وأما نحن في هذا المقام فقد بينا. أنه لو خلق ألفاظا دالة على الطلب وألفاظا دالة على الحكم والإسناد , فلا بد من مدلولات لتلك الألفاظ ومفهومات وبينا:
أن الألفاظ الدالة على الطلب لا يمكن أن يكون مدلولها الإرادة , والألفاظ الدالة على الخبر لا يمكن أن يكون مدلولها العلم , فلا بد من صفات أخرى قائمة بذات الله تعالى , تكون تلك الصفات مدلولة الألفاظ الدالة على الطلب , و الألفاظ الدالة على الخبر , وتلك المدلولات يمتنع كونها مباينة عن ذات الله تعالى , بل يجب كونها قائمة بذات الله تعالى.
فالذي يقوله المعتزلة من أنه يجوز أن يكون الحي متكلما بكلام قائم بالغير حق وصدق. والذي يقوله أصحابنا من أنه يمتنع ان يكون الحي متكلما بكلام قائم بالغير: حق وصدق ز إلا أن الكلام الذي يشير إليه المعتزلة له معنى , والكلام الذي يشير إليه أصحابنا له معنى آخر.
والفريقان لما لم يشتغلوا بتخليص محل النزاع , لا جرم خفيت هذه المباحث والمطالب.
وأما المقام الرابع: وهو أن كلام الله تعالى واحد , ومع كونه واحدا , فهو امر ونهي وخبر. فتحقيق الكلام فيه يرجع إلى عرف واحد , وهو أن الكلام كله حير لأن الأمر عبارة عن تعريف الغير أنه لو فعله , لصار مستحقا للمدح , ولو تركه لصار مستحقا للذم. وكذا القول في النهي. وإذا كان المرجع بالكل إلى شيء واحد , وهو الحبر و صح قولنا: إن كلام الله تعالى واحد.
واحتج القائلون بحدوث كلام الله تعالى بالمنقول والمعقول:) 1) أما الشبه النقلية فمن وجوه:
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(1) نص خطاب أمير المؤمنين (( المأمون )) رضي الله عنه إلى (( اسحاق بن ابراهيم )) هو )) أما بعد )) .
فإن حق الله على أئمة المسلمين وخلفائهم: الاجتهاد في إقامة دين الله الذي استحفظهم ومواريث النبوة التي أورثهم , وأثر العلم الذي استودعهم , والعمل بالحق في رعيتهم , والتشمير لطاعة الله فيهم. والله يسأل امير المؤمنين أن يوفقه لعزيمة الرشد وصريمته, والاقساط فيما ولاه الله من رعيته ــــ برحمته ومنته.
وقد عرف أمير المؤمنين ان الجمهور الأعظم والسواد الأكبر من حشو الرعية , وسفلة العامة , ممن لا نظر له , ولا رؤية ولا استدلال له بدلالة الله وهدايته , والاستضاء بنور العلم وبرهانه في جميع الأقطار والآفاق , أهل جهالة بالله , وعمى عنه , وضلالة عن حقيقة دينه وتوحيده, والإيمان به, ونكوب عن واضحات أعلامه وواجب سبيله وقصور ان يقدروا الله حق قدره , ويعرفوه كنه معرفته , ويفرقون بينه وبين خلقه: لضعف آرائهم ونقص عقولهم وجفائهم عن التفكير والتذكر.
وذلك أنهم ساووا بين الله تبارك وتعالى وبين ما أنزل من القرآن فاطبقوا مجتمعين , واتفقوا غير متعاجين على أنه قديم أول, لم يخلفه الله ويحدثه ويخترعه. وقد قال عز وجل في محكم كتابه , الذي جعله لما في الصدور شفاء وللمؤمنين رحمة وهدى: { إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا } [الزخرف: 3]
فكل ما جعله الله فقد خلقه , وقال: { الحمد لله الذي خلق السموات والأرض وجعل الظلمات والنور } . وقال عز وجل { كذلك نقص عليك من أنباء ما قد سبق } فأخبر أنه قصص لأمور أحدثه بعدها وتلا به متقدما , وقال: { ألر كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير } .وكل محكم مفصل فله محكم مفصل.
ولله محكم كتابه ومفصله فهو خالقه ومبتدعه.
ثم هم الذين جادلوا بالباطل. فدعوا إلى قولهم ونسبوا ا، أنفسهم إلى السنة. وفي كل فصل من كتاب الله قصص من تلاوته , مبطل قولهم. ومكذب دعواهم , يرد عليهم قولهم ونحلتهم. ثم أظهروا مع ذلك أنهم أهل الحق والدين والجماعة , وأن من سواهم أهل الباطل و الكفر والفرقة فاستطاعوا بذلك على الناس وغرو به الجهال , حتى مال قوم من أهل السمت الكاذب. والتخشع لغبر الله , والتقشف لغير الدين , إلى موافقتهم عليه , ومواطأتهم على سيء آرائهم , تزينا بذلك عندهم , وتصنعنا للرياسة والعدالة فيهم. فتركوا الحق إلى باطلهم واتخذوا دون الله وليجة إلى ضلالهم.
@