذي يليق بجلاله وتمجيده وتنزيهه عما لا يليق به، طمعًا في رحمته واتقاءً لغضبه وعقوبته. وتتمثل عبادته بالامتثال بالأوامر واجتناب النواهي والقيام بالإصلاح وتعمير الأرض. وبناءً على هذا يصبح مفهوم الحياة الدنيا عبارة عن امتحان واختبار للبشر لكي يتمايزوا ويرفع الله درجات المتقين ويستحقوا بذلك خلافة الأرض ووراثة الجنة في الآخرة، في حين يلحق بالمفسدين الخزي في الدنيا ويكون مآلهم عذاب النار.

"إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا" [5].

المفهوم الحقيقي للإله:

لتقديم بعض التصورات عن مدى تدهور العلاقة بين الناس ورب العالمين، أعرض هنا قصة حدثت معي لسيدة ملحدة تقول إنها بعد أن كانت مؤمنة بالله ألحدت. فسألتها عن السبب فقالت: إن ابنتها مرضت بالسرطان، وقد دعت الله أن یُنجي ابنتها، وكانت تدعو الله وتقول إنه إن نجَّى ابنتها فسوف تؤمن به، وماتت البنت وكفرت الأم بالله.

هذه القصة من القصص التي أثرت فيَّ كثيرًا، وسبحان الله ما جاء في خاطري في هذه اللحظة أنهم بالفعل ما قدروا الله حق قدره، فهم یتعاملون مع الله بمبدأ إذا أعطیتني أؤمن بك وإذا لم تعطني لن أؤمن بك. فهذه المرأة لم تعرف الله حق المعرفة ولم تعرف القیمة الحقیقیة لهذه الحیاة التي نعیشها أصلاً، لأنها لو كانت تعرف قیمة هذه الحیاة لما تصرفت هذا التصرف ولما تعاملت مع ربها بهذه الطريقة.

مثلاً في علم الریاضیات يقولون: أن أي رقم مقارنة باللانهاية هو صفر. فحياتنا عبارة عن مجموعة أرقام ونخسر كل یوم من حياتنا رقم من هذه الأرقام، فحتى لو عشنا مائة أو مائتي سنة فمقارنة باللانهاية هو صفر، وان الموت آتٍ لا محالة في أي عمر، بمرض أو بدون مرض، وساعة الموت محددة. فنحن نعیش في الواقع في الصفر. فأنا قلت للسيدة: إنكِ لم تعرفِ الله حق المعرفة، لأنكِ لو عرفتیه حقًا لما رفضتِ الإيمان به والتسليم له، فجهلك بصفات الله تجعلكِ تعاملیه وكأنه إنسان أمامكِ تقايضيه بالمثل - سبحان الله - وهل الله تعالى زمیل لكِ في العمل؟! من هو الله بالنسبة لكِ؟! هل إيمانك كان مشروع بینك وبین رب العالمين؟! هل افترضتِ أنها إساءة وتردین الإساءة بالإساءة؟! هذا شيء عجیب! هل أنتِ مخلدة في هذه الدنيا؟!

فلو كنت عرفت الله حق معرفته لما كفرتِ به، وهو أرحم بك من أمكِ وأبیكِ، وأنه تعالى لدیه جنة عرضها السماوات والأرض. هل تخسرين ذلك بهذه الدنيا؟! هل تفضلين الصفر على اللانهاية؟!

قلت لها أيضًا: إنه ليس من المنطق أن نحكم على مسرحية دون أن نتابعها للنهاية، ولا أن نرفض كتابًا لأن الصفحة الأولى لم تعجبنا، هذا الحكم يُعتبر ناقصًا.

لقد وصلتني أسئلة كثيرة ومتكررة عن كيفية وقاية أبنائنا من الإلحاد. فأنا أقول وأكرر أن الحل هو في معرفة المفهوم الحقيقي للإله، لأنه من عرف الله هان علیه كل شيء. لأننا طبعًا لم ندرك حكمة آباءنا وأمهاتنا عندما كنا صغارًا في كثير من التصرفات، وكنا كثيرًا ما نتساءل لماذا يتصرف الوالدين بهذه الطريقة، هل یحبني أبي فعلاً؟ لماذا لم يوافق على ذهابي لهذه الرحلة؟ هل تحبني أمي؟ فإن كانت تحبني فلماذا تضغط علي في الدراسة والحصول على الدرجات العالیة. ولماذا تجبرني على أداء الواجبات الیومیة؟ لماذا ترسلني أمي للنوم كل يوم مبكرًا؟ عندما كبرنا وأصبح لدينا أولاد، فهمنا الحكمة من تصرفات آباءنا. وفهمنا أنه لا یوجد على الأرض من يحب لنا الخير أكثر منهم. فالمعرفة العميقة للإله مهمه جدًا لأننا إذا عرفنا الله حق المعرفة سوف نجد التفسير لكثير من تصاريف الأمور، وتتسع آفاق الإدراك والمعرفة وحينها يبلغ الإنسان رشده ويهتدى لحل كثير من المشاكل.

"مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ ۗ وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ ۚ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ" [6].

وكثيرًا ما نسمع عن زيادة نسبة الإلحاد بسبب الحروب التي يتسبب فيها الإنسان والكوارث الطبيعية. لا شك أن تقدير الله لهذه الأمور أن تقع ما هو إلا امتحان واختبار لإيمانهم، حيث إن كثيرًا من الناس يعبد الله على حرف.

" وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ ۖ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ ۖ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَىٰ وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخرة ۚ ذَٰلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ"[7] .

وهل أعبد الله أو أذكره فقط في الرخاء وعندما أتعرض للشدة أكفر به؟

رحمة الخالق:

في أحد الأيام تحاورت مع ملحد أمريكي وقلت له: إن الخالق الذي خلق عباده هو أرحم بهم من أمهاتهم، وأن المؤمن عندما يضع في اعتباره أن من سيحاسبه یوم القیامة هو ربه الذي خلقه والذي هو أرحم به من أمه التي ولدته، فتخیل مدى فرحته ومدى اطمئنانه عندما يقابل ربه، وهذا كافي لأن نشعر بالسعادة في هذه الدنیا وسوف تهون علينا كل الصعاب.

فأعطیته مثال بسیط عن أهمية معرفة الله، قلت له: إنك لو أخبروك أن فاتن صبري التي تتكلم معك من هواة تربیة الأسود مثلاً، وأنها لدیها شخصیة قویة ولا ترحم وممكن أن تؤذیك، فطبعًا سوف تصدق لأنك لا تعرفني، واحتمال كبیر أن تأتي هنا وتأخذ الاحتياطات اللازمة وترتعد، لكن من یعرفني جیدًا فسوف يتفاجأ ویضحك من هذه المعلومة لأنه یعلم جيدًا أن فاتن تخاف من القطط أصلاً، وضحك كثيرًا.

في حوار لي مع قسيس من قساوسة الفاتيكان وكنا قد دخلنا في نقاش عن عقيدة التوحيد، قلت له: إن المسلم یؤمن بإله واحد أحد، لیس له شريك ولا ولد، وأنه تعالى أرسل الأنبياء والرسل كعيسى المسيح وموسى ومحمد لنشر رسالة التوحيد في العالم، خلق المسيح من غير أب وخلق آدم من غير أب ولا أم، فهو يخلق ولا يلد، وأمرنا بعبادته وحده كما عبدوه هم، فنحن نعبد الله كما عبد المسيح الله ولا نعبد المسيح نفسه، ونحن نعبد الله كما عبد محمد الله ولا نعبد محمد نفسه ونصلي لله. وكذلك فقد كانت السيدة مریم تصلي لله وحده، وعليه فيجب ألا نصلي لمريم نفسها ولا نطلب منها، بل نطلب من الله كما كانت السیدة مریم تطلب من الله مباشرة.

حينها قاطعني هذا القسيس وقال: نحن لا نعتبر مریم هي الله ولا نعبدها، ولكننا نستخدمها كوسيلة للوصول إلى الله. وبرر ذلك بمثال الأسرة عندما یطلب الأطفال مثلاً زيادة في المصروف أو ما شابه فإنهم يلجؤون إلى الأم لكي تكون وسیطًا بینهم وبین أبیهم، لأن قلب الأم طیب ورقيق وتحبهم أكثر، وممكن أن توصل طلبهم بطريقة أفضل للوالد. طبعًا جوابي كان قاطعًا وصارمًا في هذه النقطة وقد تفاجأ به، حيث قلت له: نعم كلامك صحیح، ولكن هذا في حالة أن الأطفال لا يعرفون أبیهم حق المعرفة، حيث أنه باعتقادهم أن الأم هي أرحم بهم من أبیهم، لكنهم لو عرفوا أن هذا الأب هو أرحم من الأم لذهبوا إليه مباشرة، وهذا جهل من الأولاد بطبيعة الأب.

واسترسلت قائلة له: أن البشر لو عرفوا الله حق المعرفة وعرفوا أن الله أرحم بهم من أمهاتهم وآبائهم لذهبوا إليه مباشرة.

فقاطعني ثانية وقال: لا أنتِ لم تفهميني، نحن نستخدم السيدة مریم كوسيلة للوصول لرب العالمين كالذي يريد أن یضیِّف زواره مثلاً ویضع المشروبات على صینیة، فالسیدة مریم هي الصينية التي نرسل بها طلباتنا لرب العالمين.

فقلت له: سبحان الله! ومن كانت بمثابة الصینیة التي استخدمتها مریم للوصول الى رب العالمين؟! هل مریم عبدت الله مباشرة أم عن طریق وسیط؟ هل وضعت دعائها على صینیة؟ أخبرني! هل عبدت المسيح علیه السلام؟ أم عبد المسيح أمه؟ أم اتخذت قسيسًا أم وسيطًا أم قديسًا؟

الشاهد هنا أن هذه القصة كانت بالنسبة لي نقطة انطلاق لنشر المفهوم الحقيقي للإله، وكانت سبب لكتابة كتابي: "المفهوم الحقيقي للإله"، الذي أردت به أن أوضح للعالم أن المفهوم الحقيقي للإله هي النقطة المفقودة الآن، لان أتباع الديانة الهندوسية مثلاً يؤمنون بإله واحد أحد ولكن هناك من أقنعهم أن الله یتمثل في حجر أو في صنم وقد أعجبهم ذلك لأنهم لم یعرفوا من هو الله، وأن الله لا یأتِ إلى الأرض، وأن ذاته العليا لا بد أن تكون خارج السماوات والأرض، وإرادته وقدرته نافذة لجميع مخلوقاته.

إن عدم معرفة رب العالمين يؤدي إلى وضع أفكار أو تصورات خاطئة عن الإله كأن يتجسد في ثلاثة أقانيم أو يتمثل في جسد بشر. إن تحريف المفهوم الحقيقي للإله في العهد القديم لم يشوش أذهان الناس فقط ويضعهم في حيرة فحسب، بل تسبب في توجههم إلى الإلحاد وصرفهم عن الدين بالكلية. فالتوراة التي أنزلها الله سبحانه وتعالى على موسى علیه السلام ذكرت أن الله تعالى بصفاته العليا هو الواحد الأحد الفرد الصمد الذي لا یموت، وهو الخالق الأبدي الرحيم المنزه عن كل عيب أو نقص، وأنه المعبود وحده، لكن نجد في العهد القديم (التوراة المحرّفة)، أنهم ينسبون إليه صفات لا تليق به (كأن ینسى، لا یعرف، یخاف، یرتاح) سبحانه وتعالى عن ذلك علوًا كبيرا.

وسبحان الله في صغري كنت دائمًا أتساءل: لماذا ذكر الله تعالى في القرآن الكريم أنه خلق السماوات بدون أن يتعب وكنت أتعجب جدًا من الداعي لذكر هذه النقطة، حيث أنه معروف أن الله تعالى لا یتعب، حتى التحقت بمجال الدعوة، عندما عرفت أن النصراني یعتقد أن الله عندما خلق السماوات والأرض ارتاح. وهم دائمًا يسألونني: لماذا لا یعتبر المسلمون یوم الأحد یوم مقدس، وأقول ببساطة: لأن الله لا یتعب لكي یرتاح. المفاجأة أنهم یضحكوا بشدة من جوابي ويقولون فعلاً نعم كلامك صحيح.

التوحيد هو وسيلة الخلاص:

إنه لمن الخطأ أن نُعرِّف الإسلام على أنه الإيمان بإله واحد ونقف إلى هنا، فالإسلام هو: الإيمان بإله واحد أحد وهو الخالق والذي ليس كمثله شيء، وعبادته وحده مباشرةً بدون قسيس ولا قديس ولا صنم أو حجر ولا أي وسيط آخر.

فالإسلام ليس فقط توحيد الربوبية بل وتوحيد رب العالمين في العبادة (توحيد الألوهية، بمعنى عبادته وحده بدون وسيط). إن الإيمان بإله واحد (توحيد الربوبية) موجود في ديانات كثيرة، وكانت موجودة في عقيدة كفار قريش أيضًا؛ فعندما سُئلوا عن سبب عبادتهم للأصنام قالوا: لتقربنا إلى الله زلفى، فهم لا ينكرون وجود الله.

"أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ ۚ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَىٰ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ"[8].

وبإمعان النظر في معتقدات الشعوب، نكتشف أن غالبية الأمم التي لديها موروث ديني ولديها رموز دينية مختلفة لا تزال تؤمن بوجود خالق للكون وتلجأ اليه عند الشدائد، مما يؤكد ان هذه الديانات والمعتقدات لها أصول تاريخية نابعة من ديانة أصلية واحدة صحيحة، وأن ما لدى الشعوب الحالية من تراث ديني يحتوي بداخله على عقيدة التوحيد والإيمان بإله واحد والتفرد بعبادته، وأن هناك دلائل وشواهد في هذه الديانات والكتب تشير إلى أن جذورها وأصولها ترجع إلى عقيدة الإسلام والتوحيد.

إن الاختلافات بين الديانات تتمثل في الوسيلة المتبعة في التواصل مع الخالق مباشرة أو من خلال اتخاذ وسطاء (قديسين، كهنة، أصنام أو أنبياء).

فلو أن جميع الديانات أقروا بترك اللجوء للوسطاء وتوجوا مباشرة للخالق لتوحدت البشرية ولاستقامة قلوبهم واهتدت للحق. فكما أن الجميع يتفق في وحدانية التوجه نحو الخالق مباشرة دون شريك أو وسيط عند وقوع المصائب أو الشدائد، فكان لا بد من دعوة الجميع لعبادة رب العالمين مباشرةً في السراء والضراء. كما ورد القرآن الكريم:

"قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ ۚ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ"[9].

 

=================================

[1] (التوبة:118).

[2] مقتبس من كتاب خرافة الإلحاد. د. عمرو شريف. طبعة 2014م.

[3] مقتبس من كتاب خرافة الإلحاد. د. عمرو شريف. طبعة 2014م.

[4] (الذاريات: 56).

[5] (الكهف: 7).

[6] (التغابن: 11).

[7] (الحج: 11).

[8] (الزمر:3).

[9] (آل عمران: 64).

  • الجمعة AM 08:41
    2022-06-03
  • 919
Powered by: GateGold