آثار و أسباب جناية المعتزلة على العقل و الشرع - مشروع الحصن ll للدفاع عن الإسلام والحوار مع الأديان والرد على الشبهات المثارة ll lightnews-vII

المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 441855
يتصفح الموقع حاليا : 305

البحث

البحث

عرض المادة

آثار و أسباب جناية المعتزلة على العقل و الشرع

نُفرد هذا الفصل لتتبع و رصد آثار جناية المعتزلة على العقل و الشرع في مختلف الجوانب الفكرية التي خاضوا فيها أولا ؛ ثم البحث عن الأسباب العميقة التي أوصلتهم إلى ارتكاب جنايات كثيرة في حق العقل و الوحي ثانيا . ثم بعد ذلك أذكر طائفة من الاعتراضات و المواقف على ما ذكرناه و قررناه في حق المعتزلة، ثم أُعقّب عليها بردود مُركزة ، و بالله التوفيق .

أولا: آثار واستنتاجات من جناية المعتزلة على العقل و الشرع :

   تبين من كتابنا هذا أن جنايات المعتزلة على العقل و الوحي كانت جسيمة ، و متنوعة ، و كثيرة . فما هي أهم الآثار التي ترتبت عن ذلك ؟، و ما هي أهم الاستنتاجات التي يُمكن الخروج بها من عرضنا لتلك الجنايات ؟ .  

     أولا إنه إذا كان تبين بالأدلة القاطعة أن المعتزلة ارتكبوا جرائم في حق العقل و الشرع ، فإنهم في الحقيقة قد جنوا على أنفسهم أولا ، و ذهبوا ضحيتها ،و أفسدوا بها أفكارهم و سلوكياتهم ثانيا . و أدخلوا عقولهم في محنة كبيرة لم يقدروا على الخروج منها ، فأرهقتهم و أرقتهم ، و أوردتهم المهالك و أذهبت جهودهم و أوقاتهم عبثا.

 

  و من مظاهر تلك المحنة أن العقل المعتزلي أصبح متناقضا مع نفسه ؛

فيقول عن نفسه مثلا : إنه مسلم يتبع الشرع ، ثم يعود و يُخالفه ويتقدم عليه . و يُظهر أنه يُثبت الصفات ، ثم ينفي معانيها ، و يجعلها مجرد ألفاظ جوفاء . و هذا تناقض صريح، لأنه يجمع بين إثبات صفات محددة ثم  نفيها في نفس الوقت  . و هذا موقف ظاهر البطلان ،و تصوّره يكفي وحده لإبطاله .

    و من تلك المظاهر أيضا أنه تبين أن قول المعتزلة بالتوحيد ، ثم نفي الصفات عن الله تعالى يُوصلهم بالضرورة إلى تشبيهه بالمعدومات من جهة ، و نفي وجوده من جهة أخرى . لأن الكائن الذي لا صفة له يعني أنه غير موجود ، لأن الموجود لابد له من صفات ، و إلا فهو غير موجود .

     و منها إنهم قالوا : إن الله موجود متصف بصفات كالقدرة و الحياة ، و العلم ؛  ثم قالوا: إنه ليس له مكان ، و لا هو مُتحرك ولا ساكن . و هذا مخالف للعقل و الشرع معا . لأن الموجود الذي لا مكان له ، و لا هو متحرك و لا ساكن يعني أنه غير موجود من جهة ، و لا يُمكن تصوّره عقليا من جهة أخرى . فواضح من ذلك أن المعتزلة أدخلوا عقولهم في مِحن و جنايات لا مخرج لهم منها إلا من خارج مذهبهم . و بما أنهم أصروا على مذهبهم ، فقد وجدوا أنفسهم في محنة مع العقل و الشرع و العلم في أكثر أصولهم .  

 

   و ثانيا لقد تبين بالأدلة الدامغة أن المعتزلة كانوا خصوما للعقل الصريح، و الشرع الصحيح و العلم الصحيح ، أكثر مما كانوا مُنتصرين لهم بفارق كبير، و هذه هي مأساة المعتزلة مع أنفسهم و مذهبهم . إنهم تحدثوا بالعقل ضد العقل، و تكلموا بالشرع ضد الشرع . و تظاهروا بالعقل انتصارا لآرائهم و أهوائهم و ظنونهم ،و ليس انتصارا له و لا للشرع . فغلوهم في العقل لم يكن من أجله ،و لا بأمره ، و إنما كان  من أجل مذهبهم على حساب حقائق العقل و الوحي . إنهم في الحقيقة قاموا بعملية اغتيال و استحواذ و مصادرة للعقل و الشرع معا.

 

    و ثالثا فقد اتضح جليا أن المعتزلة أظهروا حِرصين متناقضين : الأول إظهار حرصهم على التوحيد حتى تسموا به ، و الثاني حرصهم على مخالفة التوحيد الشرعي !! . فنقضوا توحيدهم الأول ، و وقعوا في الشرك الذي فروا منه بقصد أو بغير قصد . فقالوا : إن البشر يخلقون أفعالهم ، فجعلوا الإنسان خالقا ، و الله تعالى يقول : {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ }الزمر62- ،و {قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ قُلِ اللّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُم مِّن دُونِهِ أَوْلِيَاء لاَ يَمْلِكُونَ لِأَنفُسِهِمْ نَفْعاً وَلاَ ضَرّاً قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُواْ لِلّهِ شُرَكَاء خَلَقُواْ كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ }الرعد16-. و عظموا توحيد الله و نقضوه عندما تقدموا على الله تعالى و شرعه بأهوائهم و ظنونهم و سموها عقلا ، و العقل منهم براء . و قالوا : إنهم يُنزهون الله عن النقائص فعطلوه ، و وصفوه بصفات المخلوقات و المعدومات . و قالوا : إنهم يُعضمون التوحيد و يهتمون به،  لكنهم اعترضوا على الله تعالى عندما تكلم عن نفسه بنفسه ، و وصفها بالصفات المذكورة في الشرع ، فردوها و هجموا عليها بالتأويلات الفاسدة . بمعنى أنهم قالوا له : نحن أعلم بصفاتك من علمك أنت بصفاتك . و هذا جهل كبير ، و غرور ما فوقه غرور . و هم و إن لم يقولوا ذلك صراحة ، فقد أشاروا إليه تلميحا في كثير من أقوالهم من جهة ، و طبقوه عمليا عن سبق إصرار و ترصد من جهة أخرى . 

 

   و رابعا فقد اتضح من موقف المعتزلة من الصفات الإلهية أنهم أفسدوا  مفهوم التشبيه الذي حدده الشرع و اللغة العربية الموافقة له ، و الذي قال به أهل السنة من السلف و أهل الحديث . و هو مأخوذ من قوله تعالى : {  لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ }الشورى11-. فهو تعريف يقوم على إثبات الصفات التي أثبتها الله تعالى لنفسه، مع نفي مماثلتها لصفات مخلوقاته . و هذا المعنى عبّر عنه أهل السنة بقولهم : إن التشبيه هو أن يقول المشبه: يد الله كيدي ،و وجهه كوجهي .و أما إثبات يد ليست كالأيدي  ، و سمع ليس كالأسماع ، و بصر ليس  كالأبصار ،و وجه ليس كالوجوه ، فهو إثبات لصفات ذات ليست كالذوات ، و من ثم فلا يعد هذا تشبيها ، و هو المسلك الصحيح و ما عداه فهو التعطيل المحض ، و التناقض  الذي لا يثبت لصاحبه قدم في النفي ، و لا في الإثبات[1] . فجاء هؤلاء المعتزلة و غيروا معناه ، و ألتبس الأمر على الناس فجعلوا التشبيه هو إثبات الصفات لله تعالى ، و التنزيه هو نفيها . و هذا تحريف و جريمة شرعية و علمية أفسدت المعنى ، و غيرت المفهوم، و أخلطت الأمر . فبعدما كان الناس يعرفون المشبهة بأنهم هم الذين يُشبهون الله تعالى بمخلوقاته ، أصبحوا يسمعون و يرون المعتزلة يسمون من يُخالفهم في الصفات بأنهم مُشبهة . فأصبح أهل السنة حسب زعمهم مُشبهة ، كالمشبهة المعروفين بتشبيه صفات الله بصفات مخلوقاته . و نسوا أنفسهم أنهم هم المُشبهة من جهتين : إنهم مُشبهة الأفعال ، و شبهوا خالقهم بالجماد و المعدوم في موقفهم من الحركة من جهة ، و في نفيهم للصفات ، لأن المعدوم هو الذي لاصفات له ، بحكم أنه غير موجود . فهم بموقفهم من الصفات قد جمعوا بين التشبيه و النفي و التعطيل ، و التأويل الفاسد .

 

   و تبين من موقفهم من الصفات الإلهية ، أنهم نفوها بطريقة تضليلية تلبيسية تغليطية ،و لم يُفصحوا عن موقفهم منها بطريقة واضحة لا لُبس فيها . فهم مع نفيهم لها ، و جدناهم يتظاهرون بإثبات بعضها ، و بتأويل أخرى  ، و مرة يقولون : إنها عين الذات ، و مرة أنه تعالى له صفة بلا صفة ، فهو قادر بلا قدرة ،و عالم بلا علم ، و هكذا !! .

 

  و اتضح أيضا أن المعتزلة كما أنهم خالفوا الشرع الصحيح في نفيهم للصفات التي أثبتها الله تعالى لنفسه، و لا يصح لهم الاعتراض فيها عليه، و لا رفضها و لا تحريفها ، فإنه قد أثبتنا من جهة أخرى أن المعتزلة أقاموا موقفهم من الصفات على مخالفة العقل البديهي مخالفة صريحة صارخة ، فخالفوا الوحي و العقل معا . فمن ذلك أن العقل يقول : كل موجود له صفات بالضرورة، و إلا ليس بموجود . لكن المعتزلة لم يأخذوا بهذه الحقيقة العقلية، و نفوا الصفات عن الله تعالى . و يقول العقل أيضا : إن كل موجود لابد له من مكان و جهة  حسب ذاته و إلا ليس بموجود. لكن هؤلاء لم يلتزموا بهذه القاعدة المنطقية، و نفوا عن الخالق المكان و الجهة !!. و يقول العقل: كل موجود تجوز رؤيته، و ليست مستحيلة في حقه  . لكن المعتزلة زعموا أن رؤية الله مستحيلة !! فأنكروا ذلك في حق الله تعالى دون دليل . و يقول العقل : كل كائن الحركة في حقه جائزة، و الحي أولى بالحركة من الميت . لكن هؤلاء أنكروا اتصاف الخالق بالحركة من دون دليل صحيح من الوحي و لا من العقل .

   و من ذلك أيضا فقد بينا أن المعتزلة مع تظاهرهم بالاهتمام بالتوحيد إلا أنهم أساؤوا إليه أكثر مما خدموه و التزموا به، و انحرفوا عنه انحرافا كبيرا . لأنهم تقدموا بآرائهم و أهوائهم على الله و رسوله ، و لأنهم نفوا عن الله تعالى ما أثبته لنفسه من الصفات ،و و وصفوه بصفات لم يصف بها نفسه . كزعمهم بأن معنى استوى يعني استولى . فماذا بقي لهم من التوحيد ؟،  إنه لم يبق لهم منه إلا القليل الذي صادف أهواءهم و ظنونهم ، وضاع منهم معظمه على مستوى توحيد الربوبية و الألوهية معا .

    و خامسا فقد تبين بالأدلة الدامغة أنه لا يصح وصف المعتزلة بأنهم عقلانيون احتكموا إلى العقل و أخذوا به ، و أنهم مفكرون أحرار ، و دعاة الحرية و الاستنارة .  فهذا افتراء و تحريف للحقيقة ، لأن الغالب على القوم أنهم لم يحتكموا إلى الشرع الصحيح و لا إلى العقل الصريح  ، و إنما احتكموا أساسا إلى آرائهم و أهوائهم و ظنونهم . و لم يكن عندهم من الوحي و العقل الصريح  إلا القليل ، بالمقارنة إلى ما كان عندهم من الأخطاء و المخالفات الشرعية ،و الانحرافات المنهجية . و ليست العبرة في استخدام العقل وسيلة ، فهذه ليست ميزة خاصة بهم ، و إنما هي ميزة اختص بها البشر كلهم عامة ، و أهل الفكر و العلم منهم خاصة . لأن الإنسان مُفكر بطبعه ، و جدلي بفطرته ، قال سبحانه : { الرَّحْمَنُ  عَلَّمَ الْقُرْآنَ خَلَقَ الْإِنسَانَ عَلَّمَهُ الْبَيَانَ }سورة الرحمن: 1-4- ،و{وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِن كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً }الكهف54- . و عليه لا يصح مدح المعتزلة على شقشقاتهم و جدلياتهم ، فهم في ذلك لا يختلفون عن سفاسطة اليونان  و أمثالهم من سفاسطة الأمم الأخرى .

 

     و بناءً على ذلك فإنه لا يصح تعريف المعتزلة بأنهم فرقة عقلانية . فهذا خطأ فاحش و جسيم ، و مخالف للشرع و للعقل ،و للعلم . فهو تعريف لا ينطبق عليهم ، و فيه مدح لا يستحقونه ، و لا هم مُتصفون به  .   و لهذا وجدنا الله تعالى مدح عباده المؤمنين  بأنهم أولي الألباب و العقول النيرة ، كقوله سبحانه : {أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَاباً شَدِيداً فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُوْلِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً }الطلاق10-،و {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ }يوسف111- ،و { إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ }الرعد3-. ثم وجدناه من جهة أخرى ذم الضالين على اختلاف نحلهم، و وصفهم بأنهم كالأنعام لا يعقلون و لا يفهمون ، و لا يسمعون ، و لا    ... قال سبحانه : {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً }الفرقان44-،و {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَـئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ }الأعراف179- . ولاشك أن المعتزلة لهم نصيب مما لهؤلاء الضالين بسبب ما فيهم من انحراف عن الوحي الصحيح و العقل الصريح . و عليه  فإن الذي أظهرناه في كتابنا هذا من انحرافات المعتزلة و أباطيلهم ، هو دليل قاطع على عدم عقلانيتهم ،و أن الغالب عليهم أنهم أهل أهواء و آراء و ظنون ، جنوا بها على العقل و الشرع  معا . 

    و أما بالنسبة لموقف المعتزلة من القضاء و القدر ، فقد تبين أنه موقف غير صحيح في معضمه، عندما مدحوا أنفسهم بأنهم من دعاة حرية الإنسان و قدرته على الفعل من جهة ، و عندما قالوا بخلق الإنسان لأفعاله ،و عدم دخول القبيحة منها في قضاء الله و قدرة و مشيئته من جهة ثانية، و عندما لم يُفرّقوا بين إرادة الله الكونية النافذة ، و بين إرادته الشرعية المتعلقة بأوامره و نواهيه المتعلقة بحرية الإنسان و اختياره من جهة ثالثة . 

     ففيما يخص مدحهم لأنفسهم بأنهم من دعاة حرية الإنسان و قدرته على التغيير، فهو أمر ليس خاصا بهم، و لا يصح أن ينسبوه لأنفسهم دون غيرهم . و هم قد ذكروا في كتبهم أن ملوك بني أمية هم الذين نشروا الجبر بين الناس و حَكَموهم به ، فأدى هذا إلى ظهور القدرية كرد فعل لذلك[2] . و الحقيقة هي حرية الإنسان و قدرته على الفعل أمر بديهي من بديهيات الشرع و العقل و الواقع ، و لا يُمكن أي إنسان أن ينكره بفعله و إن تظاهر أنه ينكره بلسانه . و يُقابله أيضا إثبات الجبر أيضا فهو حقيقة لا يُمكن إنكارها ، و يتمثل في جانبين أساسيين : الأول إننا خُلقنا بغير إرادة منا فنحن مُجبرون على أن نكون مخلوقين من جهة ، و مُجبورون على أن نكون مُسيرين في جانب من أنفسنا ، و أن نكون مُخيرين في جانب آخر منها . و لهذا فإن بني أمية و أتباعهم الذين اتهمهم المعتزلة بالجبر كانوا على قدم و ساق في الدعوة إلى مذهبهم،و  في محاربة خصومهم القائلين بالقدر. فالطرفان مارسا الاختيار ،و لم يمنع الجبر القائلين به من ممارسة حريتهم و اختيارهم ،و مقارعة خصومهم القائلين بالقدر ، فالكل كانوا ممارسين للقدر، و قادرين على ممارسته ، و لم يكن خاصا بالقدرية دون الجبرية .  بل و حتى كبير الجبرية الجهم بن صفوان( ت: 128 هـ) حمل السلاح ضد الأمويين و قُتل بسببه[3] ، فأين حكاية الجبر المزعومة ،و قد حمل السلاح بنفسه و اختياره، كما حمله القدرية !!.

  

   و سادسا فقد اتضح جليا أن المعتزلة انحرفوا انحرافا كبيرا عن المنهج السليم في الفهم و البحث و الاستدلال العلمي . فأوقعهم ذلك في أخطاء و انحرافات علمية كثيرة جدا . منها إنهم كانوا يفتقدون كثيرا إلى الموضوعية و الحياد العلمي في تعاملهم مع القضايا الشرعية و العقلية . فمارسوا التأويل التحريفي لنصوص الوحي عن سبق إصرار و ترصد ،و تعاملوا معها بالانتقاء و الاغفال ، و عدم جمع نصوص الموضوع الواحد ، فعلوا ذلك حسب أهوائهم و مذهبيتهم . فكان الغالب عليهم أنهم يقُررون أصولهم أولا ، ثم يبحثون لها عن النصوص التي تُدعمها ، و إلا حرّفوها أو تركوها وراء ظهورهم . و كثيرا ما استخدموا التغليط و التلبيس و التعمية انتصارا لأرائهم و أهوائهم على حساب حقائق الشرع و العقل . و هذا ليس من أخلاقيات و لا أبجديات الاستدلال العلمي في شيئ ، و لا هو من شيم العلماء المخلصين النُزهاء، و إنما هو من سلوكيات الانتهازيين و أهل الأهواء . 

 

    و منها أنه تبين أن المعتزلة بالغوا كثيرا في التدقيق في باطل الكلام و فاسده ، أكثر مما دققوا في صحيح الكلام و مفيده . فكان تدقيقهم الكلامي ضرره أكثر من نفعه، و انحرافه و باطله أكثر من صوابه و استقامته . و هذا انحراف خطير و كبير عن المنهج السليم في الفهم و البحث و الاستدلال . و قد أخذ منهم جهودا و أوقاتا كثيرة جدا انقلبت عليهم سلبا، كان من الأولى و من الواجب أن تُصرف في مجال آخر مفيد على أساس من الوحي الصحيح ،و العقل الصريح ،و العلم الصحيح.

 

  و منها أنه لم يكن  للمعتزلة منهج نقدي يتعلق بالروايات الحديثية و التاريخية ، و إنما تعاملوا معها حسب مصالحهم  من دون تحقيق لها تضعيفا و لا تصحيحا . فالقوم ليسوا أصحاب نقد و لا تمحيص للأخبار إسنادا و لا متنا . و هذا انحراف كبير عن الشرع و العقل معا، لأن كلا منهما يأمر بالتثبت و التمحيص ، و الاعتماد على صحيح الأخبار دون ضعيفها . و أما لماذا لم يكونوا أصحاب منهج لنقد الأخبار و تمحيصها ؟، فالجواب واضح، إنه لم يكن في صالحهم البحث عنه و الأخذ به، و تطبيقه على معظم مروياتهم ، و هذا ينطبق عليهم و على كل الفرق الأخرى التي على شاكلتهم من السبئية ، و الشيعة ، و القدرية و غيرهم. فهؤلاء لو فعلوا ذلك لانهارت مذاهبهم كلها ، و لم تقم لها قائمة . و هل يُعقل أن قوما يتعمدون مخالفة الشرع و العقل ،و يختلقون الروايات لتأييد مذاهبهم، ثم همبعد ذلك يتبنون منهجا نقديا لتمحيص أخبارهم و مروياتهم ؟؟!!. كلا إنهم لن يفعلوا ذلك ، و هذا الذي حدث فعلا و حقيقة في الواقع . فالتاريخ المتواتر يشهد على أن الذين كانوا أصحاب منهج نقدي لتمحيص صحيح الأخبار من سقيمها هم أهل السنة فقط ،و على يدهم نشأ و اكتمل علم الجرح و التعديل . و أما أهل الأهواء و الظنون من المعتزلة و الشيعة و أمثالهم فلم يفعلوا ذلك، لأنه ليس في صالحهم أن يفعلوه .

        

     و منها فقد اتضح أن المعتزلة توسعوا في مباحثهم و أصولهم الكلامية منذ نشأتهم في الربع الأول من القرن الثاني الهجري إلى زمن القاضي عبد الجبار(ق: 5 هـ) الذي أعطى لمذهب المعتزلة دفعا قويا، و لعله بلغ أوج نموه على يده . لكن توسعهم هذا ما زادهم إلا انحرافا و بعدا و تعميقا و تكريسا لأباطيلهم و انحرافاتهم المنهجية ، و لم يُرجعهم إلى حقائق الشرع و العقل و العلم التي خالفوها. و عليه لا يصح مدحهم على تلك الأعمال التي قاموا بها انتصارا لمذهبهم . فكان كلامهم السقيم أكثر من كلامهم الصحيح  . و مثال ذلك فعلى الرغم من كثرة ما كتبوه في الدفاع عن مذهبهم وجدنا كبار علماء متأخريهم كالقاضي عبد الجبار ، و الحاكم الجشمي و الزمخشري باقين على انحرافاتهم ، و توسعوا فيها دفاعا عنها ، و لم يقدروا على تجنيب مذهبهم أخطاءه و انحرافاته و انزلاقاته التي انطلق منها و استمرت معه إلى زمانهم ، مع وضوح مخالفاتها للشرع و العقل . و لعل هذا من أحد وجوه مأساة الفكر الاعتزالي . فلم يستطع نقد ذاته و تقويمها ، و لا استفاد من انتقادات مخالفيه له لتصحيح منهجه و فكره .

 

    و منها أن من انحرافاتهم المنهجية أنهم كما خالفوا الشرع و العقل في تقديم آرائهم و أهوائهم على الوحي و المنطق السليم ، و نفوا الصفات الإلهية و تكلموا فيها بلا علم، و ضيعوا أوقاتهم و جهودهم فيما ضرره أكثر من نفعه ؛ فإنهم من جهة أخرى أهملوا دعوة الشرع إلى التفرغ لعبادة الله و عمارة الدنيا ،و ممارسة المنهج التجريبي في العلوم الطبيعية و الإنسانية ، منها قوله سبحانه : {وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالْنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالْنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ }النحل12 -،{قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذَّبِينَ }آل عمران137-،و{قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }العنكبوت20-. فواضح من ذلك أن هؤلاء المعتزلة تركوا ما أُمروا به ، و ما هو جاهز لهم ، و اشتغلوا بما لم يُؤمروا به ، و بالغوا فيه مبالغة شديدة أخرجتهم عن المنهج الصحيح . فلا هم اهتموا بالتوحيد الصحيح القائم على الشرع و العقل، و لا هم تفرّغوا للعلوم التجريبية و عمارة الأرض على أساس من عبودية الإنسان لخالقه .

 

   و سابعا فقد تبين بالأدلة القاطعة أن فكر المعتزلة  هو فكر هزيل من جهة المضمون ، فهو كثير الأخطاء و الانحرافات و السلبيات و قليل الصواب و الايجابيات  .و كثير الكلام و الشقشقات و المغالطات ،و قليل العلم . و كثير الشكوك و الشبهات ،و قليل اليقين و الحقائق . و كثير المخالفة للوحي و العقل ، و قليل الموافقة لهما و الالتزام بهما . و كثير المزاعم و التعالم و الغرور ، و قليل التواضع و الاعتراف بمحدودية العقل .

    فحقيقة مذهب المعتزلة أن أغلبه مجرد كلام و شقشقات و سفسطات ،و أهواء و آراء و ظنون و أباطيل . و لهذا فإن المعتزلة هم بحق من سفاسطة الفكر الإسلامي ، أكثر مما هم من علمائه و محققيه و ممثليه الحقيقيين . فهم لا يُمثلون الفكر الإسلامي الصحيح إلا بجانب صغير منه . و هؤلاء قد امتهنوا الجدل و المناظرة ، و كانوا شغوفين بالكلام . و الشاهد على قولنا هذا ما سبق أن ذكرناه من أحوالهم ، و ما أشار إليه القاضي عبد الجبار من أن المعتزلة و أمثالهم من المتكلمين كانوا يفعلون ذلك[4] .

     و اتضح أن الاعتزال هو مذهب يفتقد في معظم أصوله إلى شرعية الوحي الصحيح و العقل الصريح .  فلا شرعية له في تقديم آراء أتباعه و أهوائهم على الشرع و العقل. و لا شرعية له في نفيه للصفات الإلهية ، و لا شرعية له في تبنيه للتأويل التحريفي  و ممارسته في تعامله مع النصوص الشرعية .

 

    و من ذلك أيضا أن المعتزلة افتروا بمذهبهم على العقل باسم العقل ،وحرّفوا الشرع و اعتدوا عليه باسم العقل و الشرع . و سخّروا العقل و الوحي لخدمة أنفسهم و مذهبهم . و نصّبوا أنفسهم دعاة للعقل و حماة له ، و هم في الحقيقة من ألد خصوم العقل و الوحي من حيث يدرون أو لا يدرون ، فهذه هي الحقيقة، و نواياهم الله تعالى أعلم بها !!! . و من غرائبهم مع الشرع أنهم جمعوا بين التظاهر على الحرص و الغيرة عليه من جهة[5] ، و الاجتهاد في تحريفه و إفساده بتأويلاتهم التحريفية ، و تقديم آرائهم و أهوائهم عليه من جهة أخرى  !! .

 

    و ثامنا فقد تبين أن المعتزلة أخذوا أصولهم المذهبية من مجتمعهم الذي ظهروا فيه . فمن الثابت تاريخيا أنهم ظهروا في زمن احتدم فيه الصراع بين الجبريين و القدريين و الجهميين في مطلع القرن الثاني الهجري[6]. فأخذوا بالتأويل الفاسد للنصوص الشرعية ، لأنهم وجدوه مُستعملا لدي كل فرقة من تلك الفرق . لأن كلا منها وجد في هذا التأويل منهجه المفضل لتبرير مواقفه و انحرافاته عن الشرع . و قالوا بتقديم آرائهم و أهوائهم على الشرع ، لأنهم وجدوه مُطبقا لدى تلك الفرق ، لأن كلا منها قد تبنى مذهبه انطلاقا من مصالحه و ظنونه و ظروفه أولا، ثم بحث له عن مبررات من الشرع باستخدام التأويل التحريفي ثانيا . و قالوا بنفي الصفات الإلهية ، و قد وجدوه عند الجهمية . و قالوا بموقفهم من القضاء و القدر و المشيئة الإلهية ، و قد وجدوه عند القدرية. فأخذ المعتزلة هذه الأصول و بنوا عليها مذهبهم ، ثم صاغوه و صبغوه بأسلوبهم و خصائصهم ، و زادوا فيه أفكارا أخرى . فمعظم أصول المعتزلة ليست من عندهم، و إنما هي مأخوذة من تلك الفرق التي ذكرناها . فهي أصول باطلة أصلا عند أصحابها ، فجمعها المعتزلة في مذهب واحد، كونوا بها مذهبا فاسدا في معظم أصوله !! .  

 

  و من تلك الأرضية ظهرت معهم نزعتهم العلمانية ، فهي نزعة أقاموها على تقديم آرائهم و أهوائهم و ظنونهم على الشرع أولا . و استخدموا التأويل الفاسد لتحريف النصوص و جعلها تخدم نزعتهم العلمانية ثانيا. و أبعدوا الوحي من أن يتولى هو أولا صياغة أفكارهم و ما يترتب عنها من سلوكيات ، و جعلوا آراءهم و أهواءهم هي التي تسبق الشرع في صياغة مذهبهم و ما يترتب عنه من أعمال في الواقع. و هذه العلمانية التي تبنوها لم تكن خاصة بهم فقط، و إنما كانت مُجزأة  عند الفرق المنحرفة التي تأثر بها المعتزلة ؛ فجمعوها و كونوا مذهبا علمانيا بدرجة أكبر مما كانت عليه عند تلك الفرق . فمذهب المعتزلة هو في أساسه  مذهب علماني مُتدثر بالدين . لأن أي مذهب يُقدم آراءه و ظنونه و أهواءه على دين الله تعالى ، ثم يتسلط عليه بالتأويلات الفاسدة ، فهو مذهب علماني سواء أقر بذلك أتباعه أم لم يُقروا بذلك، و سواء قصدوا ذلك أم لم يقصدوه !! . لأن النتيجة في النهاية واحده ، هي تقدم الإنسان على خالقه و تعطيل شرعه ، و هذه جريمة كبرى شرعا و عقلا.

 

  و أخيرا كانت تلك الاستنتاجات و الآثار هي من أهم السلبيات و الأخطاء و الانحرافات المنهجية التي جنى بها المعتزلة على الشرع و العقل . لكن هذا لا يعني أن القوم لا صواب و لا إيجابيات لهم ، و إنما كتابنا هذا موضوعه جنايات المعتزلة على الوحي و الشرع ، فلابد علينا أن نركز عليها دون الصحيح من فكرهم . و عليه فإنه لا شك أنه كانت للمعتزلة جوانب صحيحة من مذهبهم ، هي بقدر ما وافقوا فيها الشرع و العقل ، كقولهم بحدوث العالم، و إقرارهم بالنبوة ،و تنزيههم للقرآن الكريم من التحريف .

 

     لكن ذلك الصواب قليل بالمقارنة إلى كثرة أخطائهم و جرائمهم و انحرافاتهم من جهة ، و أن تلك الجنايات من أخطاء و انحرافات أدت إلى تقويض مذهب المعتزلة و انهياره من جهة أخرى . فمذهبهم قد انهار و قوضّناه ،و لا يُمكن أن تقوم له قائمة عندما نقضنا قوله بتقديم العقل على الشرع ،و أبطلنا قوله بالتأويل التحريفي للنصوص الشرعية ،و بينا فساد موقفه من الصفات الإلهية في نفيه لها . فماذا بقي من مذهب المعتزلة كمذهب له أصوله و نسقه الذي يجمعه ؟؟!! ، إنه لم يبق من ذلك شيء ، و إنما بقيت بعض الأفكار الصحيحة مبعثرة هنا و هناك من دون رباط مذهبي معتزلي يجمعها !! .  فما هي الأسباب التي أوقعت المعتزلة في كل ذلك ؟؟ .

 

ثانيا: أسباب جناية المعتزلة على العقل و الشرع:

   يُمكن إرجاع أسباب كثرة انحرافات و جنايات المعتزلة على الشرع و العقل إلى أسباب مباشرة، و أخرى غير مباشرة . فالمباشرة أولها يتمثل في الظروف التي نشأ فيها مذهب المعتزلة و طبيعة نشأته . فهو في الحقيقة لم يكن مذهبا علميا أفرزته ظروف علمية ، جعلته ينشأ نشأة علمية طبيعية عادية في جو علمي بين أهل العلم  ،و إنما هو في أصله كان رد فعل من المعتزلة  لواقع اجتماعي و سياسي ومذهبي تتنازعه قضايا و أفكار متناقضة و مُتصارعة . و قد كان للعامل السياسي دور كبير في نشأة ذلك الواقع و توجيهه . و هذا قد ذكره المعتزلة في كتبهم من أن ملوك بني أمية هم الذين نشروا الجبر بين الناس و حكموهم به ، فأدى هذا إلى ظهور القدرية كرد فعل لذلك[7] . فكان ظهور مذهبهم رد فعل لتلك الظروف ، ثم تحوّل بعد ذلك إلى مذهب فكري عقدي بتفاعله مع ظروفه التي كانت سببا في ظهوره ،و بتأثره بالفرق المذهبية التي سبقته في الظهور، و ساهمت في نشأته و تكوّنه ، كالجهمية، و القدرية ،و الجبرية ،و الشيعة .

 

  و الثاني يتعلق بالنوايا ، فالظاهر من أقوال و مواقف مؤسسي مذهب المعتزلة أن نواياهم لم يكن هدفها البحث عن الموقف الصحيح -شرعا و عقلا – من القضايا الفكرية التي نتجت عن الصراعات السياسية و الاجتماعية بين الفرق المتنازعة من جهة، و بينها و بين الدولة الأموية من جهة أخرى . و إنما كانت نواياهم هي الانتصار لآرائهم بأي طريقة كانت ، و لم تكن البحث عن الموقف الصحيح من القضايا التي بحثوا فيها .

  و السبب الثالث- من الأسباب المباشرة-  يتمثل في أنه لم يكن للمعتزلة منهج صحيح في الفهم و البحث و الاستدلال،  يتعاملون به مع القضايا المُثارة في مجتمعهم . فكان لهذا العامل تأثير كبير في كثرة أخطائهم و جناياتهم و انحرافاتهم المنهجية .

 

     و من أخطر تلك الانحرافات المنهجية : موقفهم من الوحي و العقل ، فلم يضعوا أيا منهما في مكانه الصحيح من جهة ، ثم قدموا آراءهم و أهواءهم عليهما من جهة أخرى ، بدعوى تقديم العقل على الشرع، مع أن العقل الصريح من ذلك بريء ،و الشرع الصحيح له رافض . فترتب عن ذلك أن افتقد المعتزلة للمنهج الصحيح في الفهم و البحث و الاستدلال . فجعلوا الشرع وراء ظهورهم، و داسوا على عقولهم، و سخّروها لخدمة أفكارهم و أهوائهم على حساب الوحي الصحيح و العقل الصريح . فوجدناهم يُقدمون آراءهم و ظنونهم على الشرع ، ثم يهجمون عليه تحريفاً و انتقاءً و إغفالا في الأمور المخالفة لمذهبهم ، مُستخدمين في ذلك التلبيس و التغليط ، و التأويل الفاسد ،و التلاعب بالألفاظ .   

 

    و الأخير- الرابع من الأسباب المباشرة- يتمثل في أن مواقف المعتزلة من قضايا ظروفهم التي حركتهم كانت ردود فعل غير عقلانية ،و ليست صحيحة في معظم الأحيان . فكان الغالب عليهم أنهم اتخذوا منها مواقف ذاتية من دون الرغبة و الحرص على البحث عن الحكم الشرعي الصحيح من تلك القضايا المختلف فيها من جهة ، و من دون البحث عن الموقف الصحيح من الناحيتين العقلية و العلمية فيما يخص تلك القضايا من جهة أخرى . فكان همهم الأساسي هو الرد على معارضيهم و الانتصار لأفكارهم ، سواء وافقت الشرع و العقل أم لم توافقهما !! . فلم يكن فكرهم عند نشأته يبحث في أساسه عن الفهم الصحيح لتلك القضايا، و إنما كان يعمل على الانتصار لها بحق و بغير حق . و لهذا وجدناهم يُخالفون الوحي و العقل في أكثر أصولهم ، و هذا أمر سبق أن بيناه .  

 

 و أما الأسباب غير المباشرة ، فهي ذات أهمية كبرى ،و كان لها تأثير كبير و أساسي فيما حدث للمعتزلة و فكرهم ، و المُتمثلة في الأرضية الإيمانية و العلمية التي نشأ عليها مذهب المعتزلة . و قد تبين مما ذكرناه  أن مؤسسي فكر المعتزلة كواصل ابن عطاء، و عمرو بن عبيد ،و أمثالهما كانوا قليلي التقوى و الالتزام بدين الإسلام، و كثيري الغرور و التكبر ،و لم يكونوا من الراسخين في العلم منهجا ، و لا معرفة ،ولا ممارسة . فأقاموا مذهبهم على هذه الأرضية الضعيفة و المهزوزة و المنحرفة، فضلوا و أضلوا . و المسلم المخلص التقي ،و العالم بدين الإسلام لا يُمكن أن يتقدم على الشرع في أي حال من أحوال، لأن التقدم عليه هو نقض لإيمانه . قال تعالى : {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً }النساء65 -،و {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ }الحجرات1-. و من جهة أخرى لا يغيب عنه الفهم الصحيح لموضوع الصفات، و القضاء و القدر ،و الهداية و الضلال، فهي أمور واضحة في الشرع تتطلب الإخلاص والفهم الصحيح لها . فلما كان في هؤلاء المعتزلة قلة تقوى و التزام ، و ضعف إيمان و إخلاص ،و قلة علم بدين الإسلام ، جرفتهم ظروفهم التي ظهروا فيها، و تعاملوا معها بطريقة مخالفة للشرع و العقل معا في أكثر أصولهم .

 

    و ربما يرى بعض الناس أن من الأسباب الأساسية في انحراف المعتزلة و كثرة أخطائهم و جرائمهم في حق الشرع و العقل هو علم الكلام الذي تعاطوه و تعصبوا له ،و تميزوا به .

  و أقول: هذا السبب يكون صحيحا إذا نظرنا إلى علم الكلام المعتزلي على أنه علم خاص بهم ، و بنوا عليه أصولهم و فروعهم . و بمعنى آخر أنه علم كلام معتزلي و ليس هو علم الكلام مُطلقا . لأن الذي أفسد المعتزلة و مذهبهم هو الفكر الفاسد الذي آمنوا به و ضمنوه مذهبهم ،و ليس لأنهم مارسوا علم الكلام لمجرد انه كلام خاضوا به في قضايا أصول الدين و الإيمان ، و إنما أيضا لأن الغالب عليه أنه كلام فاسد مُنطلقا و منهجا و نتيجة . فعلم الكلام وسيلة يُمكن أن نُعبّر به عن مذاهب صحيحة ، و يُمكن أن نعبر به عن مذاهب فاسدة . و هو من نعم الله تعالى على عباده و بدونه لا توجد علوم ، فلا علوم دون كلام و جدال و مناظرات . فكل العلوم وُجد فيها ذلك  .

 

     و بناءً على ما ذكرناه يتبين جليا أن الذي أنشأ مذهب  المعتزلة – في معظم أصوله- و صاغه و صبغه بخصائصه ، ليس هو الشرع الصحيح ، و لا العقل الصريح، و إنما ظروفهم و آراؤهم و أهواؤهم هي التي صنعت مذهبهم و صبغته بخصائصهم : مُنطلقا و منهجا و نتيجة من جهة ؛ و هي التي كانت أسبابا فيما حدث لهم و لمذهبهم من أخطاء و انحرافات أفسدت مذهبهم و ارتكبت جنايات كثيرة في حق الشرع و العقل من جهة أخرى  .

 

ثالثا : اعتراضات و مواقف و ردود :

   نُفرد هذا المبحث لعرض طائفة من الاعتراضات و المواقف المُدافعة عن المعتزلة: جماعة و مذهبا و مكانة ، قالها بعض أهل العلم ، أو ربما يقولها بعضهم .  و سأذكرها فيما يأتي، و أعقب عليها بالردود و التعليقات المناسبة ، و بالله التوفيق .

 

  أولها مفاده أنه قد يعترض علينا بعض الناس بدعوى أننا بالغنا في انتقاد المعتزلة و تخطئتهم ،و ذمهم و إظهار انحرافاتهم ؛ مع أن الناس قد مدحوهم كثيرا قديما و حديثا ، و شهدوا لهم بالعبقرية و الإبداع .

 

  و أقول : أولا إن الحَكَم في مجال العلم ليس كثرة الناس و لا قلتهم ، و إنما الحَكَم وحده هو الدليل الصحيح من الوحي ، أو من العقل ، أو من العلم أو منها كلها . و عليه فإن ما ذكرناه في كتابنا هذا عن المعتزلة يكفي للحُكم عليهم الحُكْمَ الصحيح ، حتى و إن خالفنا في ذلك أكثر أهل العلم المهتمين بالمعتزلة .

 

   و ثانيا ليس كل الناس مدحوا المعتزلة ، فكثير من أهل العلم ردوا عليهم و انتقدوهم و حذّروا منهم قديما و حديثا . و صنف علماء أهل السنة مصنفات كثيرة ردوا فيها على المعتزلة . منها مصنفات  الأشعري ، و ابن تيمية ، و ابن قيم الجوزية .

 

    و ثالثا إن المُعجبين بالمعتزلة و المادحين لهم ليسوا صنفا واحدا : فمنهم من هو مقلد يجهل مذهبهم  لكنه سمع من يمدحهم فمدحهم عن حسن نية مع جهله بمذهبهم . و منهم من له معرفة عامة بمذهبهم و ليس له به معرفة صحيحة مفصلة ، فمدحهم على ما عرفه من بعض عموميات مذهبهم التي بدت له أنها صحيحة و حسنة. و منهم من هو على مذهبهم ، فهو ضال مثلهم ، و من الطبيعي أن يمدحهم . و منهم أعداء الإسلام من العلمانيين و الملاحدة ، و اليهود و النصارى و أمثالهم ،فهؤلاء لا يمدحونهم حبا فيهم ، و إنما يمدحونهم على انحرافهم و بعدهم عن الإسلام و تحريفهم له . فكل ما يُسيء إلى الإسلام هو في صالحهم ، وكل من يفعل ذلك فهو قريب منهم ، فيدعمونه .

 

  و الثاني مضمونه أنه ربما يعترض علينا بعض الناس فيقول : أليس للمعتزلة من فضائل فتُذكر لهم ؟؟  . فأقول : أولا إن كتابنا هذا خصصناه للجانب السلبي من فكر المعتزلة ، لذا من الطبيعي جدا ، و من المفروض علينا التركيز على سلبياتهم . و هي كثيرة جدا: مُنطلقا و منهجا و تطبيقا . لأن انحرافهم المنهجي كان كبيرا و عميقا و خطيرا أفسد عليهم دينهم من جهة ، و أورثهم أخطاء كثيرة في مختلف جوانب الدين من جهة أخرى . بحكم أن الانحراف في المنهج يُؤدي إلى كثرة الأخطاء و قلة الصواب ؛ و سلامة المنهج تُؤدي إلى كثرة الصواب ،و قلة الأخطاء و الانحرافات .

 

   و ثانيا إن أخطاء المعتزلة و انحرافاتهم لم تنحصر فيهم فقط ، و إنما انتقل كثير منها إلى غيرهم من الفرق الإسلامية  ، و إلى رجالات الفكر في العصر الحديث ، نجدها واضحة في الشيعة الإمامية ، و الخوارج ، و الأشاعرة ، و العلمانيين المعاصرين  . و هذا الأمر يتحمل المعتزلة جانبا منه و لا يصح أن يُمدحوا عليه . فقد صح عن النبي- عليه الصلاة و السلام أنه قال : « من سن في الإسلام سنة حسنة فعُمِل بها بعده كُتب له مثل أجر من عمل بها ولا ينقص من أجورهم شيء ؛ ومن سن فى الإسلام سنة سيئة فعُمل بها بعده كُتب عليه مثل وزر من عمل بها ولا ينقص من أوزارهم شيء »[8].. فالقوم َصدّروا كثيرا من انحرافاتهم و أخطائهم و أمراضهم إلى غيرهم من الفرق و الأفراد ، و هذا يُذمون به و لا يُمدحون عليه .

 

     و ثالثا إن أخطاء المعتزلة و سلبياتهم و انحرافاتهم أكثر من صوابهم و استقامتهم ، و عليه فالأصل في مذهبهم هو الانحراف و كثرة الأخطاء و ليس العكس من جهة مذهبهم ، و الذم و الانتقاد لهم كأشخاص من جهة أخرى .

   و أخيرا –رابعا -  فإنه مع ذلك فإن الذي لا شك فيه هو أن المعتزلة من أهل القبلة ، و من ثم فهم أحسن من كثير من الفرق المنحرفة المنتسبة إلى أهل القبلة ، كالقرامطة ، و الإسماعيلية ، و الدروز ، و النصيرية ، و الاثنى عشرية  . 

 

     و الموقف الثالث يتعلق بمدح المعتزلة لأنفسهم بأنهم أهل التوحيد ، و أول من دافع عن الدين ، و اتهام غيرهم بالتقاعس و طلب الدنيا . فمن ذلك أن المعتزلي أبا الحسين الخياط قال: ((" هل على الأرض أحد رد على الدهريين سوى المعتزلة كإبراهيم النظام ، وأبي الهذيل ومعمر ، والأسواري وأشباههم ؟ وهل عرف أحد صحيح التوحيد واحتج لذلك بالحجج الواضحة ، وألف فيه الكتب الواضحة ، ورد فيه على أصناف الملحدين من الدهريين والثنوية سواهم " ))[9] . و قال المُحسن الجشمي  المعتزلي : ((" ولهم الكتب المصنفة المدونة ، والأئمة المشهورة ، ولهم الرد على المخالفين من أهل الإلحاد والبدع ، ولهم المقامات المشهورة فى الذب عن الإسلام ..." ))[10] .

  و أقول: قولهما هذا فيه تغليط و تلبيس ،و حق و باطل ،و غلو و افتخار أجوف ، و فيه إغفال لما قام به غيرهم في الدفاع عن دين الإسلام  .

     أولا يجب نعلم أن الرد على المخالفين ليس أمرا جديدا ظهر على يد المعتزلة ،و لا كان خاصا بهم ،و لا مُقتصرا عليهم . فمنذ القديم كانت للفرق و أهل العلم ردود و انتقادات على بعضهم .  و عندما ظهر الإسلام رد القرآن الكريم على الكفار و المشركين في آيات كثيرة جدا . كقوله تعالى: {قَالُواْ يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتَنِا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ }هود32-،و {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ }الجاثية24-،و  {  َمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَـكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ }البقرة102-. و كذلك فعل النبي- عليه الصلاة و السلام- فقد جادل المشركين و اليهود و النصارى و رد عليهم . و قال له الله تعالى : {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ }النحل125-،و {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ }العنكبوت46-  .

 

   و عندما ظهرت الفرق الإسلامية  انتشرت بينهم الردود و المناظرات قبل أن يظهر المعتزلة . فقد ظهروا في ظرف مُتأزم مملوء بالردود و المناقشات و المناظرات بين الجبرية و القدرية و الجهمية من جهة ، و بينهم و بين الدولة الأموية من جهة أخرى . و قد سبق أن أوردنا الحوار الذي دار بين الخليفة عمر بن عبد العزيز و رأس القدرية غيلان الدمشقي .

 

   و ثانيا إن الانتصار للإسلام من خصومه و مُحرفيه ليس مقتصرا على المعتزلة و لا على أي طائفة من الطوائف . فتستطيع أي فرقة من أهل القبلة أن تدعي ذلك لنفسها انطلاقا من مذهبها الذي تبنته و دعت إليه . فالإسماعيلية مثلا عندما كونوا دولتهم في المغرب ثم في مصر و الشام يُمكنهم أن يقولوا عن أنفسهم و أعمالهم: إنهم نصروا الإسلام و المسلمين ، و حاربوا الضالين و المنحرفين .

 

   علما بأن ردود المعتزلة في الأصل هي امتداد للردود التي كانت بين الفرق الإسلامية ، فهي ليس جديدة من جهة ، و هي موجهة أولا للرد على مخالفيهم من المسلمين من جهة ثانية .

 

    و يشهد التاريخ على أن أهل السنة هم أول من انتصر للإسلام عندما تصدوا للفرق المنحرفة عن الإسلام ، كالسبئية ، و اشيعة ، و المعتزلة ، و الخوارج ،و الجهمية . فهؤلاء كانوا خطرا داهما على الإسلام و المسلمين أكثر مما كان يُشكله أهل الذمة من خطر على الإسلام و المسلمين في ذلك الزمان  . و قد طهرت ردودهم مُبكرا ، منذ القرن الأول الهجري ،و ما بعده . و قد كانت لهم مصنفات معروفة ردوا بها على الجهمية و المعتزلة ، منها الرد على الزنادقة لأحمد بن حنبل، و الحيدة لعبد العزيز الكناني، و الرد على الجهمية للبخاري، و النقض على بشر المريسي ، و الرد على الجهمية ، وهما لأبي عثمان الدارمي ،  و كتاب التوحيد لابن خزيمة، و تأويل مختلف الحديث لابن قتيبة ، و كل هذه الكتب منشورة و متداولة بين أهل العلم . فهل من يستطيع أن يُؤلف هذه الكتب و يرد بها على المعتزلة و أمثالهم هو عاجز عن الرد على أهل الذمة و غيرهم ؟؟!! . كلا و ألف كلا، فقد كانوا قادرين على الرد على أية فرقة إن هم أرادوا الرد عليها . و ليس هذا خاصا بالمعتزلة،و لا مقتصرا عليهم .

 

      و من ردود السنيين المُبكرة التي تعود إلى القرن الثاني الهجري مناظرة الإمام أبي حنيفة النعمان (ت150هـ) لبعض الزنادقة و الدهريين ، فسألوه (( عن وجود الباري تعالى فقال لهم: دعوني فإني مفكر في أمر قد أُخبرت عنه ، ذكروا لي سفينة في البحر موقرة، فيها أنواع من المتاجر وليس بها أحد يحرسها ولا يسوقها ،وهي مع ذلك تذهب وتجيء وتسير بنفسها وتخترق الأمواج العظام حتى تخلص منها وتسير حيث شاءت بنفسها من غير أن يسوقها أحد . فقالوا : هذا شيء لا يقوله عاقل!،  فقال ويحكم هذه الموجودات بما فيها من العالم العلوي والسفلي وما اشتملت عليه من الأشياء المحكمة،  ليس لها صانع فبهت القوم ورجعوا إلي الحق وأسلموا علي يديه ))[11] .

 

    علماً بأنه من المعروف أنه وُجد من علماء أهل السنة من اكتفى بالإنكار على المعتزلة وأمثالهم و لم يتوسع في الرد عليهم بدقيق الكلام ،ولم يُجادلهم فيه . و هذا ليس عجزا ، و إنما هو وسيلة من و سائل المقاومة التي استخدمها علماء السنة لعلها تردع هؤلاء عن غيهم ، و لا تزيد في انتشار مقالتهم . و إلا فإن علماء السلف كما أنهم دققوا في الفقه و التفسير و علم الحديث، و علم الميراث ، فإنهم كانوا قادرين أيضا على التدقيق في قضايا علم الكلام . فلما رأوا أن أمر هؤلاء انتشر و لم تنفع معهم الوسيلة الأولى تصدوا لهم و ردوا عليهم بالمناظرات و تأليف الكتب . و الشاهد على هذا أن الإمام أحمد بن حنبل كان من هؤلاء ، و قال  : (( كنا نسكت حتى دُفعنا إلى الكلام فتكلمنا )) ، فجاء موقفه هذا استجابة للظروف الفكرية الملحة التي عاشها أيام محنته و بعدها ، فصنّف كتابه الرد على  الزنادقة و الجهمية،و ناقش المتكلمين و ردّ على شبهاتهم ،و ناظر خالد بن خداش في مسألة القدر ، و ناظر المعتزلة –في حضرة الخليفة المعتصم- في قضية خلق القرآن و ظهر عليهم . ثم أصبح يُوجب على العلماء الرد على ما يحدث من البدع و المذاهب الفاسدة بإقامة الحجج المزيلة للشبهة الكاشفة عن غمة الضلالة ، و أصبح يُفضل الذي يتكلم في أهل البدع عن الملتزم بالعبادات الساكت عن الكلام في هؤلاء[12].

 

    و ثالثا فإن المعتزلة الذين كانت لهم ردود على مخالفيهم من الفرق الإسلامية، و على غير المسلمين فلا يفرحوا كثيرا بهذه الردود ، لأنهم قبل أن يردوا على هؤلاء ، ردوا شرع الله تعالى ، عندما قدموا آراءهم و أهواءهم على الله و رسوله ،و تسلطوا على دين الله تعالى بالتحريف و الإغفال و الانتقاء  حسب أهوائهم و ظنونهم . فكان من الأولى أن يردوا على أنفسهم أولا ، بأن يُجبروها على الالتزام بالشرع ، و عدم إتباع أهوائها. فهذا أعظم رد كان عليهم أن يقوموا به قبل أن يردوا على مخالفيهم !! لكنهم لم يفعلوه ، و أصروا على ضلالهم . و ماذا يبقى للمسلم من دين عندما يتقدم على الله و رسوله بأهوائه و ظنونه ؟؟ . أليس هذا نقض للإيمان و التوحيد ؟؟!! . فأي توحيد انتصر له المعتزلة ؟! إنهم انتصروا لتوحيد خالفوا به الوحي و العقل ،و أقاموه على أهوائهم و آرائهم !! .

 

    فترتب عن ذلك أن ردودهم على مخالفيهم جاءت ناقصة جدا ، و مملوءة بالأخطاء ، لأنهم صبغوها بمذهبهم الزائف، و خرّجوها عليه . و لهذا فإن ردودهم كثيرا ما ردت أخطاءً بأخطاء ،و انحرافات بانحرافات ، و بمعنى آخر إنها كثيرا ما ردت أباطيل مخالفيهم بأباطيل المعتزلة .

 

   و أخيرا – رابعا- إن التوحيد الذي قال المعتزلة أنهم نصروه و دافعوا عنه ، هو توحيد ناقص ،و فيه تحريف للتوحيد الإسلامي الصحيح . لأن توحيد الشرع الصحيح ، هو توحيد واضح  لا تعقيد فيه، جمع بين الإثبات و التنزيه، و نفي التشبيه و التمثيل ،و لم يكن أبدا في حاجة إلى مذهب المعتزلة . لكن هؤلاء هم الذين اعتدوا عليه أولا بتقديم  آرائهم و أهوائهم ظنونهم على الوحي الإلهي . و ثانيا بمخالفته و تقرير ما يُخالفه صراحة في موضوع الصفات الإلهية  . و ثالثا بالتسلط عليه بنفي الصفات و تأويلها تأويلا فاسدا .

 

   و ليس صحيحا أنهم هم الذين نصروا التوحيد و صنفوا فيه ، فقد سبق أن ذكرنا أن كثيرا من علماء السنة تصدوا لهم و بينوا زيف كثير من أفكارهم و بطلان منهجهم . و هذا هو الانتصار الصحيح للتوحيد  القائم على الوحي الصحيح و العقل الصريح ، و ليس توحيد المعتزلة القائم على التعطيل و التحريف ، و التلاعب بالألفاظ، و التقدم على الله و رسوله بأهواء المعتزلة و ظنونهم .

 

  و الموقف الرابع يتضمن رأيا للباحث ألبير نصري نادر مفاده أنه وصف المعتزلة بأنهم فلاسفة الإسلام الأسبقين[13] ، فهل صحيح أن المعتزلة فلاسفة الإسلام ؟! .

 

    و أقول: حسب علمي و موقفي إنه لا يصح تسمية المعتزلة بأنهم فلاسفة الإسلام ؛ و الصحيح أنهم فلاسفة المعتزلة ، و فلاسفة الاعتزال ، و فلاسفة المذهب المعتزلي، و هم أيضا فلاسفة من المتكلمين . و أما لماذا ليسوا فلاسفة الإسلام ، فكتابنا هذا هو إجابة مفصلة و رد على عدم صحة تسمية هؤلاء بذلك الاسم . إنهم قوم انحرفوا عن الإسلام منهجا و تطبيقا ، و جعلوه تابعا لأهوائهم و ظنونهم ، و حرّفوه و أفسدوه أكثر مما أفادوه  بنسبة كبيرة جدا . فقوم هذا حالهم لا يُمكن بأي حال من الأحوال أن يكونوا فلاسفة الإسلام . و من يُصر على كونهم فلاسفة الإسلام ، فهو إما جاهل لا يعي ما يقول ، و إما أنه صاحب هوى يعمل لتحقيق غايات في نفسه ، أو أنه منهم يعتقد بمذهبهم ، و من ثم فهو يُدافع عن نفسه و فكره . لكن قولي هذا لا يعني أنه لا يُمكن أن يُوجد للإسلام فلاسفة ، كما قد يتصوّر بعض الناس . بل إنه كما كان للإسلام فقهاء ، و أدباء ، و محدثون ، و مؤرخون ، و مفسرون ، فإنه يُمكن أن يكون للإسلام فلاسفة إذا وُجد فلاسفة مسلمون يلتزمون بالإسلام منهجا و تطبيقا ، قلبا وقالبا . و هذا النموذج الرفيع - مع قلته-  وُجد فعلا في تاريخنا الإسلامي ، لكنه لم يُوجد في المدرسة الاعتزالية ، و لا في الفرق المُتأثرة بها ، و لا بين الفلاسفة المسلمين ، و إنما وُجد في مدرسة أهل الحديث . و يُمكن ذكر طائفة منهم من باب التمثيل لا الحصر ، منهم : ابن شاقلا الحنبلي البغدادي ، و أبو نصر السجزي ، و ابن تيمية ، و ابن قيم الجوزية . فهؤلاء لهم مًصنفات تشهد لهم على تمكنهم من علم الكلام، و على تمسكهم بالمنهج الكلامي السليم القائم على الوحي الصحيح و العقل الصريح .

 

    و الموقف الخامس مضمونه أنه قد يتهمنا بعض أهل العلم بأننا أهملنا تميز الفكر الاعتزالي بأنه فكر حر يدعو إلى التحرر. حتى أن الباحث عادل العوا يرى أن الاعتزال هو فكر حر يتوخى الدفاع عن الدين ، و تحرير العقل الإنساني من السلطان الخارجي[14] .

 

    و أقول : الحقيقة هي أن الأمر على خلاف ما قاله الرجل ، لأن الأصل في فكر المعتزلة انه مخالف للشرع الصحيح ، و العقل الصريح ، و العلم الصحيح ، و أي فكر هذا حاله لا يُمكن أن يكون فكرا حرا ، و لا مُحررا للعقل الصريح، و لا مدافعا حقيقيا عن الوحي الصحيح، و لا العلم الصحيح . و نحن قد سبق أن أقمنا الأدلة القاطعة على فساد معظم أصول فكر المعتزلة و فروعه . و عليه أن الفكر الاعتزالي ليس مُحررا للعقل ولا للدين ، و إنما هو في غالبه أغلال و انحرافات و ظنون و أهواء ، و ظلمات و أباطيل . و هو في حقيقته  إخراج للفكر من أن يكون قائما على الوحي و العقل ، إلى أن يكون قائما على الأهواء و الظنون . فهو في غالبه قد خالف مبادئ الوحي الصحيح ، و العقل الصريح ، و كبّل نفسه بأغلال أهوائه و شياطينه ، و ظنونه و أوهامه  فهو في الحقيقة لم يتحرر و لا دعا إلى التحرر ، و لا كان فكرا حرا. و عليه إنه من الجريمة أن يوصف الفكر المعتزلي بأن من أهم خصائصه أنه فكر حر تنويري ، فهذا تخريف و تحريف ،و تغليط و افتراء ، و جريمة كبرى في حق العقل و العلم . فليس له من ذلك إلا القليل ، و الأصل أنه ليس حرا و لا عقلانيا .

 

     و الموقف السادس مفاده أن الباحث قدري حافظ طوقان مدح المعتزلة بأنهم كانوا (( دعاة عقيدة ، و قادة الحرية في الرأي ، و من أعظم المصلحين الدينيين الذين ظهروا في القرن الثاني الهجري . قالوا بسلطان العقل و آمنوا به ، فأطلقوا له العنان و جعلوه حكما في كل شيء...))[15].

 

    و أقول : كلامه هذا غير صحيح في معظمه ، و فيه غلو كبير في تعظيم المعتزلة و مدحهم و تبجيلهم ، و وصفهم بما ليس فيهم . فقد تبين بالأدلة الدامغة أن المعتزلة خالفوا الشرع و العقل و جنوا عليهما جنايات كبرى ، و لم يكونوا قادة للفكر الحر و لا للإصلاح، و إنما كانوا رجال أهواء و ظنون ،و سفاسطة في أكثر أصولهم ،و ضيعوا معظم جهودهم في التحريف و التلبيس ، و مخالفة الشرع و العقل . و تبين بالأدلة الدامغة أن معظم أصولهم لم يحتكموا فيها إلى الشرع و لا إلى العقل من جهة، و قد قام الدليل القطعي على أنهم كانوا خُصوما للعقل و الشرع في أكثر أصولهم من جهة أخرى . و نحن هنا لا نتوسع في الرد التفصيلي على مزاعم الرجل ، لأن ما ذكرناه في كتابنا هذا هو رد مُفصل و دامغ على بطلان مزاعمه .  

 

  و الموقف السابع مضمونه أن  الجاحظ يرى أنه لولا : (( الكلام لم يَقُم لله دين، ولم نبنْ من الملحدين، ولم يكن بين الباطل والحقّ فرق، ولا بين النبي والمتنبِّي فصل، ولا بانت الحُجة من الحيلة، والدليل من الشُّبهة.
ثم لصناعة الكلام مع ذلك فضيلةٌ على كلِّ صناعة، ومزيّةٌ على كل أدب. ولذلك جعلوا الكلام عياراً على كلِّ نظر، وزماماً على كلِّ قياس. وإنما جعلوا له الأمور وخصُّوه بالفضيلة لحاجة كلِّ عالم إليه، وعدم استغنائه عنه ))[16] .

    و أقول : واضح من كلامه أنه يقصد كلام المعتزلة أساساً ، و هو قول باطل في معظمه ، و فيه تحريف و غلو ،و تغليط و تلبيس. لأنه أولا إن ما ذكرناه في كتابنا هذا في نقد فكر المعتزلة هو دليل قاطع على بطلان مزاعم الرجل التي وردت في كلامه هذا . و دين الله تعالى يحمل قوته و براهينه و آياته من داخله، و لا يحتاج أبدا إلى كلام المعتزلة ليُقيم نفسه ،ولا ليرد على خصومه . و الشاهد القاطع على ذلك أن دين الإسلام انتصر على خصومه من المشركين ، و أهل الكتاب و الدهريين و غيرهم من أهل الكفر ، و رد على شبهاتهم و مفترياتهم قبل أن يظهر المعتزلة ، و ظل كذلك حتى بعد ظهورهم . و ما يزال كذلك إلى يومنا هذا من دون أن يحتاج إلى كلمة واحدة من مذهب المعتزلة ، بل هو أول من ينقض مذهبهم ، فكيف يُقال أنه يحتاج إلى مذهب المعتزلة ؟؟!!. فهاهي حُجج القرآن و معجزاته و براهينه ما تزال قائمة ترُد على كل كافر و ملحد و ضال ، و لن يستطيع أحد منهم أن يرد حججه بالعقل ، و لا بالعلم ، و إنما قد يُرد عليه بالتعصب و الجحود و الهوى . و هذه الوسائل ليست علما و لا براهين، و إنما هي أهواء و ظنون و أباطيل من جهة ، و هي من وسائل الضعفاء و الفاشلين و المهزومين المتعصبين الذين ينكرون حقائق الشرع بأهوائهم و ظنونهم من جهة أخرى.

  و ثانيا إن الحق قد بان و تميز عن الباطل منذ أن ظهر الإسلام ، قال سبحانه : {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ }البقرة256-،و {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءكُم بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُوراً مُّبِيناً }النساء174-،و {قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَـذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً }الإسراء:88 - .  و قد أقام الشرع الأدلة القاطعة التي تبين الفرق النبي و المتنبي ،و عرف الناس ذلك قبل المعتزلة . و واضح من قوله أيضا أن زعمه هذا فيه طعن في الشرع أولا ، و في الصحابة و التابعين و كل المسلمين قبل ظهور المعتزلة ثانيا . لأنه يعني أن الأمة كانت في جهل و ظلام ،و لا علم لها بدينها ، و لا تستطيع الدفاع عنه ، و أن العقل المسلم كان متوقفا عن العمل و العطاء ، و الاجتهاد في معرفة الشرع و العلوم الأخرى ، حتى جاء المعتزلة بكلامهم و بينوا كل ذلك للمسلمين !! . و كل هذه مزاعم باطلة جملة و تفصيلا .

     و أخيرا- ثالثا- إن علم أصول الدين الصحيح موجود في الشرع واضح معروف ، لم يكن في حاجة أبدا إلى كلام المعتزلة و أباطيلهم و هذياناتهم ، و لا كان الناس في حاجة إليهم و لا إلى مذهبهم . و إنما هم الذي انحرفوا عن أصول الدين الشرعية ، و التي كانت معروفة للأمة ، فجاء هؤلاء و أخذوا أباطيلهم و ضلالاتهم عن إخوانهم من الفرق الضالة ، كالجهمية ،و  القدرية ،و الجبرية ، و أضافوا إليها أباطيلهم و سموها مذهب المعتزلة .  فأفسدوا بذلك الدين الصحيح  و العقل الصريح، و أدخلوا نفوسهم و أتباعهم في فتن و انحرافات و تناقضات لا مخرج لهم منها . و هذا أمر سبق أن ناقشناه و بيناه فلا نعيده هنا .

    و ليس صحيحا أن كل عالم يحتاج إلى علم الكلام و لا يستغني عنه ، فهذا زعم باطل و مُضحك . لأن علم أصول الدين واضح موجود في الشرع في أبهى صورة ، و لا يحتاج أبدا إلى علم الكلام المعتزلي . و قد عرف الصحابة و التابعون علم أصول الدين قبل ظهور ذلك الكلام و أهله ، و قد أنكر عليهم علماء السلف و أهل الحديث ما هم فيه من ممارسة للكلام الباطل، و ردوا عليهم من دون أن يحتاجوا إلى كلامهم[17]. لأن علم أصول الدين و كل العلوم لا تحتاج أبدا إلى كلام المعتزلة ،و لا لكلام أمثالهم . فعجبا من هذا الرجل ، فلا أدري هل أنه لا يعي ما يقول ، أو أنه قال تلك الأباطيل لغايات في نفسه ؟؟!! . و عليه فإن كلام المعتزلة هو كالمنطق الصوري الأرسطي ، لا يحتاج إليه الذكي، و لا ينتفع به الغبي، و ضرره أكثر من نفعه بفارق كير جدا ، و من لا يطلبه يربح كثيرا ،و لا يخسر شيئا  .

    و الموقف الثامن هو أيضا للجاحظ مفاده أنه قال في رسالته إلى صاحبه محمد بن أحمد بن أبي دُؤاد : ((وأحييتم السُّنَّة، وأبرزتم التوحيد بعد اكتتامه، وأظهرتموه بعد استخفائه ... ))[18] .

   و أقول: قوله هذا ظاهر البطلان ، و لا نتوسع في رده و إبطاله هنا ، لأنه سبق أن بيناه في نقدنا لمذهب المعتزلة . لكن الذي أقوله هنا هو أن المعتزلة يمدحون أنفسهم بما ليس فيهم من جهة ، و يُبجلونها بأخطائهم و أباطيلهم من جهة أخرى . فليس صحيحا أن المعتزلة أحيوا السنة النبوية الصحيحة الموافقة للقرآن الكريم، و إنما هم في الغالب أحيوا سنة المنحرفين أمثالهم من القدرية، و الجبرية ،و الجهمية ، و الشيعة . و ليس صحيحا أن التوحيد الشرعي كان مُكتتما و مُستخفيا فأظهره المعتزلة ، فهذا تحريف و افتراء مفضوحين . و إنما الصحيح خلاف ذلك تماما ، هو أن المعتزلة هم الذين عملوا على تحريف توحيد دين الإسلام و طمسه بمنهجهم الفاسد . فالحقيقة هي أن المعتزلة كانوا حربا على التوحيد الصحيح : قرآنا و سنة ، و كانوا دعاة للتعطيل و النفي ، و التأويل الفاسد . و حاربوا التوحيد الصحيح و نصروا توحيد الجهمية و المعطلة و النفاة .

    و الموقف التاسع يتضمن تساؤلا مؤداه : لماذا اهتم العلمانيون و أمثالهم بالمعتزلة ، مع أنه يُوجد فيهم تدين و اهتمام بالدين ،و قد سموا أنفسهم بأهل التوحيد ، و العلمانيون و إخوانهم يرفضون الدين عامة و الإسلام خاصة  ؟؟!! .

    و أقول: إن هؤلاء اهتموا بالمعتزلة و مجدوهم ، و غالوا في فكرهم، بسبب ما كانوا عليه من انحراف كبير في موقفهم من العقل و الشرع معا ، و ما ترتب عن ذلك من نتائج خطيرة و مُحرفة لدين الإسلام . ثم هم الآن لم يأخذوا من المعتزلة تدينهم و لا اهتموا بهم لذلك ، و إنما اهتموا بهم بسب منهجهم لأنه في صميمه منهج علماني موافق لعلمانيتهم من حيث الأصل ، كما سبق أن بيناه . فهؤلاء العلمانيون فعلوا ذلك  ليتقووا به ، و يستخدمونه وسيلة لتحريف الإسلام ،و للدعوة لعلمانيتهم من خلال الاهتمام بالمعتزلة و مذهبهم . فهو اهتمام بالماضي من أجل مصالحهم في الحاضر و المستقبل .

    و من جهة أخرى فأنه من الطبيعي أن يقف أعداء الإسلام من أهل الكتاب و العلمانيين و أمثالهم بجانب الفرق الإسلامية المنحرفة عن الشرع ، لأمرين أساسيين: الأول هو أن كل مذهب و فكر يعمل على إفساد دين الإسلام ، فإن هؤلاء يُؤيدونه و يمدحونه ، لأنه في النهاية يصب في تيارهم و موقفهم الرافض و المعادي لدين الإسلام. و الأمر الثاني هو أن الكافرين بدين الإسلام يرون و يحسون أن الفَرق الإسلامية المنحرفة عن دين الإسلام هي قريبة منهم وجدانيا ، لأن كل من يعمل على إفساد و تحريف دين الإسلام بقصد أو بغير قصد ، فهو أقرب إليهم فكرا و وجدانا من أهل السنة الذين هم المُمثلون الحقيقيون لدين الإسلام القائم على القرآن الكريم و السنة النبوية الصحيحة الموافقة له . لأن الفرق الأخرى لم تُقم مذهبها على القرآن الكريم و السنة الصحيحة الموافقة له، و إنما قدّمت عليهما آراءها و أهواءها ،و رواياتها ،و أقاويل شيوخها ، ثم أقامت عليها مذاهبها من جهة ، ثم تسلطت على الوحي الصحيح تحريفا و إغفالا و انتقاءً حسب مذاهبها من جهة أخرى . و هذا الانحراف وقعت فيه كل الفرق الإسلامية بدرجات متفاوتة إلا الطائفة السنية . و لهذا وجدنا أعداء الإسلام يتعاطفون مع تلك الفرق الضالة ، منها المعتزلة .  

    و الموقف العاشر  مفاده أن المُحسن الجشمي المعتزلي يقول : (( و جملة القول أن المعتزلة هم الغالبون على الكلام ، الغالبون على أهله ، فالكلام منهم بدأ، وفيهم نشأ، ولهم السلف فيه ... وكل من أخذ في الكلام ، أو ما يوجد من الكلام في أيدي الناس، فمنهم أُخذ، ومن أئمتهم أقتبس ، حتى أن من خالفهم أخذ عنهم..." ))[19] .

     و أقول:  في كلامه أباطيل و تلبيسات ، لأن علم الكلام الصحيح ليس المعتزلة هم الذين أسسوه ، و إنما هو علم من علوم الشرع ، يُعرف بعلم الإيمان ،و هو مذكور في القرآن الكريم و السنة النبوية الصحيحة بأسسه و تطبيقاته  ، فهو علم شرعي كالفقه , و السيرة، و قصص الأنبياء، و طبيعيات القرآن الكريم. و هذا العلم نشره الصحابة ضمن نشرهم لعلوم الإسلام . فلما ظهر علم الكلام الفاسد تصدى له علماء السنة بعلم الكلام الشرعي، و ردوا به على أباطيلهم .

 

    و أما علم الكلام المعتزلي فالحقيقة هي أنه ليس صحيحا أن المعتزلة هم الذين أسسوا أصوله و مباحثه، و إنما الذي وضع أصوله و فروعه هم مُؤسسو الفرق الإسلامية المنحرفة ، كالسبئية ، و الشيعة  و الخوارج، و الجهمية، و القدرية، و الجبرية ، و في وسطهم ظهرت فرقة المعتزلة ، فأخذت منها فكرها و أصولها بطريقة تجميعية تلفيقية ، ثم أضافت إليها آراءها و أهواءها و ظنونها ، و كونت بها مذهبها الاعتزالي . فالمعتزلة ليسوا هم الذين أسسوا علم الكلام الفاسد، و إنما هم من أتباعه ، و كان لهم دور كبير في خدمته و توسيعه ، و تكوين اتجاه خاص بهم يُمثل اتجاها من اتجاهات علم الكلام الفاسد .  

 

   و قوله بأن من خالف المعتزلة أخذ عنهم ، فهو يصدق على كثير من الفرق الإسلامية ، لكنه لا يصدق على أهل السنة من السلف و أهل الحديث، لأن أهل السنة كانوا موجودين بمذهبهم في الأصول قبل أن يظهر المعتزلة . و هم الذين ردوا على سلف المعتزلة من الفرق المنحرفة من السبئية ، و الخوارج ، و الجهمية ، و القدرية، و الجبرية . و عليه فلا يصدق إذن قول الجشمي على أهل السنة . و من جهة أخرى فإن مذهب أهل السنة في أصول الدين يختلف تماما عن أصول المعتزلة . فالمذهب السني يُقدم الشرع على العقل ، و لا يُهمل العقل ،و إنما يضعه في مكانه الصحيح . و يُثبت الصفات بلا تشبيه و لا تمثيل و لا تعطيل، و لا يُمارس الانتقاء و لا الإغفال و لا التأويل الفاسد في تعامله مع النصوص الشرعية . و يُخالف مذهب المعتزلة في فروع و قضايا أخرى كثيرة[20] . فمذهب أهل السنة له كلامه الخاص به، و لم مصنفاته ، و يختلف عن الكلام المعتزلى أصولا و فروعا و منهجا .

 

    و الموقف الحادي عشر مضمونه أن للباحث محمد صالح السيد رأي يتعلق بالمعتزلة و مذهبهم عبّر عنه بقوله: (( ولعل اهتمامي بمثل هذه الدراسات يأتي من إيماني بأن المنهج الاعتزالي بما اشتمل عليه من قيم العقل والحرية، يمكن أن يكون منهجا مفيدا، في حياتنا المعاصرة.  وإيمانا منى –أيضا- بأن هناك تعتيما متعمدا قد فرض على آراء هذه المدرسة المستنيرة أدى إلى نسبة الكثير من الآراء المتطرفة إليها. كما يبدو أن هناك خطة منظمة وضعت للوصول إلى تحقيق هذا الغرض ، وأعتقد أن هذه الخطة وضعت ونفدت من قبل الباطنية، وهي ترمي إلى هدم الإسلام بتوسيع شقة الخلاف بين المدارس الكلامية من جانب، وتشويه آراء المعتزلة من جانب آخر، ولماذا المعتزلة بالذات. لأنهم هم الذين وقفوا ضد خطط الباطنية بالمرصاد، دفاعا عن الإسلام، ومقاومتهم للباطنية أمر معلوم في تاريخ علم الكلام، ولقد وضع "ابن الراوندي" وهو أحد كبار الباطنية كتابه المعروف بـ "فضيحة المعتزلة" الذي أورد فيه الكثير من المفتريات على المعتزلة والتي أحكم انتقاءها بشكل يسهل الانخداع بها فتثير البلبلة، وتوسع شقة الخلاف بين المعتزلة وأهل السنة،وتجعل نظرة أهل السنة للمعتزلة نظرة يملؤها الشك والاتهام، من هنا ينشغل المعتزلة بالدفاع عن عقيدتهم، بدلا من التصدي لخطط الباطنية والزنادقة.)) [21] . و قال أيضاً : إن المعتزلة (( فلسفت التوحيد، و أقامت تلك الفلسفة على مبدأ عام ، هو التنزيه المطلق لله تعالى، عن صفات المخلوقين ))[22] .

    و أقول: أولا إن قول الباحث بأن المعتزلة هم الذين ردوا على أعداء الإسلام من الباطنية و غيرهم ، هو قول سبق أن رددنا عليه، و بينا حقيقته، فلا نعيده هنا . و من جهة أخرى فإن ابن الرواندي لم يكن من الباطنية ، و إنما كان أولا من المعتزلة ، ثم انفصل عنهم و خالط اليهود و النصارى و الرافضة ، ثم تزندق و التحق بالزنادقة[23].  فالرجل خرج من مذهب فاسد إلى مذهب أفسد منه ،و أكثر ضلالا و انحرافا، ثم انتهى به الأمر إلى الكفر و الزندقة ، و قيل أنه تاب عند موته[24]

 

     و أما حكاية المنهج الباطني ، فالرجل نسي أو تناسى ، بأن المذهب الباطني يقوم على التأويل الفاسد للنصوص الشرعية من جهة ،و تقديم الآراء و الأهواء و الظنون عليها من جهة أخرى. و هذا المنهج كان موجودا قبل ظهور المعتزلة ، فقد مارسته السبئية ،و الشيعة ،و الخوارج، و الجبرية، و القدرية ،و الجهمية . ثم عندما ظهرت المعتزلة أخذت بهذا المنهج و أقامت عليه مذهبها الكلامي. فالمنهج الباطني كان موجودا ، و قد أخذت به المعتزلة في الجانب النظري المُتعلق بالعقائد ، لكن الذي فعلته الباطنية هو انها أخذت نفس منهج المعتزلة المتعلق بالتأويل الفاسد للنصوص ،و تقديم الآراء و الأهواء على الشرع ، و طبقته على الدين كله فيما يتعلق بالعقائد، و العبادات ، و الأخلاق و المعاملات، و قالت: لكل ظاهر باطن، و لكل تنزيل تأويل[25] . فالسبئية و القدرية ، و الجهمية و المعتزلة  هم سلف الباطنية من جهة ، ثم أن الباطنية وسعوا منهج المعتزلة ليشمل كل الدين من جهة أخرى . فالفارق الأساسي بين المعتزلة و الباطنية ليس فارقا حاسما ، لأنه ليس فارقا منهجيا ،و إنما هو فارق في درجة الانحراف مع وحدة أصل المنهج . فالمعتزلة ضيقوا مجاله ،و الباطنية وسعوه ليشمل كل جوانب الدين . لكن الذي أريد قوله هنا ليس هو التسوية بين المعتزلة و الباطنية في حال كلٍ منها كطائفة ، فلا شك أن المعتزلة أحسن حالا ، و إنما هو التسوية بينهما في المنطلق المُتمثل في الانحراف المنهجي ، فأصل انحراف الطائفتين واحد . و هذا هو الذي أغفله الباحث محمد صالح السيد أو غاب عنه .

 

    و ثانيا إن القول بوجود قيم العقل و الحرية و الاستنارة في الفكر المعتزلي هو كلام فيه حق و باطل ، و باطله أكثر من حقه. و الحقيقة هي أن مدرسة المعتزلة تضمنت قيما أخرى تمثلت في قيم إفساد الشرع و العقل من جهة ،و هي  من جهة أخرى دعوة منهم إلى التخلص من الدين تدريجيا بقصد منهم أو بغير قصد من جهة أخرى ، فالنتيجة واحدة . و الصواب الموجود في مذهبهم هو مأخوذ من دين الإسلام و ليس ملكا لهم ، و لا خاصا بهم، و لا يحق لهم احتكاره ، و لا نسبته إليهم . و هو موجود عند طوائف أخرى من المسلمين .

 

  و أما حكاية الحرية فهذا تغليط و تلبيس ، لأن الحرية أمر طبيعي و فطري في الإنسان يُمارسه كل الناس ، و يحسون من أنفسهم أنهم مُخيرون في جانب من أنفسهم، و مُسيّرون في جانب آخر منها. و لا يُمكن لأحد أن ينكر ذلك بفعله، و إن أنكره بلسانه ،و دعاة الجبرية أنفسهم كانوا يُمارسون ذلك ، و نقضوا به مزاعمهم في الجبر ، عندما كانوا يدعون إلى مذهبهم في الجبر .و حتى أن كبيرهم جهم ابن صفوان الجبري المعروف كان من المعارضين للدولة الأموية ، و قد حمل السلاح لمحاربتها و قٌتل بسبب ذلك[26] . فلا يصح المتاجرة بحكاية الحرية ، فكل طرف يستطيع أن يدعي ذلك لنفسه ، و نحن نعلم ماذا فعل المعتزلة بخصومهم عندما كانت السلطة بيد خلفاء المعتزلة:  المأمون ،و المعتصم و الواثق . إنهم فرضوا مذهبهم في القول بخلق القرآن على الناس بالقوة ، و أدخلوا الأمة في محنة كبيرة ؛ و عذبوا كثيرا من الناس ، و حرموا بعضهم من حقوقهم ، و مات بعضهم بسببهم . فأين حكاية الحرية و الاستنارة[27] ؟؟!! ، أم أن  ذلك هو من الحرية و الموضوعية ، و من العقل و الاستنارة ؟؟ !! .

 

   و ثالثا إن مذهب المعتزلة في الحقيقة قد أبعد العقل المسلم عن عبادة الله حسب شرعه: توحيدا و ممارسة ، إلى عبادة أهوائه و ظنونه و آرائه . و بذلك يفتقد المسلم الحرية الحقيقية التي يجدها في كمال عبوديته لله تعالى ،و يصبح عبدا لأهوائه و وظنونه . فمهما تظاهر المعتزلة بالافتخار بالحرية و التوحيد، فهم في الحقيقة عطلوا التوحيد و أفسدوه ، و فقدوا الحرية التي يتغنون بها ، ثم انعكس هذا على الشريعة من الناحية العملية . لأن الذي يتقدم على خالقه من الناحية العقدية و النظرية ، فإن هذا سينعكس سلبا و بالضرورة على السلوكيات ، فيتسع مجال الانحراف و الضلال ،و يضيق مجال الالتزام بالشرع . فأين حكاية التوحيد و الحرية المزعومة التي يتغنى بها المعتزلة و المُعجبون بهم ؟؟!! .

 

   علما بأنه ليس من الحرية ، و لا من الاستنارة ،و لا من العقل تقديم الآراء و الأهواء ، و الظنون الشخصية على الشرع بدعوى العقل . فهذه جريمة كبرى في حق الوحي الصحيح و العقل الصريح ، و هي حرمان للعقل من حريته الحقيقية ، و إبعاد له عن مجاله الصحيح ، وزج به في غير ميدانه ،و تضييع لأوقاته و جهوده  ، و تكبيل له بالأهواء و الأغلال ، و إغراق له بالشكوك و الشبهات . 

 

    و أخيرا – رابعا - إن انتقادات أهل السنة للمعتزلة كانت صحيحة في أساسها و مجملها ، و هم كانوا يعرفونهم جيدا ، و على علم تام بمذهبهم ، لأن المعتزلة أنفسهم خرجوا منهم ، و كانوا يعيشون معهم ، و على اتصال بهم ،و ناظروهم في محنة خلق القرآن و قاوموهم عندما فرضوها عليهم بالقوة .و كان بعض أهل السنة من المعتزلة ثم تركوهم و التحقوا بأهل السنة ، فكانوا على علم بمذهبهم.  فكيف يُقال : إنهم أخذوا أفكارهم عنهم من خصومهم كابن الرواندي ؟؟ . فهذا زعم باطل جملة و تفصيلا.

 

     و أما فيما يخص قوله الأخير المتعلق بالتوحيد عند المعتزلة ،  فإن التنزيه المطلق لله تعالى عن صفات المخلوقين هو أمر من قطعيات دين الإسلام و بديهياته ، و قد كان عليه الصحابة و التابعون و تابعيهم من أهل السنة[28] . و أما المعتزلة فلا يصدق ذلك عليهم  ، فهم متناقضون و مخالفون للشرع و العقل معا في موقفهم من الصفات الإلهية . لأنهم أخطؤوا في موقفهم من معنى الإثبات و التنزيه و التشبيه ،و نفوا الصفات و عطلوها، و إن تظاهروا بإثباتها بدعوى إثباتهم للأسماء . فأوقعهم ذلك في التشبيه و التجسيم من حيث أرادوا تجنبه من جهة ، و شبّهوا الله تعالى بالجمادات و المعدومات من جهة أخرى . و هذا أمر سبق تفصيله في الفصل الأول فلا نعيده هنا . ففلسفة المعتزلة للتوحيد لم يكن عملا صحيحا سليما قائما على الوحي الصحيح و العقل الصريح، و إنما كان عملا تحريفيا أفسدوا به عقولهم و عقيدتهم ، و أساؤوا به على الدين أيضا  .

 

   و الموقف الثاني عشر يتعلق بقول للمعتزلي أبي الحسين الخياط مدح فيه أصحابه بقوله : (( إن الكلام ، و ما يكون و في الكل، و في البعض، و ما يتناهى، من غامض الكلام و لطيفه، و إنما كان أبو الهذيل العلاف يكثر ذكره، و الكلام فيه لشدته و لعنايته به، وهذه هي سبيل العلماء، و إنما يعنون من العلم بأشده و أصعبه، و بعد فهل يعرف في الأرض من فصل بين هذين الكلاميين إلا المعتزلة كإبراهيم، و الأسوارى، و معمر وبشر بن المعتمر، و جعفر، و الاسكافي، رحمهم الله، لأنهم المعنيون بالتوحيد، و الذب عنه من بين العالمين ))[29] .

 

     و أقول: أولا إن هذا الرجل مدح نفسه و أصحابه بسلبياتهم و أخطائهم و بما ليس فيهم و لا لهم . و معظم أعمال المعتزلة الفكرية في العقائد هي ضدهم و مخالفة للشرع الصحيح و العقل الصريح، و هم بذلك من الذين يصدق ليهم قوله تعالى : {الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً }الكهف104-.

 

   و ثانيا ليست العبرة في الخوض في دقيق الكلام و جليله ، و إنما العبرة في الخوض فيما يدركه العقل ، و فيما يأمر به الشرع و يحتاج  الناس إليه ، و فيما يُقره العقل و العلم ، علماً بأن كل علم يتضمن جليل الكلام و دقيقه ،و ليس هذا خاصا بكلام المعتزلة خاصة ، و لا بعلم الكلام عامة  . لكن المعتزلة خالفوا ذلك، ولم يلتزموا به ، و تكلموا كثيرا في أمور لم يكن الناس في حاجة إلى الخوض فيها لأن الشرع بيّنها و جلاها ، و إنما كانوا في حاجة إلى تطبيقها و الالتزام بها . لكنهم  خاضوا فيما لا يُدركونه ، و لا أمر به الدين ، و قرروا ما يُخالف الشرع و العقل معا. و أذهبوا أوقاتهم و جهودهم في أمور ضررها أكثر من نفعها ، و صرفوا الناس عما ينفعهم في الدنيا و الآخرة ، و شغلوهم بخلاف ذلك . و منهجهم قد أغرقهم في القضايا النظرية التي لا حاجة إليها ،و أبعدهم عن العلم العملي التطبيقي القائم على التجربة . و هم حتى عندما تكلموا أحيانا في أمور تتعلق بعلوم الطبيعة تكلموا فيها غالبا بنظرة تجريدية لا تجريبية لخدمة قضاياهم الكلامية ،و ليس من أجل الفائدة العملية .

   و أخيرا- ثالثا- إنه إذا كان المعتزلة خاضوا في دقيق الكلام و جليله بطريقة ضررها أكثر من نفعها ، فإن هناك علماء آخرون تكلموا في دقائق علوم أخرى و جلائلها كانت مفيدة و أكثر نفعا للناس ، كالذين اهتموا بدقائق علم الفقه وأصوله ، و التفسير و علوم القرآن ،و علم الجرح و التعديل ،و اللغة و آدابها منذ القرن الهجري الأول ، فهؤلاء كانت لهم مناظرات و اختيارات ، و تركوا لنا كثيرا من دقائق علومهم كانت أكثر انسجاما مع الشرع و العقل ، و أكثر فائدة بفارق كبير جدا مما أذهب المعتزلة فيه أعمارهم و جهودهم  من النظر في مباحث كلامية تجريدية جوفاء ،و  منحرفة عن الشرع و العقل معا . فالرجل بالغ في مدح أصحابه حتى مدحهم بسلبياتهم و أخطائهم ، و بالغ في تضخيم إيجابياتهم القليلة .

 

   و الموقف الثالث عشر يتعلق برأي للباحث سليمان الشواشي مفاده أن واصل بن عطاء هو (( الفارس الأول لدوحة علم الكلام ))[30] .

 

    و أقول : إن الصحيح من الناحية التاريخية هو أن علم الكلام الصحيح هو علم من علوم الشريعة، يُمكن تسميته علم الإيمان ، و هذا ظهر مع دين الإسلام، و اكتمل باكتماله .و قد  حمله الصحابة و التابعون و السلف الصالح مع حملهم لباقي علوم الشريعة ،و نشروه بين المسلمين و ردوا به على الفرق المنحرفة كالمعتزلة و الجهمية و المجسمة . و كتبهم المتعلقة بأصول الدين تشهد على ما قلناه  .

 

   و اما كلام المعتزلة ، فهو من علم الكلام الفاسد القائم على الخلفيات المذهبية  و التأويل التحريفي للنصوص الشرعية .و هذا العلم لم يظهر على يد المعتزلة ،و إنما ظهر قبلهم على يد الفرق المنحرفة عن الشرع من السبئية ، و الخوارج ، و الجبرية ، و القدرية ،و الجهمية[31] . و هؤلاء كانت لهم آراؤهم و أهواؤهم تميزوا بها ، و دافعوا عنها و برروها بطرقهم و آرائهم الفاسدة و المُحرفة للشرع و التاريخ و العقل ، فنشأ على يدهم علم الكلام الفاسد . فلما ظهرت المعتزلة وجدت الأرضية مهيأة لها، فتأثرت بآراء و مناهج تلك الفرق في الفهم و الاستدلال . فأخذوا عنها معظم أصولهم الفاسدة ، كتقديم أهوائهم و آرائهم على الشرع، و الأخذ بالتأويل الفاسد للنصوص، و نفي الصفات و القول بالقدر حسب مذهبهم ، و هذا أمر سبق بيانه و توثيقه . فالمعتزلة جمعوا كثيرا من أصول ضلالات و انحرافات تلك الفرق في مذهب واحد سموه مذهب المعتزلة . فأية عبقرية في هذا حتى نمدحهم عليه ؟ ! .

 

    و الموقف الرابع عشر هو أيضا يتضمن رأيا للباحث سليمان الشواشي يقول فيه : ((والى جانب ذلك فقد ظهر واصل في عصر امتدت فيه الدولة الإسلامية إلى التركستان شرقا والمحيط الأطلسي غربا ، وضم الإسلام إلى حظيرته أنواعا متعددة من الأجناس والثقافات ؛وبذلك تلاقت تيارات فكرية متعددة ومتباينة فكان اليهود والنصارى ينشرون عقائد التشبيه والتجسيم والحلول،  وكان المانويه والمزدكية والسمنية يشيعون أفكار التعدد في الألوهية والتناسخ ونكران النبوة  . وقد استغل أصحاب هذه المذاهب سماحة الإسلام ورحابة صدره بل وإقراره لمبدأ الحوار مع المخالفين، كما استغلوا انشغال الدولة الأموية بقمع الفتن و الثورات فاندفعوا في جدالهم و مناقشتهم مستخدمين في ذلك الأدلة العقلية و البراهين المنطقية حتى كادوا أن يصلوا إلى درجة التحدي )) [32]  .

 

   و (( أمام هذا الصراع الفكري الحاد و الجدال العنيف بين مختلف الملل و النحل كان السلف من التابعين معتصمين بالكتاب و السنة عاضين عليهما بالنواجد لا يبحثون عن العلم في غيرهما ، حتى أنهم قالوا " العلم ثلاثة آية محكمة و حديث مسند و لا أدري". فكان لابد من ظهور مفكرين يجادلون أصحاب هذه العقائد الدخيلة و الآراء الغريبة بنفس السلاح الذي يمتلكونه، فضلا عن مناظرتهم لتلك الفرق التي غالت في بعض آرائها والتي زاغت عن عقائد الإسلام وأحكامه . وكان واصل بين هؤلاء المفكرين الذين اتخذوا العقل مصدرا من مصادر المعرفة إلى جانب الكتاب و السنة و الإجماع ، ...))[33]

 

    و أقول: قوله هذا فيه حق وباطل ،و خطؤه أكثر من صوابه  ، لأنه أولا ليس صحيحا أن تحدي أهل الذمة و الرد عليهم كان هو السبب المباشر و الأساسي و الضروري لظهور واصل ابن عطاء و مدرسته ؛ لأن الثابت أن واصل ابن عطاء و صاحبه عمرو بن عبيد خرجا من بين أهل السنة بسبب اختلافهم مع شيخهم الحسن البصري في مسألة الفاسق  ، و بسبب الخلافات و النزاعات  السياسية و الاجتماعية و المذهبية التي كانت قائمة بين الفرق الإسلامية فيما بينها من جهة ، و فيما بينها و الدولة الأموية من جهة أخرى . فالمعتزلة ظهروا في وسط إسلامي كرد فعل لما كان يجري بينهم من مناظرات و خلافات بين الفرق الإسلامية نفسها ، كالسبئية و الخوارج ، و الجهمية و القدرية . فالمعتزلة أنفسهم هم من نتائج  تلك الخلافات و النزاعات المتعددة الأشكال .

 

 و ثانيا ليس صحيحا أن علماء أهل السنة لم يكن في مقدورهم الرد على التحديات التي أثارها أهل الذمة ، مما تطلب الأمر ظهور واصل بن عطاء و أصحابه . فهذا زعم لا يصح ، لأن الرد على أهل الذمة ليس صعبا ، و لا يتطلب ظهور المعتزلة و لا تعلم طريقة الرد عليهم من مذاهبهم . لأن علماء السنة كانوا على معرفة بمقالات هؤلاء ، بحكم أن القرآن الكريم قد فضح هؤلاء و رد على أفكارهم في كثير من الآيات المتعلقة باليهود و النصارى ، و الدهريين و غيرهم .و كانوا أيضا على مقدرة  على الرد على هؤلاء من جهة المناظرات و الجدال ، و هذا معروف من تاريخ الأنبياء و سيرة نبينا محمد –عليه الصلاة و السلام- . و من جهة أخرى أنهم كانوا قد مارسوا الردود و المناظرات في مجال الفقه و المذاهب فيما بينهم و فيما بينهم و الطوائف الإسلامية الأخرى من شيعة و خوارج . و لاشك أن الذي يُناظر في الفقه و غيره من علوم الشريعة يستطيع أن يُناظر في علوم أخرى ، و لا يتطلب الأمر منه إلا معرفة مقالات القوم . و لم يكونوا في حاجة أبدا إلى معرفة منطق أرسطو و لا فلسفة اليونان . و كما أنهم استطاعوا أن يردوا على المعتزلة و غيرهم ردودا قوية دامغة قاطعة ذكرنا بعضها فيما سبق  ، فلاشك أنهم كانوا قادرين أيضا على أن يردوا على أهل الذمة أيضا .

 

    و أما ما يُذكر عن أهل السنة أنهم تجنبوا الرد على المعتزلة و غيرهم  في البداية ، فالحقيقة هي أنهم أنكروا عليهم مذهبهم منذ ظهوره ، كما أنكروا على الفرق المنحرفة التي سبقتهم في الظهور ، لكنهم ردوا عليهم من دون توسع . و هذا ليس عجزا و إنما هو طريقة اتخذوها محاولة منهم لوقف تيار هؤلاء بالتجاهل و عدم نشره . لكنهم عندما رؤوا أن الأمر قد انتشروا تصدوا لهم بقوة و ردوا عليهم ردودا حاسمة ، وفق منهجي صحيح قائم على الوحي الصحيح و العقل الصريح ، سبق أن ذكرنا نماذج منه ليس هنا مجال تفصيلها [34] .

 

  و أما قوله بأن ظهور واصل ابن عطاء و أمثاله كان أمرا ضروريا لا بد منه ؛ فهو قول باطل، و حتمية زائفة . لأن ظهور الرجل هو أمر مُمكن فقط، و لا حتمية في ظهوره ، و الرد على أهل الذمة لا يتوقف على ظهور هؤلاء . و قد سبق أن بينا أن أهل السنة كانوا قادرين على الرد على أية طائفة ، فهم كما ردوا على السبئية و الجهمية و الخوارج و القدرية ، كانوا قادرين أيضا على الرد على أهل الكتاب و غيرهم من أهل الذمة ، و لا يُوجد أي مانع شرعي ، و لا عقلي ،و لا علمي يمنعهم من ذلك .و كما أن ظهور واصل بن عطاء كان مُمكنا و ليس حتميا ، فإن رد واصل على مخالفيه من الفرق بمنهجه الاعتزالي لم يكن حتميا و لا ضروريا ، فقد كان في مقدوره لو اتبع الشرع الصحيح و العقل الصريح أن يرد عليها بمنهج صحيح شامل سليم قوي ، و لا يرد عليها بمنهجه الاعتزالي القاصر الضعيف ، و المنحرف و الفاسد في معظم أصوله .

 

   و فيما يخص قوله : (( إن السلف من التابعين كانوا معتصمين بالكتاب و السنة ،و لا يبحثون عن العلم في غيرهما حتى أنهم قالوا: (( العلم ثلاثة : آية محكمة ،و حديث مُسند ،و لا أدري )) . فإن الحقيقة ليست كما فهم الرجل ، لأن تلك المقولة لم يذكر الرجل من أين أخذها لنتأكد من قائلها و مصدرها . و قد بحثتُ عنها كثيرا في ألاف المصادر الإسلامية بواسطة الحاسب الآلي فلم أعثر لها على ذكر و لا على أثر. و إذا فرضنا جدلا أنها ثابتة عن بعض السلف ، فهي لا تُعبر عن موقف جماعي للسلف  من العلم و أنواعه و مصادره كما زعم الرجل بأن السلف قالوا بتلك المقولة ، و إنما هي تمثل رأيا لبعضهم من جهة ، و هي لم تنف وجود علوم أخرى ، و إنما عبرت عن موقف صاحبها من العلوم التي يُفضلها من جهة أخرى .

 

     و الشواهد الدالة على خطأ ما أراد الرجل أن يقوله كثيرة جدا ، أذكر منها ثلاثة فقط : أولها هو أن القرآن الكريم مملوء بالآيات التي تحث على طلب العلوم النافعة ،و استخدام كل قدرات الإنسان العقلية و البدنية لتسخير كنوز الطبيعة و خيراتها لصالح الإنسان ، كقوله تعال : {وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِّنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لَّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ }الجاثية13 -،و {قُلِ انظُرُواْ مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَن قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ }يونس101- . و منها آيات كثيرة تأمر بإتباع المنهج العلمي الصحيح القائم على الوحي الصحيح ، و العقل الصريح ، و العلم الصحيح ، كقوله تعالى : {وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُّنِيرٍ }الحج8-،و {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولـئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً }الإسراء36-،  {قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذَّبِينَ }آل عمران137-، {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }العنكبوت20- . و بما أن الأمر كذلك  و السلف الصالح كانوا مُلتزمين بالوحي فلا يُمكن أن يكونوا قد حصروا العلم فيما ذكرته تلك المقولة .

 

    و الشاهد الثاني مفاده أن الناظر في العلوم التي ورثناها عن السلف يجدها كثيرة و متنوعة و ليست محصورة في العلم الذي ذكرته تلك المقولة ، و فيها كثير من المناظرات و الاجتهادات، و التحليلات الدقيقة ،و التحقيقيات و التمحيصات العلمية .  نجدها في كتب الفقه، و التفسير ، و علم الجرح و التعديل، و السيرة و التاريخ، و علم علل الحديث ، و أصول الدين ، و اللغة و الآداب .

 

   و الشاهد الثالث مضمونه أن تراث السلف العلمي تضمن نماذج رائعة من المناظرات و النصوص و المناقشات التي تشهد لكبار علماء أهل السنة بأنه كانت لهم نظرات و تحليلات ، و مواقف  ومناقشات و ردود في علم الكلام و أصول الدين ، ردوا بها على مخالفيهم ، و تشهد لهم على معرفتهم بمقالات فرق عصرهم من جهة ، و على قدرتهم على الرد العلمي الصحيح القائم على الوحي الصحيح و العقل الصريح ، و العلم الصحيح . أذكر منها أربعة نماذج فقط من باب التمثيل لا الحصر ، أولها المناظرة التي دارت بين أبي حنيفة النعمان و بعض الدهريين ، و قد سبق ذكرها فلا أُعيدها هنا .

 

  و النموذج الثاني يتعلق برد للأديب المحدث أبي عبيد القاسم بن سلام البغدادي(ت 224هـ)، رد فيه على الجهمية في موقفهم من مسألة خلق القرآن ، فقال : (( إذا قال لك الجهمي أخبرني عن القرآن ، أهو الله أم غير الله ؟ ، فإن الجواب أن يُقال : أحلت – من المحال- في مسألتك ، لأن الله وصفه-أي القرآن- بوصف لا يقع عليه في مسألتك ، قال الله : { الم تَنزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ الْعَالَمِينَ}السجدة:1-2-، فهو من الله ،و لم يقل هو أنا و لا هو غيري، و إنما سماه كلامه ، فليس عندنا غير ما حلاه ،و ننفي عنه ما نفى عنه )) ، ثم قال : (( فإن قالوا أرأيتم قوله : {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ }النحل40-،  فالقرآن شيء فهو مخلوق ، قيل له : ليس قول الله يُقال له شيء ، ألا تسمع كلامه : {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ }النحل40- ، فأخبرك أن القول كان منه قبل الشيء ، فالقول من الله سبق الشيء ، و معنى قوله كن ، أي كان في علمه أن يُكوّنه ))[35] .

 

    و النموذج الثالث يتعلق بمناظرة جرت بين الفقيه عبد العزيز الكِناني (ت240هـ) و جهمي ، في مسألة علو الله تعالى ، فقال الجهمي : (( أَخبِرني كيف استوى على العرش ؟ ، أهو كما يُقال استوى فلان على السرير ، فيكون السرير قد حوى فلانا وحده إذا كان عليه ، فيُلزمك أن تقول : إن العرش قد حوى الله وحده و كان عليه ، لأنا لا نعقل الشيء على الشيء إلا هكذا ))، فردّ عليه الكِناني بقوله : أما قولك كيف استوى ، فإن الله لا يجري عليه كيف استوى ؟ ،و يجب على المؤمنين أن يُصدّقوا ربهم باستوائه على العرش ،و يحرم عليهم أن يصفوا كيف استوى ، لأنه لم يُخبرهم كيف ذلك ،و لم تره العيون في الدنيا لتصفه حسب ما رأت ،و هو تعالى قد حرّم عليهم أن يقولوا عليه بلا علم ، لذا فهم آمنوا بخبره عن الاستواء ، ثم ردوا علم كيف استوى إلى الله )) [36] .

 

    ثم قال له : (( و لكن يُلزمك أيها الجهمي أن تقول : إن الله محدود ،و قد حوته الأماكن ، إذ زعمت في دعواك أنه في الأماكن ، لأنه لا يُعقل شيء في مكان إلا و المكان قد حواه ، كما تقول العرب : فلان في البيت ،و الماء في الجب ، فالبيت قد حوى فلانا ،و الجب قد حوى الماء ،و يُلزمك أشنع من ذلك ، لأنك قلت أفظع مما قالت به النصارى ، و ذلك أنهم قالوا : إن الله عزّ و جلّ حلَّ في عيسى ،و عيسى بدن إنسان واحد ، فكفروا بذلك ،و أنتم تقولون : إنه في كل مكان ،و في بطون النساء كلهن و بدن عيسى ،و أبدان الناس كلهم .و يُلزمك أيضا أن تقول : إنه في أجواف الكلاب و الخنازير لأنها أماكن ، و عندكم أن الله في كل مكان ، تعالى عن ذلك علوا كبيرا ))[37] .

    ثم  قال الجهمي  –دفاعا عن رأيه- : (( أقول : إن الله في كل مكان ، لا شيء في شيء ،و لا كالشيء على الشيء ،و لا كالشيء خارجا عن الشيء ،و لا مباينا للشيء )) ، فردّ عليه الكِناني بقوله : (( فيُقال له : أصل قولك القياس و المعقول ، فقد دللّت بالقياس و المعقول أنك لا تعبد شيئا ، لأنه لو كان شيئا داخلا فمن القياس و المعقول أن يكون داخلا في الشيء  أو خارجا منه ، فلما لم يكن- أي الله تعالى- في قولك شيئا،  استحال أن يكون كالشيء في الشيء ، أو خارجا من الشيء ، فوصفت لعمري ملتبسا لا وجود له ، و هو دينك و أصل مقالتك التعطيل ))[38] .

 

    و النموذج الأخير- الرابع- يتعلق بمناقشة الإمام احمد بن حنبل للجهمية ، في إنكارهم علو الله تعالى و زعمهم أنه في كل مكان ، فذكر أنه يُقال للجهمي : أليس كان الله و لا شيء معه ؟  ، فيقول : نعم ، فيُقال له : عندما خلق الله تعالى الكون ، خلقه في نفسه ، أم خارجا عنه ؟ ، فليس أمامه إلا ثلاثة أقاويل ، أولها إنه يزعم أنه تعالى خلق خلقه في نفسه ، فيكون قد كفر ، لأنه زعم أن الجن و الإنس و الشياطين في نفسه .و ثانيها إنه يقول : خلقهم خارجا عن ذاته ثم دخل فيهم ، فيكون قد كفر أيضا ، لأنه ادعى أنه تعالى دخل في كل مكان وحش و قذر . و ثالثها إنه يقول : خلقهم خارجا عن نفسه و لم يدخل فيهم ، فيكون قد خرج عن قوله كلية ،و قال برأي أهل السنة لأن ذلك هو قولهم[39]  .

 

   و أخيرا – رابعا – إن قول الرجل بأن واصلا اتخذ العقل مصدرا للمعرفة إلى جانب الكتاب و السنة و الإجماع . فإن هذا الأمر سبق أن توسعنا فيه و بينا حقيقة موقف المعتزلة منه في الفصل الثالث ، فلا نعيده هنا . لكني أقول باختصار: إن حقيقة موقف المعتزلة ليس أنهم اتخذوا العقل مصدرا للمعرفة ، ثم الشرع ، و إنما قدموا آراءهم و أهواءهم و ظنونهم على العقل و الشرع معا ، و اتخذوها مصدرا لمذهبهم من جهة ، و تقدموا بها على خالقهم ،و جعلوا دينه تبعا لأهوائهم و آرائهم من جهة ثانية ، و قدموها على العقل الصريح و استخدموه وسيلة برروا به انحرافهم عن العقل و الشرع من جهة ثالثة . و الشاهد القاطع على هذا أنه سبق أن ناقشنا مذهب المعتزلة و بينا بالأدلة القاطعة أن معظم أصولهم غير صحيحة . فلو كان واصل و أصحابه أقاموا مذهبهم على العقل الصريح و الشرع الصحيح ، ما خالفوهما ، و ما كانت معظم أصولهم غير صحيحة !! . فلا يصح أبدا وصف المعتزلة بالعقلانية و مدحهم بها ، فهذا لا يستحقونه و كذب و تحريف للتاريخ، و الجانب الصحيح القليل من فكرهم لا يُؤهلهم بأن يُوصفوا بالعقلانية ، لأن انحرافهم عن العقل و الشرع كان انحرافا منهجيا أساسيا ، منعهم من أن تكون العقلانية أصل مذهبهم، و إنما هي من هوامشه .

 

  و الموقف الخامس عشر يتضمن قولين لباحثيّن معاصريّن : الأول هو لسليمان الشواشي يقول فيه : (( ومن ثم فان واصلا وسائر المعتزلة ليسوا من النفاة ، و إنما يقولون بالعينية في الصفات، أي أن المولى يتصف بصفات ايجابية، لكنها ليست زائدة عن الذات، بل هي عين الذات بيد أن الخصوم كانوا كلفين بتحريف مقالة المعتزلة بحيث قولوهم مالم يقولوا ...))[40] .

 

     و الثاني هو علي فهمي خشيم ، قال: ((  و على كل حال فانه يحلو للكثير من خصوم المعتزلة أن يطلقوا عليهم اسم « المعطلة » على أساس أنهم يعطلون صفات الباري أو يجعلونها سلبية، تنفيرا للناس منهم و تبغيضا لهم في مذهبهم، و هذا ناتج عن فهم خاطىء – بقصد أو بغير قصد- لمذهب المعتزلة: فان هدف المعتزلة لم يكن التعطيل أو السلب، و انما هو تنزيه للباري عن أن يشاركه أي شيء – مهما كان معنويا – في أزليته . قال المعتزلة : إن لله صفات – على اختلاف في التعبير عن العلاقة بين ذاته و بينها – وردوها جميعا إلى صفتين، و هما كونه عالما و قادرا ))[41]

 

    و أقول: إن كلام الرجلين غير صحيح ، و قد سبق أن توسعنا في موقف المعتزلة من الصفات الإلهية في الفصل الأول ، و بينا بالأدلة القاطعة أن هؤلاء نفوا الصفات الإلهية بطرق مختلفة استخدموا في بعضها التلبيس و التغليط و التلاعب بالألفاظ . فكانوا يتظاهرون بإثبات بعض الصفات ، ثم ينفونها من جهة الحقيقة و المعنى و يُثبتونها كأسماء جوفاء . فهذا هو حقيقة موقف المعتزلة من الصفات ،و يبدو أنه هو الذي جعل الباحثيّن يقولان ما نقلناه عنهما . 

 

   و الموقف السادس عشر مضمونه أن القاضي عبد الجبار ذكر أنه لا يصح الطعن في المتكلمين و يقصد بهم أساسا المعتزلة ، لأن علمهم هو أشرف العلوم ، و لأن موضوعه الله تعالى و ما يختص به . و قد أولى القرآن الكريم هذا الموضوع اهتماما كبيرا جدا [42] .

 

    و أقول:  إن الرجل و أمثاله  مغالطون و محرفون،  و متناقضون في هذه القضية . لأن الذي يُعظم التوحيد حقا و فعلا عليه أن يخضع لخالقه و يُطيعه في كل ما أمر ، ولا يتقدم عليه بآرائه و أهوائه و ظنونه ، و لا يتسلط على كتابه بالتحريف و التلاعب و الإغفال و الانتقاء كما فعل المعتزلة . فأين هذا التعظيم المزعوم لله تعالى؟؟، و أين الالتزام بشرعه؟؟! .

 

   و التوحيد الممدوح هو التوحيد الشرعي القائم على توحيد الربوبية و الألوهية معا ،و فق ما نص عليه الوحي الإلهي القائم على الإخلاص و العبودية التامة لله تعالى : اعتقادا و ممارسة ، و ليس هو التوحيد الذي اخترعه المعتزلة بآرائهم و أهوائهم و ظنونهم ، ثم  قدموها على الله و رسوله، و أقاموه أيضا على التأويل الفاسد للوحي، و على نفي ما أثبته الله لنفسه من الصفات ، و وصفه بما لا يليق به، و بما لم يصف به نفسه. فهذا هو توحيد المعتزلة المملوء بالأخطاء و الانحرافات ،والمخالف للتوحيد الصحيح القائم على الوحي و العقل معا .  

 

   نعم إن علم التوحيد و معرفة الله هو أشرف العلوم و أوجبها على العباد بدليل الشرع و العقل . لكن كلام المعتزلة معظمه ليس علما صحيحا و لا نافعا، و ضرره أكثر من نفعه ، فالغالب عليه أنه مجموعة مغالطات و تحريفات ، و مخالفات و تناقضات . و قد سبق أن توسعنا في مناقشة توحيد المعتزلة و بينا تهافت و بطلان معظم أصوله بأدلة الشرع و العقل معا ، و بينا أنه كان حربا عليهما لا معهما في أكثر أصوله . و عليه فإن التوحيد الذي جاء به الشرع و أمر به ليس هو توحيد المعتزلة الذي ليس فيه من التوحيد الصحيح إلا القليل . لهذا يجب ذم المعتزلة و أمثالهم كأصل ، ثم مدحهم على الصواب القليل الذي عندهم كاستثناء لا كأصل .

 

   و الموقف السابع عشر يتعلق برأي للشيخ جمال الدين القاسمي أثنى فيه على الجهمية و المعتزلة بثناء جُزافي ،و لا يصدق عليهم ، فقال : ((  كثر ما يمر بقارئ التفاسير وشروح السنة ومؤلفات أصول الدين والفقه ومطولات التاريخ وكتب المقالات ، ذِكْر الجهمية والمعتزلة ؛ ذلك لأنهما كانتا أول من ظهر من الفرق الإسلامية في صدر حضارة الإسلام بقواعد الأصول ، والعمل على الجمع بين المنقول والمعقول ، وفتح لأولي العلم باب النظر والتأويلات ))[43] .

 

   و أقول : قوله هذا غير صحيح في معظمه ، و يُثير الدهشة و الاستغراب . لأنه سبق أن بينا أن المعتزلة[44] كانوا حربا على الشرع و العقل معا ، و هم إنما فتحوا باب الجهل و التأويل الفاسد أكثر مما فتحوا باب العلم بفارق كبير جدا .

 

    و ليس صحيحا أن المعتزلة أول من ظهر من الفرق بقواعد الأصول و الجمع بين المنقول و المعقول . و إنما الصحيح هو أن قواعد الأصول المتعلقة بأصول الدين و فروعه هي موجودة في الشرع نفسه ، و كانت معروفة لدى علماء الصحابة و التابعين و ممارسين لها أيضا[45] . و من جهة أخرى فإن الشرع حذّر من الأصول الفاسدة و إتباعها ، منها تقديم الآراء و الأهواء على الله و رسوله ، لقوله سبحانه : {وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ }الأنعام153-،و {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ }الحجرات1-. و منها التحذير من التأويل الفاسد لقوله سبحانه : {  فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألْبَابِ }آل عمران7 - . 

 

   فجاءت الفرق المنحرفة كالسبئية ، و الخوارج ،  و الشيعة ،و القدرية و الجهمية ، و أخذت بالأصول التي حذّر منها الشرع . فتبنت التأويل الفاسد للوحي و تسلّطت عليه بآرائها و أهوائها من جهة ،  و  قدمتها على كلام الله و رسوله من جهة أخرى . فلما ظهر المعتزلة وجدوا الأرضية مُهيأة ، فأخذوا منها أصولهم الأساسية ، كالتأويل الفاسد للنصوص ، و نفي الصفات ، و تقديم آرائهم و أهوائهم على الشرع، القول بالقدر حسب نظرتهم له . فهم لم يأتوا بجديد ،و لا جددوا شيئا على مستوى أصولهم الفاسدة .

     و من جهة أخرى فهم لم يُوفقوا بين المنقول و المعقول كما قال الشيخ ، و إنما هم أفسدوا المنقول الصحيح و المعقول الصريح بأهوائهم و آرائهم و ظنونهم . علما بأنه لا يصح القول بأنهم وفقوا بين المنقول و المعقول ، لأن الأصل هو أنه لا يُوجد تناقض بين الوحي الصحيح و العقل الصريح . لكن الذي أوجد التناقض هم أهل الأهواء  من السبئية و القدرية ، و المعتزلة و الشيعة، أوجدوه بين الوحي الصحيح و آرائهم و أهوائهم ،و لم يُوجد بين الشرع الصحيح و العقل الصريح ، فهذا لا يُمكن أن يحدث .

    و عليه فإن المعتزلة لم يجمعوا بين الوحي الصحيح و العقل الصريح، و إنما أفسدوهما ،و فرضوا عليهما تأويلاتهم التحريفية على طريقة سلفهم من الفرق الضالة من جهة ، و فتحوا على أنفسهم و أمثالهم طريقا جديدا من الضلال و الانحراف بأصولهم الفاسدة من جهة أخرى . و هذا أمر سبق أن بيناه و أثبتاه بالأدلة الدامغة فلا نعيده هنا.

 

    و الموقف الأخير- السابع عشر – يتضمن اعتراضا مفاده أنه ربما يقول بعض الناس : إنكم نفيتم عن المعتزلة اتصافهم بالعقلانية ، و هذا مخالف لما هو شائع بين الناس من أن المعتزلة كانوا روادا للعقلانية في تاريخ الفكر الإسلامي !! .

 

    و أقول: قبل الإجابة عن ذلك أتساءل: ما معنى العقلانية ؟، و من هو العقلاني ؟ . و هل العقلانية هي استخدام العقل ؟؟ ، كلا ليست العقلانية هي استخدام العقل لأن كل بني آدم يستخدمون عقولهم عامة ، و أهل العلم منهم خاصة . فلا يُمكن أن يُوجد علم و علماء دون عقل . لأنه هو الوسيلة لفهم الشرع و العالم و مختلف المعقولات . و عليه فليس المعتزلة هم وحدهم الذين  استخدموا عقولهم ، فلا شك أن الذين سبقوهم و عاصروهم و جادلوهم و خالفوهم ،و الذين أتوا من بعدهم ، كلهم استخدموا عقولهم و ردوا بها على من يُخالفهم .

 

 و هل العقلانية هي كثرة الكلام و الجدال ،و الشقشقات و المغالطات ، و التدليسات و الخُزعبلات ؟؟!! . كلا ليست هي كذلك ، و قد كان المعتزلة من أكثر الطوائف جدالا و تقعرا بالكلام ، و تلاعبا بالألفاظ ، لكن هذا ليس دليلا قاطعا على العبقرية ،و لا كان ذلك  خاصا بهم . لأن القدرة على الجدال هي فطرة في الإنسان بنوعيها : الحَسن و المذموم ،و تزداد نموا و توسعا و تعمقا بالممارسة ، و هذا أمر ثابت بدليل الواقع و الشرع و التاريخ . قال سبحانه : { وَكَانَ الْإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً }الكهف54- ،و (( و كان الإنسان أكثر  )) ،و {قَالُواْ يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتَنِا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ }هود32-، {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ }النحل125-،و {وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ }الزخرف58 -. و لهذا لا يصح القول بأن من مظاهر عقلانية المعتزلة أنهم اتقنوا الجدال ، فهذا كان في متناول معظم أهل العلم ، و العبرة فيه ليست كثرة الكلام و لا قلته و إنما العبرة فيه أساسا هي أن يكون جدالا  حسنا صحيحا: مُنطلقا و منهجا و تطبيقا ، موافقا للوحي و العقل و العلم . و إذا لم يكن كذلك فهو ليس علما ، و إنما هو أهواء و ظنون ، و شقشقات و شبهات ، و سفسطات و كلام فارغ .

 

     و بناءً على ما جاء في الوحي الصحيح ، و ما يقوله العقل الصريح  فإن العقلاني هو الإنسان الذي يحتكم إلى العقل الفطري و يأخذ بأحكامه[46]. و كل إنسان إلا وله نصيب من هذه العقلانية بقدر التزامه بشرطيها . و كلما انحرف الإنسان عن الوحي الصحيح، و العقل الصريح ابتعد عن العقلانية و أخل بشرطيها . و عليه فإن المعتزلة لهم نصيب منها كغيرهم من مختلف طوائف أهل العلم . و قد تجلت عقلانيتهم في المواقف التي وافقوا فيها الشرع و العقل الفطري من جهة ، لكنهم لم يكونوا عقلانيين في المواقف التي خالفوا فيها الوحي و العقل البديهي من جهة أخرى . فعقلانيتهم استثناءً في مذهبهم و ليست أصلا له و لا فيهم  .

 

    و ختاما لهذا الفصل- الرابع و الأخير-  يُستنتج منه أنه تبين بالشواهد و الأدلة الصحيحة أنه ترتبت عن مذهب المعتزلة نتائج و آثار سلبية كثيرة جدا على مستوى الأصول و الفروع ، و المنهج و التطبيق ، ذكرناه مُفصلة في المبحث الأول . فارتكب بها المعتزلة جرائم في حق العقل الصريح و الوحي الصحيح .

 

  و اتضح أيضا أن أسباب انحراف المعتزلة و جنايتهم على الشرع و العقل: منهجا و تطبيقا ، تعود أساسا إلى أنهم لم يُقيموا مذهبهم على الوحي الصحيح ، و العقل الصريح ، و إنما أقاموه أساسا على خلافهما من ناحية ، و على ظروفهم و آرائهم و أهوائهم المناقضة لهما غالبا من ناحية أخرى .

 

    و تبين من المواقف و الاعتراضات التي أوردناها أن معظم الخصائص و الصفات التي مُدح بها المعتزلة ، و عُرفوا بها بين كثير من أهل العلم قديما و حديثا ، كوصفهم بأنهم دعاة الحرية و العقلانية ، و أهل التوحيد و العدل ،و أنهم جمعوا بين المنقول و المعقول ؛ تبين أنها صفات و خصائص لا تنطبق عليهم كُلية ً ، و إنما عكسها هو الصحيح ،و إن انطبق عليهم بعضها فبشكل جزئي استثنائي ، و ليست هي مُميزات و صفات أساسية و أصلية فيهم .

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الخاتمة

    أظهر كتابنا هذا مظاهر متنوعة و كثيرة جدا من جنايات المعتزلة على العقل الصريح و الشرع الصحيح على المستويين المنهجي و التطبيقي . منها أنه تبين أن المعتزلة أقاموا مذهبهم على انحرافيّن جسيمين أفسدا عليهم مذهبهم ، و كانا هما السبب فيما ارتكبوه من جرائم في حق الوحي و العقل ، الأول هو تقديم المعتزلة لآرائهم و ظنونهم و أهوائهم على كلام الله و رسوله ، و على العقل الصريح أيضا . و الثاني ممارسة المعتزلة للتأويل الفاسد في تعاملهم من النصوصو الشرعية .

    و منها فقد اتضح جليا أن المعتزلة نفوا الصفات الإلهية ، و عطّلوا الخبرية منها بالتأويل التحريفي ، و تظاهروا من جهة أخرى بإثبات بعضها تلبيسا و تغليطا بدعوى أنهم يُثبتون الأسماء دون المعاني . فتناقضوا في موقفهم  من الصفات من جهتين : الأولى هي أنهم نفوا الصفات بألفاظ لا تتضمن نفيا، بل تستلزم عدم نفيها .

    و الجهة الثانية أنهم ركزوا على التوحيد بمعنى نفي الصفات ، و هذا يستلزم نفي وجود الله أصلا ، لأن نفيهم لصفاته يستلزم نفي وجوده . بحكم أن الموجود لابد له من صفات ، و لا موجود دون صفات ، و بما أنهم نفوا الصفات ، فالذي لا صفات له هو المعدوم لا الموجود . فهذا تناقض أساسي في مذهبهم  ينسفه من داخله  .

    و اتضح أيضا أن المعتزلة أخطؤوا في موقفهم من موضوعي القضاء و القدر ،و الهداية و الضلال ، مع أن الشرع قد بينهما بوضوح ، و يفهمهما العقل الصريح بسهولة . و هذا يعني إما أنهم  لم يفهموا موضوعي القضاء و القدر،و الهداية و الضلال ، و لم يكونوا في المستوى العلمي الذي يُؤهلهم لفهمهما . و إما أنهم تعمدوا إظهار مخالفتهم لما قاله الشرع حول الموضوعين انتصارا لمذهبهم و تعصبا له بالباطل !! .

     فمن ذلك أنهم لم يُفرّقوا بين إرادة الله تعالى الكونية و إرادته الشرعية ،و لا بين ما يُحبه و يرضاه ، و بين ما لايُحبه و لا يأمر به ، مع دخول كل ذلك في إرادته الكونية المهيمنة على العالم . فمع وضوح هذا الأمر شرعا و عقلا ، فإنهم خالفوه و أنكروه ، بدعوى أن إدخال أفعال البشر القبيحة في قضاء الله و قدره و مشيئته هو ظلم لهم . و هذا فهم غير صحيح و زعم باطل، لأن الله تعالى قضى و قدّر ما سيفعله البشر باختيارهم بناء على علمه المُسبق ،و ليس هو الذي فعل أعمالهم، و لا أجبرهم عليها ،و إنما هم الذين فعلوها . فلم يفهم هؤلاء أن سبق العلم لا يعني قهرا و لا جبرا ، أو أنهم لم يُريدوا فهمه انتصارا لمذهبهم في موقفه من القضاء و القدر .

 

    و منها فقد تبين أن المعتزلة ارتكبوا جرائم كبرى في حق الوحي و العقل من خلال موقفهم من العقل و منهج الفهم و الاستدلال . فخالفوا الشرع و عطّلوه صراحة ، و أخلوا بمنهج البحث و الاستدلال ،و تلاعبوا به حسب آرائهم أهوائهم و ظنونهم . و أفسدوا العقل البديهي و حمّلوه ما لا يطيق ، و زجوا به في غير مجاله ، و قدّموه على الوحي الصحيح، و جعلوه وثنا معبودا من دون الله . فحقيقة موقف المعتزلة من العقل و الشرع ليس أنهم قدموا عقولهم على الشرع كما هو شائع بين أهل العلم، و إنما الحقيقة هي أنهم قدموا آراءهم و أهواءهم و ظنونهم  على  الوحي الصحيح ،و العقل الصريح . فافتروا بذلك عليهما ، و كانوا من أعدائهما بقصد أو بغير قصد .  

 

     و اتضح من ذلك أيضا أن المعتزلة كانوا أصحاب منهج علمي ناقص و مُنحرف لا يصلح أن يكون أساسا للفهم الصحيح ،و لا للبحث و الاستدلال من جهة ، و لا كانوا أصحاب منهج نقدي في تعاملهم مع الأحاديث النبوية و الروايات البشرية .  و بسب هذا الانحراف عن المنهج العلمي الصحيح،  مارسوا التغليط و التلبيس، و الانتقاء و الإغفال ، و التأويل الفاسد ،و قدموا أهواءهم و آراءهم على الشرع و العقل . فهم بهذا -و غيره من الانحرافات المنهجية- يكونون قد دخلوا مجال الفكر و العلم بلا منهج صحيح في الفهم، و لا في البحث  و لا في الاستدلال ، فأوقعهم ذلك في الأخطاء و الإنحرافات ،و أوردهم المهالك .

 

   و منها فقد تبين بالأدلة الصحيحة أن المعتزلة كانوا خصوما للعقل الصريح، و الشرع الصحيح  ، أكثر مما كانوا مُنتصرين لهما . إنهم تحدثوا بالعقل ضد العقل، و تكلموا بالشرع ضد الشرع . و تظاهروا بالعقل انتصارا لآرائهم و أهوائهم ،و ليس انتصارا له و لا للشرع . إنهم غالوا في العقل ليس من أجله ،و لا بأمره ، و إنما فعلوا ذلك من أجل مذهبهم على حساب حقائق العقل و الوحي .

 

     و منها فقد اتضح أن حقيقة مذهب المعتزلة أنه في أساسه  مذهب علماني مُتدثر بالدين، رفع شعاره ثم تقدم عليه و تلاعب به، و أفسده و عطله و جعله تابعا له . فهذه هي حقيقة مذهب المعتزلة ، من حيث يدرون أو لا يدرون ، بقصد منهم أم بغير قصد !! .

 

    و أخيرا فإن من أهم تلك النتائج أن كتابنا هذا قد هدم مذهب المعتزلة و قوّضه بهدمه لأهم أسسه التي قام عليها ؛ فنقضنا قوله بتقديم العقل على الشرع ، و أبطلنا قوله بالتأويل التحريفي في تعامله مع النصوص الشرعية ،و و بينا فساد موقفه في نفيه للصفات الإلهية . فلم يبق لمذهبهم أصل يقوم عليه، و لن تقم له قائمة بعد هدم أهم أصوله .

 

[1] أنظر مثلا: ابن قيم الجوزي: الصواعق المرسلة ج 1 ص : 55   .و الروح  ، حققه محمد اسكندر يلدا  ط1  بيروت ، دار الكتب العلمية ، 1982 ، ص :354  .و ابن عقيل : الرد على الأشاعرة العزال ص : 68  .. و ابن الجوزي : تلبيس إبليس ص : 29  .

[2] أبو القاسم البلخي، و القاضي عبد الجبار ، و الحاكم الجشمي : فضل الاعتزال و طبقات المعتزلة ،  ص: 143 و ما بعدها .

[3] الطبري: تاريخ الطبري ، ج 6  ص: 3 .

[4] أبو القاسم البلخي، و القاضي عبد الجبار ، و الحاكم الجشمي : فضل الاعتزال و طبقات المعتزلة ، ص: 287  .

[5] أنظر مثلا : الجاحظ : رسائل الجاحظ ، ج 1 ص: 64 .

[6] أنظر مثلا: الشهرستاني: الملل و النحل ، ص: 56 ،و مابعدها ، و 97 و ما بعدها . و الموسوعة العربية العالمية ، مادة : الجبرية،  القدرية ، الجهمية .

[7] أبو القاسم البلخي، و القاضي عبد الجبار ، و الحاكم الجشمي : فضل الاعتزال و طبقات المعتزلة ، ، ص: 143 و ما بعدها .

[8] مسلم : الصحيح ، ج 8 ص: 61 .

[9] نقلا عن  محمد صالح السيد : أبو جعفر الإسكافي و آراؤه الكلامية و الفلسفية ، دار قباء ، القاهرة ، 1998 ، ص: 114 .

[10] أبو القاسم البلخي، و القاضي عبد الجبار ، و الحاكم الجشمي : فضل الاعتزال و طبقات المعتزلة ، ص: 391   .

[11] حافظ بن أحمد حكمي: معارج القبول بشرح سلم الوصول إلى علم الأصول ، دار ابن القيم، الدمام ، 1990 ، ج 1 ص: 110 -111.

[12] ابن مفلح : الآداب الشرعية و المنح المرعية،بيروت ، دار العلم للجميع، 1972،ج 1ص: 11، 235-236 . و الخلال : السنة ،حققه عطية الزهراني،ط2 الرياض، دار الراية،1415ج 1ص: 235، 526، 532، 543، 549 . و أبو الحسين بن أبي يعلى : طبقات الحنابلة ،ج 2ص: 280 ..و عبد الإله الأحمدي : المسائل و الرسائل المروية عن الإمام احمد ،ط2 الرياض ، دار طيبة،ج1ص: 167 .

[13] ذكر ذلك على غلاف كتابه ، هكذا : فلسفة المعتزلة : فلاسفة الإسلام الأسبقين ،  مطبعة دار نشر الثقافة ، الإسكندرية ، الجزء الأول.

[14] عادل العوا : المعتزلة و الفكر الحر  ، ط1 ، دار الأهالي ، دمشق ، ص: 65 .

[15] قدري حافظ طوقان : مقام العقل عند العرب ، دار القدس ، بيروت ، ص: 78 .

[16] الجاحظ: رسائل الجاحظ ، الرسالة  ج 1 ، ص: 63  .

[17] سبقت الإشارة إلى نماذج من تلك الردود .

[18] الجاحظ : رسائل الجاحظ ، الرسالة السادسة ،  ج 1 ص: 66 .

[19] أبو القاسم البلخي، و القاضي عبد الجبار ، و الحاكم الجشمي : فضل الاعتزال و طبقات المعتزلة ، ص: 391   .

[20] للتوسع في ذلك، أنظر مثلا: ابن قيم الجوزية : الصواعق المرسلة على الجهمية و المعطلة .

[21] محمد صالح السيد : أبو جعفر الإسكافي و آراؤه الكلامية و الفلسفية ، دار قباء ، القاهرة ، 1998 ، ص: 10 .

[22] نفس المرجع ، ص: 109  .

[23] الذهبي: سير أعلام النبلاء ، ج 14 ص: 59 و ما بعدها .

[24] نفسه ، ج 14 ص: 61 .

[25] الشهرستاني : الملل و النحل ، الدار العلمية ، بيروت ، 1998 ، ص:228 و ما بعدها .

[26] سبق توثيق ذلك  .

[27] عنها أنظر مثلا : ابن العماد الحنبلي : شذرات الذهب ، ج 3 ص: 81 و ما بعدها .

[28] راجع في ذلك: ابن قيم الجوزية : الصواعق المرسلة على الجهمية و المعطلة .

[29]  أبو الحسين الخياط : الانتصار و الرد على ابن الرواندي الملحد ، ط2 ، الدار العربية للكتاب،  1993، ص: 13 .

[30] سليمان الشواشي : واصل بن عطاء و آراؤه الكلامية ، الدار العربية للكتاب ، ليبيا ، 1993 ، ص: 7 .

[31] سبق توثيق ذلك، و هذا من التاريخ الثابت الذي لا اختلاف حوله .

[32] سليمان الشواشي : واصل بن عطاء و آراؤه الكلامية ، ، ص: 8 ، 9 .

[33] سليمان الشواشي : واصل بن عطاء و آراؤه الكلامية  ، ص: 8 ، 9 .

[34] عن ذلك أنظر بحثنا : منهج أهل الحديث في الرد على المتكلمين- أسسه و تطبيقاته-  ، و البحث منشور إلكترونيا .

[35] عبد الله بن أحمد : السنة ، ص: 34-35 .

[36] ابن تيمية: درء تعارض العقل و النقل ، ج2 ص: 163 .

[37] نفس المصدر ، ج2 ص: 163 .

[38] نفسه ، ج2ص: 163  .

[39] ابن القيم الجوزية : اجتماع الجيوش الإسلامية ، ص: 97 .

[40] سليمان الشواشي : واصل بن عطاء و آراؤه الكلامية ، ص: 160  .

[41] علي فهمي خشيم : الجبئيان : أبو علي ، و أبو هاشم    ص: 98 ، 99 .

[42] أبو القاسم البلخي، و القاضي عبد الجبار ، و الحاكم الجشمي : فضل الاعتزال و طبقات المعتزلة  ، ص: 183 .

[43] جمال الدين القاسمي : تاريخ الجهمية و المعتزلة ، ط 3 ، مؤسسة الرسالة ، بيروت ، 1985 ، ص: 3- 4 .

[44] و معهم الجهمية ، لأن الجهمية أكثر ضلالا من المعتزلة ، و هما وجهان لعملة واحدة هي التعطيل .

[45] عمر سليمان الأشقر : تاريخ الفقه الإسلامي، قصر الكتاب، البليدة ، الجزائر ، ص: 46 و ما بعدها ، 68 و ما بعدها ، 74 و ما بعدها

[46] توسعتُ في هذا الموضوع و ذكرت الأدلة عليه في كتابنا: وقفات مع أدعياء العقلانية .، و الكتاب منشور إلكترونيا في عدة مواقع ، منه موقع صيد الفوائد .

  • الاحد PM 04:02
    2021-07-25
  • 4531
Powered by: GateGold