المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 413817
يتصفح الموقع حاليا : 293

البحث

البحث

عرض المادة

upload/upload1629032218233.jpg

التزكية بين أهل السنة والصوفية

الباب الأول

معنى التزكية وأهميتها

 

التزكية هي الأصل الثالث من الأصول العلمية للدعوة السلفية، ويقصد بها تنمية القلوب و إصلاحها وتطهيرها، يقولون زكاة الزرع إذا نما وصلح وبلغ كماله، وسميت صدقة المال الواجبة زكاة لأن المال يطهر بها وينمو، فهي طهارة للمال، وطهارة للمزكي، وطهارة للمجتمع، وعكس التزكية التدسية: وهي التصغير والتحقير حتى تصير النفس حقيرة دنيئة لا تكاد ترى من حقارتها ودناءتها، ومنه قوله عز وجل: ) أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ ( [النحل: 59] أي يخفيه في التراب، وقد أقسم الله عز وجل في كتابه أحد عشر قسما متواليا على أن صلاح العبد منوط بتزكية نفسه، وخيبته منوطة بتدسية نفسه قال تعالى: ) وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا 1 وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا 2 وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا 3 وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا 4 وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا 5 وَالأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا 6 وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا 7 فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا 8 قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا 9 وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا( [الشمس: 1-10]

قال الشيخ عطية سالم في تتمة الأضواء: واختلف في موضع الضمير في ) زَكَّاهَا دَسَّاهَا ( وهو يرجع إلى اختلافهم في )فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا( فهل يعود على الله تعالى كما في ) وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (، أم يعود على العبد، ويمكن أن يستدل لكل قوم ببعض النصوص، فمما يستدل به للقول الأول قوله تعالى:) بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَن يَشَاءُ وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً ( [النساء:49]، وقوله: ) وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَدًا ([النور: 21]، وفي الحديث أنه صلى الله عليه وسلم  كان يقول عند هذه الآية: ((اللهم آت نفوسنا تقواها وزكها، أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها)) ([1])  ومما استدل به للقول الثاني: ) قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى 14 وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى ([الأعلى: 14]، وقوله: ) وَمَن تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ([فاطر:18].

 والذي يظهر والله أعلم، أن ما يتزكى به العبد، وعمل في طاعة وترك معصية فإنه بفضل من الله.

كما تفضل عليه بالهدى والتوفيق للإيمان، فهو الذي يتفضل عليه بالتوفيق إلى العمل الصالح وترك المعاصي، في قولك ((لا حول ولا قوة إلا بالله) بل إن في قوله تعالى: ) بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَن يَشَاءُ وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً ( [النساء: 49]، الجمع بين الأمرين القدري والشرعي، بل الله يزكي من يشاء بفضله،ولا تظلمون فتيلا بعدله، والله تعالى أعلم ([2]) . فصلاح العباد وفلاحهم وفوزهم ونجاتهم في تعهد أنفسهم بالإصلاح، وتطهير بواطنهم وظواهرهم من الشرك بالله عز وجل ومن سائر الصفات المذمومة، وتحليتها بالتوحيد واستسلامها للشرع المجيد.

وقد أجمع علماء القلوب على أن القلوب لا تصل إلى مناها حتى تصل إلى مولاها، ولا تصل إلى مولاها حتى تكون صحيحة سليمة زكية، والله عز وجل طيب لا يقبل إلا طيبا، فكلما طابت النفس وزكت قربها الله عز وجل، فتسعد بالله عز وجل، وتأنس بالله عز وجل، وتستغني بالله عز وجل.

وكلما عصى العبد ربه وصغر نفسه وحقرها بمعصية الله طرده الله عز وجل عن حضرته، وأبعده بقدر جنايته، فتحدث الوحشة بينه وبين ربه عز وجل، وبينه وبين عباد الله المؤمنين، فلو حصلت له الدنيا بحذافيرها لم تعوضه هذه الوحشة.

فالواجب كل المسلم حتى تزكو نفسه أن يستسلم لشرع الله عز رجل، بعد أن يتحقق قلبه بالتوحيد، وأن يكون بين يدي الشارع كالميت بين يدي الغاسل، ألا ترى أن الميت لا تكون له إرادة ولا هوى تخالف إرادة مغسله، بل يقلبه المغسل كيف يشاء، ويقدم ما يشاء ويؤخر ما يشاء، وليس له إلا التسليم، وهذا معنى الإسلام وهو الاستسلام لشرع الله عز وجل.

قال الزهري: من الله الرسالة، وعلى الرسول البلاغ، وعلينا التسليم.

والشرع كله تزكية لنفوس العباد حتى يصلحوا لمجاورة الله في الجنة، فالتوحيد تزكية: قال الله تعالى: ) وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ 6 الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ( [فصلت: 6، 7]، قال ابن كثير رحمه الله: قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: يعني الذين لا يشهدون أن لا إله إلا الله وكذا قال عكرمة. ([3])والصلاة تزكية: قال الله تعالى: ) إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ( [العنكبوت: 45].

وقال النبي صلى الله عليه وسلم:((أرأيتم لو أن نهرا بباب أحدا يغتسل فيه كل يوم خمس مرات ما تقولون ذلك يبقى من درنه؟ قالوا لا يبقى من درنه شيئا. قال: فذلك مثل الصلوات الخمس، يمحو الله بها الخطايا ([4])

والصدقة تزكية: قال الله تعالى: ) خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا ( [التوبة: 103]،

والحج تزكية: قال الله تعالى: ) فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ ( [البقرة: 197]

فالله عز وجل شرع لنا الشرائع من أجل أن تزكو نفوسنا، وأن تصلح دنيانا وآخرتنا، والله عز وجل أغنى وأعز من أن ينتفع بطاعات العباد، أو أن يتضرر بمعاصيهم كما في الحديث القدسي ((يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضرى فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني ))([5]). بل العباد أنفسهم يتضررون بمعاصيهم، وهم أنفسهم ينتفعون بطاعاتهم، والله تعالى غني عنهم وعن طاعاتهم قال تعالى:)لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا( [الحج: 37]، ألا ترى أن العباد يذبحون الهدايا والأضاحي ويأكلون لحومها، وهم مع ذلك يتقربون بها إلى الله عز وجل، لأنهم يستجيبون لأمر الله، ويستسلمون لشرعه، فالإيمان والعمل الصالح سبب سعادة الدنيا، أنه سبب سعادة الآخرة قال تعالى: )مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ([النحل: 97] والسعادة سعادة القلوب، والشقاء شقاء القلوب، والقلوب لا تسعد إلا بالله، ولا تطمئن إلا بذكره وطاعته قال تعالى: )الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ([الرعد: 28] فلا تسعد بالمال، و لا تسعد بالجاه، ولا تسعد بالشهرة، والتعاسة والشقاء تلاحقان العبد إذا تعلق القلب بغير الله حبا ورجاء وخوفا وتوكلا، قال النبي صلى الله عليه وسلم(( تعس عبد الدينار، وعبد الدرهم، وعبد الخميصة، إن أعطى رضي وإن لم يعط سخط، تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش )) ([6]) .

وصفوة القول أن يقال كلما زكى العبد نفسه بالتوحيد وطاعة العزيز الحميد كلما سعد، والعكس بالعكس، قال تعالى:) فَإِمَّا يَأتِيَنَّكُم مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَى 123 وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى 124 قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَي وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا 125 قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آَيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ
تُنْسَى([ طه: 123- 126].

 

قال ابن القيم رحمه الله:

وسمعت شيخ الإسلام قدس الله روحه يقول: إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لا يدخل جنة الآخرة.

وقال مرة: ما يصنع أعدائي بي؟ أنا جنتي وبستاني في صدري، إن رحت فهي معي لا تفارقني، إن حبسي خلوة، وقتلي شهادة، وإخراجي من بلدي سياحة.

وكان يقول في محبسه في القلعة: لو بذلت لهم ملء هذه القلعة ذهبا، ما عدل عندي شكر هذه النعمة، أو قال: ما جزيتهم على ما تسببوا لي فيه من الخير، ونحو هذا.

وكان يقول في سجوده وهو محبوس: ((اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك )) ([7])  ما شاء الله.

وقال لي مرة: المحبوس من حبس قلبه عن ربه، والمأسور من أسره هواه.

ولما دخل إلى القلعة وصار داخل سورها نظر إليه وقال: ) فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ(. [الحديد: 13]

وعلم الله ما رأيت أحدا أطيب عيشا منه قط، مع ما كان فيه من ضيق العيش، وخلاف الرفاهية والنعيم، بل ضدها، ومع ما كان فيه من الحبس والتهديد والإرهاق وهو مع ذلك من أطيب الناس عيشا، وأشرحهم صدرا وأقواهم قلبا، وأسرهم، تلوح نضرة النعيم على وجهه.

وكنا إذا اشتد بنا الخوف، وساءت منا الظنون، وضاقت بنا الأرض، أتيناه، فما هو إلا أن نراه، ونسمع كلامه فيذهب ذلك. كله عنا، وينقلب انشراحا وقوة ويقينا وطمأنينة، فسبحان من أشهد عباده جنته قبل لقائه،

 

وفتح لهم أبوابا في دار العمل، فأتاهم من روحها ونسيمها وطيبها ما أستفرغ قواهم طلبا والمسابقة إليها.

وكان بعض العارفين يقول: لو علم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه، لجالدونا عليه بالسيوف.

وقال آخر: مساكين أهل الدنيا، خرجوا منها وما ذاقوا أطيب ما فيها؟

قيل: وما أطيب ما فيها قال: محبة الله تعالى ومعرفته وذكره، أو نحو هذا.

 وقال آخر: إنه لتمر بالقلب أوقات يرقص فيها طربا. وقال آخر: إنه لتمر

بي أوقات أقول: إن كان أهل الجنة في مثل هذا، إنهم لفي عيش طيب.

 فمحبة الله تعالى ومعرفته ودوام ذكره والسكون إليه، والطمأنينة إليه، وإفراده بالحب والخوف والرجاء والتوكل والمعاملة، بحيث يكون هو وحدة المستولي على هموم العبد و عزماته و إرادته، هو جنة الدنيا، والنعيم الذي لا يشبه نعيم، وهو قرة عين المحبين وحياة العارفين.

وإنما تقر أعين الناس بهم على حب قرة أعينهم بالله عز وجل، فمن قرت عينه بالله، قرت به كل عين، ومن لم تقر عينه بالله تقطعت نفسه على الدنيا حسرات ([8]) ا هـ.

 

قال ابن القيم في طريق الهجرتين:

فوا أسفاه وواحسرتاه، كيف ينقضي الزمان وينفد العمر والقلب محجوب ما شم لهذا رائحة، وخرج من الدنيا كما دخل إليها، وما ذاق أطيب ما فيها، بل عاش فيها عيش البهائم وانتقل انتقال المفاليس، فكانت حياته عجزا وموته كمدا، و معادة حسرة وأسفا، اللهم فلك الحمد، وإليك المشتكى، وأنت المستعان، وبك المستغاث، وعليك التكلان ولا حول ولا قوة إلا بك([9]).

والحاصل أن العبد يجهل مواقع السعادة، والنفس الجاهلة تتكاسل عن الطاعات لجهلها بأن سعادة الدارين و طاعة الله والاستسلام لأمره ونهيه، قال ابر المبارك رحمه الله إن الصالحين فيما مضى كانت أنفسهم تواتيهم على الخير عفوا، وان أنفسنا لا تكاد تواتينا فينبغي علينا أن نكرهها.

فلطاعة الله عز وجل. حلاوة تتذوقها القلوب إذا باشرتها، وهذه الحلاوة تقصر دونها  العبارة، ولا تحيط بها الإشارة قال بعضهم: أهل الليل في ليلهم ألذ من أهل اللهو في لهوهم، ولولا الليل ما أحببت البقاء في الدنيا.

 وقال غيره: ما بقي من لذات الدنيا إلا ثلاث: قيام الليل، ولقاء الإخوان، وصلاة الجماعة.

فتثقل هذه العبادات والتكاليف الشرعية على الذين لم ينالوا من العلم إلا زبد الأفكار وزبالة الأذهان، وتخف على أهل الطاعات الذين زكت نفوسهم، وطهرت جوارحهم، ولقد كان الواحد منهم يثقل عليه خروجه من الصلاة، قال بعضهم: أنا منذ أربعين سنة ما أزعجني إلا طلوع الفجر.

وبكى أحد الصحابة عند موته فسأل عما يبكيه فقال: والله لا أبكي على دنياكم ولا أبكي على فراقكم، ولكن أبكي على طول ظمأ الهواجر، وقيام ليالي الشتاء  الطويلة.

ويكفيك أيها القارئ الكريم أن تعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي حتى تشقق قدماه، وترم ساقاه، فيقال له أتفعل ذلك وفد غفر الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ فيقول صلى الله عليه وسلم  ((أفلا أكون عبدا شكورا))([10])

وكان يواصل صلى الله عليه وسلم وينهي عن الوصال ويقول ((إني أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني))([11]) فكان صلى الله عليه وسلم أحسن الناس حالا وأسعدهم بربه وكان يقول:

 ((حبب إلي من دنياكم النساء والطيب وجعلت قرة عيني في الصلاة))([12]) فتدبر مرة ثانية قول الله عز وجل: ) قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا 9 وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا (واعلم أن هذا الفلاح لأهل الزكاة في الدنيا والآخرة، والخيبة لأهل التدسية في الدنيا والآخرة.

كما أن قول الله عز وجل: ) إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ 13 وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ ( [الانفطار:13،14] لا يعني نعيم الآخرة للأبرار وجحيم الآخرة للفجار، بل الأبرار في نعيم الدنيا، وفي دار البرزخ، وفي الآخرة، وإن كان نعيم الدنيا دون نعيم الآخرة، كما أن العذاب في الدنيا دون عذاب الآخر ة كما قال الله تعالى: ) وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ( [السجدة:21] والعذاب الأدنى في الآية يقصد به عذاب الدنيا لقوله تعالى: ) لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ( ولا يكون ذلك إلا في الدنيا، واستدل بها ابن عباس على عذاب القبر قوله تعالى ) مِنَ الْعَذَابِ الأَدْنَى ( ولم يقل ((العذاب الأدنى)) فدل على أنهم بقيت لهم من العذاب الأدنى بقية، يعذبون بها في القبور.

وظهر الفلاح والنجاح كذلك في هؤلاء الصحابة الكرام، فعزوا في الدنيا وسادوا لأنهم استجابوا لله وللرسول من بعد ما أصابهم القرح، هذا مع ما ينتظرهم في الآخرة من موعود الله عز وجل لهم بالجنة كما قال تعالى: )وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ([ التوبة: 100]

فمن أراد سعادة الدارين فعليه أن يتعهد نفسه بالإصلاح والتزكية؛ فكما أن السموات والأرض لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا، فكذلك قلوب العباد، لو كان فيها آلهة إلا الله لفسدت بذلك فسادا لا يرجى له صلاح، حتى تعرف ربها عز وجل وتعبده بأمره ونهيه، والنفوس الجاهلية حتى تترقى في محبة الله عز وجل وولايته تحتاج إلى رفق ومداراة حتى تصير سعادتها في الطاعات والعبادات قال بعض السلف: عالجت قيام الليل سنة وتمتعت به عشرين سنة. فالعاقل هو الذي يعالج نفسه ويجبرها على ما فيه سعادتها، وهذه المعالجة لن تطول بإذن الله، فلا تلبث نفس العبد أن تتعلم وتذوق حلاوة الطاعات وترك المعاصي، نصحت إحدى الصالحات من السلف بنيها فقالت لهم: ((تعودوا حث الله وطاعته، فإن المتقين ألفت جوارحهم الطاعة فاستوحشت من غيرها، فإذا أمرهم الملعون بمعصية مرت المعصية بهم محتشمة فهم لها منكرون )).

وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم حلاوة الإيمان، وبين أن الذي يذوق هذه الحلاوة من أخلص حبه لله عز وجل ولرسوله صلى الله عليه وسلم ولعباده المؤمنين فقال صلى الله عليه وسلم

((ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه الله، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار)) ([13])

قال الشيخ أبو محمد بن أبي جمرة: إنما عبر بالحلاوة لأنه شبه الإيمان بالشجرة في قوله ) كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ( [إبراهيم:24]، فالكلمة هي كلمة الإخلاص، والشجرة أصل الإيمان، وأغصانها اتباع الأمر واجتناب النهي وورقها ما يهتم به المؤمن من الخير وثمرها عمل الطاعات، وحلاوة الثمر جنى الشجرة وغاية كماله تناهى نضج الثمرة وبه ظهر حلاوتها)) ([14]) .

 

 

 

الباب الثاني

مقارنة بين أهل السنة والصوفية في مناهج التزكية:

 

وإنما قصدنا الصوفية من بين فرق الضلالة؛ لأنهم يزعمون أنهم أصحاب الأحوال والمقامات والنفوس الزاكيات، وأنهم أصحاب مناهج في تصفية النفوس وتنقيتها، وهذه المقارنة يظهر فيها بجلاء نقاء المنهج السلفي، وكيف أنه ميراث رسول الله صلى الله عليه وسلم وما خالفه إنما هو ابتداع وبعد عن الكتاب والسنة.

 

ا- منهج التزكية عند السلفيين أهل السنة والجماعة

أهل السنة والجماعة هم أهل الأثر وأهل الحديث، وهم كذلك أهل الإتباع، فهم يزكون أنفسهم مما زكى به النبي صلى الله عليه وسلم نفوس الصحابة الكرام رضي الله عنهم، فلا يبتدعون طرقا للتزكية، ولا ينتهجون من المناهج ما يخالف نهج النبوة، وهم يضبطون بالعلم اعتقاداتهم وأقوالهم وأعمالهم، ونلخص مناهج التزكية عند السلفيين في ثلاثة أمور:

1- التزكية بالعقيدة الصحيحة عقيدة التوحيد، ولا يكفيهم ذلك حتى تتعبد قلوبهم لله عز و جل، وتمتلئ بأنوار أسمائه وصفاته وربوبيته وإلهيته.

2- التزكية بأداء الواجبات وترك المحرمات.

3- التزكية بالنوافل.

 

أ- التزكية بالتوحيد

لاشك أن أوجب أنواع التزكية، التزكية بالتوحيد قال الله تعالى:)إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ ([التوبة: 28] وهذه النجاسة ليست نجاسة عينية بحيث أن المسلم إذا مس كافرا يغسل يده، فقد أبيح للمسلم أن يتزوج بالكتابية ولا يسلم من عرقها، والواجب عليه من الطهارة كما هو الواجب على من تزوج بالمسلمة، فهذه نجاسة معنوية، قلوبهم نجسة لأنها لا تعرف الله عز وجل معرفة صحيحة، ولا تعبده وحده لا شريك له عبادة صحيحة.

ونجاسة الشرك ملازمة لا تطهرها المصائب المكفرة ولا الحسنات الماحية، بعكس تدنس المسلم بشيء من نجاسات المعاصي التي هي دون الشرك، فإنما تطهرها المصائب المكفرة والحسنات الماحية، ودعاء المؤمنين، واستغفار الملائكة، وغير ذلك من مكفرات الذنوب والخطايا، لذا كان أول الواجبات أن يطهر العبد نفسه من أنجاس الشرك، ويزكيها بالتوحيد، كما قال ابن عباس في قوله تعالى: ) وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ 6 الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ ([فصلت: 6، 7] قال: الذين لا يشهدون أن لا إله إلا الله، وكذلك قول موسى عليه السلام لفرعون )هَل لَّكَ إِلَى أَن تَزَكَّى ([النازعات: 18] أي تتطهر من هذا الشرك بالتوحيد، فأصل التزكية، التزكية بالتوحيد، بل لا تزكو النفس بسائر أنواع العبادات حتى تزكو بالتوحيد أولا، ومن اهتمام النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الأصل لما أرسل معاذا إلى اليمن قال: فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله وأنى رسول الله، فإن هم أطاعوك لذلك فأخرهم أن الله قد فرض عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة ))([15])  الحديث

وأيضا فإن الزكاة هي التطهير، وهل هناك نجاسة أشد من الشرك قال الله تعالى: )إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء ([النساء: 48]

وقال تعالى: )إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ([لقمان: 13].

وقال: ) وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيدًا( [النساء: 116] وقد قضى النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة عشر عاما يدعو إلى التوحيد وكان القرآن المكي دعوة للتوحيد، وبان ما أعده الله عز وجل لأهل التوحيد، وكذلك ما أعده للمعرضين عن توحيده، وكيف نصر الله عز رجل أولياءه الموحدين، وأهلك الكافرين والمعاندين، حتى استنارت قلوب الصحابة بأنوار التوحيد، وظهر هذا النور على جوارحهم فأثمر فعل الطاعات وترك المعاصي، كما قيل في قول الله عز وجل) ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ 24 تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا ( [إبراهيم: 24، 25] فالكلمة الطيبة هي كلمة التوحيد ((لا إله إلا الله)) أصلها ثابت في قلب المؤمن، وفرعها من الأعمال الصالحة في السماء صاعد إلى الله عز وجل، ونقصد بالتوحيد الذي تزكو به النفوس التوحيد الذي علمنا إياه رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: ((الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره))([16])والإيمان بالله هو ركن التوحيد الأعظم ويشمل الإيمان بربو بيته وأسمائه وصفاته وإفراده عز وجل بجميع ألوان العبادة تصديقا لقولنا ((لا إله إلا الله)) وقد فصلنا أصول الاعتقاد في بحث ((التربية)) بما أغنى عن إعادته في هذا البحث فليراجع.

ولا يكفي في توحيد الأسماء والصفات. وتوحيد الربوبية أن نثبت لله تعالى ما أثبته لنفسه وما أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم إثباتا بلا تشبيه وتنزيها بلا تعطيل، بل ينبغي أن تتعبد قلوبنا لله عز وجل بصفات الربوبية، وأسمائه وصفاته، والتحقق بتوحيد المعرفة هو السبيل كذلك لتمام العبودية وكمالها لله عز وجل.

 

قال ابن القيم رحمه الله في وصف السابقين بالخيرات:

وجملة الأمر أنهم قوم قد امتلأت قلوبهم من معرفة الله، وغمرت بمحبته وخشيته وإجلاله ومراقبته، فسرت المحبة في أجزائهم، فلم يبق فيها عرق ولا مفصل إلا وقد دخله الحب، قد أنساهم حب ذكره غيره، وأوحشهم أنسهم به ممن سواه، قد فنوا بحبه عن حب من سواه، وبذكره عن ذكر من سواه، وبخوفه ورجائه والرغبة إليه والرهبة منه والتوكل عليه والإنابة إليه والسكون إليه والتذلل والانكسار بين يديه، عن تعلق ذلك منهم بغيره، فإذا وضع أحدهم جنبه على مضجعه صعدت أنفاسه إلى إلهه ومولاه واجتمع همه عليه، متذكرا صفاته العلى وأسماءه الحسنى، مشاهدا له في أسمائه وصفاته، قد تجلت على قلبه أنوارها فانصبغ قلبه بمعرفته ومحبته، فبات جسمه على فراشه يتجافى عن مضجعه، وقلبه قد أوى إلى مولاه وحبيبه فآواه إليه، وأسجده بين يديه خاضعا خاشعا ذليلا منكسرا من كل جهة من جهاته، فيالها سجدة ما أشرفها. من سجدة لا يرفع رأسه منها إلى يوم اللقاء.

وقيل لبعض العارفين: أيسجد القلب بين يدي ربه، قال: إي والله بسجدة لا يرفع رأسه ما إلى يوم القيامة.

فشتان بين قلب يبيت عند ربه، قد قطع في سفره إليه بيداء الأكوان وخرق حجب الطبيعة، ولم يقف عند رسم، ولا سكن إلى علم حتى دخل على ربه في داره فشاهد عز سلطانه وعظمة جلاله، وعلو شأنه وبهاء كماله، وهو مستو على عرشه يدبر أمر عباده، ويصعد إليه شئون العباد، تعرض عليه حوائجهم وأعمالهم فيأمر فيها بما يشاء، فينزل الأمر من عنده نافذا كما أمر، فيشاهد الملك الحق قيوما بنفسه مقيما لكل ما سواه، غنيا عن كل من سواه فقيرا إليه ((كل من عداه))([17])

) يَسْأَلُهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ ([الرحمن: 29] يغفر ذنبا، ويفرج كربا، ويفك عانيا وينصر ضعيفا، ويجبر كسيرا، ويغنى فقيرا، ويميت ويحي، ويسعد ويشقى،  ويضل ويهدى، وينعم على قوم ويسلب نعمته عن آخرين، ويعز أقواما ويذل آخرين، ويرفع أقواما ويضع آخرين([18]).

 

إلى أن قال رحمه الله:

وجماع الأمر في ذلك إنما هو تكميل عبودية الله في الظاهر والباطن، فتكون حركات نفسه وجسمه كلها في محبوبات الله، وكمال عبودية العبد موافقته لربه في محبته ما أحبه، وبذل الجهد في فعله، وموافقته في كراهة ما كرهه، وبذل الجهد في تركه، وهذا إنما يكون للنفس المطمئنة لا للأمارة ولا للوامة فهذا كمال من جهة الإرادة والعمل.

وأما من جهة العلم والمعرفة فأن تكون بصيرته منفتحة في معرفة الأسماء والصفات والأفعال. له شهود خاص فيها، مطابق لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، لا مخالف له، فإن بحسب مخالفته له في ذلك يقع لانحراف، ويكون ذلك قائما بأحكام العبودية الخاصة التي تقتضيها كل صفة بخصوصها، وهذا سلوك الأكياس الذين هم خلاصة العالم، والسالكون كل هذا الدرب أفراد من العالم، طريق سهل قريب موصل طريق آمن، اكثر السالكين في غفلة عنه، ولكن يستدعى رسوخا في العلم ومعرفة تامة به، و إقداما على رد الباطل المخالف له ولو قاله من قاله ([19]) .

كذلك كانت تزكية النبي صلى الله عليه وسلم لنفوس أصحابه من شرك الألوهية كلما سنحت فرصة. قال للصحابة يوما على إثر سماء من الليل، أتدرون ماذا قال ربكم الليلة؟ قالوا الله ورسوله أعلم، قال: قال أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر: فأما من قال مطرنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب، وأما من قال مطرنا بنوء كذا وكذا فذلك كافر بي مؤمن    بالكوكب )) ([20])

وقال صلى الله عليه وسلم: لا تقولوا ما شاء الله وشاء فلان ولكن قولوا: ما شاء الله ثم شاء فلان )) ([21]) .

وكذلك قصة ذات الأنواط ([22])  وغير ذلك مما كان يزكي به النبي صلى الله عليه وسلم قلوب أصحابه حتى صاروا أبر الأمة قلوبا وأعمقها علما.

 

2- التزكية بفعل الواجبات وترك المحرمات:

وهذه تزكية واجبة بعد التزكية بالتوحيد، وأولى ما يتقرب به العبد إلى ربه بعد توحيد الله عز وجل أداء الفرائض واجتناب المحرمات، والعمدة في ذلك حديث الولي في صحيح البخاري عنه صلى الله عليه وسلم قال: قال الله تعالى:((وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه))([23]).

 

قال ابن حجر رحمه الله:ويستفاد منه أن أداء الفرائض أحب الأعمال إلى الله )) قال الشوكاني: وجه ذلك أن النكرة وقعت في سياق النفي فتعم كل ما يصدق عليه معنى الشيء، فلا يبقى شيء من القرب إلا وهو داخل في هذا العموم، لأن كل قربه كائنه ما كانت يقال لها شيء، سواء كانت من الأفعال أو الأقوال، أو مضمرات القلوب أو الخواطر الواردة على العبد أو التروك للمعاصي التي هي ضد فعلها.

 

قال الطوفي: الأمر بالفرائض جازم ويقع بتركها المعاقبة بخلاف النفل في الأمرين، وإن اشتركت مع الفرائض في تحصيل الثواب، فكانت الفرائض أكمل، فلذا كانت أحب إلى الله، وأشد تقربا، فالفرض كالأس، والنفل كالفرع والبناء، وفي الإتيان بالفرائض على وجه المأمور به امتثال الأمر واحترمه وتعظيمه بالانقياد إليه وإظهار عظمة الربوبية وذل العبودية، فكان التقرب بذلك أعظم العمل.

 

قال الشوكاني رحمه الله: واعلم أم من أعظم فرائض الله سبحانه ترك معاصيه التي هي حدوده، التي من تعداها كان عليه من العقوبة ما ذكره الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز، ولا خلاف أن الله افتراض على العباد ترك كل معصية كائنة ما كانت، فكان ترك المعاصي من هذه الحثيثة داخلا تحت عموم قوله: (( وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي من مما افترضت عليه)) بل دخول فرائض الترك للمعاصي أولى من دخول فرائض الطاعات كما يدل عليه حديث(( إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم وإذا نهيتكم عن شيء فلا تقربوه))([24])

 

قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أفضل الأعمال أداء ما افترض الله، والورع عما حرم الله، وحسن النية فيما عند الله عز وجل ([25]) ،والمقصود أن أهل السنة، يزكون أنفسهم بعد التوحيد بتكميل الفرائض من فعل الواجبات وترك المحرمات، فلا يفتحون على أنفسهم أبواب النوافل، وهم بعد مقصورون في أداء الفرائض، كما يذهب كثير من الناس إلى الحج والعمرة كل عام ولا يؤدون زكاة أموالهم، أو يهتمون ببناء المساجد وينفقون في أبواب البر لا بنية الزكاة الواجبة في المصارف الثمانية التي حددها الله عز وجل ويصح هنا قول القائل: من شغله الفرض عن النفل فهو معذور ومن شغله النفل عن الفرض فهو مغرور.

 

والله عز وجل لا يقبل النفل  حتى تؤدي الفريضة، فأهل السنة يزكون أنفسهم بالمشروع، ومع ذلك يقدمون في العمل ما قدمه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم كما قال النبي صلى الله عليه وسلم ((نبدأ بما بدأ الله به)) ثم تلا ) إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللَّهِ ( [البقرة: 158].

 

ومن تلبيس الشيطان على العبد أن يشغله بالعمل المفضول عن الفاضل، وقد ظهر أن الفرائض أفضل وأنفع للعبد من النوافل، فينبغي أن يكمل العبد فرائضه أولا، ثم يزداد تقربا وتحببا إلى الله عز وجل بالنوافل.

 

 

3- التزكية بالنوافل

النوافل هي ما عدا الفرائض من جميع أجناس الطاعات، وكل ما ندب الله سبحانه إليه ورغب فيه من غير حتم وافتراض، وتختلف النوافل باختلاف ثوابها، فما كان ثوابه أكثر كان فعله أفضل، وتختلف كذلك باختلاف ما ورد في الترغيب فيها، فبعضها قد يقع الترغيب فيه ترغيبا مؤكدا، وقد يلازمه النبي صلى الله عليه وسلم مع الترغيب للناس في فعله.

 

قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((ولا يزال عبدي يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه))([26]).

 

قال الحافظ رحمه الله: وقد استشكل بما تقدم أولا أن الفرائض أحب العبادات المتقرب بها إلى الله فكيف لا تنتج المحبة؟ والجواب أن ما كانت حاوية للفرائض مشتملة عليها ومكملة لها، ويؤيده أن رواية أبي أمامة: ((ابن آدم إنك لن تدرك ما عندي إلا بأداء ما افترضت عليك)).

 

قال الفاكهاني: معنى الحديث أنه إذا أدى الفرائض ودام على إتيان النوافل من صلاة وصيام وغيرهما أفضى به ذلك إلى محبة الله.

 

قلت: ويفهم منه أن العبد إذا قصر في الفرائض وأكثر من النوافل لا تكون هذه الطريق موصلة له إلى محبة الله عز وجل: فلا يتم التقرب بالنوافل حتى يتقرب أولا بالفرائض، فهذه سبيل التزكية عند أهل السنة.

 

وقال ابن هبيرة: ويؤخذ من قوله: ((ما تقرب... إلخ)) أن النافلة لا تقدم على الفريضة، لأن النافلة إنما سميت نافلة لأنها تأتي زائدة على الرافضة فما لم تؤد الفريضة لا تحصل النافلة، ومن أدى الفرائض ثم زاد عليه النفل وأدام ذلك تحققت منه إرادة التقرب انتهى وأيضا فقد جرت العادة أن التقرب يكون غالبا بغير ما وجب على المتقرب كالهدية والتحفة خلاف من يؤدي ما عليه من خراج أو يقضي ما عليه من دين، وأيضا فإن من جملة ما شرعت له النوافل جبر الفرائض، كما صح في الحديث

((انظروا هل لعبدي من تطوع فتكمل به فريضته))([27]) الحديث بمعناه.

فتبين أن المراد من التقرب بالنوافل أن تقع ممن أدى الفرائض لا من أخل بها.

 

وقال الشوكاني رحمه الله: إن العبد لما كان معتقدا لوجوب الفرائض عليه، وأنه أمر حتم يعاقب على تركها، كان ذلك بمجرده حاملا له على المحافظة عليها والقيام بها، فهو يأتي بها بالإيجاب الشرعي والعزيمة الدينية، أما النوافل فهو يعلم أنه لا عقاب في تركها فإذا فعلها كان ذلك لمجرد التقرب إلى أرب خاليا، عن حتم عاطلا عن حزم، فجوزي على ذلك بمحبة الله له، وإن كان أجر الفرض أكثر، فلا ينافي أن تكون المجازاة بما كان الحامل عليه هو محبة التقرب إلى الله أن يحب الله فاعله لأنه فعل ما لم يوجبه الله عليه، ولا عزم عليه بأن يفعله.

 

ومثال هذا في الأفعال المشاهدة في ابن آدم أن السيد إذا أمر عبده بأن يقضي له في كل يوم حاجة أو حوائج، وكذلك أمر من له من الممالك بمثل ذلك، فكان أحدهم يقضي له تلك الحوائج ثم يقضى له حوائج أخرى يعلم أن سيده يحب قضاءها وتحسن لديه، والآخرون لا يقضون له إلا تلك الحوائج التي أمرهم السيد بها، فمعلوم أن ذلك العبد الذي صار يأتي له كل يوم بما أمره به وبغيره مما يحبه، يستحق المحبة من السيد محبة زائدة على محبته لكل واحد منهم، فالمراد من الحديث هذه المحبة الزائدة الحاصلة من فعله لما يحبه سيده من غير أمر منه، مع قيامه بما قام به غيره من امتثال أمر السيد والتبرع بالزيادة التي لم يأمره بها ([28]) .

 

وهذه مجموعة من نوافل الطاعات الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم أذكر بها من كمل فرائضه وأحب أن يزداد زكاة ومحبة لله عز وجل.

 

ا- نوافل الصلاة:

من نوافل الصلاة المرغوب فيها المؤكد في استحبابها رواتب الفرائض وهي في الصحيحين وغيرهما من حديث عبد الله بن عمر قال:((حفظت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وآله: ركعتين قبل الظهر، وركعتين بعد الظهر، وركعتين بعد المغرب، وركعتين بعد العشاء، وركعتين قبل الغداة )) ([29]) . وأخرجه مسلم بمعناه لكن زاد:((قبل الظهر أربعا )) ([30])

وفضل هذه النوافل ما رواه مسلم وأهل السنن من حديث أم حبيبة بنت أبي سفيان عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من صلى في يوم وليلة اثنتي عشرة سجدة سوى المكتوبة، بنى له بيت في الجنة )) ([31]) .

 

ومن نوافل الصلاة المؤكدة قيام الليل:

روى مسلم عنه صلى الله عليه وسلم قال:((أفضل الصلاة بعد المكتوبة قيام الليل )) ([32]) . وعن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلى ما بين أن يفرغ من صلاة العشاء إلى الفجر إحدى عشرة ركعة، يسلم بين كل ركعتين، ويوتر بواحدة )) ([33]) .

 

ومن النوافل صلاة الضحى

والأحاديث في مشروعيتها متواترة منها ما في الصحيحين عن أبى هريرة رضي الله عنه قال: أوصاني خليلي صلى الله عليه وسلم بثلاث: ((صيام ثلاثة أيام من كل شهر وركعتي الضحى وأن أوتر قبل أن أنام )) ([34]) .

 

ومن نوافل الصلاة المؤكدة صلاة تحية المسجد:

عن أبي قتادة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إذا دخل أحدا المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين )) ([35])

ومن النوافل: الصلاة عقب الوضوء.

والصلاة بين الأذان والإقامة.

ومطلق التنفل إلا في أوقات  الكراهة .

 

2- نوافل الصيام:

صوم شهر المحرم روى مسلم وأهل السنن أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل أي الصيام بعد شهر رمضان أفضل؟ فقال:((شهر الله المحرم )) ([36])

 

ومنه صيام يوم عرفة ويوم عاشوراء

عن أبي قتادة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((صوم يوم عرفة يكفر سنتين ماضية ومستقبله، وصوم يوم عاشوراء يكفر سنة ماضية )) ([37]) .

 

ومنه صيام ست من شوال

عن أبي أيوب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من صام رمضان ثم أتبعه ستا من شوال فذلك صيام الدهر)) ([38]) .

 

ومنه صوم شعبان

أخرج أحمد وأهل السنن من حديث أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يصوم من السنة شهرا تاما إلا شعبان يصل به رمضان )) ([39]) . وحسنه الترمذي والمعنى يكثر من صيام شعبان لأنه لم يثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم صام شهرا كاملا إلا رمضان.

 

ومنه مطلق التنفل ويكفى في مطلق التنفل بالصيام قوله صلى الله عليه وسلم: ((من صام

يوما في سبيل الله باعد الله وجهه عن النار سبعين خريفا ))([40])

 

3- نوافل الحج والعمرة:

في الصحيحين وغيرهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (( العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة )) وقال صلى الله عليه وسلم:((من حج فلم - يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه )) ([41]) .

 

4- نوافل الصدقة:

قال الله عز وجل: ) وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ([سبأ: 39].

عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما من يوم يصبح العباد فيه إلا وكان ينزلان من السماء فيقول أحدهما: اللهم أعط منفقا خلفا، ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكا تلفا ([42])  وفي صحيح مسلم من حديث أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
((يا ابن آدم إنك إن تبذل الفضل خير لك وإن تمسكه شر لك ولا تلام على كفاف وابدأ بمن تعول، واليد العليا شر من اليد السفلي)) ([43]) .

  وفي الصحيحين وغيرهما من حديث أسماء بنت أبي بكر قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وآله(( لا توكي فيوكي الله عليك )) ([44])  أي لا تبخلي.

 

5- نوافل الأذكار:

قال الله تعالى: ) وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ ([العنكبوت: 45] أي أكبر مما سواه من الأعمال الصالحة.

وقال تعالى:)وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ( [الجمعة: 10].

وفي الصحيحين وغيرهما من حديث أبي موسى:((الذي يذكر ربه والذي لا يذكر ربه مثل الحي والميت )) ([45]) .

 

التقرب والتزكية بالدعاء:

 قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الدعاء هو العبادة) ثم تلا هذه الآية )وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ( [غافر: 60].

 وقال عز وجل:) أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ([النمل: 62].

وقال:) وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ( [البقرة: 86].

وعن أنس مرفوعا((لا تعجزوا في الدعاء فإنه لن يهلك مع الدعاء أحد )) ([46]) .

وعن أبي سعيد عنه صلى الله عليه وسلم: ((ما من مسلم يدعو بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم إلا أعطاه الله بها إحدى ثلاث: إما أن يعجل له دعوته، وإما أن يدخرها له في الآخرة وإما أن يصرف عنه من السوء مثلها )) ([47]) .

وعن سلمان عنه صلى الله عليه وسلم قال ((إن ربكم حي كريم يستحي إذا رفع الرجل إليه يديه أن يردهما صفرا خائبتين )) ([48]) .

 

7- التزكية والقرب بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم

ومما تزكو النفس بملازمته والاستكثار منه الصلاة والسلام على رسول الله

صلى الله عليه وسلم فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من صلى غلي واحدة صلى الله عليه عشرا )) ([49]) .

فانظر إلى هذا الأمر العظيم والجزاء الكريم، يصلي العبد على الرسول صلى الله عليه وسلم  واحدة، فيصلي عليه خالق العالم ورب الكل عز وجل عشر مرات؛ فهذا ثواب لا يعادله ثواب وجزاء لا يساويه جزاء وأجر لا يماثله أجر.

وبعد أن ذكرنا هذه المجموعة الطيبة من النوافل على سبيل التذكير لمن أراد أن يزكى نفسه بالنوافل بعد الفرائض، يظهر جليا كيف أغنانا الله بالوسائل المشروعة لتزكية النفوس، ونوع الأعمال الصالحة التي يدخل العبد بها على الله عز وجل.

 

قال ابن القيم رحمه الله: من الناس من يكون سيد عمله الذكر وقد جعله زاده لمعاده ورأس ماله لمآله، فمتى فتر عنه أو قصر رأى أنه قد غبن وخسر، ومن الناس من يكون سيد عمله وطريقه الصلاة فمتى قصر في ورده منها، أو مضى عليه وقت وهو غير مشغول بها أو مستعد لها، أظلم عليه وقته، وضاق صدره، ومن الناس من يكون طريقه الإحسان والنفع المتعدي، كقضاء الحاجات وتفريج الكربات وإغاثة اللهفات وأنواع الصدقات، قد فتح له في هذا وسلك منه طريقا إلى ربه، ومن الناس من يكون طريقه الصوم، فهو متى أفطر تغير عليه قلبه وساءت حاله، ومن الناس من يكون طريقه تلاوة القرآن، وهي الغالب على أوقاته، وهي أعظم أوراده، ومنهم من يكون طريقه الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، قد فتح الله له فيه ونفذ منه إلى ربه، ومنهم من يكون طريقه الذي نفذ فيه الحج والاعتمار، ومنهم من يكون طريقه قطع العلائق، وتجريد الهمة، ودوام المراقبة، ومراعاة الخواصر، وحفظ الأوقات أن تذهب ضائعة، ومنهم جامع المنفذ السالك إلى الله في كل واد، الواصل إليه من كل طريق، فهو جعل وظائف عبوديته قبلة قلبه ونصب عينه يؤمها أين كانت ويسير معها حيث سارت، قد ضرب مع كل فريق بسهم، فأين كانت العبودية وجدته هناك إن كان علم وجدته مع أهله، أو جهاد وجدته في صف المجاهدين، أو صلاة وجدته في القانتين، أو ذكر وجدته في الذاكرين، أو إحسان ونفع وجدته في زمرة المحسنين، أو محبة ومراقبة و إنابة إلى الله وجدته في زمرة المحبين المنيبين، يدين بدين العبودية التي استقلت ركابها، ويتوجه إليها حيث استقرت مضاربها، لو قيل له: ما تريد من الأعمال؟ لقال: أريد أن أنفذ أوامر ربي حيث كانت وأين كانت، جالبة ما جلبت، مقتضية ما اقتضت، جمعتني أو فرقتني، ليس في مراد إلا تنفيذها والقيام بأدائها، مراقبا له فيها، عاكفا عليه بالروح والقلب والبدن والسر، قد سلمت له المبيع منتظرا منه تسليم الثمن:) إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ( [التوبة: 111].

فهذا هو العبد السالك إلى ربه النافذ إليه حقيقة ([50]) .

 

فهذه طريقة ومناهج التزكية عند السلفيين أهل السنة والجماعة، جعلها الله عز وجل كثيرة متنوعة جدا؛ لاختلاف استعدادات العباد وقوابلهم، ولو جعلها نوعا واحدا مع اختلاف الأذهان والعقول وقوة الاستعدادات وضعفها لم يسلكها إلا واحد بعد واحد، مع أن كل هذه طريق واحد، وهو صراط الله المستقيم كما قال تعالى:) وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ([ الأنعام: 153].

 

 

 

 

 

 

 

 


منهج التزكية عند الصوفية

 

لاشك أن الصوفية من أجهل الفرق الإسلامية بآثار النبوة، وأكثرها ترويجا للأحاديث الضعيفة والموضوعة، وذلك واضح جلى في مصنفاتهم فإنها مليئة بالأخبار الموضوعة ومالا أصل له، أضف إلى ذلك كثرة الحكايات والمنامات والخرافات يعوضون بها فقرهم بالآثار النبوية والسنن المصطفوية، ويظهر ذلك كذلك في مناهج التزكية عندهم، حيث يطلبون زكاة نفوسهم بالإنشاد والمكاء والتصدية وتكلف ما لم يشرعه الله عز وجل ولا رسوله صلى الله عليه وسلم من العبادات، وهذه بعض وسائلهم في التزكية.

 

  • الصوفية يزكون أنفسهم- زعموا- بالمكاء والتصدية والغناء والتصفيق ويتواجدون عند ذلك حتى روى بعضهم كذبا أن النبي صلى الله عليه وسلم أنشده أعرابي شعرا فقال:

قد لسعت حية الهوى كبدي
 

 

فلا طبيب لها ولا راقي

سوى الحبيب الذي شغفت به

 

فمنه دائي ومنه ترياقي

وأن النبي صلى الله عليه وسلم تواجد حتى سقطت البردة عن منكبيه وقال: ((ليس بكريم من لم يتواجد عند ذكر المحبوب )).

 

قال شيخ الإسلام: وهذا حديث كذب بإجماع العارفين بسيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنته وأحواله. ([51]) .

 

وقال كذلك:

وبالجملة فقد عرف بالاضطرار من دين الإسلام أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يشرع، لصالحي أمته وعبادهم وزهادهم أن يجتمعوا على استماع الأبيات الملحنة مع الضرب بالكف أو ضرب بالقضيب أو الدف، كما لم يبح لأحد أن يخرج عن متابعته واتباع ما جاء به من الكتاب والحكمة لا في باطن الأمر ولا في ظاهره، ولا لعامي ولا لخاصي، ولكن رخص النبي صلى الله عليه وسلم  في أنواع من اللهو في العرس ونحوه؛ رخص للنساء أن يضربن بالدف في الأعراس والأفراح، وأما الرجال على عهده فلم يكن أحد منهم يضرب بالدف ولا يصفق بكف، بل قد ثبت عنه في الصحيح أنه قال: التصفيق للنساء والتسبيح للرجال، ولعن المتشبهات من النساء بالرجال، والمتشبهين من الرجال  بالنساء.

ولما كان الغناء والضرب بالدف والكف من عمل النساء كان السلف يسمون من يفعل ذلك من الرجال مخنثا، ويسمون الرجال المغنيين مخانيثا وهذا مشهور من كلامهم. ([52]) .

 

إلى أن قال رحمه الله:

وبالجملة فهذه (مسألة السماع) تكلم كثير من المتأخرين في السماع هل هو محظور أو مكروه أو مباح، وليس المقصود بذلك مجرد رفع الحرج بل مقصودهم يذلك أن يتخذ طريقا إلى الله يجتمع عليه أهل الديانات لصلاح القلوب والتشويق إلى المحبوب والتخويف من المرهوب والتحزن على فوات المطلوب، فتستنزل به الرحمة وتستجلب به النعمة وتحرك به مواجيد أهل الإيمان وتستجلي به مشاهد أهل العرفان حتى يقول بعضهم، إنه أفضل لبعض الناس أو للخاصة من سماع القرآن من عدة وجوه، حتى يجعلونه قويا للقلوب، وغذاء للأرواح، وحاديا للنفوس، يحدوها إلى السير إلى الله ويحثها على الإقبال عليه.

ولهذا يوجد من اعتاده واغتذى به لا يحن إلى القرآن، ولا يفرح به، ولا يجد في سماع الآيات كما يجد في سماع الأبيات، بل إذا سمعوا القرآن سمعوه بقلوب لاهية وألسن لاغية، وإذ سمعوا سماء المكاء و التصدية خضعت الأصوات، وسكنت الحركات وأصغت القلوب وتعاطت المطلوب.

 

وقال رحمه الله: ومن كانت له خبرة بحقائق الدين وأحوال القلوب ومعارفها وأذواقها ومواجيدها عرف أن سماع، المكاء والتصدية لا يجلب للقلوب منفعة ولا مصلحة إلا وفي ضمن ذلك من الضرر والمفسدة ما هو أعظم منه، فهو للروح كالخمر للجسد، يفعل في النفوس فعل حميا الكؤوس، ولهذا يورث أصحابه سكرا أعظم من سكر الخمر فيجدون فيه لذة بلا تمييز، كما يجد الشارب بل يحصل لهم أكثر وأكبر مما يحصل لشارب الخمر، يصدهم ذلك عن ذكر الله وعن الصلاة أعظم مما يصدهم الخمر، ويوقع بينهم العداوة والبغضاء أعظم من الخمر، حتى يقتل بعضهم بعضا من غير مس يد بل بما يقترن بهم من الشياطين، فإنهم يحصل لهم أحوال شيطانية بحيث تتنزل عليهم  الشياطين في تلك الحال )) ([53]) .

 

وقال ابن الجوزي ما ملخصه:-

هذه الطائفة إذا سمعت الغناء تواجدت وصفقت وصاحت ومزقت الثياب، وقد لبس عليهم إبليس في ذلك وبالغ واحتجوا بما روي عن سلمان:

 لما نزلت ) وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ ( صاح سلمان الفارسي صيحة ووقع على رأسه ثم خرج هاربا ثلاثة أيام. والجواب أن ما ذكروه عن سلمان فمحال وكذب، ثم ليس له إسناد والآية نزلت بمكة وسلمان إنما أسلم بالمدينة، ولم ينقل عن أحد من الصحابة مثل هذا أصلا.

 

قال واعلم وفقك الله أن قلوب الصحابة كانت أصغى القلوب، وما كانوا يزيدون عند الوجد على البكاء والخشوع، قال: وهذا حديث العرباض بن سارية ((وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم  موعظة ذرفت منها العيون، ووجلت منا القلوب))([54]) قال أبو بكر الآجرى: ولم يقل صرخنا ولا ضربنا صدورنا كما يفعل كثير من الجهال الذين يتلاعب بهم الشيطان.

 

قال: والتصفيق منكر يطرب ويخرج عن حد الاعتدال ويتنزه عن مثله العقلاء ويتشبه فاعله بالمشركين فيما كانوا يفعلونه عند البيت من التصدية، وهي التي ذمهم الله عز وجل بها فقال:) وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِندَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكَاءً وَتَصْدِيَةً ( [الأنفال: 35] فالمكاء الصفير والتصدية التصفيق.

 

 قال: فإذا قوى طربهم رقصوا، وقد احتج بعضهم بقوله تعالى لأيوب ) ارْكُضْ بِرِجْلِكَ ( [ص: 42] قال: وهذا الاحتجاج بارد لأنه لو كان أمر بضرب الرجل فرحا كان لهم فيه شبهة، وإنما أمر بضرب الرجل لينبع الماء. فال ابن عقيل: أين الدلالة في مبتلى أمر عند كشف البلاء بأن يضرب برجله الأرض لينبع الماء إعجازا من الرقص. [الإسراء: 37]

 

قال أبو الوفاء بن عقيل: وقد نص القرآن على النهي عن الرقص فقال عز وجل ) وَلاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا ( وذم المختال فقال ) إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ ([لقمان: 18].

 

قال ابن الجوزي: فإذا تمكن الطرب من الصوفية في حال رقصهم جذب أحدهم بعض الجلوس ليقوم معه، ولا يجوز على مذهبهم للمجذوب أن يقعد، فإذا قام قام الباقون تبعا له، فإذا كشف أحدهم رأسه كشف الباقون رؤوسهم موافقة له، ولا يخفي على عاقل أن كشف الرأس مستقبح، وفيه إسقاط مروءة وترك أدب، وإنما يقع في المناسك تعبدا لله وذلا له.

 

2- الصوفية يدعون تزكية أنفسهم بالاسم المفرد مظهرا أو مضمرا قال شيخ الإسلام:- الشرع لا يستحب من الذكر إلا ما كان كلاما تاما مفيدا مثل ((لا اله إلا الله))، ومثل ((الله أكبر ))، ومثل ((سبحان الله))، ومثل ((لا حول ولا قوة إلا بالله)).

 

فأما الاسم المفرد مظهرا مثل ((الله)) ((الله)) أو مضمرا مثل ((هو)) ((هو)) فهذا ليس بمشروع في كتاب ولا سنة، ولا هو مأثور أيضا عن أحد من سلف الأمة، ولا عن أعيان الأمة المقتدى بهم، وإنما لهج به قوم من ضلال المتأخرين.

وربما غلا بعضهم حتى يجعلوا الاسم المفرد للخاصة، وذكر الكلمة التامة للعامة، وربما قال بعضهم ((لا إله إلا الله للمؤمنين)) و((الله)) للعارفين وهو للمحققين وربما اقتصر أحدهم في خلوته أو في جماعته على ((الله الله الله))، على ((هو)) أو ((يا هو)) أو ((لا هو إلا هو)) وربما ذكر بعض المصفين في الطريق تعظيم ذلك.

 

وأما مايتوهمه طائفة من غالطي المتعبدين في قوله تعالى: ) قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ (ويتوهمون أن المراد قول هذا الاسم فخطأ واضح، ولو تدبروا ما قبل هذا تبين مراد الآية فإنه سبحانه قال: ) وَمَا قَدَرُواْ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُواْ مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِّلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُم مَّا لَمْ تَعْلَمُواْ أَنتُمْ وَلاَ آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ (أي قل الله أنزل الكتاب الذي جاء به موسى، فهذا كلام تام وجملة أسمية مركبة من مبتدأ وخبر.

 

إلى أن قال: وكذلك بالأدلة العقلية الذوقية، فإن الاسم وحده لا يعطى إيمانا ولا كفرا ولا هدى ولا ضلالة ولا علما ولا جهلا، ولو كرر الإنسان اسم الله ألف مرة لم يصر بذلك مؤمنا ولم يستحق ثواب الله ولا جنته، فإن الكفار من جميع الأمم يذكرون الاسم المفرد سواء أقروا به وبوحدانيته أم لا.

فإن قيل فالذاكر والسامع للاسم المجرد قد يحصل له وجد محبة وتعظيم لله ونحو ذلك.

 

قلت: نعم ويثاب على دلك الوجد المشروع والحال الإيماني، لا لأن الاسم مستحب، وإذا سمع ذلك حرك ساكن القلب، وقد يتحرك الساكن بسماع ذكر محرم أو مكروه، حتى قد يسمع المسلم من يشرك بالله أو يسبه فيثور في قلبه حال وجد ومحبة لله بقوة نفرته وبغضه لما سمعه.

 

والعبد أيضا قد يدعوه داع إلى الكفر أو المعصية فيستعصم ويمتنع ويورثه ذلك إيمانا وتقوى، وليس السبب مأمورا به، وقد قال تعالى: ) الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ( [آل عمران: 173] ففرق بين أن يكون نفس السبب موجبا للخير ومقتضيا، وبين أن لا يكون، وإنما نشأ الخير من المحل.

 

 فثبت بما ذكرناه أن ذكر الاسم المجرد ليس مستحبا، فضلا عن أن يكون هو ذكر الخاصة.

 

وأبعد من ذلك ذكر ((الاسم المضمر)) وهو ((هو)) فإن هذا بنفسه لا يدل على معين، وإنما هو بحسب ما يفسره من مذكور أو معلوم، فيبقى معناه بحسب قصد المتكلم ونيته، ولهذا قد يذكر به من يعتقد أن الحق الوجود المطلق، وقد يقول: لا هو إلا هو، ويسري قلبه في وحدة الوجود، ومذهب فرعون والإسماعيلية وزنادقة هؤلاء المتصوفة المتأخرين، بحيث يكون قوله ((هو)) كقوله ((وجوده)) وقد يعني بقوله ((لا هو إلا هو)) أي أنه هو الوجود وأنه ما ثم خلق أصلا، وأن الرب والعبد والحق والخلق شيء واحد كما بينته من مذهب الاتحادية، ومن أسباب هذه الاعتقادات والأحوال الفاسدة الخروج عن الشريعة والمنهاج الذي بعث به الرسول إلينا صلى الله عليه وسلم، فإن البدع هي مبادئ الكفر ومظان الكفر، كما أن السنن المشروعة هي مظاهر الإيمان ومقوية للإيمان، فإنه يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية.

 

3- الصوفية يدعون تزكية أنفسهم- بتحريم ما أحل الله من المطاعم والمشارب ولبس الصوف وتكلف ما لم يشرعه الله عز وجل من العبادات: قال ابن الجوزي رحمه الله:.- وقد بالغ إبليس في تلبيسه على قدماء الصوفية فأمرهم بتقليل المطعم وخشونته، ومنعهم شرب الماء البارد، وكان في القوم من يبقى الأيام لا يأكل إلا أن تضعف قوته، ومنهم من في بتناول كل يوم الشيء اليسير الذي لا يقيم البدن، وقد كان منهم قوم لا يأكلون اللحم حتى قال بعضهم: أكل درهم من اللحم يقسي القلب أربعين صباحا.

 

إلى أن قال رحمه الله: وقد صنف لهم أبو عبد الله محمد بن علي الترمذي كتابا سماه رياضة النفوس قال فيه: فينبغي للمبتدي في هذا الأمر أن يصوم شهرين متتابعين توبة من الله، ثم يفطر فيطعم اليسير، ويأكل كسرة كسرة، ويقطع الإدام والفواكه واللدة ومجالسة الأخوان، والنظر في الكتب، وهذه كلها أفراح للنفس؛ فيمنع النفس لدتها حتى تمتلئ عما.

 

إلى أن قال: وهذا الذي نبهنا عنه من التقلل الزائد الحد قد انعكس في صوفية زماننا فصارت همتهم في المآكل، كما كانت همة متقدميهم في الجوع ([55]).

أما لبس الصوف فقد كانوا يلبسون الصوف يتقربون بذلك إلى الله عز وجل، ويحتجون بأن النبي صلى الله عليه وسلم لبس الصوف، وأما لبسه إياه فقد لبس النبي صلى الله عليه وسلم كذلك القطن و الكتان، و ما روى في فضل لبس الصوف فمن الموضوعات التي لا تثبت، بل تعمد لبس الصوف والدون من الملابس فمن البدع التي تخالف ما كان عليه السلف الصالح رضي الله عنهم.

 

قال ابن الجوزي: وقد كان السلف يلبسون الثياب المنوسطة لا المرتفعة ولا الدون ويتخيرون أجودها للجمعة والعيدين ولقاء الإخوان ولم يكن غير الأجود عندهم قبيحا. ([56])

 

وقال: واعلم أن اللباس الذي يزري بصاحبه يتضمن إظهار الزهد، وإظهار الفقر، وكأنه لسان شكوى من الله عز وجل، ويوجب احتقار اللابس، وكل ذلك مكروه ومنهي عنه. وقال: وقد كان من الصوفية من إذا لبس ثوبا خرق بعضه وربما أفسد الثوب الرفيع القدر. ([57])

 

4- الصوفية يدعون تزكية أنفسهم بالرهبانية وترك النكاح قال ابن الجوزي رحمه الله: النكاح مع خوف العنت واجب، ومن غير خوف العنت سنة مؤكدة عند جمهور الفقهاء، ومذهب أبي حنيفة وأحمد بن حنبل أفضل من جميع النوافل، لأنه سبب في وجود الولد قال صلى الله عليه وسلم: ((تناكحوا تناسلوا )) ([58]) . وقال صلى الله عليه وسلم ((النكاح من سنتي فمن غب عن سنتي فليس مني )) ([59]) . قال: وقد لبس إبليس على كثير من الصوفية فمنعهم من النكاح فقدماؤهم تركوا ذلك تشاغلا بالتعبد ورأوا النكاح شاغلا عن طاعة الله عز وجل، وهؤلاء وإن كانت بهم حاجة إلى النكاح أوبهم نوع شوق إليه فقد خاطروا بأبدانهم وأديانهم، وإن لم يكن بهم حاجة إليه فاتتهم الفضيلة، وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((وفي بضع أحدا صدقة قالوا: يأتي أحدنا شهوته ويكون له فيا أجر قال: أرأيتم لو وضعها في الحرام أكان عليه وزر؟ قالوا: نعم قال: كذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر )) ([60]) .

ومنهم من قال: النكاح يوجب الميل إلى الدنيا فعن أبي سليمان  الدراني أنه قال: إذا طلب الرجل الحديث، أو سافر في طلب المعاش، أو تزوج فقد ركن إلى الدنيا.

قال: فأما جماعة من متأخري الصوفية فإنهم تركوا النكاح ليقال زاهد، والعوام تعظم الصوفي إذا لم تكن له زوجة، فيقولون ما عرف امرأة قط. قال أبو حامد: ينبغي أن لا يشغل المريد نفسه بالتزويج، فإنه يشغله عن السلوك، ويأنس بالزوجة، ومن أنس بغير الله شغل عن الله.

 

قال ابن الجوزي:- وإني لأعجب من كلامه أتراه ما علم أن من قصد عفاف نفسه ووجود ولد أو عفاف زوجته فإنه لم يخرج عن جادة السلوك، أو يرى الأنس الطبيعي بالزوجة ينافي أنس القلوب بطاعة الله تعالى، والله تعالى من على الخلق بقوله ) خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً ([ الروم: 21]

وفى الحديث الصحيح عن جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال له ((هلا تزوجت بكرا تلاعبها وتلاعبك))([61])وما كان بالذي يدله على ما يقطع أنسه بالله تعالى، أترى رسول الله صلى الله عليه وسلم لما كان ينبسط إلى نسائه ويسابق عائشة رضي الله عنها أكان خارجا عن الأنس بالله، هذه كلها جهالات بالعلم.

 

إلى أن قال:- وقد حمل الجهل أقواما فجبوا أنفسهم، وزعموا أنهم فعلوا ذلك حياء من الله تعالى، وهذه غاية الحماقة؛ لأن الله تعالى شرف الذكر على الأنثى بهذه الآلة، وخلقها لتكون سببا للتناسل، والذي يحب نفسه يقول بلسان الحال الصواب ضد هذا. ([62])

 

وقد أخذ الصوفية هذه الرهبانية من النصارى وصرحوا في كتبهم بإعجابهم برهبانية النصارى.

 

يقول الأستاذ دمشقية ما ملخصه:

وهذا الاعتزال الصوفي ليس مصدره إسلاميا وإنما مصدره رهبان النصارى ورياضاتهم عليه حول الصوفية وآثار هذا الإعجاب تبدو ظاهرة جلية في كتاب الإحياء.

 

فالغزالي يذكر في الإحياء قصة بقلم إبراهيم بن أدم المعرفة و الحكمة من راهب نصراني يقول: قال إبراهيم بن أدهم: تعلمت المعرفة من راهب يقال له سمعان.

وروى عنه الغزالي أيضا قوله: سألت بعض الرهبان: من أين تأكل؟ فقال: ليس هذا العلم عندي ولكن سل ربي من أين يطعمني .

 

 ويقول مثنيا على اعتزال رهبان النصارى وسلوكهم في التعبد (( اعلم أنه لا وصول إلى الله سبحانه وتعالى إلا بالتنزه عن الشهوات والكف عن اللذات، والاقتصار على الضرورات فيها، والتجرد لله سبحانه في جميع الحركات و السكنات ولأجل هذا انفرد الرهبانيون في الملل السالفة عن الخلق، وانحازوا إلى قلل الجبال، وآثروا التوحش عن الخلق لطلب الأنس بالله عز وجل )) ([63]) . فانظر رحمك الله كيف آثر الرهبانية التي ابتدعها اليهود والنصارى على الرهبانية التي شرعها الله عز وجل لهذه الأمة على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم فعن أبي سعيد الخدري أن رجلا جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أوصني فقال ((أوصيك بتقوى الله فإنه رأس كل شيء، وعليك بالجهاد فإنه رهبانية الإسلام، وعليك بذكر الله وتلاوة القرآن، فإن روحك في السماء و ذكرك في الأرض )) ([64]) .

 

فانظر يرحمك الله كيف تلاعب بهم الشيطان فأبعدهم عن طريق الرحمن فآثروا ما ذم الله عليه الرهبان وقدموه على ما جاء به سيد ولد عدنان عليه من الله أفضل صلاة وأزكى سلام.

 


مقارنة بين أهل السنة والصوفية في غاية التزكية

فكما تتباين وسائل التزكية وطرقها بين أهل السنة والصوفية، فإن غاية التزكية تختلف كذلك اختلافا كليا بينهما كما يقال:

سارت مشرقة وسرت مغربا

 

شتان بين مشرق ومغرب

وسوف نبين ذلك بشيء من التفصيل إن شاء الله تعالى.

 

 

غاية التزكية عند أهل السنة

 

غاية التزكية عند أهل السنة تحقيق كمال العبودية لله عز وجل، واستكمال مراتب الحب والذل لله عز وجل، واستسلام ظاهر العبد وباطنه لله عز وجل، واستكمال مراتب الحب والذل لله عز وجل

وأن يلقى العبد ربه بقلب سليم فيسعد بمجاورة الله عز وجل في الفردوس الذي سقفه عرش الرحمن.

 

قال شيخ الإسلام رحمه الله: وإنما دين الحق هو تحقيق العبودية لله بكل الأوجه، وهو تحقيق محبة الله بكل درجة، وبقدر تكميل العبودية تكمل محبة العبد لربه، وتكمل محبة الرب لعبده، وبقدر نقص هذا يكون نقص هذا، وكلما كان في القلب حب لغير الله كانت فيه عبودية لغير الله بحسب ذلك، أو كلما كان فيه عبودية لغير الله كان فيه حب لغير الله بحسب ذلك، وكل محبة لا تكون لله فهي باطلة، وكل عمل لا يراد به وجه الله فهو باطل.

 

إلى أن قال: فإن المخلص لله ذاق من حلاوة عبوديته لله ما يمنعه من عبوديته لغيره، ومن حلاوة محبته لله ما يمنعه من محبة غيره، إذ ليس عند القلب لا أحلى ولا ألذ ولا أطيب ولا ألين ولا أنعم من حلاوة الإيمان المتضمن عبوديته لله ومحبته له، وإخلاصه الدين له، وذلك يقتضي انجذاب القلب إلى الله فيصير القلب منيبا إلى الله خائفا منه راغبا راهبا كما قال تعالى:) مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَن بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ([ق:33] ، إذ المحب أ يخاف من زوال مطلوبه وحصول مرغوبه، فلا يكون عبد الله ومحبة إلا بين خوف ورجاء قال تعالى:) أُولَـئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا( [الإسراء:57].

وإذا كان العبد مخلصا له اجتباه ربه فيحيى قلبه، واجتذبه إليه فينصرف عنه ما يضاد ذلك من السوء والفحشاء، ويخاف من حصول ضد ذلك بخلاف القلب الذي لم يخلص لله.

 

ومما يدل على أن العبودية هي غاية التزكية أن الله عز وجل وصف صفوة الخلق من الملائكة والرسل بالعبودية، ومدحهم بذلك، وذم وتوعد من يستكبر عن عبوديته عز وجل.

قال تعالى في وصف الملائكة ) وَلَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَنْ عِندَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ([الأنبياء: 19]

وقال تعالى:) وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ 26 لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ( [الأنبياء: 29]

وقال عن المسيح عليه السلام:) إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ( [الزخرف: 59]

وقال عز وجل:) لَّن يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْداً لِّلَّهِ وَلاَ الْمَلآئِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَن يَسْتَنكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيهِ جَمِيعًا( [ النساء: 172، 173]

ونعت نبيه المصطفى صلى الله عليه وسلم بالعبودية في أكمل أحواله فقال في الإسراء:) سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً([ الإسراء: 11] وقال في الإيحاء:) فَأوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى( [النجم: 10]

وقال في الدعوة:) وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا([ الجن: 19]

وقال في التحدي:) وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ( [البقرة: 23]

فإذا كانت الرسل والملائكة الذين هم أشرف الخلق أكمل الناس عبودية، فإن العبد بتزكية نفسه غايته بذلك أن يحقق كمال العبودية ويستكمل مستلزماتها.

والعبادة هي كمال الحب مع تمام الذل فكلما زكت نفس العبد ازداد حبا وذلا لله عز وجل وإذا كان الله عز وجل خلق الخلق من أجل أن يعبدوه عز وجل كما قال تعالى: ) وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ([الذاريات: 56]

 

فلا شك أن العبد كلما أدى هذه الوظيفة التي خلق من أجلها كان أزكى نفسا، وأسلم قلبا، وبهذا وغيره يتضح أن غاية التزكية عند أهل السنة تحقيق العبودية التي يستغني العبد بالله عز وجل ويسعد به ويصل إلى محبة الله عز وجل ورضاه.

 

قال ابن القيم رحمه الله: ومنى النفوذ إليه أن يتصل به قلبه، ويعلق به تعلق المحب التام المحبة بمحبوبه، فيسلو به عن جميع المطالب سواه، فلا يبقى في قلبه إلا محبة الله وأمره والتقرب إليه، فإذا سلك العبد على هذا الطريق عطف عليه ربه فقربه إليه واصطفاه، وأخذ بقلبه إليه وتولاه في جميع أموره، في معاشه ودينه، وتولى تربيته أحسن وأبلغ مما يتولى الوالد الشفيق ولده، فإنه سبحانه القيوم المقيم لكل شيء من المخلوقات طائعها وعاصيها، فكيف تكون قيوميته بمن أحبه وتولاه وآثره على ما سواه، ورضي به من دون الناس حبيبا وربا ووكيلا وناصرا ومعينا وهاديا، فلو كشف الغطاء عن ألطافه وصنعه به من حيث يعلم ومن حيث لا يعلم لذاب قلبه محبة له وشوقا إليه ويقع شكرا له.

 

  إلى أن قال رحمه الله: وإن الله سبحانه إذا أقبل على عبد استنارت جهاته، وأشرقت ساحاته، وتنورت ظلماته، وظهرت عليه آثار إقباله من بهجة الجلال وآثار الجمال، وتوجه إليه أهل الملأ الأعلى بالمحبة و بالموالاة؛ لأنهم تبع لمولاهم، فإذا أحب عبدا  أحبوه، وإذا والى واليا والوه، إذا أحب الله العبد نادى: يا جبريل إني أحب فلانا فأحبه، فينادى جبريل في السماء: إن الله يحب فلانا فأحبوه، فيحبه أهل السماء ثم يحبه أهل الأرض فيوضع له القبول بينهم، ويجعل إليه قلوب أوليائه تفد إليه بالرد والمحبة والرحمة، وناهيك بمن يتوجه إليه مالك الملك ذو الجلال والإكرام بمحبته، ويقبل عليه بأنواع كرامته، ويلحظه الملأ الأعلى وأهل الأرض بالتبجيل والتكريم، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.

 


غاية التزكية عند الصوفية

 

فبينما يزداد أهل السنة بالتزكية عبودية وذلا وتواضعا وحبا لله عز وجل وافتقارا إلى الكتاب والسنة لضبط أقوالهم وأفعالهم إرضاء لربهم عز وجل، فإن الصوفية يزدادون بدعوى التزكية عندهم إلى إدعاء المكاشفة وحصول العلم اللدني الذي يستغنون به عن الكتاب والسنة والفناء في ذات الله عز وجل وتحقيق ما يسمونه بالعبد الرباني كما في الحديث الموضوع ((عبدي أطعني أجعلك عبدا ربانيا تقول للشيء كن فيكون )) وهم مع ذلك يفضلون الأولياء على الرسل والأنبياء كما قال قائلهم:

مقام الأنبياء في برزخ

 

فويق الرسول ودون الولي

 

ويقول بعضهم: خضنا بحرا وقف الأنبياء بساحله. وينتهي الأمر عند غلاتهم بالقول بالفناء في ذات الله، واعتقاد الحلول والاتحاد.

 

  • المكاشفة:

قال الغزالي: عبارة عن نور يظهر في القلب عند تطهيره وتزكيته من صفاته المذمومة، وينكشف من ذلك النور أمور كثيرة، حتى تحصل المعرفة الحقيقية بذات الله سبحانه وبصفاته الباقيات التامات، وبأفعاله، وبحكمته في خلق الدنيا والآخرة، والمعرفة بمعنى النبوة والنبي، ومعنى الوحي وكيفية ظهور الملك للأنبياء، وبكيفية وصول الوحي إليهم، والمعرفة بملكوت السماوات والأرض)) ([65]).

 

 ثم قال: ((ونعني بعلم المكاشفة أن يرتفع الغطاء، حتى يتضح له جبلية الحق في هذه الأمور، اتضاحا يجري مجرى العيان الذي لا يشك فيه.))([66]).

 

 وأضاف: وهذا ممكن في جوهر الإنسان، لولا أن مرآة القلب قد تراكم صدؤها وخبثها بقاذورات الدنيا، الحق يتلألأ فيه حقائقه.([67])

 

يقول الأستاذ دمشقية:-

فإذا أزيلت هذه القاذورات وتطهر القلب من تراكم هذا الصدأ فأنه يصير ممكنا عند الغزالي الإطلاع على اللوح المحفوظ، ومعرفة مقادير الخلائق حسبما هو مدون فيه، ومعرفة ما سيكون في المستقبل، وكشف ما في ضمائر الناس واعتقاداتهم وما تخفيه صدورهم.([68])

 

2- العلم اللدني:

لا تلبث هذه العلوم الكشفية عند الصوفية أن تتحول إلى علم خاص لدني مستقل عن العلوم الشرعية.

 

يقول الغزالي: ((وإذا غلب نور العقل على أوصف الحس يستغني الطالب بقليل التفكير عن كثرة التعليم؛ فأن نفس القابل تجد من الفوائد بتفكر ساعة مالا تجد نفس الجامد بتعلم سنة.

 

ويقول: ((العلم الحاصل عن الوحي يسمى علما نبويا، والذي يحصل عن الإلهام يسمى علما لدنيا، والعلم اللدني الذي لا واسطة في حصوله بين النفس وبين الباري.([69])

 

ولا شك أن الصوفية يستغنون بهذه العلوم اللدنية عن العلوم الشرعية المنزلة على خير البرية وبذلك يصير تحصيل العلوم الشرعية عيبا مذموما عند الصوفية.

 روى ابن الجوزي عن أحدهم حيث قال: قال أبو سعيد الكندي: كنت أنزل رباط الصوفية وأطلب الحديث في خفية بحيث لا يعلمون، فسقطت الدواة يوما من كمى، فقال لي بعض الصوفية: استر عورتك([70]).

 

روى ابن الجوزي قول البسطامي: ((مساكين أخذوا علمهم ميتا عن ميت، وأخذنا علمنا عن الحي الذي لا يموت([71]).

 

3- إسقاط التكيف:

 

قال الأستاذ دمشقية: على أن هناك مظهرا آخر من مظاهر الشطح الصوفي أنكره كثيرون من المتصوفة وتبناه بعض الغلاة منهم، وهو القول بإسقاط التكليف، وذلك أن الواحد منهم يسرحه فيه رب العزة من قيود الشرائع، ويخرجه من حدودها، هذا ما يزعمونه، وهو أكبر الزندقة بل هو ردة عن الإسلام لا ريب([72]) .

 

وقال شيخ الإسلام رحمه الله:-

ولكن كثير منهم لا يطلقون السلب العام ويخرجون عن ربقة العبودية مطلقا، بل يزعمون سقوط بعض الواجبات عنهم، أوحل بعض المحرمات لهم، منهم من يزعم أنه سقطت عنه الصلوات الخمس لوصوله إلى المقصود، وربما قد يزعم سقوطها عنه إذا كان في حال مشاهدة وحضور، وقد يزعمون سقوط الجماعات عنهم استغناء عنها بما هو فيه من التوجه والحضور، ومنهم من يزعم سقوط الحج عنه مع قدرته عليه لأن الكعبة تطوف به، أو لغير هذا من الحالات الشيطانية، ومنهم من يستحل الخمر في رمضان لغير عذر شرعي زعما منه استغناؤه عن الصيام، ومنهم من يستحل الخمر زعما منه أنها تحرم على العامة الذين إذا شربوا تخاصموا وتضاربوا دون الخاصة العقلاء، ويزعمون أنها تحرم على العامة الذين ليس لهم أعمال صالحة، فأما أهل النفوس الزكية والأعمال الصالحة فتباح لهم دون العامة ([73]).

 

4- الفناء ووحدة الوجود:

قال ابن القيم رحمه الله:

زعم أهل الاتحاد القائلون بوحدة الوجود أن الفناء هو غاية الفناء عن وجود السوي، فلا يثبت للسوي وجود ألبته لا في الشهود ولا في العيان، بل يتحقق بشهوده وحدة الوجود فيعلم حينئذ أن وجود جميع المخلوقات هو عين وجود الحق، فما ثم وجودان بل الموجود واحد.

 

وحقيقة الفناء عندهم أن يفني عما لا حقيقة له، بل هو وهم وخيال، فيفني عما هو فان في نفسه لاوجود له، فيشهد فناء وجود كل ما سواه في وجوده، وهذا تعبير محض، وإلا ففي الحقيقة ليس عند القوم ((سوى)) ولا ((غير)) و إنما السوي والغير في الوهم والخيال.

 

وأما أهل الاستقامة فيشيرون بالفناء إلى أمرين: أحدهما أرفع من الآخر.

الأمر الأول: الفناء في شهود الربوبية والقيومية فيشهد تفرد الرب تعالى بالقيومية والتدبير. والخلق والرزق والعطاء والمنع والضرر والنفع، وأن جميع الموجودات منفعلة لا فاعلة.

 

الأمر الثاني: الفناء في مشهد الألوهية وحقيقة الفناء عن إرادة ما سوي الله ومحبته والإنابة إليه والتوكل عليه وخوفه ورجاؤه، فيفني بحبه عن حب ما سواه، وبخوفه ورجائه عن خوف ما سواه ورجائه، وحقيقة هذا الفناء إفراد الرب سبحانه بالمحبة والخوف والرجاء والتعظيم والإجلال ا هـ ([74]).

 

قلت: وهذا الكلام في شرح الفناء عند أهل الاستقامة صحيح طيب إلا أن هذا المصطلح لم يثبت بالكتاب والسنة ولا استعمله سلف الأمة وإحداث مثل هذه المصطلحات مما يخالف أصول أهل السنة والجماعة.

 

 

المعاصي بريد الكفر

 

قديما قال علماؤنا: المعاصي بريد الكفر أي رسوله؛ وذلك أن العبد إذا أكثر من معصية الله عز وجل فإنه يدخل بذلك في عبادة الشيطان، فيعده ويمنيه ويضله ويغويه ولا يرضي منه دون الكفر ما استطاع إلى ذلك سبيلا كما قال تعالى ) إِن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ إِنَاثًا وَإِن يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطَانًا مَّرِيدًا 117 لَّعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَّفْرُوضًا 118 وَلأُضِلَّنَّهُمْ وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَن يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِّن دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُّبِينًا 119 يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُورًا ( [النساء: 117، 118، 119، 120] فهذا المنهج المبتدع عند الصوفية في التزكية الذي خالفوا به أهل السنة والجماعة آل يغلاتهم إلى الوقوع في الكفر الذي هو أكبر من كفر اليهود والنصارى، وهذا ما وقع فيه ابن عربي وابن الفارض وابن سبعين والعفيف التلمساني.

 

قال شيخ الإسلام رحمه الله:

وجماع أمر صاحب الفصوص([75])وذويه هدم أصول الإيمان الثلاثة.

فإن أصول الإيمان: الإيمان بالله، والإيمان برسله والإيمان باليوم الآخر.

فأما الإيمان بالله: فزعموا أن وجوده وجود العالم، ليس للعالم صانع غير العالم.

وأما الرسول فزعموا أنهم أعلم بالله منه ومن جميع الرسل، ومنهم من يأخذ العلم بالله- الذي هو التعطيل ووحدة الوجود- من مشكاته وأنهم يساوونه في أحد العلم بالشريعة عن الله، وأما الإيمان باليوم الآخر فقد قال:

فلم يبق إلا صادق الوعد وحده

 

وبالوعيد الحق عين تعاين

وإن دخلوا دار الشقاء فإنها

 

على لذة فيها نعيم يباين

 

وهذا يذكر عن بعض أهل الضلال قبله أنه قال: إن النار تصير لأهلها طبيعة نارية يتمتعون بها، وحينئذ فلا خوف ولا محذور ولا عذاب لأنه أمر مستعذب، ثم إن في الأمر والنهي عنده الآمر والناهي والمأمور والمنهي واحد، ولهذا كان أول ما قاله في الفتوحات المكية التي هي أكبر كتبه:

الرب حق والعبد حق

 

يا ليت شعري من المكلف

إن قلت عبد فذاك رب

 

أو قلت رب أني يكلف

 

وهذا مبني على أصله، فإن عنده ما ثم عبد ولا وجود إلا وجود الرب فمن المكلف؟ وعلى أصله هو المكلف والمكلف كما يقولون أرسل من نفسه إلى نفسه رسولا.

وكما قال ابن الفارض في قصيدته التي نظمها على مذهبهم وسماها نظم السلوك:

إلى رسولا كنت مني مرسلا

 

وذاتي بآياتي على استدلت

ومضمونها هو القول بوحدة الوجود وهو مذهب ابن عربي وابن سبعين وأمثالهم كما قال:

لها صلاتي بالمقام أقيمها
 

 

وأشهد فيها أنهالي صلت
 

كلانا مصل عابد ساجد إلى
 

 

حقيقة الجمع في كل سجدة

وما كان لي صلي سواي فلم تكن
 

 

صلاتي لغيري في أدا كل ركعة

 

إلى قوله:

وما زلت إياها وإياي لم نزل

 

ولا فرق بل ذاتي لذاتي أحبت

ومثل هذا كثير والله أعلم.([76])

 

إلى أن قال شيخ الإسلام رحمه الله:

وحدثني الشيخ العارف كمال الدين المراغي شيخ زمانه أنه لما قدم وبلغه كلام هؤلاء في التوحيد قال: قرأت على العفيف التلمساني من كلامهم شيئا فرأيته مخالفا للكتاب والسنة، فلما ذكرت ذلك له قال: القرآن ليس فيه توحيد بل القرآن كله شرك، ومن اتبع القرآن لم يصل إلى التوحيد.

 

قال: فقلت له: ما الفرق عندكم بين الزوجة والأجنبية والأخت الكل واحد؟ قال: لا فرق بين ذلك عندنا، وإنما هؤلاء المحجوبون اعتقدوه حراما، فقلنا: هو حرام عليهم عندهم، وأما عندنا فما ثم حرام([77]).

 

وإنما سقنا هذا الكفر الصراح- وناقل الكفر ليس بكافر- حتى يتبين لإخواننا كيف تذهب المناهج  المبتدعة بأصحابها، وأين توصل الطرق الضالة من سلكها وحتى يتبين كذلك نقاء المنهج السلفي، وكيف أنه طريق السلامة والنجاة في الدنيا أنه طريق الجنة؛ لأنه طريق الأنبياء ومن اقتفى آثارهم، ونسج على منوالهم، نسأل الله العفو والعافية في الدنيا والآخرة.

 

 

([1]) تقدم تخريجه ص (6 ).

([2]) باختصار من أضواء البيان (9/247 –249 ).

([3]) تفسير القرآن العظيم(4 /92 ) دار المعرفة.

 

 

 

 

 

([4]) رواه البخاري(2/11) مواقيت الصلاة، ومسلم(2/ 170) المساجد، والترمذي (10/ 316) الأمثال والنسائي (1/ 231) الصلاة. والدرن: الوسخ.

([5])رواه مسلم (16 / 132،133) البر والصلة، والترمذي (9/ 305) صفة القيامة عن أبي ذر رضي الله عنه  

([6]) رواه البخاري(6/ 81) الجهاد، وابن ماجه(4135) الزهد . تعس : دعاء عليه بالهلاك، القطيفة كساء له خمل والخميصة: ثياب خز ( حرير) أو صوف معلمة، شيك: شاكته شوكه: انتقش: خرجت من جسمه.

([7]) الحديث رواه أبو داود والنسائي(3/53) الدعاء بعد الذكر عن معاذ بن جبل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ بيده فقال: يا معاذ والله إني لأحبك فقال أوصيك يا معاذ لا تدعن في كل صلاة أن تقول : اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك)) وصحح إسناده عبد القادر الأرناؤوط في تحقيق جامع الأصول (4/209) .

([8]) الوابل الصيب بتحقيق بشير محمد عيون(96-98) دار البيان.

([9]) طريق الهجرتين (211) السلفية.

([10]) رواه البخاري (3/14) التهجد والتفسير والرقاق، ومسلم (17/ 162) صفات المنافقين، والترمذي (2/ 204، 205) الصلاة، والنسائي(3/219) قيام الليل.

([11]) رواه البخاري (4/ 202) الصوم، ومسلم (7/212) الصيام، ومالك في الموطأ (1/ 300) الصيام.

([12]) رواه النسائي (7/ 61) عشرة النساء وأحمد (3/128، 199، 285) والحاكم (2/160) النكاح وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه ووافقه الذهبي وصححه الألباني.

قال السندي في حاشيته على سنن النسائي: قيل إنما حبب إليه النساء عما كلف به من أداء الرسالة فيكون ذلك أكثر لمشاقة وأعظم لأجره، وقيل غير ذلك.

وأما الطيب فكأنه يحبه لكونه يناجي الملائكة وهم يحبون الطيب، وأيضا هذه المحبة تنشأ من اعتدال المزاج وكمال الخلقة، وهو صلى الله عليه وسلم أشد اعتدالا من حيث المزاج وأكمل خلقه. وقوله ((قرة عيني في الصلاة)) إشارة إلى أن تلك المحبة غير ما نعقله عن كمال المناجاة مع الرب تبارك وتعالى،بل هو مع تلك المحبة منقطع عليه تعالى، وفيه إشارة إلى أن محبة النساء والطيب إذا لم يكن مخلا لأداء حقوق العبودية. بل للانقطاع إليه تعالى يكون من الكمال وإلا يكون من النقصان فليتأمل (7/ 61/ 62). 

([13]) رواه البخاري(1/ 60) الإيمان، مسلم(2/ 13) الإيمان، والترمذي (10/91)الإيمان، وروى مسلم والترمذي عنه صلى الله عليه وسلم قال: (( ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربا وبالإسلام دينا ومحمد رسولا)).

([14]) فتح الباري(1/ 60) السلفية.

([15]) رواه البخاري(3/261) الزكاة، ومسلم(1/196،197)الإيمان، وأبو داود (1569) الزكاة والترمذي(3/117) الزكاة، والنسائي(5/55) ) الزكاة.

([16]) رواه البخاري (1/114) الإيمان، ومسلم (1/ 157_ 160) الإيمان.

([17]) زيادة لا يستقيم المعنى إلا بها.

([18]) طريق الهجرتين (287).

([19]) طريق الهجرتين(299، 300) .

([20]) رواه البخاري(2/333) صفة الصلاة، ومسلم(2/ 59 ،60) الإيمان، ومالك في الموطأ (1/192) الاستسقاء،وأبو داود(3888) الطب والنسائي(3/ 165) الاستسقاء.

([21]) رواه أبو داود(4959) الأدب، وأحمد (384) وصححه الألباني في الصحيحة رقم (137) .

([22]) رواه البخاري(10/ 283) اللباس، ومسلم(94) الإيمان.

([23]) رواه البخاري (4/ 321) ، وأبو نعيم في الحلية (1/4) والبغوي في شرح السنة (1 /142/2)- السلسلة الصحيحة 1640.

([24]) رواه مسلم (9/100،101)) الحج باب فرض الحج مرة.

([25]) ولاية الله والطريق إليها(369) بتصرف واختصار.

([26]) جزء من حديث الولي وقد تقدم ص (22).

([27]) رواه أبو داود (850) الصلاة والنسائي (1/ 232، 233) والحاكم (1/262) الصلاة وصححه على شرط مسلم وقال الذهبي صحيح وصححه كذلك عبد القادر الأرنؤوط.

([28]) ولاية الله والطريق إليها(419) بتصرف).

([29]) رواه البخاري(3/ 47) التهجد وفيه زيادة(( وركعتين بعد الجمعة)) ومسلم(6/7،8 )الصلاة وأبو داود (1239) بمعناه.

([30]) رواية مسلم(6/8) الصلاة عن عائشة رضي الله عنها.

([31]) رواه مسلم(6/6) الصلاة: وأبو بكر (1237) أبواب التطوع.

([32]) رواه مسلم(8/55) الصوم من حديث أبي هريرة.

([33])رواه البخاري(3/20) التهجد بلفظ(( ثلاث عشرة منها يوتر وركعتا الفجر، ورواه مسلم (6/16) الصلاة، و؟أبو داود(1322)أبواب صلاة الليل.

([34]) رواه البخاري(3/ 56) التهجد، رواه مسلم (5/234) الصلاة عن أبي هريرة ورواه بمعناه عن أبي الدرداء(5/235).

([35]) رواه البخاري(3/48) التهجد ومسلم(5/117) الصلاة ومالك في الموطأ(1/162) قصر الصلاة، والثلاثة.

([36]) رواه مسلم(8/ 55) الصوم والبغوي في شرح السنة(6/341) الصوم.

([37]) رواه مسلم(8/51) الصيام وأبو داود (2408) الصوم.

([38]) رواه مسلم(8/ 26) الصيام وأحمد (5/ 417) (419) ، وأبو داود(2416) الصوم والترمذي(3/290) الصوم.

([39]) رواه الدارمي(2/ 17) قال في تحقيق شرح السنة ورجاله ثقات رواه أحمد(6/84، 143) والنسائي(4/ 199) الصوم وأبو داود(2418) الصوم بمعناه عن عائشة رضي الله عنها.

([40]) رواه البخاري( 6/ 47) الجهاد، ومسلم(8/33) الصوم، والترمذي(7/124) الجهاد،والنسائي(4(173) الصوم.

([41]) رواه البخاري(3/382) الحج، ومسلم(9/119) الحج والترمذي (4/165) الحج.

([42]) رواه البخاري(3/ 304) الزكاة، ومسلم(7/95)الزكاة.

([43]) رواه مسلم( 7/127) الزكاة، والترمذي(9/207) أبواب الزهد.

([44]) رواه البخاري(3/300)الزكاة،(3/301) الزكاة ومسلم(7/118) الزكاة.

([45]) رواه البخاري(11/ 208) الدعوات ومسلم(6/68) صلاة المسافرين بلفظ(( مثل البيت الذي لا يذكر الله فيه والبيت الذي يذكر الله فيه مثل الحي والميت)).

([46]) رواه ابن حبان(2398موارد) الأدعية والحاكم(1/491) الدعاء وقالا: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه وقال الذهبي صحيح.

([47]) رواه الحاكم (1/491)وقال هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه وقال الذهبي صحيح ورواه الترمذي بمعناه عن أبي الزبير عن جابر(12/273).

([48]) رواه ابن حبان(399) موارد الأدعية. والحاكم(1/497)وقال إسناده صحيح على شرط الشيخين ووافقه الذهبي.

([49]) رواه مسلم(4/128) الصلاة، والترمذي(4/270)الصلاة، وأبو داود(1516)الصلاة، والنسائي (3/50)السهو عن أنس وفيه زيادة(( وحطت عنه عشر خطيئات ورفعت له عشر درجات)).

([50]) طريق الهجرتين وباب السعادتين(179).

([51]) مجموع الفتاوى(11/ 598) .

([52]) وجموع الفتاوى(11/ 567، 568) .

([53]) مجموع الفتاوى(11/573/ 574) .

([54]) رواه أبو داود حديث حسن صحيح، وابن ماجه (41) المقدمة وصححه الألباني.

([55]) تلبيس إبليس(206-221)باختصار.

([56]) تلبيس إبليس(198).

([57]) تلبيس إبليس(200).

([58]) رواه البيهقي في السنن الكبرى(7/78) بلفظ (( تزوجوا فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة ولا تكونوا كرهبانية النصارى...)) الحديث عن أبي أمامه وصححه الألباني بشواهده- الصحيحة 1782.

([59]) رواه ابن ماجه(1846) النكاح عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (( النكاح من سنتي فمن لم يعمل بسنتي فليس مني)) الحديث حسنه الألباني في صحيح ابن ماجه(1496).

([60])رواه أبو داود(1271) الصلاة والحديث أصله في صحيح مسلم(5/ 233) صلاة المسافرين وأوله(( يصبح على كل سلامي من أحدكم صدقة وليس فيه هذه الزيادة وصحح الألباني رواية أبي داود المذكورة.

([61])  رواه البخاري (3/81، 489) ومسلم (4/176) والترمذي (1/203) والبيهقي (7/80) وأحمد (3/380) الإرواء 785.

([62]) باختصار من تلبيس ابليس(292،296).

([63]) باختصار من(( أبو حامد الغزالي والتصرف)) (397،398).

([64]) رواه أحمد(3/82) وصححه الألباني في الصحيحة رقم 555.

([65]) طريق الهجرتين (179، 180)

([66]) السابق (1/20).

([67]) السابق.

([68]) الرسالة اللدنية (112- 113) نقلا عن ((أبي حامد الغزالي والتصوف)).

([69]) السابق (116).

([70]) تلبيس إبليس (328-329).

([71]) تلبيس إبليس (320).

([72]) أبو حامد الغزالي والتصوف (196).

([73]) مجموع فتاوى  شيخ الإسلام (11/403).

([74]) مدارج السالكين (3/378).

([75]) المراد ابن عربي النكرة خلافا لابن العربي شارح الترمذي (عارضة الأحوذي) وهو من علماء السنة.

([76]) مجموع الفتاوى (2/241).

([77]) مجموع الفتاوى (2/244، 245).

  • الاحد PM 03:56
    2021-08-15
  • 1467
Powered by: GateGold