المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 412320
يتصفح الموقع حاليا : 272

البحث

البحث

عرض المادة

الصُّدفة في ميزان الفلسفة والعلم والدين دراسة تحليلية نقدية - المبحث الثاني- المطلب الثالث

بقلم أ.د عماد العجيلي
استاذ ورئيس قسم العقيدة بجامعة الازهر والجامعة الإسلامية بمنيسوتا

المطلب الثالث

 الصُدفة في ميزان الضبط الدقيق والتصميم الذكي

تمهيد:

يتضمن مفهوم الضبط الدقيق، والتصميم الذكي فكرة مفادها: أنّ بعض الميزات في الكون والكائنات الحية، لا يمكن تفسيرها إلا من خلال أسباب وعلل تمثل مظهرًا للدليل الغائي لوجود الله، وهذا البرهان يطرح ذاته من قِبل البعض على أنه قائم على أدلة علمية بدلًا من الأفكار الدينية، وتم تعديله لتجنب الحديث حول ماهية المصمم أو طبيعته، وهي بحسب مؤيديها نظرية علمية تضاهي النظريات المعاصرة التي تتعلق بالتطور وأصل الحياة، وترتكز فكرة التصميم الذكي على مفاهيم أساسية في التعقيدات المتخصصة، إذ أنّ هناك أنظمة بيولوجية معقدة بشكل معين حيث لا يمكن تكونها عن طريق طبيعة عشوائية، وهناك أيضًا مفهوم التوافق الدقيق للكون الذي يعتقد بأنّ الكون قد صقل بعناية ليسمح بظهور الحياة على الأرض.

وكما هو معلوم علميًا ودينيًا، أنّ هذا الكون بما فيه من مادة، وطاقة، كل ما فيه بمقدار محدد، وتحكمه قوانين متنوعة ومتعاضد منذ نشأته، والفرق بين المؤمن، وبين القائل بالصُدفة يتمثل في: أن المؤمن يقول إنَّ الله هو الخالق والمدبر لتلك القوانين، والنظم الثابتة في الكون. أما غير المؤمن فينظر في أنّ الكون على صورة بالغة الدقة لتظهر الحياة عن طريق الصدفة.

أولًا: معنى الضبط الدقيق

عبّر علماء الفيزياء عن ظاهرة الضبط الدقيق بعبارة مشهورة في كتبهم؛ بقولهم: " إنَّ ظاهرة الحياة في هذا الكون" متوازنة على حد السكين "إنك لو غيرت من طبائع المقادير والقوانين في أقل القليل؛ سينهار الكون أو تفسد الحياة"([1]).

 لذا كان تخلف القوانين الكونية، والضبط الدقيق للكون والحياة يعني عدم الكون وانهياره. فهو دليل وبرهان لوجود الحياة كلها، وليس الوجود الإنساني فقط، ويشهد الفيزيائي  (بول ديفيس) على ذلك بقوله: " الشيء المدهش بحق ليس أنّ الحياة على الأرض قائمة على توازن دقيق جدًا كحد السكين، و انم أن الكون كله قائم على توازن دقيق كحد السكين. وحتى لو قمت بإهمال الحياة البشرية وعدها مجرد حدث غير متوقع في المجموع العام للوجود، فسيبقي هناك حقيقة أنّ الكون كله يبدو مناسبًا بوجه غير معقول لوجود الحياة" ([2]). وكأن الكون على تروس متداخلة بدقة متناهية، وراءها مدبر حكيم، والضبط الدقيق للكون على جوانب وأقسام متعددة، يقول الفيزيائي روبن كولنز: "الوضع المحدد للكون الذي يسمح بنشأة الحياة يسمي الضبط الدقيق للكون، هذا الضبط الدقيق ينقسم إلى ثلاثة أقسام كبرى: قوانين الطبيعة، والثوابت الفيزيائية، ظروف الكون الأولية" ([3])

ثانيًا: نشأة الضبط الدقيق.

لطالما ربط الفكر المادي بإلحاد نَفْسَه بالعلم والمنهج التجريبي، واتخذ من بعض النظريات التي لم تصل إلى الحقائق العلمية ذريعة له للقول بالصُدفة، وبعد ذلك أثبت العلم نفسه كذب هذه النظريات مثل (نظرية التطور، ونظرية التولد الذاتي)، وأصبحت نظرية الضبط الدقيق، والتصميم الذكي هي الناقضة لفكرة القول بعشوائية الكون، وأكدت هذه النظرية أنّ العالم له خالق مدبر حكيم، وقد " بدأ برهان الضبط الدقيق في الظهور بوضوح في المكتبة الغربية منذ ستينيات القرن الماضي، وقد تشكل مع تطور علم الكوسمولوجيا، والفيزياء في كشفهما الشروط الضرورية لنشأة الحياة وبقائها في الكون " ([4])

ولقد شغلت فكرة الضبط الدقيق الفكر البشري في الآونة الأخيرة، كما حظيت باهتمام علمي،" وفي العصر الحالي تنظر الهيئات التدريسية، ومشرّعو الولايات، والمحاكم في أمريكا إلى إمكانية تعليم الصنع المتقن في المدارس الحكومية ضمن المناهج التعليمية" ([5]) فالعلم ينأى بنفسه من خلال اكتشافاته عن سذاجة القول بالصُدفة والعشوائية.

والنظر في القوانين التي تحكم الوجود، يدفع العقل إلى أن يعجب من وجود القوانين، وتنوعها، وتكاملها، ودقتها، وجمالها. ولذلك عبَّر (ديفيس) عن دهشته بقوله:" القوانين تبدو نفسها نتيجة تصميم مبتكر للغاية"([6])

وقد أثبتت نظرية الضبط الدقيق استبعاد حكاية الصُدفة في بروز هذا التكوين إلى الحياة؛ لأنّ التأليف المنسق المحكم الرائع الذي يتم به هذا التكوين وراءه خالق محكم مريد.

ويُرجع (ملفن كلفن) الحائز على جائزة نوبل في الكيمياء الحيوية" ما يوصف من انتظام الكون إلى الإله الواحد الذي يديره بنظام متناسق، حيث إن العشوائية أو آلهة متعددين يديرون الكون كلٌ بقوانينه كان سيؤدي إلى انهياره " ([7])

كل ما في الكون محكوم بقوانين؛ وذلك لأنه يحتاج إلى شروط في وجوده، ولهذا فكل ما في الكون ناقص يفتقر إلى موجِده، حتى أنّ الانفجار العظيم ليس انفجارًا عشوائيًا -كما نظن نحن - حيث ينتج عن الانفجار في العادة تشتت وعشوائية، لكن الانفجار العظيم هو انفجار بمعنى فتق للمادة المتماسكة وتوسعها بشيء غاية في الدقة والاتفاق، فانفجار بهذه القوة لا يحتمل أن ينتج عنه أي نظام أو اتفاق، لكن نجد العلماء يصرحون أنه قد صاحبه دقة بالغة، وإحكام رائع لينتج لنا هذا الكون البديع.

وإلى هذا يشير العالم البريطاني المشهور (فردهويل) عندما يقول: " نحن نعلم أنّ كل انفجار يشتت المادة ويبعثرها دون نظام؛ ولكن هذا الانفجار الكبير عمل العكس بشكل محفوف بالأسرار؛ إذ عمل على جمع المادة معًا لتشكيل المجرات"([8])

بل " إنَّ سرعة توسع الكون سرعة حرجة جدا لدرجة أنها لو كانت في الثانية الأولى من الانفجار أقل من قيمتها بمقدار جزء من مليون في مليار لانهار الكون على نفسه قبل أن يصل إلى وضعه الحالي" ([9])، إذن هذا هو مبلغ الدقة المذهلة في تنظيم هذا الانفجار الكبير وفي تصميم سرعته.

قال نيوتن وقد سأله الناس أن يأتيهم بدليل على وجود الله:" لا تشكُّوا في الخالق، فإنه مما لا يعقل أن تكون الضرورة وحدها هي قائدة الوجود؛ لأنّ ضرورة عمياء متجانسة في كل مكان، وفي كل زمان لا يتصور أن يصدر منها هذا التنوع في الكائنات، ولا هذا الوجود كله، بما فيه من ترتيب أجزائه، وتناسبها مع تغيرات الأزمنة والأمكنة؛ بل إن كل هذا لا يعقل أن يصدر إلا من كائن أوَّلي له حكمه وإرادة" .... إلى أن قال: كيف تكونت أجسام الحيوانات بهذه الصناعة البديعة، ولأي المقاصد وضعت أجزاؤها المختلفة؟ هل يعقل أن تصنع العين الباصرة بدون علم بأصول الإبصار ونواميسه؟ والأذن بدون إلمام بقوانين الصوت. إلخ"([10]).

فهذا الكون الذي يزعم أصحاب الصُدفة أنه جاء تلقائيًا عشوائيًا، تبين أنه على نظام دقيق وذكي، هذا النظام يسير بأمر الله، فالكون مُدرك لعمله ونظامه بأمر الله، فالأرض مدركة بما فيها لعملها بأمر الله، حتى الحجر، الشجر فمن الذي أعطي الشجرة الأمر بعملية البناء الضوئي أو اللقاح؟ فالعلم يثبت أنّ هذا الكون بنظام ذكي، ويرفض فَرضِية الصُدفة بكل صورها.

يقول فرامكلين إم. هارولد:" يجب أن نرفض كمسألة مبدأ أن تحل الصُدفة والضرورة محل التصميم الذكي، لكننا يجب أن نعترف بأنه ليس هناك تفسيرات داروينية مفصلة لتطوير أي نظام كيميائي حيوي فليس هناك سوي تخمينات تواقة"([11]).

إنَّ تنظيم الكون قائم على صورة دقيقة، يقود هذا النظام إلى ظهور الحياة، نظام الكون مقدرة بطريقة خاصة لا تسمح لاحتمال الصُدفة، ووجود كون متقن العناصر بدقة بالغة حتى توجد الحياة، هذا في حد ذاته برهان أنه صَنعة خالق، يقول المنكر لوجود الله:" هذا البناء الكوني أثر للعشوائية المحظوظة".

 إن برهان التصميم في الكون ودلالته على الخالق واضح لأي عالم منصف،

ولقد تواترت شواهد الضبط الدقيق، فقد أثبت العلم الحديث وجود ضبط دقيق، وخلق متقن، في هذا الكون، فقد" ظهر الكون إلى الوجود بمعايرة دقيقة لآلاف الثوابت الفيزيائية والطبيعية، التي سمحت بوجود الحياة والتي لو اختل ثابت منها بمقدار جزء من مليار جزء لاختل الكون، أو لتوقف عند مرحلة الذرة البدائية الأولى (البيضة الكونية)". ([12])

ولقد قام الفلكي مارتن ريس بتأليف كتاب، أوضح خلاله أهمية ستة ثوابت ذات قيم ومقادير محددة ومصنوعة بعناية، بحيث تشكل أساس الخواص الفيزيائية الأساسية للكون، وإن كانت الأرقام الستة قد تبدلت حتى ولو لأدنى درجة، فلن تكون هناك نجوم، ولا عناصر معقدة، ولا حياة".([13])

إن برهان الضبط الدقيق هو من أعظم الأدلة على الصنع المتقن، ووجود الخال سبحانه، فلقد أثبتت جميع الدراسات العلمية بما لا يدع مجالاً للشك أنّ هذا العالم يسير وفق ضبط دقيق، وتوازن محكم لا مثيل له.

فالأرض مثلًا يقول العالم الأمريكي الشهير موريسون: " إنّ حجم الكرة الأرضية وبُعدها عن الشمس، ودرجة حرارة الشمس وأشعتها الباعثة للحياة، وسمك قشرة الأرض وكمية الماء، ومقدار ثاني أوكسيد الكربون، وحجم النتروجين، وظهور الإنسان، وبقاؤه على قيد الحياة، كل ذلك ضد الاعتقاد بأنّ جميع الأُمور تحدث مصادفة"([14]).

 لقد جعل الله الكون صالحًا للحياة، فلو علونا عن سطح الأرض مائة ميل – المائة ميل كخطوة نملة في الكون – والمسافة بين الأرض وبين الشمس 93 مليون ميل – يموت الإنسان في الحال؛ لأنه لا يجد هواء، فالحياة لا تستطاع بعد خمسة أميال.

فالصنع الإلهي المتقن لم يعد دعوى دينية فحسب، وإنما أصبح قوة علمية، تزداد وضوحًا بشواهدها كل يوم، وهذا ما ذكره الله سبحانه وتعالى في كتابه: ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا في الْآفَاقِ وَفِي أنّفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أنه الْحَقُّ﴾[ فصلت: 53]

إن الضبط الدقيق يدحض فرضية الصُدفة، ويدلل على وجود الخالق، فدلائل القصد والتصميم في الخلق تجعل فكرة التكوين والبناء والتركيب المعجز بطريق المصادفة مستحيلة عقلًا.

يقول كيث ورد: "كل الفلاسفة الكلاسيكيين (المؤسسين) العظماء تقريبا اتفقوا على أنّ الكون لا يشرح نفسه، وأنه يتطلب تفسيرا يتجاوزه، وقبلوا هذه الفكرة باعتبارها أمرًا في منتهى الوضوح".([15])

ويقول ستيفن وانبرغ: " إن من الرائع أنّ نجد في فوانين الطبيعة خطة وضعها خالق مهتم, وتؤدي فيها الكائنات البشرية دورًا متميزًا وأن أشعر بالحزن عندما أشك في ذلك".([16])

وقد دعا فريد هويل إلى ضرورة التسليم للإبداع بقوله:" إن المواد البيولوجية – بما تحويه من قياس ونظام – يجب أن تكون ثمرة تصميم ذكي، ولا توجد أي احتمالية أخرى يمكنني التفكير بها مما جعله يهتز بشدة عندما وجد نفسه منقادًا إلى الاعتراف بتدخل خارجي إلهي".([17])

ويقول جورج جرينشتاين: " كلما واجهنا الأدلة، واجهتنا على الدوام الحقيقة نفسها، أنّ قوة عاقلة فوق الطبيعة تدخلت في نشوء الكون"([18]).

ويقول كريستوفر هيتشنز:" إنَّ فَرضِية التنظيم الدقيق للكون هي أقوى حجة كان يواجهني فيها الطرف الآخر المؤمن بوجود إله" ([19]).

ويقول بول دافيز الفيزيائي المعاصر: " يتسم الكون بالتنظيم والتطابق، فهناك نظام كلي متناغم لا فوضى، وهذه الحقيقة الأساسية مهمة للغاية لوجودنا؛ إذ أنه لم يكن ممكنًا للحياة أن تنشأ ناهيك عن أن تتطور إلى مرحلة الذكاء وسط الفوضى" ([20]).

ويقول ستيفن وينبرج مخاطبًا ريشارد دوكينز:" سيبقي دائمًا سؤال لماذا قوانين الطبيعة كما هي الآن وليست مختلفة؟ ولا أجد أي طريقة للخروج من هذا، حقيقة أنّ الثوابت الطبيعية مناسبة للحياة هي حقيقة واضحة ومشاهدة" ([21]).

وعلى نهج المثبتين للضبط الدقيق سار كثير من العلماء والمفكرين في حقولهم العلمية مقرين بالضبط الدقيق الذي لا بديل عنه لتفسير نشأة الكون، واستمراره.

يظهر جوهر الضبط الدقيق للكون في وجود أمور لا تحتملها العشوائية، ولا الضرورة المادية لظهور الحياة، وهي:

  • الضبط الدقيق للقوانين الفيزيائية
  • الضبط الدقيق للثوابت الكونية
  • الضبط الدقيق للظروف الأولى لظهور الكون
  • الضبط الدقيق للمركبات الكيميائية والبيولوجية الضرورية للحياة على الأرض"([22])

 يُعد (برهان الضبط الدقيق) هو من بين البراهين العلمية على وجود الله  (برهان العصر للإيمان) فهو "البرهان الذي قال في دلالته  (ستيفن واينبرغ) الفيزيائي الملحد الأمريكي الحائز على جائزة نوبل في لقائه مع (داوكنز):" نحن – بسببه-في ورطة" بسبب العجز عن تفسيره في كون عشوائي أعمى، وهو البرهان الذي اعترف  (هتشنز) الملحد أنه أقوى أدلة المؤمنين بالله، وأنه برهان يضطر الملحد إلى التفكير بجد فيه" وهو الذي جعل عددًا ممن يرفضون برهان التصميم في الأحياء بسبب إيمانهم بالتفسير الداروني – مثل عالم الجينات  (فرانسيس كولنز)-، يُقرون أنه برهان لا سبيل لرده" ([23])

ومن علماء الكونيات الذين أذهلهم ما في الكون من دقة حتى أنهم تركوا إلحادهم لأجل البراهين المتدفقة على دقة النظم الكونية، الفيزيائي (فرنك تبلر) الأمريكي القائل:" لما بدأت حياتي المهنية منذ قرابة عشرين سنة مضت كمولوجي، كنت ملحدًا مقتنعًا بإلحادي. لم أتصور – حتى في أحلامي السادرة – أنني سأكتب كتابًا يزعم أنه يُظهر أنّ الدعاوى المركزية للاهوت المسيحي اليهودي [خَلق العالم ونظم القوانين] هي في الواقع حقيقة، وأنّ هذه الدعاوي هي استدلالات مباشرة من القوانين الفيزيائية كما نفهمها نحن الآن. لقد دُفعت إلى الإيمان بهذه النتائج، بسبب المنطق الصُلب لفرع الفيزياء الخاص الذي أُدرسه".([24])

ومن الذين زلزل النظم الدقيق اعتقادهم بالإلحاد، وكانوا من المدافعين عنه بشدة عالم الفلك الكبير (فريد هويل)، حتى قال:" يخبرنا التفسير البديهي للحقائق أنّ كائنًا بالغ الذكاء قد تحكم في ضبط الفيزياء، وكذلك الكيمياء والبيولوجيا، وأنه لا توجد قوى عمياء تستحق الذكر في الطبيعة "([25]).

ويرى فرانسوا جاكوب: " أنّ مفهوم (التصميم الذكي) قد أصبح نظرية علمية تتصدى لمفهوم نشأة الكائنات الحية، وتدور حول أنّ طبيعة هذه الكائنات، وطبيعة الجزيئات التي تتكون منها تحتاج في نشأتها، وفي بقائها، وفي عملها إلى ذكاء، وأنّه لا يمكن للعشوائية أن تفسرها، وقد أمتد هذا المفهوم ليشمل العموم المختلفة كنشأة الكون، والذكاء، والإنسان"([26]).

هذا ويمكن القول إنَّ العلم لعب دورًاً مهمًا في توسيع مجال عجائب الطبيعة، إذ أنه أظهر وجود الترتيب من أصغر الذرات إلى أكبر المجرات، فالنظرة المادية الحديثة ترى أنّ المادة والطاقة تستطيعان أن تنظمان نفسيهما بمختلف الأشكال، وتظهران أي نظام معقد دون أي تدخل خارجي، ومن أبرز أوجه النقد التي تم توجيهها لأصحاب النظرة المادية هو أنّ العلم المادي قد سلب الكون من جميع أسراره وغاياته، والنقاش المفصل للعالم الفيزيائي هو: إما مصادفة لا منطق له، أو نتيجة حتمية لقوانين ميكانيكية خالية من أي بعد عقلي أو غائي فالفيزيائي "ستيفن فاينبرغ"" يعتقد أنّ كلما بدا الكون غير قابل للفهم، كلما بدا أكثر غائية"([27]).

نستخلص مما سبق أنّ الضبط الدقيق للكون يلغي تمامًا فكرة أنّ الصُدفة يمكن أن تكون إجابة مفسرة ومقنعة لوجوده، فالكون يظهر للعلماء في صورة مذهلة من الدقة، فهناك عملية ضبط معقدة للغاية لأليات العمل الكوني، والتي تفرض وجود صانع وراء هذه الكون، كما يثبت الضبط الدقيق، من ناحية أخرى، أنّ أي تفسير على طريقة نظرية داروين لنشأة الحياة لا قيمة له؛ وذلك لأنّ المقاييس القائم عليه الكون ثابتة منذ نشأته.

ومن ثم بطلان رؤى القائلين بالصُدفة، مع التنبيه أنّ العلم الطبيعي يكشف ويصف الكون لا على أنّ التصميم الذكي والضبط الدقيق بمعزل عن خالق، " فالمعارف العلمية ليست دليلًا مباشرًا، وإنما هي تؤسس لصحة البراهين العقلية، فهي أي العلوم الحديثة تقدم أدلة على أنّ الكون مُصمم مما يدفعنا إلى الإقرار بصحة المقدمات العقلية القائلة أنّ لكل تصميم مُصمم".([28])

هناك ملحوظة مهمة هو أن برهان الضبط الدقيق يُنظر إليه على أنه دليل على وجود الله وليس استغناء الكون بنفسه، ومن هنا كانت خطورة كتاب" التصميم العظيم" من تأليف " ستيفن هوكينج" و"ليوناردو ملودينو" الذي" يحوى في طياته نقض فكرة الإله، ويصفها بالأسطورة، التي لا تستند لدليل، ويصف الإله بأنه مجرد فكرة ليس لها أي أساس علمي، وأن العلم ينفي وجوده مطلقُا حيث يقول هوكينج" طالما أنه يوجد قانون – كالجاذبية- فالكون يستطيع أن يخلق نفسه من لا شيء، الخلق التلقائي هو سبب وجود شيء بدلا من لا شيء، وليس لزامًا أن نقحم إلهًا ليبين عمل الكون" ([29])، فهو يدعى أن سبب خلق الكون هو وجود قوة الجاذبية.

ويكون الدليل بما يلي: أنّ لكل تصميم مُصمم، الكون مصمم، إذا الكون له مُصمم.

*****

 

([1]) د سامي عامري، براهين وجود الله في النفس والعقل والعلم، ص449، 450.

([2]) المصدر نفسه، ص475.

([3]) The Blackwell Companion To Natural Theology, William Lane Craig And J. P. Moreland, P202

([4]) د سامي عامري، براهين وجود الله في النفس والعقل والعلم، ص 446

([5]) ويليام ديمبسكي، جوناثان ويلز، تصميم الحياة، ترجمة: موسى إدريس وآخرون، مراجعة: أحمد يحيي، وعبد الله الشهري، دار الكاتب للنشر والتوزيع- الإسماعيلية، مصر، ط1/2014م، ص 16.

([6]) د سامي عامري، براهين وجود الله في النفس والعقل والعلم، ص 453

([7]) عمرو شريف، خرافة الإلحاد، ص 93

([8]) https://islamonline.net/archive %

([9]) ستيفن هوكينج: موجز تاريخ الزمن، ترجمة: آدهم السمان، دمشق: دار طلاس للدراسات والترجمة والنشر، ط4/ 2008م، ص121.

([10]) هلال على هلال، الجائزة أو لماذا أؤمن بالله، ص112، 113

([11]) لي ستروبل، القضية... الخالق، ترجمة: سليم إسكندر، حنا يوسف، مكتبة: دار الكلمة، ط1/ 2007، ط2/2013م، 283.

([12]) انتوني فلو، هناك إله كيف غير أشرس الملاحدة رأيه؟، ترجمة: صلاح الفضلي، ص 161.

([13]) See: Just Six Numbers: The Deep Forces that Shape the Universe, Martin Rees, p2-3

([14]) كريسي موريسون، العلم يدعو للإيمان، ص 195.

([15]) جون لينوكس، العلم ووجود الله تقديم: ماهر صموئيل، ترجمة: ماريان كتكوت، ط1/2007م، ص 101.101.

([16]) ستيفن وانبرغ، أحلام الفيزيائيين، ص 199.

([17]) هيثم طلعت، ما الإيمان وإما الفوضى، دار محاور للنشر، ط1/ 2019م، ص304 .

([18]) عمرو شريفـ خرافة الإلحاد، ص220.

([19]) نور الدين أبو لحية، الكون بين التوحيد والإلحاد، دار الأنور للنشر والتوزيع، ط1/1439ه، ص106..

([20]) بول ديفيز، الجائزة الكونية الكبرى لغز ملاءمة الكون للحياة، ترجمة: محمد فتحي خضر، مراجعة: حسام بيومي محمود، القاهرة مدينة نصر، كلمات عربية للنشر والترجمة، ط1/2012م ص 32- 36.

([21]) دقة قوانين الكون تحرج الملاحدة – ريشارد دوكينز مع ستيفن وينبرج, 21 ديسمرب2020م, https://www.youtube.com/watch?v

([22]) د سامي عامري، براهين وجود الله في النفس والعقل والعلم، ص 450

([23]) المصدر نفسه، 462.

([24]) نفسه، 462.

([25]) نفسه، 463.

([26]) فرانسوا جاكوب، لعبة الممكنات، ترجمة أحمد صالح، مركز الإنِّماء القومي، بيروت، 1991م، ص 25.

([27]) جاك مونود، المصادفة والضرورة، ترجمة حافظ الجمالي، دار طلاس، دمشق، 1997م، ص 154.

([28]) عبد الله العجيرى، شموع النهار، تكوين، ط1، السعودية، 2017م، ص 176، 177.

([29]) مصطفي نوح قديح، الصنع المتقن دلالات الفيزياء على وجود الخالق، مركز دلائل، ط1، السعودية، 1438ه، ص 80.

  • الخميس PM 02:40
    2023-06-08
  • 815
Powered by: GateGold