المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 412458
يتصفح الموقع حاليا : 358

البحث

البحث

عرض المادة

بين النبوءة الصهيونية... والحقيقة الإسرائيلية

بين النبوءة الصهيونية... والحقيقة الإسرائيلية  

  

تدعي الصهيونية أنها رؤية مبنية على تحليل موضوعي للواقع وأن تنبوءاتها هي تنبوءات علماء دارسين للواقع عارفين به. بل إن بعض العرب يعتقدون أن كل التنبوءات الصهيونية بخصوص الشرق الأوسط تحققت، أو على الأقل آخذة في التحقق. ومما لا مراء فيه أن جزءاً لا بأس به من البرنامج الصهيوني قد نُفذ رغم مقاومة العرب وكفاحهم. وعلى سبيل المثال، شيدت في جزء غال من وطننا العربي دولة إسرائيل بعد أن أُخرج الفلسطينيون عنوة من ديارهم، وتحتل قوات هذه الدولة الآن جزءاً من سوريا ومن جنوب لبنان، فضلاً عن قطاع غزة والضفة الغربية لنهر الأردن. وكانت "الدولة اليهودية " يه الهدف الأساسي للبرنامج الصهيوني، أما سياسة إسرائيل التوسعية فهي ولا شك تطبيق عملي له.  

نعم قامت الدولة اليهودية! ولكن هل تحققت كل أو حتى معظم التنبؤات الصهيونية؟ إن دراسة البرنامج الصهيوني، أو الواقع الإسرائيلي، تقود المرء لأن يجيب على هذا السؤال بالنفي، فمن الأهداف النظرية الأساسية لحركة الصهيونية جمع شمل اليهود المشتتين، وهذا الهدف لم يتحقق من قريب أو بعيد. فإسرائيل لا تزال دولة أقلية نظراً لأن يهود العالم، وخاصةً يهود أمريكا المندمجين، يرفضون تنفيذ النبوءة الصهيونية بالهجرة إلى أرض الميعاد، مكتفين بالتشوق الدائم لها، ولا تزال الدول التي يعيشون فيها، وليس الدولة اليهودية، تمثل مركز الدينامية بالنسبة لهم. وتسيطر على الشعب الإسرائيلي ذاته عقلية الأقلية الفزعة: من تطرف وخوف دائم وتمجيد زائد لكل ما يتصل بهم وبتراثهم.  

ويتجه الشباب اليهودي في الدياسبورا، في البلاد الغربية الرأسمالية (وفي البلاد الاشتراكية)، نحو الحضارة السائدة، وهي حضارة لا تساعدهم البتة على تطوير جوهرهم اليهودي لأنها حضارة عملية علمانية. كما أن أعداداً كبيرة من الشباب اليهودي المتمرد ينخرط في سلك الحركات اليسارية، وهي حركات دولية معادية للمفاهيم الصهيونية الشوفينية الضيقة، خاصةً وأن الصهيونية الآن غير قادرة على أن تبرز واجهة يسارية (كما كانت تفعل في الماضي)، وإنما تقدم نفسها أساساً على أنها أيديولوجية البورجوازية اليهودية، وتقدم إسرائيل على أنها بلد المشاريع الرأسمالية الخاصة. وبهذا يكون الصهاينة قد فشلوا أيضاً في تحرير اليهود من (منفى الروح .) ولم تنجح الصهيونية في منع الشباب اليهودي من الانضمام للحركات الاشتراكية اليسارية (كما كانت تزعم).  

وكانت الصهيونية تدعي أنها ستخلق حياة سوية للشعب اليهودي خالية من الهامشية والطفيلية، ولكنها في الواقع لم تنجح إلا في خلق جيتو سياسي كبير يسمى إسرائيل تعيش فيه قلة من (الشعب اليهودي) مكونين بذلك أقلية يهودية جديدة تحيا حياة هامشية لا جذور لها، متمركزة أساساً في المدن، وتعيش على المعونات التي تأتيها من يهود العالم ومن الدول صاحبة المصلحة في المنطقة.  

ولا يزال اليهود المنفيون يعانون مما يسميه الصهاينة ومعادو اليهود واليهودية ازدواج الولاء الحضاري والسياسي. وقد عمق إنشاء دولة إسرائيل هذا الازدواج، لأن ولاءات اليهود الآن موزعة بين دولتين قد ينشأ بينهما تناقض في المصالح والقيم (كما هو الحال بالنسبة لليهود السوفيت ويهود الكتلة الشرقية عامة).  

والدولة اليهودية التي شيدها الصهاينة ليست هي المدينة الفاضلة التي تحدث عنها المفكرون الصهاينة بل هي أبعد ما تكون عن كونها دولة "أمة الروح " التي تقدم لأمم الأرض مثلاً يُحتذى، كما كان الصهاينة الأوائل يصفونها . إنها في واقع الأمر ثكنات عسكرية ضخمة منظمة تنظيماً عسكرياً رهيباً لم يعرف مثله التاريخ الحديث حتى ولا في ألمانيا النازيةويواجه المجتمع الإسرائيلي معظم المشاكل التي يواجهها أي مجتمع صناعي حديث – وبذلك تبخرت فكرة الشعب المختار بعد مواجهة قصيرة مع الواقع العملي. لقد أثبت الواقع أن مزاعم الصهاينة هي نتاج رؤيتهم الطوباوية الأسطورية، وأنها لا علاقة لها بأبعاد الشخصية اليهودية.  

ويلاحظ كثير من المفكرين أن الدولة اليهودية لم تنجح حتى الآن في إنتاج مفكر يهودي واحد له ثقل كبير (مع العلم بأن مارتن بوبر لا يمكن أن يُعد إسرائيلياً). ولهذا لا يزال يهود المنفى، رغم أنهم يدفعون الكثير من المعونات المالية لإسرائيل، منفصلين روحياً عنها تمام الانفصال. بل ويفضل كثير من الباحثين الآن أن يميزوا بين اليهود (في الدياسبورا)  والإسرائيليين (وخاصةً الصابرا)، باعتبار أن ما يُسمى " الحضارة الإسرائيلية الحديثة " نتاج ظروف مختلفة عن الظروف التي شكلت الشخصية اليهودية. والواقع أن نموذج الصابرا الجديد يكن الاحتقار الشديد لنموذج يهودي الدياسبورا الذي تتسم حياته بالسلبية وبالتقبل لحكم الأغيار.  

وقد ظهر هذا الاختبار بصورة خاصة أثناء محاكمات أيخما ،ن في تل أبيب حيث تبين الجيل الجديد (الإسرائيلي ) كيف أن اليهود ذبحوا ذبح الشياة دون مقاومة أو كفاح. وبينما يتهم الصهاينة يهود المنفى بأنهم لا يشتغلون إلا بأمور الكتابة والفكر نجد أن جيل الصابرا، الذي وُلد على أرض فلسطين المحتلة، معادٍ للعقل (أي أنه صهيوني حتى النخاع)، كما أنه معادٍ للفكر الإنساني عامة (دون معاداة للحلول العملية والتفكير العملي). وهو في هذا نتاج حقيقي للفكر الصهيوني أيضاً، خاصةً الصهيونية السياسية العملية، التي تعادي الأخلاق والفكر والتنظير، مفضلة اللجوء إلى الفعل، والفعل السريع الذي يخلق (حقائق جديدة) على حد تعبير موشى ديان. وجيل الصابرا هو جيل حضارة التكنولوجيا الذي لا يكترث بالتراث، كما أنه جيل تسيطر عليه الثقافة الشعبية ذات الصبغة الأمريكية. ولهذا تنتشر أفلام رعاة البقر وأفلام الجريمة والإثارة الجنسية يف إسرائيل. وعلى عكس ذلك، نجد أن يهود المنفى في أمريكا هم أقل قطاعات المجتمع الأمريكي ارتباطاً بقيم مجتمعهم.  

  

آين بريرا – لا خيار

  

لحظات نادرة هي التي يعبر فيها الوجدان الصهيوني عن مخاوفه وقلقه، وعما أسميه "الهاجس الأمني"، الذي يرى الصهاينة أنه يعود إلى تجربة اليهود مع الاضـطهاد علـى يـد شـعوب الأرض والطرد من أوطانهم، وهي التجربة التي وصلت إلى ذروتها مع الإبادة النازية لليهودأما أعداء اليهود فهم يقولون إن الهاجس الأمني سببه جبن الشخصية اليهودية وحرصها الشديد على الحياة الدنيا! ومثل هذه الأطروحات تفترض وحدة اليهود وأنهم كيان مستقل عما حولهم.  

ولكن أية نظرة متمعنة ستبين أن الهاجس الأمني عند المستوطنين الصهاينة لا يختلف عن الهاجس الأمني الذي يشعر به كل المستوطنين في كل الجيوب الاستيطانية، ومصدره هو الخوف من السكان الأصليين الذين اغتُصبت أرضهم، والذين قد يهبون في أية لحظة للمطالبة بها ولطرد المغتصبين. هذا ما حدث للمستوطنين الأمريكيين البيض في أمريكـا الشـمالية، وهذا ما حدث لهم في أستراليا ونيوزيلندا والجزائر وجنوب أفريقيا. انظر على سبيل المثـال لهذه المقطوعة الوصفية: "كان الرجال يمسكون بالمحراث بإحدى أيديهم والبندقية بـالأخرى، وكانوا يعدون من المحظوظين إن لم يتلف عدوهم المتوحش نتاج عملهم الشاق إما في الحقول أو في مخزن الغلال". 

تقدم هذه المقطوعة صورة مزارع مسلح يعمل فيما أسميه "الزراعة العسـكرية "؛ أي الزراعة الاستيطانية، وهي الزراعة التي تختلط فيها مهنة الزراعة بمهنة القتال، فهي زراعة تتم على أرض مغتصبة، يقف أصحابها الأصليون على حدودها يقرعون الأبواب بلا هوادة.  

والمقطوعة السابقة مقتبسة من قصة قصيرة أمريكية "دفن روجـر ملفـن" لناثانيـال هوثورن، كتبها في منتصف القرن التاسع عشر، ويصف فيها المستوطنين البيض في أمريكـا الشمالية، ولكنها أيضا تصلح لوصف المستوطنين الصهاينة والمؤسسات الإسرائيلية الزراعية العسكرية مثل الكيبوتس.  

الهاجس الأمني إذن ليس له جذور يهودية وإنما جذوره استيطانية. وهذا ما أدركـه بعض أعضاء النخبة السياسية الحاكمة، وكثير من الأدباء الصهاينة (والخطاب الأدبي [علـى عكس السياسي] يفصح عن مكنونات النفس البشرية وهواجسها لأنه يعبر عن كيان الإنسـان ولا وعيه. أما في حالة الخطاب السياسي، فالمتحدث عادةً ما يأخذ حذره، ويراقب كلامه فلا يُظهر ما يبطن).

وقد فعل موشيه ديان عكس هذا تماماً، في الخطاب الذي ألقاه في إبريـل /نيسـان ١٩٥٦ أمام قبر صديقه الشاب روي روتنبرج، ضابط الأمن في إحدى الكيبوتسـات (ناحـال أوز )، والذي لقي مصرعه على يد الفدائيين الفلسطينيين. وكلمة ديان تستحق أن نقتبسـها بكاملهـا، فهي لحظة صدق نادرة:  

"فجر أمس قُتل روي، أعماه هدوء الصباح الربيعي ولم ير هؤلاء الذين طلبوا حياتـه المختبئة خلف الأحراش.  

"دعونا اليوم لا نلقي اللوم على القتلة، ما الذي يمكن أن نقوله ضد كراهيتهم البشـعة لنا؟ ثماني سنوات الآن وهم يقيمون في معسكرات اللاجئين في غزة، ويـرون بـأم أعينهم كيف ننقل لوطننا الأراضي والقرى التي امتلكوها وامتلكها أجدادهم من قبل.  

"علينا أن نطلب دم روي من بيننا وليس من بين عرب غزة، كيف غمضـنا أعيننـا ورفضنا أن ننظر بواقعية إلى مصيرنا، ونرى قدر جيلنا بكل وحشيته؟ هل يمكـن أن ننسى أن هذه المجموعة من الصغار، التي تقيم في ناحال أوز، تحمل علـي أكتافهـا غزة الثقيلة؟  

"ما وراء أحراش الحدود يبرز بحر من الكراهية والثأر: ثأر يتطلع لليوم الذي سـيقوم فيه الهدوء بكسر حدة حذرنا، اليوم الذي نذهب فيه للسفراء المنافقين الذين يطالبوننـا بإلقاء سلاحنا، علينا، وعلينا وحدنا، يصرخ دم روي من جسده المغدور، لأننا أقسـمنا آلاف المرات أن دماءنا لم تُسفك هدراً. إلا أنه بالأمس فقط قاموا بإغوائنـا، وسـمعنا وصدقنا.  

"دعونا اليوم نراجع أنفسنا، نحن جيل الاستيطان وبدون عمود الصلب وفوهة البندقيـة لن يمكننا زراعة شجرة أو بناء بيت، دعونا لا نخشى الاطلاع على الكراهيـة التـي تستهلك وتملأ حياة المئات (الآلاف) من العرب الذين يعيشون حولنا، دعونا لا نغفـي طرفنا حتى لا تضعف أسلحتنا. هذا هو نصيب جيلنا، هذا خيارنا -لن نكون مستعدين ومسلحين، قساة خشنين - فإذا سقط السيف من يدنا قصرت أعمارنا.  

"إن روي الشاب الذي رحل من تل أبيب ليبني بيته عند بوابات غزة ليكـون طليعـة لشعبه –أعمى النور في قلبه بصره، فلم ير وميض السيف، أصم الحنين للسلام أذنيـه ولم يسمع صوت القاتل يترصده، وأثبتت بوابات غزة أنها ثقيلة على كتفيه، وتغلبـت عليه".

والكلمة حزينة ولكنها ليست مأساوية، وإنما قدرية، وهي تـرى أن الإسـرائيلي هـو الضحية، وأن العرب هم المعتدون، ولكن مهما كان الأمر ساد بين الإسرائيليين اصطلاح "آين بريرا"، أي لا خيار، أي أن على المستوطنين الصهاينة أن يحاربوا -يحاربوا دائمًا - يحاربوا أبدًا ضد عدو لم يهدأ له بال، لا في عام ١٩٤٩ ولا في عام ١٩٥٩ ولا في عام ١٩٩٩

وفي هذا الإطار لاحظ الكاتب الإسرائيلي بن عيزر أن الإسرائيليين الشـباب الـذين يخدمون في الجيش يشعرون أن أهلهم يقدموهم قربانًا على مذبح الدولة، هذا الوثن الأعظـم، الذي شبهه أحد الحاخامات المعادين للصهيونية، بأنه مثل العجل الذهبي، فهـي -كمـا قـال الشاعر - تضحية علمانية لإسحق (المقابل التوراتي لسيدنا إسماعيل). ولنتخيل سيدنا إبراهيم يقوم بذبح ابنه، ولكنه لا يؤمن بإله.  

وقد تحدث الشاعر حاييم جوري بمرارة عن أن كل إسرائيلي يولد "وفي داخله السكين الذي سيذبحه" ثم أضاف إن تراب إسرائيل لا يرتوي، "فهو يطالـب بالمزيـد مـن المـدافن وصناديق الموتى". مرة أخرى تبدو الدولة الصهيونية مثل الوثن الأصم المتعطش للدماء.  

لقد تعمق الإحساس بالضياع لدى الإنسان الإسرائيلي لا بسبب "تراثه الصـهيوني" وإنمـا بسبب وضعه الاستيطاني، وهو وضع أودى به وأدخله في حـروب مسـتمرة. ولا شـك أن الهاجس الأمني والإحساس بالقدرية وخيبة الأمل قد تعمق بعد انتفاضة الأقصى والاسـتقلالألم تكن نقطة الانطلاق الصهيونية هي أن فلسطين " أرض بلا شعب"، فما بال هؤلاء الرجـال والأطفال والنساء والشيوخ يلقون بالحجارة، بل ويطلقون النار عليهم، ألم يكن من المفـروض أن يكونوا غائبين؟ 

  • الخميس PM 04:08
    2022-08-18
  • 734
Powered by: GateGold