المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 413615
يتصفح الموقع حاليا : 227

البحث

البحث

عرض المادة

الجريمة و "الشخصية اليهودية"

تدعي الصهيونية أن يهود المنفى شخصيات هامشية طفيلية، ولذلك فهم يتجهون نحو السلوك غير السوي بما في ذلك السلوك الإجرامي. وقد ادعت الصهيونية أنها قادرة على وضع حد لكل ذلك بتهجير اليهود من أوطانهم (والتي يطلقون عليها اسم "المنفى" أو الشتات) إلى "وطنهم الحقيقي" في فلسطين، وهناك سيصبح اليهودي شخصية مبدعة منتجة، شخصية سوية نفضت عن نفسها سمات الهامشية والشذوذ التي وُسِمَت بها في "المنفى".  

ولكن من المفارقات التي تستلفت النظر أن الشاعر الصهيوني نحمان بياليك قال إن الدولة الصهيونية ستصبح دولة عادية طبيعية ("دولة عبرية" حسب قوله) حين يصبح هناك "بغي عبرية"، و"شرطي عبري"، أي أن تطبيع اليهود من وجهة النظر الصهيونية، هي أن يصبح اليهود قادرين على ارتكاب الجرائم بشتى أنواعها، بشكل طبيعي وعادي، أي أن الصهيونية تعد بأن تنقذ اليهود من الجريمة وأن تتيح لهم سبل ارتكابها بشكل طبيعي في ذات الوقت.  

فماذا حدث في الدولة الصهيونية في هذا الصدد، وما هو شكل تطبيع اليهود الذي تحقق؟  

إذا ما طالعنا موسوعة الصهيونية وإسرائيل (من وضع رافييل باتاي) وجدنا بعض الإحصاءات عن معدل الجريمة في فلسطين قبل وبعد إنشاء الكيان الصهيوني. فقد جاء في المدخل المعنون "الجريمة في إسرائيل" أنه في الفترة بين عام ١٩٤٥ ) انتهاء حكومة الانتداب البريطاني) وعام ١٩٦٠ زاد معدل الجريمة بين المستوطنين الصهاينة عن ٥٠ بالمئة، أي أن "الشخصية اليهودية" لم تعد شخصية خصبة غير سوية، بل أصبحت شخصية سوية، وقلب الهرم اليهودي الإنتاجي كان يعني أن يقوم المستوطنون بالأعمال السوية الإنتاجية، وأن يحقق المستوطن الصهيوني ذاته من خلال الإنتاج لا من خلال التسول والسمسرة. ولكن ما حدث هو العكس (كما سنبين فيما بعد).  

ويمكن تقسيم تاريخ الجريمة داخل التجمع الصهيوني إلى عدة مراحل:  

  • المرحلة التي سبقت إنشاء الكيان الصهيوني، وهي التي يُطلق عليها مرحلة الريادة، وتتسم بانخفاض معدل الجريمة بين المستوطنين الصهاينة، نظراً لتركز كل الجهودعلى تحقيق الهدف الصهيوني المتمثل في إقامة كيانٍ ليهود العالم على أرض فلسطين (كما بينت الموسوعة الصهيونية)
  • المرحلة الممتدة من بعد إنشاء الكيان الصهيوني حتى عام ١٩٦٧ ،وهي مرحلة كانت تتسم بالتقشف والانضباط النسبي داخل المستوطن الصهيوني، إذ كان الصهاينة لا يزالون يبنون كيانهم، وكانوا يحولون المؤسسات الاستيطانية إلى مؤسسات حكومية (ولكن هذه المرحلة ذاتها شهدت بدايات ظهور الجريمة، فقد اشتغلت بعض العصابات بتهريب المواد الغذائية، ولكن بعد رفع القيود عن المواد الغذائية كانت الجريمة قد ضربت بجذورها)
  • المرحلة التي تمتد من عام ١٩٦٧إلى عام ١٩٧٣ ،وهي المرحلة التي شهد فيها الكيان الصهيوني رخاءً غير عادي نتيجةً لضم الأراضي العربية وتدفق رؤوس الأموال الغربية والمساعدات من الخارج، كما شهد أيضاً تضخم المؤسسة العسكرية وحصولها على كثير من عقود المباني واشتغال ضباط الاحتياط بالأعمال الرأسمالية، وقد تسبب ذلك في زيادة معدلات الفساد والجريمة
  • المرحلة التي تمتد من حرب أكتوبر ١٩٧٣ حتى الوقت الحالي، وقد أصبحت الجريمة أثناءها مشكلة أساسية وسمة لصيقة ببنية التجمع الصهيوني، حتى أن الإسرائيلي اليوم يخرج من بيته صباحاً غير واثق من العودة إليه مرةً أخرى

ومن أهم الجرائم على الإطلاق في الكيان الصهيوني جريمة الاتجار بالمخدرات وتعاطيها. وتعود أهميتها إلى أنها التجارة الأساسية التي تقوم بها عصابات الجريمة المنظمة، كما أنها هي التي تضطر عديداً من مواطني الكيان الصهيوني إلى التورط في جرائم أخرى مثل السرقة لإشباع حاجتهم إلى المخدرات، أو حتى القتل تحت تأثير المخدر في بعض الأحيان. وقد أشارت إحدى الإحصاءات التي نُشرت مؤخراً إلى أن حوالي ٣٠٠ ألف نسمة  (أي نحو ٦ بالمئة من مجموع سكان الكيان الصهيوني) اعترفوا بتعاطي المخدرات، وأن ارتفاعاً حاداً قد طرأ على تعاطي المخدرات في صفوف الجنود والطلاب، حيث ارتفعت النسبة بينهم من ٢,٧ بالمئة في نهاية السبعينات إلى حوالي ٥,١٣ بالمئة حالياً (صحيفة معاريف ٢٧ يونيو /حزيران ٢٠٠٢ .( 

ومن ناحيةٍ أخرى، ذكر تقرير إسرائيلي بعنوان "الأطفال عام ٢٠٠٠ "٣٧أن بالمئة من التلاميذ الإسرائيليين دون سن الثامنة عشرة يتعاطون الخمور، وأن حوالي ٩ بالمئة من التلاميذ في نفس الشريحة السنية يتعاطون المخدرات (صحيفة البيان الإماراتية ١١ يناير /كانون الثاني ٢٠٠١ .( 

كما صرحت رئيسة لجنة التعليم في الكنيست أن عشرات الصبية الإسرائيلية دون سن الثالثة عشرة يتاجرون بالمخدرات ويستخدمون السلاح، بل إن الشرطة الإسرائيلية اكتشفت شبكة كاملة من الصبية ممن تتراوح أعمارهم بين ١١ و١٢ عاماً، ارتكب أعضاؤها عشرات الجرائم بدءاً من أعمال السرقة والسطو وحتى إضرام النيران في العربات بعد سرقتها  (صحيفة معاريف ٥ يونيو /حزيران ٢٠٠٠ .( 

وقد أوضحت الشرطة أيضاً أن الشبكة تعمل بأسلوب منظم ومحكم إلى حد سرقة بعض الأسلحة من وحدات جيش الدفاع ومن دوريات حرس الحدود وبيعها إلى تجار الممتلكات المسروقة. ومع هذا، تُضطر الشرطة إلى إطلاق سراح الجناة نظراً لحداثة سنهم.  

ولم يسلم الجيش الإسرائيلي، الذي يُعد مفخرةً للدولة الصهيونية، من ظاهرة العصابات المنظمة التي تتاجر في المخدرات بأنواعها المختلفة. فعلى سبيل المثال، ذكرت إذاعة إسرائيل الناطقة بالعبرية أنه تم ضبط مجموعة من الجنود والضباط الإسرائيليين تبيع المخدرات، وخاصة الكوكايين، داخل قاعدة إسرائيلية جنوبي إسرائيل، وأنها تضم عدداً من الضباط ذوي الرتب الرفيعة (١٤ نوفمبر /تشرين الثاني ٢٠٠١ ،موقع com.arabnews.www .(  ولعل تفشي المخدرات والجريمة بين الشباب الإسرائيلي هو الذي حدا بأحد أعضاء الكنيست لأن يتقدم بمشروع قرار بعدم تجريم الحشيش، حتى تتفرغ الشرطة لمحاربة المخدرات القوية الأكثر خطورة مثل الهيرويين، بل وطالب بإنشاء مركز حكومي لبيع الحشيش.  

وقد جاء في تقرير إحدى اللجان الصهيونية التي شُكلت لبحث ظاهرة المخدرات أن سبب انتشار هذا الداء الاجتماعي يعود إلى ما يلي:  

  • التأثير الحضاري الغربي
  • موجة المتطوعين والسياح التي وصلت إلى الكيان الصهيوني منذ السبعينات
  • توفر كميات كبيرة من المخدرات بأسعار رخيصة
  • الاتصال مع عدد كبير من العرب

وغني عن الذكر أن الأسباب التي توردها اللجنة لها تضمينات عنصرية، فضلاً عن قصورها. فهي لم تذكر، على سبيل المثال لا الحصر، تآكل الأيديولوجية الصهيونية، والشذوذ البنيوي للدولة الصهيونية، وعدم التجانس بين الجماعات التي تُستجلب من شتى بقاع الأرض للاستيطان في فلسطين، وتصاعد معدلات العلمنة داخل الكيان الصهيوني، ودخول المستوطن الصهيوني في حروب متكررة عقيمة لم تأت بحل لأي من مشكلاته وغير ذلك من الأسباب.  

  

الشذوذ في الدولة الصهيونية

  

يمكن تمييز نوعين أساسيين من العلمانية، فهناك العلمانية الجزئية التي تعني فصل الدين عن الدولة، على أن تظل هناك مرجعية ما للدولة وللفرد، أما العلمانية الشاملة فهي فصل القيم الإنسانية والأخلاقية والدينية عن الدولة والمجتمع، بل وعن الحياة في جانبها العام والخاص بحيث يتحول العالم بأسره إلى مادة استعمالية. وتتسم العلمانية الشاملة بغياب أية مرجعية فلسفية وأخلاقية وأية معيارية، ومن ثم تصبح القوة الذاتية هي المعيار الوحيد، فالأقوى هو القادر على توظيف العالم والآخرين لحسابـه.  

العلمانيـة الشامـلة إذن هي النسبية الأخلاقيـة التي ترفض أية معيارية والداروينية التي لا تقبل سوى القوة. ومن هذا المنظور فإن العلمانية الشاملة هي الإمبريالية، حيث تتحرك الكتلة البشرية الأقوى لتبطش بالأضعف وتوظفه لحسابها، دون الالتزام بأية قيم خارجة عن ذاتها. والدولة الصهيونية دون شك دولة داروينية تستخدم ما عندها من قوة للاستيلاء على الأرض الفلسطينية وطرد سكانها أو توظفيهم واستغلال مصادرهم الطبيعية لحسابها. فالدولة الصهيونية بهذا المعنى دولة علمانية شاملة، لا تتقيد بأية قيم إنسانية أو أخلاقية.  

وقد كان هذا الأمر واضحاً لمؤسس الصهيونية، فهرتزل كان يبحث عن أي أرض لتوطين اليهود فيها، ولم يعر القدس أي اهتمام، لأنه كان يريد "الأرض العلمانية "، على حد قوله. وعندما زار القدس تعمد انتهاك العديد من الشعائر الدينية الصهيونية لكي يؤكد أن الرؤية الصهيونية رؤية علمانيـة لا دينية. وكذا كان الوضع مع ماكس نوردو الذي كان يجهر بإلحاده، ويؤكد دائماً أن كتاب هرتزل دولة اليهود سيحل محل التوراة باعتباره كتاب اليهود المقدس.  

وقد أسس الصهاينة العماليون المستوطن الصهيوني، وهؤلاء ملحدون بشراسة. فكانوا يحرصون على الذهاب إلى حائط المبكى في يوم الغفران (أكثر الأيام قداسة في التقويم الديني اليهودي) ويلتهمون شطائر من لحم الخنزير تعبيراً عن رفضهم لليهودية. ولا تزال الكيبوتسات مؤسسات علمانية تماماً ترفض الاحتفال بالأعياد الدينية وتغير كثيراً من النصوص الدينية. فقد جاء في إحدى المزامير (١١٨/٢٤ (العبارة التالية: "هذا هو اليوم الذي صنعه الرب"، فتم تغييرها إلى العبارة التالية: "هذا هو اليوم الذي صنعه جيش الدفاع الإسرائيلي".  والمؤسسة الصهيونية العلمانية تعتبر التوراة كتاب فلكلور، وليست كتاباً مقدساً (على حد قول بن جوريون) والخالق هو الشعب اليهودي (على حد قول جابوتنسكي) أو أرض إسرائيل (على حد قول ديان).

ولا يعني هذا تقلص المؤسسة الدينية في الدولة الصهيونية، بل العكس فإن نفوذها يتزايد، ولكنها مرت هي الأخرى بعملية "صهينة" وعلمنة، ولم تعد تلتزم بأي قيم أخلاقيـة أو إنسانية أو دينية، بل تجعل الشعب اليهـودي مرجعية ذاته، ومن ثم تؤيد اغتصـاب الأرض وقتل الأبرياء مستخدمة ديباجات دينية لتبرير الأفعال الداروينية العلمانية.  

وبالإضافة إلى علمنة العقيدة اليهودية فإن هناك أشكالاً أخرى من العلمنة تفت في عضد المشروع الصهيوني. ففي كتابه إلفيس بريسلي في القدس (نيويورك، ٢٠٠٢ ،( يذكر توم سجيف أنه لدى توقيع اتفاقية أوسلو عام ١٩٩٣ تظاهر حوالي ٦٠ ألفاً من الإسرائيليين أمام مكتب رئيس الوزراء في القدس، وفي نفس الليلة أُقيمت حفلة غنائية لمايكل جاكسون في تل أبيب حضرها ٦٠ ألفاً. وتبين ظاهرة دانا انترناشيونال تغلغل النسبية الأخلاقية في التجمع الصهيوني. ودانا انترناشيونال هذه مغنية مشهورة للغاية مثلت إسرائيل في مهرجان غنائي في أوروبا وحازت الجائزة الأولى. وعند عودتها أرسل لها بنيامين نتنياهو، رئيس الوزراء آنذاك، خطاب تهنئة كما عُينت سفيرة شرفية لإسرائيل. وكانت دانا في الأصل رجلاً شاذاً من أصل يمني يسمى بارون كوهين ثم أجري عملية جراحية تحول بعدها إلى امرأة. وقد تحدث عمليات تغيير الجنس هذه في كل المجتمعات بنسبٍ مختلفة، ولكن عندما يتحول الفعل الفردي إلى رمز قومي، فلابد من دراسة المسألة باعتبارها قضية اجتماعية وليست سلوكاً فردياً.  

ويصدق هذا أيضاً على الشذوذ الجنسي. فالعهد القديم يحرم بوضوح العلاقات الجنسية بين أفرادٍ من نفس الجنس، ولكن مع تزايد عملية علمنة اليهودية وأعضاء الجماعات اليهودية في العصر الحديث تزايد قبول الشذوذ الجنسي باعتباره ً شيئا طبيعياً. وهذه نتيجة حتمية لغياب اليقين المعرفي والمرجعية الأخلاقية والإنسانية وإنكار أي معيارية. واليهودية الإصلاحية والمحافظة (وهما أكبر الفرق الدينية اليهودية في الغرب) لا تحرمان الشذوذ الجنسي، بل وأسست معابد يهودية ومدارس تلمودية للشواذ، ورسم بعض الشواذ كحاخامات.  

وإذا كان الاهتمام في المرحلة الأولى لبناء الدولة الصهيونية قد انصب على بناء الشخصية الإسرائيلية، القتالية والمنتجة، وسادت معايير مثل التقشف والتضحية بالذات والإحساس بالجماعة، فقد تغير الوضع بعد عام ١٩٦٧ ،حيث دخل المجتمع الصهيوني المرحلة الاستهلاكية وتزايد التوجه نحو اللذة والفردية، وتبدلت المعايير السائدة. فبدلاً من إرجاء الإشباع ظهرت ضرورة الإشباع الفوري، وبدلاً من الإحساس بالانتماء للجماعة ظهرت عقلية الأنا، وبدلاً من اليقين الصهيوني سادت القيم النسبية. وعادةً ما يصاحب مثل هذا التغير تقبل تدريجي لكل شيء بما في ذلك الشذوذ الجنسي.  

وقد تأسست جماعة للشواذ جنسياً تُسمى "جماعة الدفاع عن الحقوق الشخصية" عام ١٩٧٥ على يد بعض المهاجرين من الولايات المتحدة وإنجلترا. ورغم أن القانون الإسرائيلي كان يجرم العلاقات الجنسية الشاذة، فقد ظلت السلطات التنفيذية الإسرائيلية تتسامح مع مثل هذه العلاقات. وفي عام ١٩٨٨ ،ألغى الكنيست القانون الذي يجرم الشذوذ الجنسي، ومنذ ذلك الحين، ظهرت عدة مجلات بالعبرية والإنجليزية للشواذ في إسرائيل. وفي يونيو /حزيران ١٩٩١ ،عُقد في تل أبيب المؤتمر الدولي الثالث للشواذ جنسياً من الذكور والإناث والمتحولين إلى الجنس الآخر. وفي عام ١٩٩٢ ،أصدر الكنيست قانوناً يحرم التمييز على أساس الميول الجنسية وإن كان لا يعفي الشواذ من الخدمة العسكرية بل يكتفي بنقلهم إلى مواقع غير مهمة أمنياً. وفي العام التالي، ألغى الجيش الإسرائيلي كل القوانين التي تميز ضد الشواذ. وفي عام ١٩٩٤ ،أصدرت المحكمة العليا قراراً يلزم شركة العال بمعاملة رفيق الشاذ جنسياً معاملة الزوج أو الزوجة العاديين. وفي نهاية الأمر اعترفت المحاكم الإسرائيلية بحق الشاذ في العيش مع شريك من نفس الجنس، والاعتراف به زوجاً أمام القانون.  

ومن المفارقات أن المعارضة الدينية كانت من أهم الأسباب التي أدت إلى تزايد تقبل المجتمع الإسرائيلي للشذوذ الجنسي، فتصاعد الاعتراض الديني يقابله تصاعد تأييد العلمانيين كرد فعل، وبهذا المعنى فإن تزايد تقبل الشذوذ هو تعبير عن احتدام الاستقطاب الديني العلماني.  

  • الخميس PM 04:00
    2022-08-18
  • 807
Powered by: GateGold