ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ
شٌبهات وردود
المكتبة المرئية
خَــيْـرُ جَــلـيـسٌ
المتواجدون الآن
حرس الحدود
مجتمع المبدعين
البحث
عرض المادة
دعوى أن إباحة الإسلام للإرضاع من غير الأم يؤدي إلى كثير من المفاسد
دعوى أن إباحة الإسلام للإرضاع من غير الأم يؤدي إلى كثير من المفاسد (*)
مضمون الشبهة:
يدعي بعض المغالطين أن إباحة الإسلام للإرضاع من غير الأم - وهو عادة جاهلية - يترتب عليه الكثير من المفاسد، منها:
- اختلاط الأنساب؛ إذ قد يتزوج الإخوة في الرضاعة[1] من بعضهم، مما يسبب الكثير من المشكلات للمتزوجين.
- أنإباحةرضاعالكبير- كماوردفيحديثرضاعسالممنسهلةبنتسهيل - يفتحأبوابالشهوةالمحرمةوالعلاقاتالآثمة،لمافيهمنهتكللحرماتواطلاععلىالعورات،وهذا يتناقض مع دعوة الإسلام إلى العفة وغض الأبصار وحماية الأعراض.
وجوه إبطال الشبهة:
1) كانتعادةالعربإرسالأبنائهمإلىالبدومدةالرضاعة،لينشأواشجعانافصحاءأصحاءالجسم.
2) لميلغالإسلامتلكالعادةلمافيهامنفوائدكثيرة،كحفظحياةالطفلعندموتالأم، وإرضاع اللقطاء، ورعاية الطفل عند اختلاف الوالدين.
3) مايقعمنالأخطاءمنجراءالإرضاعمنغيرالأممرجعهإلىالبشر،لاإلىالتشريعالإسلاميالذيحرصعلىتجنبالاختلاطفيالأنساب.
4) بالنسبة لإرضاع الكبير فإنه لا يوجد أي تعارض بين الحديث المستشكل به - حديث رضاع سالم من سهلة بنت سهيل - وبين النصوص الواردة في الأمر بغض البصر وتحريم مس الأجنبية؛ إذ لا يلزم من الرضاع التقام الثدي ومصه، بل يحتمل أنه حلب له اللبن فشربه.
5) جمهورعلماءالمسلمينعلىأنالرضاعالمعتبرهوماكانفيالحولين،وأنحديثإرضاعالكبيرمحمول على أحد وجوه:
- أنهخاصبسالم.
- أنهمنسوخ.
- أنهمحدودبحالاتالضرورةوالحرج،كمافيقصةسالم.
التفصيل:
أولا. كانت عادة العرب إرسال أطفالهم إلى البدو مدة الرضاعة لينشأوا شجعانا فصحاء:
ليس كل ما كان في الجاهلية منكرا يجب إلغاؤه، بل جاء الإسلام فألغى عادات وأقر أخرى، ومن بين ما أقره عادة الإرضاع، فقد كان العرب يلتمسون المرضعات لأولادهم غير زوجاتهم، وكانت المرضعات في الغالب من البدو؛ حيث كانوا يؤثرون البادية لرضاعة الأطفال لما في ذلك من منافع منها:
- مافيهواءالباديةمنالصفاء.
- ومافيأخلاقهامنالسلامةوالاعتدال.
- وبعدهاعنمفاسدالمدينة.
- ولأنلغةالباديةسليمةأصيلة؛فيكونذلكللغلامأنجبوأفصح[2].
وفي ذلك يقول الإمام السهيلي تحت عنوان "لـم كانت قريش تدفع أولادها إلى المراضع": وأما دفع قريش وغيرهم من أشراف العرب أولادهم إلى المراضع فقد يكون ذلك لوجوه: أحدها: تفريغ النساء للأزواج.
وقد يكون ذلك منهم أيضا لينشأ الطفل في الأعراب فيكون أفصح للسانه، وأجلد لجسمه، وأجدر ألا يفارق الهيئة المعدية، كما روي عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنه قال:«عليكم بالشمس؛ فإنها حمام العرب، واخشوشنوا واخلولقوا»[3].
فهذا ونحوه كان يحملهم على دفع الرضعاء إلى المراضع الأعرابيات، وقد ذكر أن عبد الملك بن مروان كان يقول: أضر بنا حب الوليد؛ لأن الوليد كان لحانا، وكان سليمان فصيحا؛ لأن الوليد أقام مع أمه، وسليمان وغيره من إخوانه سنوا البادية فتعربوا ثم تأدبوا...", وبهذا يتبين لنا أن عادة الإرضاع جاهلية - إسلامية، ويفتخر العربي برضاعته في البادية، ويعد ذلك من مناقبه.
ثانيا. لم يلغ الإسلام عادة الإرضاع لما فيها من فوائد:
لم يلغ الإسلام عادة الإرضاع - بعد مجيئه - لا لأنه لا مصلحة في إلغائها؛ بل لأن في إقرارها الكثير من الفوائد، ومن فوائدها ما سبق أن ذكرنا من تنشئة الأطفال في البدو - إذا كانت المراضع من البدو - لينشأوا شجعانا فصحاء أصحاء الجسم.
"وإن من مقاصد الشريعة الإسلامية حفظ النفس بعد حفظ الدين، في جانب الإيجاب بضمان ما يكفل الرعاية لها، وفي جانب السلب بإبعاد كل ما يناقضها أو يضر بها، فالطفل بعد ولادته أحوج ما يكون إلى لبن إنساني يحفظه، وليس هناك أنسب من لبن الأم، فإذا وجدت حاجة ملجئة؛ كأن تموت أم الطفل مثلا، أو يكون بها علة تمنعها من الإرضاع، أو لا يقبل الرضيع ثديها، فالإسلام يضمن له مرضعة أخرى ترضعه، حفاظا على حياته، فهو لا يستطيع - بقدرته القاصرة وتركيبه البسيط - أن يتناول طعاما أو يهضمه، وفي الوقت نفسه يجنبه كل ما يؤذيه من المراضع الصناعية وغيرها من الأدوات التي تقل درجة تعقيمها وتكون مليئة بالجراثيم"[4].
كذلك فإن من فوائد الإرضاع التيسير على الأطفال اللقطاء، ومن يخشى انتقال مرض إليه من أمه إذا أرضعته، ولو كان الإرضاع حراما لوقع هؤلاء في الحرج، مع ضرورة إرضاعهم حفاظا على حياتهم ووضعهم الطبيعي في عدم قدرتهم على تناول الطعام كالكبار.
ومنها أيضا: عدم تعطيل حق الطفل في الرضاعة عند تعاسر الوالدين؛ أي: عند حصول خلاف بينهما على الرضاعة ونفقاتها، فلا يكون ذلك الخلاف على حساب الطفل، فلو أدى الخلاف على ذلك إلى انفصالهما بالطلاق، وجب حفظ حق الطفل في رضاعته، إما من أمه وإما من مرضعة أخرى تعطى من العناية والأجر مايساعد على رعاية الطفل رعاية طيبة؛ وذلك قوله عز وجل: )فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن وأتمروا بينكم بمعروف وإن تعاسرتم فسترضع له أخرى (6)( (الطلاق)، فلا يكون فشلهما في حياتهما نكبة على الصغير البريء.
وقد يتساءل بعضهم: إذا كان لإباحة الإرضاع كل هذه الأهمية، فلماذا جعل الرضاع من أسباب تحريم الزواج؟
والجواب على ذلك أن هذا التحريم في الإسلام ليس عبثا، بل هو راجع إلى حكم اقتضت ذلك، منها:
- الجزئيةأوالبعضية:
فالمرضعة تغذي الرضيع باللبن الذي هو جزء من جسمها، لتدخل أجزاؤه في تكوين بنيته، ويصبح جزءا منها، فتكون كالأم النسبية في التغذية، فهذه غذته بدمها في بطنها، وتلك غذته بدمها الذي تحول لبنا بعد وضعه؛ لينبت لحم الرضيع وتقوي عظامه ويكبر حجمه، لما روي عن عبد الله بن مسعود، قال: «لا رضاع إلا ما شد العظم، وأنبت اللحم»[5].
فتقوية العظم وإنبات اللحم إنما يكون للرضيع الصغير الذي غذاؤه اللبن، فتصير المرضعة وبعض من يتصل بها محرمات على الرضيع تأبيدا، كما تحرم الأم النسبية عليه، قال الإمام الدهلوي صاحب كتاب "حجة الله البالغة": "فإن التي أرضعت تشبه الأم من حيث إنها سبب اجتماع أمشاج بنيته، وقيام هيكله، غير أن الأم جمعت خلقته في بطنها، وهذه درت عليه سد رمقه في أول نشأته؛ فهي أم بعد الأم، وأولادها إخوة بعد الإخوة، وقد قاست في حضانته ما قاست، وقد ثبت في ذمته من حقوقها ما ثبت، وقد رأت منه في صغره ما رأت، فيكون تملكها والوثوب عليها مما تمجه الفطرة السليمة".
ولهذا التأثير الواضح للرضاع، كان من الأفضل أن يكون الرضيع ابنا لمرضعته، وتكون هي أما له كما تكون أما لابنها من النسب؛ لأن الرضاع كالنسب.
- الحاجةإلىالاندماجأوالاختلاط:
إن الرضيع يندمج في أسرة المرضعة، فتتكون بينه وبين أعضاء هذه الأسرة ما يمنع النكاح كما في النسب، جاء في كتاب "حجة الله البالغة": "فإن العرب كانوا يسترضعون أولادهم في حي من الأحياء فيشب فيهم الوليد، ويخالطهم كمخالطة المحارم، ويكون عندهم للرضاعة - لحمة كلحمة النسب، فوجب أن يحمل على النسب"، أي: في تحريم النكاح, ولا جرم أن في ذلك تقوية لهذه الرابطة بين الرضيع وأسرته، ومن أسهمت في حفظه بلبنها، وتعزيزا لترابط المجتمع وتماسكه[6].
وهكذا يتبين لنا مدى حكمة التشريع الإسلامي في إقراره لعادة الإرضاع من غير الأم، وكذلك حكمته في جعل الرضاع أحد أسباب تحريم الزواج.
ثالثا. ما يقع من الأخطاء من جراء الإرضاع مرجعه إلى البشر، لا إلى التشريع:
قد سبق بيان بعض ما لإباحة الإرضاع من فوائد، وما يفوت من المصالح في تحريمه، لكن كثيرا من النساء يرضعن أولادا، وينسين أنهن جمعن على الثدي أولادا يعتبرون إخوة، فيكون بينهم زواج قد ينكشف أمر بعضه، ويظل الباقي سرا مطويا، ومثل هذه الأخطاء لا يتحملها التشريع الإسلامي، بل يتحملها أصحابها.
ولو صح أن ينسب الخطأ إلى التشريع لقلنا بتحريم زراعة العنب مثلا لإمكانية صناعة الخمور منه، ولقلنا بتحريم صناعة السكاكين والآلات الحادة لإمكانية القتل بها، وهكذا، وهو ما لا يعقل، وكل يتحمل خطأه: )ولا تزر وازرة وزر أخرى( (الأنعام:164).
وحرصا على تجنب الاختلاط في الأنساب، شدد فقهاء المسلمين على ضرورة التثبت والتأكد من انتفاء مانع التحريم بالرضاع بين طرفي الزواج، وألا يكون الإرضاع حسبما اتفق دون تدوين أو تسجيل لذلك.
فإرضاع الصغير منوط في الأصل بأمه؛ لأنه يستقي منها الحنان، فيزداد قوة وحياة، فينبغي عليها ألا ترضع غير ولدها دون إذن زوجها أو دون ضرورة، فإذا وجدت الضرورة وأذن لها زوجها بذلك فلا بأس، جاء في كتاب "أسهل المدارك" للكشناوي: "فيتعين الوجوب على كل المرضعات قاطبة أن لا يرضعن كل صبي من غير ضرورة، وإذا أرضعن، فليحفظن ذلك عندهن أو يخبرن رجالهن، بأن يسجلوا ذلك الرضاع بمذكرات خاصة"[7].
ونظرا للتقصير - أحيانا - في نشر العلم وبيانه للناس، مع إهمال الآباء والأمهات لأمر الرضاع، عمت البلوي في كثير من الأمصار، وطغى الجهل طغيانا مريبا؛ حيث تجتمع النساء في العديد من المجالس، فتأخذ الواحدة منهن صغيرا لترضعه منعا له من البكاء، أو حفظا من الهلاك، أو لأن أمه من ذوات الشرف والمكانة، أوممن شغلها المرض عن الإرضاع، ليمر الزمان، ويتعلق الرضيع الذي أصبح شابا بواحدة من محارمه فيتزوجها وتلد أولادا، دون اعتبار للحرمة، أو ما يترتب على الرضاع من الناحية الشرعية.
لهذا حرص الإسلام على الاحتياط في أمر الرضاع، والاحتياط في أمره يستلزم اتباع خطوات منها:
- اختيارالمراضع،ويراعىفياختيارالمرضعة:
- استرضاعصاحبةالدين؛لأناسترضاعالفاجرةأوالكافرة يؤثر على الرضيع ودينه؛ فقد تطعمه المرضعة من الحرام أو تسقيه خمرا، كما أنه قد يميل إلى محبة دينها، وفي هذا ما فيه من النكاية بالإسلام وأهله.
- استرضاعصاحبةالخلق،بأنتكونكريمةمنأهلبيتالسخاءوالوفاءوالشجاعةوغيرهامنالصفاتالحميدة،ويكرهاسترضاع الحمقاء، لئلا يشبهها الولد في الحمق.
- استرضاعآدميةسليمةالجسم،فلاتكونبهيمة،ولامريضةبمرضيتعدىأثره.
- تسجيله:
إذا ما تم الإرضاع، فلا بد من توثيقه، بإتباع الإجراءات الآتية:
- إخبارالمرضعةلزوجهاوأقربائهابأمرالرضاع.
- تسجيلالمرضعةأو من يقوم مقامها أمر الرضاع؛ بكتابة زمان وعدد الرضعات، واسم المرضعة وزوجها وأقرباء المرضعة والصغير احتياطا؛ لاحتمال الوقوع في المحرم إذا نسي الإرضاع، أو لم يعلم.
- إشهارأمرالرضاعوإعلامهكالنسبتماما؛حتىيذكرالعالمبهغيرهمنالناس.
ولا بد من أهمية توعية الشاب في صغره بما حصل معه؛ حتى لا يكبر ويتعلق بقريبته، فيفاجأ بأنه رضع معها في صغره، وهنا قد يقع في الهلاك، فيتزوجها أو يهرب بها دون وازع من دين أو قضاء، والواقع مليء بمثل هذا.
وحبذا لو يتم الإعلان عن الرضاع في الأماكن العامة التي يرتادها الناس، بكتابة ذلك على ورقة كبيرة، وتعليقها على لوحة في إعلانات المحكمة أو في المسجد أو غيرهما.
وبعد هذا كله، فإن من الأنسب التقليل من اختلاط الذكور والإناث الذين جمعتهم قرابة الرضاع، عند ضعف الوازع الديني خاصة؛ حتى لا يترك المجال للأخ أن يتعلق بأخته من الرضاع أو بغيرها، فيقع كثير من الشر والفساد[8].
فإذا أخذت كل هذه الاحتياطات الواجبة، ثم وقع زواج بين اثنين بينهما نسب بالرضاعة، ولم يتبين حقيقته بعد ذلك، فإن من يسر الإسلام أن لا مؤاخذة بالخطأ أو النسيان، كما قال الله - عز وجل - حكاية عن دعاء المؤمنين: )ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا( (البقرة: 286)، ولما رواه ابن عباس - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن الله تجاوز عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه»[9].
مع التنبيه على ضرورة الاحتياط لذلك صونا للحرمات والأنساب، وأنه إذا ما أدرك أحد الزوجين أو غيرهما أمر الرضاع بعد الزواج، فالواجب حينئذ أن يفرق بين الزوجين في الحال - ولو أنجبا من هذا الزواج - وقوفا عند حدود الله.
رابعا. لا تعارض بين حديث إرضاع الكبير، وبين النصوص الآمرة بتحريم مس الأجنبية:
إن المتأمل في حديث رضاع سالم مولى أبي حذيفة من سهلة بنت سهيل، لا يجد فيه ما يدعيه هؤلاء المغالطون من تعارض مع النصوص الآمرة بغض البصر وتحريم مس الأجنبية؛ وذلك لأن مناط حصول التحريم بالرضاع دخول اللبن إلى جوف المرضع، فلا يلزم منه التقام الثدي ومصه، بل يحتمل أنه حلب له فشربه، وقد أجاب بهذا القاضي عياض، وقال النووي: وهو احتمال حسن، وقال ابن عبد البر وحكاه عن عطاء، وأجمع الكل على أنه لا يجوز له رؤية الثدي ولا مسه ببعض الأعضاء.
ويؤيد هذا ما رواه ابن سعد في "الطبقات" عن محمد بن عبد الله ابن أخي الزهري عن أبيه قال: كانت سهلة تحلب في إناء قدر رضعته، فيشربه سالم في كل يوم حتى مضت خمسة أيام، فكان بعد ذلك يدخل عليها وهي حاسر، رخصة من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لسهلة[10].
ومن هذا يتبين لنا أنه لا تعارض بين النصوص، فغض البصر واجب، وحفظ الحرمات مكفول، ومس الأجنبية حرام، وسالم لم يرتكب من هذا شيئا، وإنما كان يعيش في كنف أبي حذيفة وزوجه سهلة بنت سهيل، وكان ابنا لهما بالتبني قبل أن ينزل تحريمه، فكانا يجدان حرجا من وجوده بالبيت ودخوله وخروجه، فكانت رخصة من النبي - صلى الله عليه وسلم - لسهلة أن ترضعه ليرتفع الحرج، ويكتسب وجود سالم صفة شرعية سليمة، فكان إرضاعها إياه على الوجه الذي وضحه العلماء، وما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - ليأمر صحابته بمنكر أبدا، ومجرد احتمال عدم المص المباشر من الثدي يسقط الاستدلال بهذه القصة على ما أريد؛ لأنه من المتقرر في الأصول أن النص إذا تطرق إليه الاحتمال سقط به الاستدلال.
خامسا. جمهور علماء المسلمين على أن الرضاع المحرم هو ما كان في الحولين:
اتفق جمهور علماء الشريعة الإسلامية على أن إرضاع الكبير لا يحرم [11]؛ استدلالا بنصوص مرفوعة متعددة: منها حديث عائشة - رضي الله عنها -: «إنما الرضاعة من المجاعة».[12] وحديث ابن مسعود رضي الله عنه: «لا رضاع إلا ما شد العظم وأنبت اللحم»،[13] وحديث أم سلمة - رضي الله عنها -: «لا يحرم من الرضاع إلا ما فتق الأمعاء في الثدي وكان قبل الفطام»[14].
وقد حملوا قصة رضاع سالم من سهلة بنت سهيل على وجوه متعددة:
- قال بعضهم: إن ما حدث كان رخصة خاصة لسهلة؛ وذلك لاجتماع مجموعة من الظروف التي جعلت هذا الإجراء ضروريا، فقد كان سالم ابنا بالتبني لسهلة وزوجها أبي حذيفة، وقد ربياه مذ كان صغيرا فكان يدخل ويخرج ويعيش معهما في بيت واحد وقد ألفهما وألفاه، ثم إنه كان مولى لا أهل له ولا قرابة ولا صلة إلا ما كان من مولاه أبي حذيفة، فلهذا رخص لها النبي - صلى الله عليه وسلم - في إرضاعه - بالطريقة السالف ذكرها - ورتب على هذا الرضاع تحريما خاصا، فقصة رضاعة سالم - رضي الله عنه - واقعة عين لم يأت في غيره، واحتفت بها قرينة التبني وصفات لا توجد في غيره[15].
وعليه "فإن حديث سهلة إنما هو واقعة حال لا يقاس عليها؛ لأن القاعدة الشرعية تقول: "ما ثبت على خلاف القياس، فغيره عليه لا يقاس"، فقضية سالم أعطاها الشارع حكما استثنائيا على خلاف مقتضى القواعد العامة السارية، لوجود اعتبارات تشريعية خاصة بها"[16].
قال ابن عثيمين: "بعد انتهاء التبني لا يجوز إرضاع الكبير ولا يؤثر، أي: أنه في الأصل محرم؛ لأن الرضاع لا بد أن يكون في الحولين وقبل الفطام"[17].
وقد قالت أمهات المؤمنين - رضي الله عنهن - بهذا، وصرحن بأنها رخصة لسالم دون الناس.
ولا شك أن في تصرف الإسلام إزاء هذه المشكلة حكمة كبيرة ومصلحة قوية؛ إذ إن الإسلام حين حرم التبني كان لا بد من إيجاد حل لمشكلة الأطفال الذين تربوا منذ صغرهم في بيوت المسلمين، وأحسوا فيها بدفء الحياة الأسرية المستقرة، فأمر باتخاذهم إخوانا، لكنه في حالة سالم هذه سمح باختراق القاعدة ليكون ابنا شرعيا للأسرة، وليمارس حياته وجهاده وقراءته القرآن - وكان سالم من قرائه المعدودين - دون أن ينغص باله هم مادي أو اجتماعي.
وعلى هذا فالحكم العام مستقر قائم، فلا يجوز إرضاع الأجنبي الكبير، ولا يحرم هذا الرضاع إن وقع، وأما ما كان من قصة سالم فهو رخصة خاصة لها ظروفها ودواعيها فلا يقاس عليها غيرها.
- قال بعض العلماء: إن قصة سالم منسوخة[18]، فقد وقعت هذه القصة مبكرا في أول العهد المدني للدعوة الإسلامية، ثم نسخت بروايات اعتبار الحولين في الرضاع المحرم، وهي روايات رواها أحداث الصحابة وبعض من تأخر إسلامهم، ولعلها نسخت مع تحريم التبني، كما يفهم من كلام ابن عثيمين السابق.
- قال بعض العلماء: إن هذا الأمر محدود بحالات الضرورة والحرج الشديد[19]، بأن يكون الوضع كما كان في قصة سالم هذه، وقد ذهب هؤلاء إلى هذا القول جمعا بين النصوص، مع ملاحظة أن من تحققت فيه حالة سالم مولى أبي حذيفة سيرضع بالطريقة التي بيناها سابقا، والتي تخلو من المخالفات الشرعية المصاحبة لها، ومن الذين قالوا بهذا القول ابن تيمية وابن القيم والشوكاني، يقول ابن تيمية: "يعتبر الصغر في الرضاعة إلا إذا دعت إليه الحاجة، كرضاع الكبير الذي لا يستغنى عن دخوله على المرأة، وشق احتجابها عنه، كحال سالم مع امرأة أبي حذيفة، فمثل هذا الكبير إذا أرضعته للحاجة أثر رضاعه، وأما من عداه فلا بد من الصغر"[20].
وبهذا يتبين لنا اتفاق معظم علماء المسلمين على أن الإرضاع المعتبر في التحريم هو ما كان في الحولين، ومن ثم فلم يفتح الإسلام أبدا أبواب الشهوة المحرمة كما يزعم الزاعمون، بل حرص كل الحرص على العفة وحماية الأعراض.
الخلاصة:
- عادةالإرضاععادةجاهلية،دأبعليهاأشرافالعرب،فكانوايرسلونأطفالهمإلىالباديةلتنشئتهمتنشئةقويةصحيحةبعيداعنترفالحضر، وقد استمرت هذه العادة بعد مجيء الإسلام.
- فيالإرضاعمصالحكثيرة،كإرضاعالأيتامواللقطاءومناختلفوالداه،ولعلهذامنأسبابإقرارالإسلاملهذهالعادةبعدمجيئه.
- قديقعبعضالنساءفيخطأالإرضاعمعالنسيانوالغفلةعنتسجيلأسماءمنأرضعنوعددرضعاتهم، وربما يحدث بين إخوة الرضاع زواج؛ وهو خطأ يرجع إلى مرتكبيه لا إلى التشريع الإسلامي.
- شددفقهاءالمسلمينعلىضرورةالتثبتمنانتفاءمانعالتحريمبالرضاعبينالطرفينقبلالزواج؛صيانةللحرماتوالأنساب،فإذاوقعزواجبيناثنينبينهمانسببالرضاعة - بعد التثبت قبله - ولم تتبين حقيقته بعد ذلك، فلا مؤاخذة على الزوجين بهذا الخطأ، وإذا أدرك أمر الرضاع فرق بينهما.
- لاتعارضبينحديثإرضاعسهلةبنتسهيللسالممولىأبيحذيفة،وبينالنصوصالمتواترةالآمرةبغضالبصروحفظالجوارحوصونالأعراض؛وذلكلأنالمأثورأن سالما حلب له اللبن فشربه، وبدهي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن ليسمح له بالتقام ثدي امرأة أجنبية أو مجرد رؤيته؛ لأن هذا يتنافى مع أوامر الشريعة ومقاصدها الشريفة.
- جمهورعلماءالمسلمينعلىأنالرضاعالمعتبرفيالتحريمهوماكانفيالحولين،أماما ورد في قصة سالم فقد التمسوا له توجيهات متعددة منها:
- أنهذهكانترخصةخاصةبسالموآلأبيحذيفة.
- أنهذاكانحكماعامافيأولالإسلام،ثمنسخبالأحاديثالمحددةبالحولين.
- أنرضاعالكبيريمكناعتبارهمحرما- أي: منأسبابتحريمالمرضععلىالمرضعة - في حالات الضرورة والحرج المشابهة لحالة سالم مولى أبي حذيفة، مع ملاحظة أن الرضاع لن يكون مباشرا، وإنما يحلب اللبن للمسترضع فيشربه.
(*) شبكة بلدي لمقاومة التنصير. www.Balady.net. رد القرآن والكتاب المقدس على أكاذيب القمص زكريا بطرس، إيهاب حسن عبده، مكتبة النافذة، القاهرة، ط1، 1426هـ/ 2005م. موقع ابن مريم.
[1]. الرضاعة: هي أن ترضع غير الأم طفلا ليس ولدا لها، فإذا أرضعته خمس رضعات أصبحت أما له وانتشرت الحرمة في أقربائها.
[2]. الرضاع المحرم في الفقه الإسلامي، عبد الله عبد المنعم عبد اللطيف العسيلي، دار ابن الجوزي، القاهرة، ط1، 2005م، ص63 بتصرف يسير.
[3]. إسناده صحيح: أخرجه عبد الرزاق في مصنفه، كتاب الجامع للإمام معمر بن راشد الأذدي، رواية الإمام عبد الرزاق، باب التنعيم والسمن (19994)، وابن حبان في صحيحه، كتاب اللباس وآدابه (5454) وصحح إسناده الأرنؤوط في تعليقه على صحيح ابن حبان (5454).
[4]. الرضاع المحرم في الفقه الإسلامي، عبد الله عبد المنعم عبد اللطيف العسيلي، دار ابن الجوزي، القاهرة، ط1، 2005م، ص54.
[5]. صحيح: أخرجه أبو داود في سننه، كتاب النكاح، باب رضاعة الكبير (2061)، والبيهقي في سننه، كتاب الرضاع، باب رضاع الكبير (15432)، وصححه الألباني في صحيح وضعيف سنن أبي داود (2059).
[6]. الرضاع المحرم في الفقه الإسلامي، عبد الله عبد المنعم عبد اللطيف العسيلي، دار ابن الجوزي، القاهرة، ط1، 2005م، ص121: 123 بتصرف يسير.
[7]. ومن الأفضل أيضا تسجيل عدد الرضعات، وقد اختلف في عدد الرضعات التي يثبت بها التحريم إلى ثلاثة أقوال:
- قليلالرضاعوكثيرهسواءفيثبوتالتحريم.
- لايثبتالتحريمإلابثلاثرضعاتفصاعدا.
- لايثبتالتحريمإلابخمسرضعات فصاعدا.
انظر: الرضاع المحرم في الفقه الإسلامي، عبد الله عبد المنعم عبد اللطيف العسيلي، دار ابن الجوزي، القاهرة، ط1، 2005م, ص135 بتصرف يسير.
[8]. الرضاع المحرم في الفقه الإسلامي، عبد الله عبد المنعم عبد اللطيف العسيلي، دار ابن الجوزي، القاهرة، ط1، 2005م، ص123: 126.
[9]. صحيح: أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه، كتاب الطلاق، باب ما قالوا في الرجل يحلف على الشيء بالطلاق فينسى فيفعله أو العتاق (1905) بنحوه، وابن ماجه في سننه، كتاب الطلاق، باب طلاق المكره والناسي (2043)، وصححه الألباني في صحيح وضعيف سنن ابن ماجه (2043).
[10]. انظر: السنة النبوية في كتابات أعداء الإسلام، عماد السيد الشربيني، دار اليقين، القاهرة، ط1، 1423هـ/ 2002م، ج2، ص326: 331 بتصرف.
[11]. بدائع الصنائع، أبو بكر الكاساني الحنفي، ج8، ص106. شرح مختصر خليل الخرشي، ج13، ص449. مختصر المزني الشافعي، ج1، ص227. فتح الباري، ابن حجر العسقلاني، دار الريان للتراث، القاهرة، ط1، 1407هـ/ 1987م، ج9، ص50: 53. مجموع فتاوى ابن تيمية الحراني، ج9، ص227. نيل الأوطار، الشوكاني، ج10، ص448.
[12]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الشهادات، باب الشهادة على الأنساب والرضاع المتسفيض والموت القديم (2504)، وفي موضع آخر، ومسلم في صحيحه، كتاب الرضاع، باب إنما الرضاعة من المجاعة (3679).
[13]. صحيح: أخرجه أبو داود في سننه، كتاب النكاح، باب في رضاع الكبير (2061)، والبيهقي في سننه، كتاب الرضاع، باب رضاع الكبير (15432)، وصححه الألباني في صحيح وضعيف سنن أبي داود (2059).
[14]. صحيح: أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه، كتاب النكاح، باب من قال: لا يحرم من الرضاع إلا ما كان في الحولين (17057)، والترمذي في سننه، باب الرضاع، باب ما ذكر أن الرضاعة لا تحرم في الصغر دون الحولين (1152)، وصححه الألباني في صحيح وضعيف سنن الترمذي (1152).
[15]. السنة النبوية في كتابات أعداء الإسلام، د. عماد السيد الشربيني، دار اليقين، مصر، ط1، 1423هـ/2002م، ج2، ص324.
[16]. الرضاع المحرم في الفقه الإسلامي، عبد الله عبد المنعم عبد اللطيف العسيلي، دار ابن الجوزي، القاهرة، ط1، 2005م، ص161.
[17]. موقع إسلام أون لاين، د. أبو بكر خليل.
. روى القول بالنسخ ابن حجر العسقلاني في : فتح الباري، ابن حجر العسقلاني، دار الريان للتراث، القاهرة، ط1، 1407هـ/ 1987م / 1987م ، ج14، ص346. وابن بطال في "شرح البخاري"، ج13، ص193. وشمس الحق العظيم آبادي في "عون المعبود"، ج4، ص447. والكاساني الحنفي في "بدائع الصنائع"، ج8، ص106. والأمير الصنعاني في "سبل السلام"، ج5، ص291.
[19]. مجموع فتاوى ابن تيمية، ج9، ص29. سبل السلام، الصنعاني، ج5، ص291. نيل الأوطار، الشوكاني، ج10، ص448. الموسوعة الفقهية، وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية الكويتية، دار الصفوة، القاهرة، ط4، 1414هـ/ 1993م، ج22، ص246.
[20]. مجموع فتاوى ابن تيمية، ابن تيمية، ج9، ص29.
-
الاثنين PM 03:20
2020-10-19 - 2194