المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 412436
يتصفح الموقع حاليا : 385

البحث

البحث

عرض المادة

ما حكمة الحج، ولماذا كان الطواف حول الكعبة وهي بناء من حجر؟!

سمعت أحد الدعاة يقول: إن الله كلفنا بما نعقل فأطعنا، فأراد أن يبلونا بأفعال الحج ليرى: أنطيعه فيما لا نعقل أو نعصيه؟ قلت له: هذا كلام رديء، وأفعال الحج ترتبط بحكم لا ينكرها العقل، وقد شرحتها في موضع آخر ولا بأس من إعادتها هنا.

 

إن الأمم تغالي بكثير من ذكرياتها، وتقرن به مشاعر نفسية واجتماعية بعيدة المدى، وقد ربُط النصارى بقبر المسيح وطريق الآلام، كما يقولون، وربط اليهود أنفسهم بحائط المبكي، وأسسوا عليه حقوقاً ما أنزل الله بها من سلطان! فلماذا يستغرب من المسلمين أن يرتبطوا بأماكنهم المقدسة، ارتباطاً – يبدو – عندما يدرس – أقرب إلى الرشد، وأبعد عن الوهم؟...

 

الكعبة هي البيت الحرام الذي بني لتقام فيه وعنده الصلوات لله وحده، وقد قيل لإبراهيم وهو يؤسسه {لَّا تُشْرِكْ بِى شَيْـًٔا وَطَهِّرْ بَيْتِىَ لِلطَّآئِفِينَ وَٱلْقَآئِمِينَ وَٱلرُّكَّعِ ٱلسُّجُودِ} [الحج: 26].

 

وهذا المسجد الحرام – أعني الكعبة – هو أول مسجد بني في الدنيا لتوحيد الله، ونبذ الشركاء، وتمحيص العبادة لرب العالمين.

 

أليست لهذه الأولية حقوق؟ بلى. وطليعة هذه الحقوق ألا يشاد مسجد في العالم إلا اتجه إليه وشاركه غايته في التوحيد الخالص! وكذلك من هذه الحقوق المقررة أن ينبعث كل قادر ليزور هذا المسجد الذي أصبح قبلته حياً وميتاً!

 

هذه المعاني هي التي ذكرها القرآن الكريم في أثناء الحديث عن هذه الكعبة: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍۢ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِى بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَٰلَمِينَ} [آل عمران: 96] {وَلِلَّهِ عَلَى ٱلنَّاسِ حِجُّ ٱلْبَيْتِ مَنِ ٱسْتَطَاعَ إِلَيْهِ} [آل عمران: 97] {فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَٰهَا ۚ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ ۚ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُۥ} [البقرة: 144].

من أجل ذلك تنبعث الوفود من المشارق والمغارب لترى البيت الذي تصلي إليه ولتطوف حوله طواف تقدير واحترام!

 

ماذا يقول الحجيج وهو يطوفون بهذا البيت؟ يقولون: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير"! يقولون: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر"..

 

إنهم لا يعبدون البيت وإنما يعبدون رب البيت، والطواف كما أجمع العلماء صلاة لابد لها من طهارة البدن ولابد فيها من خلوص القلب لله.

 

ومن زعم أن الكعبة كلها أو بعضها يضر أو ينفع فهو خارج من الإسلام.

 

ومن حق رب البيت أن يضع طريقاً لزيادة بيته، فإذا جعلها طوافاً من سبعة أشواط فليس في الأمر ما يستغرب، ففي طول الدنيا وعرضها توضع طرائق شتى للاستقبالات والاستعراضات!!

 

وحكمة أخرى لا تقل جلالاً عن سابقتها، تفسر الطواف حول البيت العتيق، إن الأمة الإسلامية التي تبلغ ألف مليون من البشر، بدأت دعوات حارة على ألسنة الرسولين الكريمين اللذين تولياً بناء هذا البيت! دعوة ملؤها الاستسلام لله، والرغبة في مد عبادته من الآباء إلى الأبناء إلى الأحفاد إلى قيام الساعة {رَبَّنَا وَٱجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَآ أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ.. } [البقرة: 128] كما أن هذين الرسولين الكريمين دعوا الله أن يجعل في هذه الأمة نبياً يعلم ويربي ويتلو آيات الوحي الصادق، فكانت بعثة النبي الخاتم بعد قرون طوال!

 

إهناك ذكريات تاريخية أعز من هذه الذكريات؟ فإذا لم يحج المسلمون البيت الذي بدأ عنده تاريخهم، فأين يحجون؟ وإذا لم يقصدوا البيت الذي كان نبيهم دعوة مخبوءة في ضمير عند بنائه استجابها الله وباركها، فأين يقصدون؟

 

إن الكعبة بناء من حجر، وما يغلبها أن تكون بناء من ذهب ولا يرخصها أن تكون من خشب، المهم هو المعنى الذي يحفها..!

 

رجل واحد هو في طاقته أمة! أحب الله من أعماق قلبه، وألقي في النار لحرصه على توحيده، وخاصم الملوك والجماهير لإعلاء هذه الحقيقة، وتنقل بين أرجاء رحبة من الأرض يدعو ويجادل، طوحت به سياحاته إلى هذا المكان النائي ليشيد على أنقاض الوثنية حصناً للتوحيد، ويسأل ربه وهو يبني أن يجعل من عقبه أمة تحمي الحق وترفع رايته، أكان للناس عجباً أن تهرع هذه الأمة بعدما تمخض عنها الغيب لتزور المسجد الذي وضع أبوها، وتهتف من حوله بشعار التوحيد؟

 

إن الأب الراحل دعا الأجيال لتزور بيت الله، وتوثق حبالها بالعقيدة التي أنشأته، ووقع في قلوب الألوف المؤلفة صدى هذا النداء، فأتت من كل فج تقول: "لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ إِنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ وَالْمُلْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ!.

 

فهل تتهم هذه الوفود الموحدة بأنها وثنية؟ أليست هذه السفاهة بعينها..؟

 

إن بعض الناس لا يدري المعاني العظيمة التي تحف مناسك الحج، وقد يكون الحجاج أنفسهم من هذا القبيل!

 

نظرت إلى "المسعى" وهو يموج بحشود كثيفة تطوف بين الصفا والمروة، وساءلت نفسي: إن هذا السعي بين الجيلين الصغيرين شرع لترسيخ عقيدة التوكل على الله، وإن وهت الأسباب المادية، فهل الساعون يعون ذلك؟

 

من قرون خلت كانت هذه البقعة يسودها صمت الوحشة والانقطاع، لا أنيس هنالك ولا عمران، جاءها إبراهيم عليه السلام بامرأته وابنه الرضيع، ثم قال: للأم الضعيفة: سأتركك هنا..!

 

 

وتساءلت هاجر دهشة: تتركنا هنا أنا وإسماعيل...؟ حيث لا زرع ولا ضرع ولا دار ولا ديار؟ قال: نعم. قالت: آلله أمرك بهذا؟ قال: نعم..

- إذن لا يضيعنا!! وانصرف الأب لا يدري ماذا سيقع له ولا ما سيقع لأسرته، لقد نفذ ما أوحى إليه به وحسب!

 

ونفذ الزاد والماء من هاجر، وجاءت الساعة الحرجة، وانطلقت الأم بين الربوتين الجاثمتن على صدر الوادي تبحث عن غوث للرضيع الذي يوشك أن يهلك.

 

وبعد أمد جاء الملك وفجر بئر زمزم، وحامت الطير حول الماء الدافق، وأحس الناس ما جد فأقبلوا على المكان يعمرونه!

 

إن ثقة هاجر في الله أثمرت الخير، ولم يخذلها الله بعدما آوت إليه..

 

والتوكل على الله – مع ضعف الأسباب أو انعدامها – زاد يحتاج إليه المجاهدون، والمضطهدون، يعتمدون عليه في اليوم الكالح كي يسلمهم إلى غد رابح.

 

وقد خسر المسلمون معارك كثيرة، كانوا جديرين بكسبها لو استندوا إلى الله، ولكنهم خاروا لضعف يقينهم ثم هنوا في أرضهم!

 

هل يعي ذلك الساعون بين الصفا والمروة؟ وهل عرفوا عقبى التوكل عندما يمثلون الدور الذي قامت به أم إسماعيل وهي تتحرك جيئة وذهاباً بين الربوتين؟

 

قال التاريخ: واعترض الشيطان إبراهيم لما ترك أسرته بالوادي المقفر، يقول له: كيف تنفذ أمراً فيه هلاك أهلك، لأن الله أمرك؟! فقذفه إبراهيم بحصيات التقطها من التراب، فكانت تلك سنة رمى الجمار فيما بعد!

 

إن مناسك الحج تنمية لعواطف المسلمين نحو ربهم ودينهم وماضيهم وحاضرهم.

 

ويكفي أنها تجمعهم من أطراف الأرض شعثاً غبراً لا تفريق بين ملك وسوقة، ولا بين جنس وجنس، ليقفوا في ساحة عرفة في مظاهرة هائلة، الهتاف فيها لله وحده، والرجاء في ذاته والتكبير لأسمه، والضراعة بين يديه، فقر العبودية ظاهر! وغنى الربوبية باهر! ومن قبل الشروق إلى ما بعد الغروب لا ذكر إلا لله ولا طلب إلا منه سبحانه..

 

إن الحج من الناحية الروحية إذكاء مشاعر، وتجديد عاطفة. ومن الناحية الاجتماعية فرصة ثمينة للتوجيهات الجامعة التي تكفل مصلحة المسلمين العليا.

 

ولكي ندرك ذلك ندرس كيف حج المسلمون في السنة التاسعة والسنة العاشرة للهجرة.

 

في السنة التاسعة رجع الحجاج وقد تلقوا تعليمات بقطع علاقاتهم مع العابثين بمعاهداتهم، ومعاملتهم بالشدة بعدما فشل اللطف معهم..

 

وفي السنة العاشرة وضعت تقاليد إنسانية وآداب عامة تضمنتها الخطبة الجليلة التي ألقاها الرسول صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع..

 

فهل يسمع المسلمون شيئاً ذا بال عندما يحجون في هذه الأيام؟

 

  • الاربعاء PM 06:05
    2022-03-23
  • 1232
Powered by: GateGold