المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 408995
يتصفح الموقع حاليا : 425

البحث

البحث

عرض المادة

هل الفلاشاه يهود؟

من أكثر الشواهد على عدم تجانس ما يسمَّى بالشخصية اليهودية يهـود الفلاشـاه. ويتركـز الفلاشاه أساساً في شمال إثيوبيا في المنطقة الواقعة بين نهر نازي فـي الشـمال والشـرق، وبحيرة تانا والنيل الأزرق في الجنوب، والحدود السودانية في الغرب. وهم يعيشون في قرى صغيرة مقصورة عليهم تضم كل قرية نحو خمسين أو ستين عائلة وتوجد أهم القرى بجـوار مدينة جوندار. كما يوجد داخل جوندار نفسها جماعة صغيرة من الفلاشاه تعـيش فـي حـي مقصور عليها. وتوجد قرى الفلاشاه عادة على قمة أحد التلال القريبة من النهر. وتتكون كـل قرية من مجموعة من الأكواخ المستديرة يغطيها القش، ويخصص أحد الأكواخ معبداً لهم، كما يخصص كوخان آخران بعيدان عن القرية لعزل النساء وقت الطمث وبعد الإنجاب.  

ولا تختلف ملامح الفلاشاه ً كثيرا عن ملامح غيرهم من الإثيـوبيين، كمـا لا يمكـن الحديث عن نمط فلاشى متميز إذا اختلطت فيهم الدماء الحامية والسـامية. ولـذا، لا توجـد اختلافات في لون الجلد وملامح الوجه. ولا يختلف أسلوب حياتهم، من معظم الوجـوه، عـن أسلوب حياة جيرانهم، كما أنهم يرتدون نمط الثياب نفسه ويأتزرون بالعباءة المسماة "الشامة".  وهم يعملون أساساً بالزراعة كعمال أجراء، كما يعملون في بعض الحـرف الأخـرى مثـل صناعة الفخار والغزل والنسيج وصنع السلال، كما يعملون حدادين وصاغة وحائكي ملابس، ويعمل كثير منهم الآن بحرفة البناء في المدن.  

ويتحدث معظم الفلاشاه الأمهرية. وثمة أقلية منهم تعيش في تيجري وفـي إريتريـا وتتحدث اللغة التيجرينية. وهناك أقلية أخرى في الجزء الشمالي تتحدث لهجات قبائل الأجاوأما أدبهم، فكله مكتوب باللغة الجعزية أو الإثيوبية (لغة إثيوبيا الكلاسيكية) وهي أيضـاً لغـة الكنيسة القبطية الإثيوبية. والفلاشاه يجهلون العبرية تماماً، فمعرفتهم بها مقصورة على بضـع كلمات لا يدركون هم أنفسهم أنها من هذه اللغة.  

والتراث الشعبي للفلاشاه، كما هو الحال في أفريقيا، ثري للغاية، فلهم أغان ورقصات عديدة. كما إن لهم تاريخهم الأسطوري. ويمارس الفلاشاه طقس الزار لطرد الأرواح. ويقال إن هذ الطقس بدأ في إثيوبيا وانتشر منها إلى بعض بلاد الشرق الأوسط. كما أنهـم يقومـون بصنع الأحجبة والتعاويذ اتقاء للعيون الشريرة. وبسبب اشتغالهم حدادين، يعتبرهم أهل القرى من السحرة.  

ويلقي تعريف الفلاشاه في الموسوعة اليهودية كثيراً من ظلال الشك علـى انتمـائهم الديني، إذ جاء فيه ما يلي: "الفلاشاه جماعة إثنية في إثيوبيا تزعم أنها مـن أصـل يهـودي، ومرتبطة بنوع من أنواع الديانة اليهودية يستند إلى العهد القديم والكتب الخارجية (أبو كريفا )، أي الكتب غير المعتمدة، والكتب الدينية الأخرى التي ظهرت بعد الانتهاء من تـدوين العهـد القديم".  

والواضح أن هذا التعريف يرى أنهم من أصول إثنية ليست يهودية بالضرورة، وأنهم ليسوا يهوداً وإن كانوا "يزعمون" أنهم من أصل يهودي. كما أن ما يعرفونـه عـن اليهوديـة يختلف عن اليهودية التي يتبعها معظم يهود العالم والسائدة في الدولة الصـهيونية. ففـي أي شيء تختلف يهودية الفلاشاه عن اليهودية الحاخامية؟  

وتستند عبادة الفلاشاه إلى العهد القديم الذي لا يعرفونه إلا باللغة الجعزية، وهي لغـة الكنيسة الإثيوبية. ويضم العهد القديم الذي يعرفونه كل الكتب المعتمدة وبعض كتب الأبوكريفا غير المعتمدة مثل: كتاب يهوديت، وحكمة سليمان، وحكمة بن صيرا، وكتاب المكابيين الأول والثاني، وكتاب باروخ. ولم يصل التلمود إلى الفلاشاه. وغنى عن الـذكر أن التلمـود هـو العمود الفقرى لليهودية الحاخامية وعصبها، وينطوى عدم الاعتراف به على عـدم اعتـراف بها.  

وهناك كثير من العناصر اللاهوتية والحضارية المشتركة بين المسيحيين واليهود فـي إثيوبيا. فبعض الكتب الدينية متداولة بين الفريقين معاً، واللغة الجعزية هي لغة العبـادة بـين اليهود والمسيحيين هناك، كما أن أسطورة الأصل مشتركة مع تنويعات خفيفـة. ويمكـن أن نضيف هنا أن الفلاشاه ليس لديهم حاخامات وإنما قساوسة يطلق على واحدهم لفظة "قس". كما أنهم ينتسبون، مثل الكهنة القدامى في يهودية ما قبل التهجير، إلى هارون. وينتخب الكهنة في كل منطقة كاهناً أعظم لهم لكي يصبح زعيماً ً دينيا للجماعة، ويصبح من صـلاحياته ترسـيم الكهنة.  

ويقدم الكهنة القرابين في المناسبات الدينية المختلفة. ويعيش بعض هؤلاء الكهنة فـي الأديرة رهباناً وراهبات على النمط المسيحي، ويطلق عليهم لقب "ناذير" وهي لفظـة عبريـة تعنى "الذي نذر نفسه للشعائر الدينية وانقطع لها". كما أن البعض الآخر يعيش علـى طريقـة النساك في الغابات والصحارى وعلي حواف القرى . ومن الطريف أن طقس "الاعتراف" فـي المسيحية موجود عند الفلاشاه، فهم يدلون باعترافاتهم إلى الكاهن من آونة إلى أخرى وعنـد نهاية اليوم. وإلى جانب الرهبان والكهنة، يوجد علماء يستخدمون صحن المعبد لتعليم الدين.  

ويقيم الفلاشاه شعائر يوم السبت بصرامة غير عادية، فيمتنعون عن الجماع الجنسـي في ذلك اليوم، ويقضى الرجال يومهم في الصلاة. لكن التحريمات الخاصة به مختلفـة مـن بعض الوجوه عن تحريمات اليهود الأرثوذكس. فهم مثلاً لا يعتبرون استخدام النور الكهربائي من المحرمات. كما أنهم يحتفلون بعدد من الأعياد أكبر من المنصوص عليه فـي الشـريعة اليهودية، وهم يحافظون على شعائر الزواج والختان اليهودية، ولكنهم يختنون البنـات علـى عادة بعض الشعوب الأفريقية. وهم يحافظون كذلك على التحريمات الخاصة بالطعام، ولكنهم لا يستعملون أواني منفصلة للمأكولات من الحليب واللحم على غـرار الجماعـات اليهوديـة الأخرى.  

ومن ناحيتهم، فإن المسيحيين الإثيوبيين ( هم الآخرون) يختنـون أولادهـم الـذكور، ويمتنعون عن تناول المأكولات المحرمة عند اليهود. كما أنهم، ولفترة طويلة، كانوا يتخـذون السبت يوم راحة لهم بدلاً من الأحد. ومن الجوانب اليهودية الأخرى في المسيحية الإثيوبيـة، التشديد على أهمية العهد القديم في الكتاب المقدس. وكذلك يلاحظ وجـود الرمـوز المتعلقـة بسفينة العهد في الكثير من الكنائس المسيحية الإثيوبية.  

كما اشتهر الفلاشاه بمغالاتهم في التطهر، ولذا فهم يمتنعون قدر الإمكان عـن لمـس الغرباء. وإذا حدث أن لمس أحدهم ً غريبا، فإن عليه أن يتطهر (ولذلك توجد قراهم على مقربة من الأنهار حتى يمكنهم التطهر دائماً). ومن هنا، فإن الفلاشاه الذين يعيشون فـي جونـدار، ويفرض عليهم أسلوب حياتهم الاحتكاك الدائم بالأجانب والغرباء، يعدون "غير طاهرين" فـي نظر بقية الفلاشاه.  

وتتبدى مغالاة الفلاشاه في قوانين الطهارة في تعاملهم مع النساء. فبعد أن تلد المـرأة ولداً، فإنها تعد غير طاهرة مدة أربعين يوماً. وإن وضعت بنتاً، فإن المدة تتضـاعف. وبعـد نهاية المدة، تحلق المرأة شعر رأسها وتغطس في الماء وتغسل ملابسها قبـل أن تعـود إلـى منزلها. ً وأحيانا يحرق الكوخ الذي قضت فيه فترة العزل.  

والمعبد هو مركز الحياة الدينية بين الفلاشاه، والذي تطلق عليه كلمة "مسجد" أو "بيت إجزا بهير" أو "بيت الإله". ويستخدم الفلاشاه اللغة الجعزية في الصلاة، ويقضون معظم يـوم السبت وأيام الأعياد في الصلاة داخل المسجد، ويقفون لتناول الطعام في مأدبة جماعية. كمـا أنهم يغنون ويرقصون في الأعياد.  

ويؤمن الفلاشاه بإله واحد ويؤمنون بالبعث والعالم الآخر والثـواب والعقـاب، كمـا يؤمنون بعقائد اليهود الأخرى، كإيمانهم بأنهم من الشعب المختار وأنه سيظهر بينهم ماشيح.  

ويبدو أن بعض الفلاشاه ممن تقع قراهم على مقربة من قرى المسلمين قد اسـتوعبوا أيضـاً عناصر إسلامية في عقيدتهم، وربما كان بينهم مسلمون بالفعل. إذ ذكرت الصحف الإسرائيلية أن بعضهم قد اعتنق الإسلام في إسرائيل. كما أوردت أن بعضهم، أثناء زيارة حائط المبكى، سمع صوت الأذان فاتجه إلى المسجد لإقامة الصلاة. كما ذكرت إحدى الصحف الإسـرائيلية أن بعضهم أقام الصلاة على طريقة المسلمين في المطار فور وصـوله إلـى إسـرائيل وقـد وصفتهم الصحيفة بأنهم "فلاشاه سنيون".  

وقد احتفظ الفلاشاه بهويتهم المتميزة، وهي هوية إثنية أفريقية استمدوها مـن بيئـتهم ومن طبيعة التشكيل الحضارى الأفريقى. ويرى بعض المتخصصين في مجتمع الفلاشاه أنهـم من قبيلة الأجاو، وأنهم عرق إثيوبي صاف. أما تقاليدهم وعاداتهم فتشمل خليطاً من المعتقدات والطقوس الوثنية واليهودية والمسيحية وربما الإسلامية. وقد نفي أحد المؤرخين صفة اليهودية عنهم ووصفهم بأنهم مسيحيون تمسكوا لسبب أو آخر بالعهد القديم بدلاً من العهد الجديد. وهو يرى إن علاقات الفلاشاه، الحضارية والعرقية، مع جيرانهم المسيحيين الإثيوبيين، تتخطى تلك التي يشاركون بها يهود العالم. وقد تكون هذه الطبيعة المختلطة لهوية الفلاشاه هي مـا حـدا بأحد المسئولين في الوكالة اليهودية في أوائل الخمسينيات إلى إسداء النصح لمن فكر منهم في الهجرة إلى إسرائيل بالتنصر وحل مشكلتهم بهذه الطريقة بدلاً من الهجرة إلى إسرائيل.  

  

الفلاشاه وأزمة المستوطن الصهيوني

  

رغم الاختلاف العميق بين يهود العالم ويهود الفلاشاه، فقد تم تهجيرهم باسم الهوية اليهوديـة العالمية. ومن الواضح أنهم سيفقدون في إسرائيل هويتهم الأفريقية ولن يكتسبوا هوية جديـدة، لأن المجتمع ينظر إليهم بعين الشك بسبب لون جلدهم وتوجههم الثقافي بل ومعتقداتهم الدينيةوقد شككت دار الحاخامية في يهوديتهم في بادئ الأمر، ثم عادت واعترفت بهم كيهود ً تمهيدا لعملية التهجير. ومع هذا، لم يكن الاعتراف بهم كاملاً، فيهوديتهم حسـب التصـور الـديني ناقصة. ولذا، طلب منهم عند وصولهم أن يعاد تختينهم وأن يأخذوا حماماً طقوسياً لتطهيرهمويلاحظ أنه لا تصدر لهم بطاقة هوية إلا بعد هذه الطقوس، بل ويتسلمها بعضهم دون تحديـد الديانة حتى بعد الختان والاستحمام الطقوسي. ومن الطريف أن هؤلاء الفلاشاه، المشكوك في يهوديتهم، ذهلوا من علمانية المجتمع الصهيوني وعدم حرصه على الشـعائر اليهوديـة إذ لا حظوا أن يهود الكيان الصهيوني لا يلتزمون بشعائر السبت.  

ولكن الرفض على أساس إثني وعرقي كان أعمق وأشد حدة. فعلى سـبيل المثـال، رفضت مدينة إيلات (عدد سكانها عشرون ألفاً) تزويد المستوطنين الفلاشاه بالماء والكهرباء، كما رفض المجلس المحلى لمستوطنة يروحام إدخال الفلاشاه إليها. وفى صفد، تظاهر السكان ضد إعطاء المهاجرين من إثيوبيا بيوتاً، كما هدد أولياء أمور الطلاب فى المـدارس الدينيـة بالامتناع عن إرسال أطفالهم إليها إذا استمر أطفال الفلاشاه معهم. وشكا رئيسـا بلديـة عكـا ونهاريا من توطين الفلاشاه فى بلدتيهما بحجة أن هذه مدن اصطياد سياحية ووجود الفلاشاه لا يساعد ً كثيرا على اجتذاب السياح، بل يخلق التوتر ويزيد تفاقم ظاهرة العنصرية في المدينة.  

وقد بدأت الدولة الصهيونية تتحرك نحو تهجير الفلاشاه موراه. وهم فلاشاه تنصـروا بكامل إرادتهم منذ مدة تتراوح بين قرنين وثلاثين عاماً. ويبدو أن الفلاشاه أنفسـهم يعتبـرون الفلاشاه موراً (أياً كان نوعهم) غير يهود. ولذا، فإن أياً منهم، إذا أراد العودة إلـى حظيـرة الدين اليهودي، تطبق عليه الشعائر الخاصة بمن يريد التهود، فيحلق شعر رأسه وجسمه، وهى شعائر لا تطبق إلا على غير اليهود (ومهما يكن من أمر سخرية الصحافة الإسرائيلية من هذه الشعائر، فإنها على أية حال هي الشعائر نفسها التي كانت تطبق في الماضـي قبـل ظهـور اليهودية الحاخامية).  

ويمكن طرح السؤال التالي: ما الذي يمكن أن تربحه الدولة الصهيونية من تهجير مـا بين ٥٠ ألفًا و٦٠ ألف يهودي من إثيوبيا (العدد الكلى للفلاشاه في إسرائيل)، خصوصاً أنهـا كانت تدرك بعض المشاكل التي ستنجم عن هذه الهجرة؟ يمكننـا ابتـداء اسـتبعاد العنصـر الإنساني، فلو كان الدافع ً إنسانيا لانصب اهتمام الكيان الصهيوني على تحسين أحـوالهم فـي بلادهم، وعلى الدفاع عن حقوقهم هناك، ولشمل كل ضحايا المجاعة في إثيوبيـا. ولعـل أول الدوافع الحقيقية هو الدافع المالي، فالقصص المثيرة عن تدهور حال يهود إثيوبيا تـؤدي إلـى تدفق التبرعات. كما أن هناك مردوداً إعلامياً. فإسرائيل دولـة معروفـة للعـالم الغربـي بعنصريتها. ولذا فإن إنقاذ يهود الفلاشاه (السود.. الأفارقة) قد يحسن صورتها بعض الشيء.  

وهذه الدوافع المادية والمالية والإعلامية دوافع حقيقية ولكنها سـطحية. أمـا الـدافع الحقيقي الكامن وراء تهجير الفلاشاه فهو الأزمة العقائدية والسكانية العميقة للنظام الصهيونيفالكيان الصهيوني يعانى من نضوب مصادر الهجرة اليهودية، إذ أن يهود الغرب المتحمسـين يكتفون بإرسال الشيكات وبرقيات التأييد الحارة ولا يهاجر منهم إلا القليل النادر. أما يهـود الاتحاد السوفيتي فهم، بالمثل، يؤثرون الهجرة، إن هاجروا، إلى الولايـات المتحـدة. وبعـد الهجرة السوفيتية اليهودية الأخيرة، جف منبع شرق أوربا، وقـد كـان المصـدر التقليـدي للمستوطنين، لكن العنصر البشرى أساسي بالنسبة للاستعمار الاستيطاني الإحلالي، والفلاشـاه (والفلاشاه مورا) سيساهمون بلا شك في سد هذا العجـز، فالـدافع وراء تهجيـر الفلاشـاه والفلاشاه مورا هو تعطش آلة الحرب والاستيطان الصهيونيتين للمادة البشـرية، وستسـاعد هجرتهم الاستيطانية هذه الآلة على الدوران. كما أن الفلاشاه زراع مهرة، وقد يمكنهم زراعة الأرض الفلسطينية التي استولت عليها الدولة الصهيونية، ً خصوصا بعد انصراف المستوطنين الصهاينة عن فلاحتها. كما أن المؤسسات الزراعية الصهيونية تعانى من ندرة الأيدي العاملـة اليهودية وتضطر إلى استئجار عمالة عربية، وقد يبطئ وجود الفلاشاه هـذه العمليـة قلـيلاًويلاحظ أيضًا أن الوظائف الدنيا في الهرم الإنتاجي أصبحت شاغرة بعـد أن حقـق اليهـود الشرقيون ً شيئا من الحراك الاجتماعي، وبدأ العرب في ملئها، الأمر الـذي أدى إلـى تزايـد اعتماد المستوطن الصهيوني على العمالة العربية، وهو أمر يهدد أمنه، ولعل المادة البشـرية الوافدة، يهودية كانت أم غير يهودية، تسد هذه الثغرة.  

ومن الواضح أن تهجير الفلاشاه هو تعبير عن مقدرة الصهاينة على الحركة والإنجاز ولكنه في الوقت نفسه تعبير عن أزمة صهيونية. وهى عملية تحل بعـض المشـاكل مؤقتـاً، ولكنها ستفجر بعض المشاكل الأخرى، وبكل حدة، داخل الكيان الصهيوني. وقد تفجرت مـرة أخرى مع وصول الفلاشاه مسألة من هو اليهودي. كما أنها قد تساعد على التشكيك في المقولة الصهيونية الخاصة بوحدة الشعب اليهودي، إذ يأتي الفلاشي بملامح وقيم وعـادات مختلفـةولنتخيل يهودياً أمريكياً أشقر من أصحاب المذهب الإصلاحي أو يهودياً علمانيـاً أو يهوديـاً ملحداً يقف بجوار يهودي من الفلاشاه أسود البشرة يرقص في "مسجده" اليهودي في الأعيـاد، فهل سيقتنع الاثنان بأنهما ينتميان إلى شعب واحد؟  

  

تهجير الفلاشاه مورا:

حل الأزمة بمزيد من الأزمات!!

  

مع تفاقم الأزمات داخل الكيان الصهيوني، ولاسيما الأزمة السكانية ونضوب مصادر الهجـرة اليهودية التقليدية، بدأ التفكير في تهجير أعداد من "الفلاشاه مورا" من إثيوبيا للاسـتيطان فـي فلسطين المحتلة. ويثير هذا المسعى كثيراً من التساؤلات عن واقع الجماعات اليهوديـة فـي العالم وعن طبيعة الدولة الصهيونية وادعائها بأنها "دولة يهودية"، فضلاً عن السؤال التقليـدي عن "من هو اليهودي؟".  

ولكن يجدر في البداية إلقاء الضوء على هذه المادة البشرية الجديدة التـي تسـتهدفها المساعي الصهيونية، وعلاقتها باليهودية. فكلمة "فلاشاه" تعنى "الغرباء" أما "مورا" فإنها تعنى "الأغيار" أى غير اليهود. إف ذا كانت هناك شكوك قوية حول يهودية "الفلاشاه "، فإن "الفلاشـاه مورا" مشكوك في يهوديتهم حتى من "الفلاشاه" أنفسهم. ويتجلى ذلك بصفة خاصة إذا أراد أحد أفراد "الفلاشاه مورا" العودة إلى حظيرة الدين اليهودي، حيث تُطبق عليه الشعائر الخاصة بمن يريد التهود، مثل حلاقة الرأس، وهي شعائر لا تُطبق إلا على غير اليهود. ويرجع ذلك إلـى أن "الفلاشاه مورا" تنصروا على أيدي المبشرين المسيحيين قبل حوالي قرنين مـن الزمـانوتحاول الصحافة الإسرائيلية تبرير عملية تهجير هؤلاء، فتصنفهم علـى أنهـم مـن "يهـود المارانو"، أي اليهود المتخفين، وهو اصطلاح يُطلق في الأدبيات اليهودية على اليهود الـذين يتظاهرون بتغيير دينهم ولكنهم يستمرون في ممارسة شعائر دينهم اليهودي في الخفاء، ويبلـغ عدد "الفلاشاه مورا" حوالي ١٧٥ ألفاً، منهم ١٥ ألفاً ممن تنصروا وانـدمجوا فـي المجتمـع المسيحي، ولا تربطهم باليهودية سوى جذورهم الفلاشية (العرقية).  

وكانت المؤسسة الحاخامية في الكيان الصهيوني (والعناصر الأخرى التـي تعـارض هجرة "الفلاشاه مورا") تشير إلى أن أفراد هذه الجماعة لم يتنصروا قسراً، بل تحولـوا عـن يهوديتهم لتحقيق المغانم الاقتصادية والحراك الاجتماعي وللاستفادة من المعونات المالية التـي يقدمها المبشرون، وأنهم يودون الهجرة إلى إسرائيل للأسباب نفسها. ومن ثم، فـإن دوافعهـم ليست دينية ولا أيديولوجية، فهم إذن مرتزقة.  

ولكن يبدو أن بعض العناصر الدينية في إسرائيل لا تُمانع في الوقت الحاضـر فـي هجرتهم، كما بدأت الولايات المتحدة تدعو إلى تهجيرهم. والدافع وراء هذا، على ما يبدو، هو تعطش المستوطن الصهيوني للمادة البشرية، خاصة بعد أن أدت انتفاضة الأقصى إلى تراجع عدد المهاجرين اليهود من الخارج من ٦١ ألف شخص عام ٢٠٠٠ إلـى حـوالي ٢١ ألـف شخص فقط في عام ٢٠٠٣ ) موقع il.gov.moia.www .(وفي المقابل، تتزايد أعداد النـازحين والراغبين في النزوح من الكيان الصهيوني، حيث تشير الإحصائيات إلـى أن حـوالي ١٩٣ إسرائيلي غادروا البلاد خلال شهر فبراير/شباط الماضي، ويمثل هذا الرقم زيادة بنسـبة ٢٠ بالمئة عن مثيله في نفس الفتـرة مـن العـام السـابق (موقـع com.IsraelNN.www ،١٧ مارس /آذار ٢٠٠٤ ،(ويفضل معظم هؤلاء الاستقرار في أوروبا أو أمريكا الشـمالية. كمـا يُلاحظ أن الوظائف الدنيا في الهرم الإنتاجي أصبحت شاغرة بعد أن حقق اليهود الشـرقيون شيئاً من الحراك الاجتماعي، وبدأ العرب في ملئها، وهو الأمر الذي أدى إلى تزايـد اعتمـاد المستوطن الصهيوني على العمالة العربية، مما يهدد أمنه. ولعل المادة البشرية الوافدة، يهودية كانت أم غير يهودية، تسد هذه الثغرة.  

ويبدو أيضاً أن المؤسسة الحاخامية قد غيرت موقفها التقليدي من "الفلاشاه مورا". فقد صرح الحاخام السفاردى الأكبر أن الفلاشاه مورا "يهود كاملون بـلا شـك"! ولهـذا بـدأت المؤسسة الحاخامية في حثهم على الهجرة وتهويدهم وضمهم إلى صفوف اليهود الأرثـوذكس حتى يتزايد عددهم (مع أن اليهودية الأرثوذكسية لا تشجع التهود).  

وتوجد جماعة تسمى "مؤتمر شمال أمريكا بخصوص يهود إثيوبيا" American North 

Jewry Ethiopian on Conference  تعمل على تشجيع الهجرة، وهي تدير مجمعاً ضخماً فـي أديس أبابا وآخر في جوندا يهتم بتعليم أعضاء جماعة الفلاشاه مورا شعائر الدين اليهودي قبل تهجيرهم إلى فلسطين المحتلة. وتُعقد في المجمع حلقات دراسية لتعلم العبرية، كما يضم معبداً يهودياً.  

وقد أعلن سلفان شالوم، وزير خارجية إسرائيل، أنه سيسرع بعملية تهجير وتـوطين ٢٤ ألف من جماعة "الفلاشاه مورا" الذين يعيشون في مجمعات "مؤتمر شمال أمريكـا" فـي أديس أبابا وجوندا، كما صرح وزير الداخلية (وهو من حزب شاس الديني) أنه سيساهم فـي عملية الإسراع هذه.  

وقد أدى نشاط "مؤتمر شمال أمريكا" إلى اندلاع نقاش حاد في إسرائيل بين العلمانيين (ومعظمهم من الأشكناز البيض) والمتدينين. فقد اتهم العلمانيون المؤتمر بأنه "يخلـق اليهـود تخليقاً، وأنه يغري المسيحيين الإثيوبيين بالخروج من قراهم، بأن يعدهم بالطعـام والأمـوال وبالهجرة إلى فلسطين في مقابل اعتناق اليهودية الأرثوذكسية. كما شكك بعض المسؤولين في صدق ادعاءات "الفلاشاه موراه" بأنهم يهود. وصرح وزير الهجرة والاستيعاب أنـه لا يكـن لإسرائيل استيعاب هذا العدد، وأن توطينهم قد يبدأ حلقة مفرغة من تصاعد هجـرة "الفلاشـاه موراه"، فالمهاجرون الجدد سيطالبون بإحضار باقي أفراد عائلاتهم من إثيوبيا وهي عمليـة لا نهاية لها، كما قال أحد المسؤولين. ويطالب هؤلاء المعارضون بإغلاق مجمعات أديس أبابـا وجوندا ووضع نهاية لهجرة "الفلاشاه مورا".  

ويرد أعضاء "مؤتمر شمال أمريكا" بالقول إن "الفلاشاه مورا" يشعرون فـي أعمـاق أعماقهم أنهم يهود (ومن الطريف أن أحد تعريفات اليهودي تقول إنه الشخص الذي يشعر أنه كذلك، وكأن الشعور الذاتي يعادل الكيان الموضوعي).  

ويعود اعتراض المتحدثين باسم اليهود الأشكناز على هجرة "الفلاشـاه مـورا" إلـى خشيتهم من تزايد عدد اليهود الأرثوذكس، فضلاً عن خوفهم (المسكوت عنه) من تزايد عـدد السود والشرقيين بشكل عام، بحيث يصبح اليهود الأشكناز في نهاية الأمر مجرد أقليـة فـي الدولة الصهيونية. ووضع الأقلية هذا هو أكثر ما يخشونه، فقـد تركـوا أوطـانهم الأصـلية واستوطنوا في فلسطين المحتلة ليصبحوا أغلبية!  

ولكن ما يهمنا نحن العرب، أن هجرة "الفلاشاه مورا" تفـاقم مـن أزمـات التجمـع الصهيوني. ولو أُحسن فهم هذه الأزمات لأمكن توظيفها في عملية تفكيك الجيب الاسـتيطاني الصهيوني.  

  • الخميس PM 03:42
    2022-08-18
  • 775
Powered by: GateGold