المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 417664
يتصفح الموقع حاليا : 232

البحث

البحث

عرض المادة

فيلون (بين 10 و15 ق.م - 30 م) والأفلاطونية المُحدَثة

Philo and Neo-Platonism
فيلسوف سكندري هاجر أبوه إلى فلسطين من مصر ضمن الألوف الأخرى من اليهود التي هاجرت (قبل سقوط الهيكل) حتى فاق عدد يهود الإسكندرية يهود القدس. وكان أبوه يلعب دوراً بارزاً في فلسطين، أي أنه كان من أعضاء النخبة اليهودية، التي كانت متأغرقة إلى حدٍّ كبير. وكان أخو فيلون (ليسيماخوس) من كبار المصرفيين ومسئولاً عن الجمارك في الإسكندرية. وكان أثرى رجل في الإسكندرية، بل يُقال إنه كان من أثرى الناس في العالم آنذاك، إذ يقول يوسيفوس المؤرخ إنه أعطى قرضاً ضخماً « للملك » أجريبا الأول، كما أرسل كميات من الذهب والفضة لتزيين بوابات الهيكل اليهودي التسعة في القدس. وكان صديقاً للإمبراطور الروماني كلوديوس تايبيرو. وفيلون هو عم تايبريوس ألكسندر الذي ارتد عن اليهودية وكان حاكماً رومانياً وجنرالاً في الجيش الروماني أثناء حصار القدس عام 70م والذي انتهى حينما أمر تيتوس بهدم الهيكل.


وُلد فيلون في الإسكندرية التي كانت قد تأغرقت جماعتها اليهودية وتحولت إلى جماعة وظيفية (كما تدل على ذلك وظيفة أخى فيلون). وقد بلغ بهم التأغرق حد أنهم نسوا العبرية، فكانوا يؤمنون بأن الترجمة اليونانية للعهد القديم المعروفة باسم «الترجمة السبعينية» مُرسَلة من الإله.

وظهر في الإسكندرية عدد من الكتاب اليهود (ممن كتبوا باليونانية) تُظهر أعمالهم مدى تمثُّلهم قيم الحضارة الهيلينية. وظهر بين هؤلاء أدب يحاول المزاوجة بين الحضارتين اليونانية والعبرانية ولكنها كانت في واقع الأمر محـاولة لإعادة صـياغة اليهـودية على أسـس يونانية هيلينية. كما حاول هؤلاء الكُتَّاب أن يبينوا أن اليهود ليسوا أقل مكانة أو تحضراً من الشعوب الأخرى، خصوصاً اليونانيين.

وكان يهود الإسكندرية يرسلون أبناءهم للجمنيزيوم اليوناني (وهو يعادل المدرسة الثانوية) عندما يبلغون العاشرة من عمرهم تقريبــاً. والجمنيزيوم كان مدرسـة كاملة للجسـد والـروح، مرتبـطة تمام الارتباط بالعقيدة الوثنية اليونانية. ولا شك في أن اليهود الذين درسوا في مثل هذه المعاهد فقدوا ما تبقى لهم من هوية «عبرانية ». وقد أجهـزت المؤسسـات الثقـافية الشعـبية الأخـرى (مثل المسرح والسيرك) على ما تبقى من ترسبات عبرانية في وعيهم وذاكرتهم. ثم كان هناك أخيراً الحراك الاجتماعي، فاليهودي الذي كان يود أن يخدم المدينة، كان عليه أن يصبح وثنياً إذ أن طقوس المدينة السـياسية كانت مرتبــطة تمـام الارتبـاط بالشعائر الدينية الوثنية (وهذا ما فعله تايبريوس ألكسندر، ابن أخي فيلون، وهو بذلك ينتمي إلى نمط أبناء الجيل الثالث من المهاجرين الذين ينسون كل شيء عن وطنهم الأصلي (إلا بضعة قصص أو كلمات) وينتمون تماماً إلى وطنهم الجديد،على عكس أبناء الجيل الثاني ممن يحتفظون ببعض القشور الحضارية من الوطن الأصلي من خلال احتكاكهم بآبائهم).

ولم يكـن فيلـون اسـتثناء من هذه القاعدة، إذ تلقى تعليماًً هيلينياً كاملاً. فهو يذكر في كتاباته عدداً ضخماً من الكُتَّاب اليونانيين وكان يعرف جيداً أسرار الخطابة اليونانية، وتلقى تعليمه في الجمنيزيوم (ويشير إليه في عبارات إيجابية). وحينما تحدث فيلون عن العلوم التي أتقنها موسى، فإنه يذكر أنها الرياضيات والهندسة والفلك والموسيقى والفلسفة والنحو والخطابة والمنطق، وهي العلوم التي كانت تُدرَّس في الجمنيزيوم، والأغلب أنها العلوم التي درسها فيلون نفسه. ومن المعروف عن فيلون أنه كان مغرماً بالمسرح والموسيقى وبمباريات الملاكمة وحضر كثيراً من سباق العربات. كما أنه يذكر في كتاباته أنه كثيراً ما كان يحضر مآدب العشاء التي كانت تتبعها أنواع من التسلية التي سادت في الإمبراطورية الرومانية، أي أنه (على المستوى الثقافي العام) كان متأغرقاً تماماً.

وفي مقابل هذا، لا يذكر فيلون شيئاً عن تعليمه اليهودي رغم أنه كان يعتبر نفسه يهودياً ممارساً للعقيدة اليهودية. والإشارة الوحيدة للتعليم اليهودي في أعماله تبيِّن مدى ضعف صلته، فهو لا يذكر سوى مـدارس السـبت اليهـودية التي كانت تُعقَد لسـماع محاضرات عن الأخلاق. ولم يكن فيلون يعرف العبرية ولا الشريعة الشفوية،كما كان يستخدم الترجمة السبعينية اليونانية. ويبدو أنه،في مرحلة من حياته،انضم إلى جماعة المعالجين (ثيرابيوتاي) وهي جماعة يهودية ذات طابع غنوصي كانت توجد بجوار الإسكندرية،كما أنه عبَّر عن إعجابه بجماعة الأسينيين (أي أنه كان معجباً بجماعات دينية يهودية هامشية).

ومما يُعرَف عن فيلون أنه زار فلسطين ذات مرة، كما أنه كان ضمن الوفد اليهودي الذي ذهب إلى روما ليعرض شكوى يهود الإسكندرية على الإمبراطور كاليجولا بعد ثورة سكان الإسكندرية اليونانيين على أعضاء الجماعة اليهودية فيها. وكان أبيون قد اتهم اليهود بأنهم لا يدينون بالولاء للمدينة أو للإمبراطورية، فأعد فيلون دفاعاً ليلقيه بين يدي الإمبراطور. ولكنه ما أن بدأ في إلقائه حتى قاطعه كاليجولا وصرف الوفد اليهودي.

وأهم مصادر فكر فيلون الفلسفة الأفلاطونية، كما أنه تأثر بأرسطو والفيثاغورثيين الجدد والكلبيين والرواقيين. وقد حاول أن يمزج بين روح الفلسفة اليونانية (خصوصاً فلسفة أفلاطون) وعقائد الدين اليهودي (خصوصاً فكرة الوحي الإلهي والعهد القديم)، فكان يرى أن الفلسفة اليونانية وحي عميق، ومصدراً لبيان الحقائق بينما الكتاب المقدَّس وحي واضح جلي لبيان ما في هذا الكون من حق. بل إنه كان يرى، شأنه شأن كثير من الكُتَّاب اليهود المتأغرقين. أن الفلسفة اليونانية مأخوذة من التقاليد العبرية، وأن أفلاطون وأرسطو أخذا تعاليمهما من موسى ومن التوراة. ورغم كل هذا، لا يمكن تصنيف فلسفة فيلون إلا على أنها فلسفة يونانية تنتمي أساساً إلى التقاليد الأفلاطونية بعد اختلاطها بالعبادات السرية.

والوجود الإلهي في نظر فيلون هو الكمال المطلق، والوجود الحق، والموجود حقاً، والصلة الأولى، وأبو العالم ونفسه وروحه الذي لا يمكن أن نعرفه بإدراك عقلي ولا يستطيع الفكر إدراك كنهه، أو هو (بمعنى أدق) لا يدخل في نطاق العقل الإنساني (وبهذا فهو يشبه الإله الخفي في الفكر القبَّالي والفكر الغنوصي). والإله لا يسـتطيع أن يحكم هذا العالم مباشـرةً، فاستعان فيلون بالمفهوم الأفلاطوني الخاص بالأشكال أو النماذج المثالية أو الأفكار المطلقة والتي يسميها فيلون «القوى التي تحدد أشكال العالم المرئي». هذه الأشكال هي أفكار الإله قبل خلق العالم، ولذا، فهي أدواته التي يفرض من خلالها النظام على العالم. ويُفسِّر فيلون رغبة موسى في أن يرى جلال الإله رؤية العين، فيقول: إنها رغبة في رؤية القوى الإلهية، لكن الإله يخبره أن أحداً لا يمكنه أن يدرك هذه القوى، بل يمكن فقط رؤية أثرها في العالم تماماً كما يرى الإنسان أثر الختم في الشمع دون أن يرى الختم نفسه. فهذه القوى هي مصدر كل من البنية الكامنة والنظام الواضح في العالم، وهي بمنزلة الوسيط بين الملك والكون.

وأهم الوسطاء (والفكرة العليا التي توحِّد القوى كافة) اللوجوس (الكلمة) التي تُعبِّر عن الإله ولكنها منفصلة عنه. فمن خلالها خلق الإله العالم، وبواسطتها يتجلى في الوجود كما تتجلى آثار الشمس في أضوائها. وبهذه الوسيلة، فإنه موجود دائماً، حاضر في كل شيء، فعّال في الأشياء التي تفيض منه دون أن ينفعل على الإطلاق. إن اللوجوس هو الوكيل الذي تتجلى من خلاله عظمة الإله في العالم المادي. وقد سماه فيلون «أول أبناء الإله» و«صورة الإله». وقد يكون اللوجـوس هو ما يتجسـد في التوراة التي أرسـلها الإله للبشـر. واللوجوس لا يحل فقط في الكون والتوراة وإنما يحل في الإنسان نفسه أيضاً. فأرواح البشر أصلها الإله، ولذا فإن الإنسان يمكنه أن يصل إلى فهم طبيعة الإله لا من خلال الإدراك الروحي وإنما من خلال التأمل الصوفي وروح النبوة. وحتى يتم ملء كل الثغرات تماماً (وهذا متوقع في رؤية حلولية كمونية فيضية للإله). يقول فيلون: بعد اللوجوس، يأتي نموذج العالم ويليه الحكمة ثم رجل الإله أو آدم الأول ثم الملائكة ثم الإله نفسه، وأخيراً القوى وهي كثيرة: ملائكة وجن ناريون وهوائيون يُنفِّذون الأمر الإلهي. والتماثل البنيوي بين هذه الأفكار والقبَّالاه واضح للغاية. وعلى كلٍّ، ورغم مهاجمة فيلون للغنوصية، فثمة أثر واضح للغنوصية في فكره يتضح بشكل خاص في رؤيته للجسد باعتباره سجن الروح التي تهرب من الجسد وتعود للإله وتلتحم به.

وثمة رأي يذهب إلى أن النزعة الحلولية القوية في فكر فيلون هي في واقع الأمر محاولة من جانبه لأن يجعل اليهودية قادرة على التنافس مع عبادات الأسرار (الحلولية) ذات الطابع التبشيري القوي والتي جذبت كثيراً من أعضاء الجماعات اليهودية. وهذا تفسير براني تراكمي، فالفلسفات والعبادات التي انتشرت في العالم الوثني الروماني بعد أفلاطون وأرسطو (الرواقية ـ الأبيقورية ـ الفيثاغورثية الجديدة ـ الأفلاطونية الحديثة ـ الغنوصية ـ الأورفية... إلخ). كانت فلسفات وعقائد حلولية. وفيلون السكندري جزء من هذا التيار الحضاري العام بغض النظر عن البُعد اليهودي في تفكيره ووجدانه.

وتأخذ الحلولية عند فيلون طابعاً كوزموبوليتانياً كونياً (كما هو الحال في الرواقية والأبيقورية والأفلاطونية الحديثة). ولذا، فإن الإله ليس رب اليهود وإنما هو رب الكون. ويتوقف الحديث عن الشعب المقدَّس، ولا يوجد أثر للنزعة المشيحانية المرتبطة بالحلولية اليهودية. وقد أوَّل فيلون قضية جمع شمل اليهود في بلد واحد بعد توبتهم (أي الشتات والعودة) بأنه يعني اجتماع الفضائل في النفس وتناسقها بعد ما تُحدثه الرذيلة من تشتُّت. أما الوعد بخيرات مادية للشعب، فهو وعد بالخيرات الروحية للنفس الصالحة وسيادة الشريعة على العالم. ويفسر فيلون كلمة «يسرائيل» بأنها « الرجل أو الشعب الذي يرى الإله ». وهذا أمر ليس مقصوراً على اليهود وحسب، وكل ما في الأمر أن اليهود يقومون على خدمته. واليهودية، من ثم، ليست انتماء عرْقياً وإنما عقيدة دينية. وعلى ذلك، فقد كان فيلون من دعاة التبشير باليهودية وبأنه يتعيَّن على اليهودي أن يكون مواطناً في البلد الذي يقيم فيه.

ويتجاوز فيلون أحياناً المنظومة الحلولية، فيُظهر الإله منزهاً عن الكون، غير خاضع لقوانين الطبيعة، قادراً على أن يوقفها. كما أن التشبيهات الغليظة والصور التجسيمية التي ترد في العهد القديم (وهي تعبير عن الحلولية اليهودية) يتم تأويلها وتخليصها من ماديتها. كما لجأ إلى التفسير الرمزي لمعاني العهد القديم حتى يخلِّص كثيراً من النصوص من معانيها الحلولية الوثنية إن فُسِّرت حرفياً. وفي المجال الأخلاقي، يتميَّز فيلون عن الحلولية الوثنية بأنه يؤمن بحرية الإرادة. وحينما تحدث عن الفضائل فقد تحدث عن فضيلة العدالة وأدرج الإيمان الديني والإنسانية ضمن الفضائل، كما أنه يرى أن الندم على الخطايا فضيلة (بينما هو ضعف من وجهة نظر الفلاسفة الوثنيين).

وكتابات فيلون إسقاط لكثير من القيم الهيلينية على التراث الديني اليهودي وليست مزجاً بينهما. ومن ثم، فإنه لم يترك أثراً واضحاً في التطور اللاحق للفكر الديني اليهودي، في حين استفاد منه الآباء المسيحيون (أمبروزو و أوريجين) استفادة بالغة بحيث يمكن أن نقول إن فلسفة فيلون هي مسيحية جنينية. وقد تركت طريقته في التأويل الرمزي أعمق الأثر في التراث المسيحي ومن أهم إضافاته أيضاً رموز الأنبياء.

وقد صنفته الموسوعة البريطانية كرائد من رواد اللاهوت (بالإنجليزية: فورانر forerunner) المسيحي ومؤسس الفلسفة الوسيطة المسيحية.

  • الاربعاء AM 11:49
    2021-04-07
  • 1046
Powered by: GateGold