المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 412476
يتصفح الموقع حاليا : 389

البحث

البحث

عرض المادة

دعوى معارضة السنة للقرآن في حكم أكل الميتة والدم

دعوى معارضة السنة للقرآن في حكم أكل الميتة والدم(*)

مضمون الشبهة:

يدعي بعض المغرضين أن السنة عارضت القرآن في حكم أكل الميتة والدم، ويستدلون على ذلك بقوله عز وجل: )إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم (173)( (البقرة)، بينما يحلهما النبي - صلى الله عليه وسلم- بقوله: «أحلت لكم ميتتان ودمان، فأما الميتتان: فالحوت والجراد، وأما الدمان: فالكبد والطحال...». ويتساءلون: كيف يحرم الله - عز وجل- أكلهما مطلقا، ثم تأتي السنة فتستدرك على القرآن مثل هذا الحكم"؟

وجها إبطال الشبهة:

1) إن حديث «أحلت لكم ميتتان ودمان..» حديث صحيح ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم، كما أن الحديث لا يعارض القرآن؛ لأن القرآن نفسه قد خصص صيد البحر وأحله من عموم الميتة في قوله: )أحل لكم صيد البحر( (المائدة: ٩٦)، كما أن السنة تخصص عموم القرآن فيكون ما خصصته من إباحة الحوت والجراد من عموم الميتة، والكبد والطحال من عموم الدم - مباح بلا خلاف، كما أن ماء البحر مالح فهو مطهر لأسماك البحار مما يحفظ أسماك البحار بعد موتها فلا تفسد إلا بعد مضي وقت، كما أن دم السمك والجراد مخالف لسائر الدماء؛ لأنه لا يسيل مثلها فلا يكون دما مسفوحا وبالتالي فلا يحرم.

2) لقد أكد العلم الحديث مدى الأضرار الجسيمة التي تصيب الإنسان من جراء تناول الميتة والدم المسفوح، وأثبت - أيضا - مدى إعجاز التشريع الإسلامي في استثناء السمك والجراد من جملة الميتة، والكبد والطحال من جملة الدم؛ وذلك لانتفاء علة المنع من الأكل عنهما.

التفصيل:

أولا. الحديث صحيح ولا يعارض القرآن؛ لأن القرآن قد خصص صيد البحر وأحله من عموم الميتة، كما أن السنة تخصص عموم القرآن فيكون ما خصصته منه مباح بلا خلاف:

إن حديث النبي صلى الله عليه وسلم «أحلت لكم ميتتان ودمان، فأما الميتتان فالحوت والجراد، وأما الدمان فالكبد والطحال»[1] - حديث صحيح ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم، كما أن هذا الحديث لا يعارض القرآن في قوله تعالى: )إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم (173)( (البقرة)؛ وذلك لأن القرآن نفسه قد خصص صيد البحر وأحله من عموم الميتة في قوله تعالى: )أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعا لكم وللسيارة وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما( (المائدة:٩٦)، وفي هذا يقول القرطبي في تفسيره: "هذا حكم بتحليل صيد البحر وهو كل ما صيد من حيتانه، والصيد هنا يراد به المصيد، وأضيف إلى البحر لما كان منه بسبب..."[2] إلخ.

ومن المتقرر أن من وظائف السنة النبوية بيان وتفسير ما جاء في القرآن، كتفصيل الأحكام التي نص عليها القرآن إجمالا، ومن ذلك أيضا تخصيص العام، كالأحاديث التي خصصت الوارث والمورث في قوله تعالى: )يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين( (النساء: ١١)، فخصصت السنة المورث بغير الأنبياء، قال صلى الله عليه وسلم: «لا نورث ما تركنا صدقة»[3]، كما خصصت السنة الوارث بغير القاتل، يقول صلى الله عليه وسلم: «ليس للقاتل شيء، وإن لم يكن له وارث فوارثه أقرب الناس إليه، ولا يرث القاتل شيئا»[4].

والحديث الذي بأيدينا من هذا الباب - تخصيص العام بالخاص -، فقد حرم الله تعالى أكل الميتة وأكل الدم إجمالا؛ لما فيهما من خطر كبير وأضرار جسيمة على صحة الإنسان ومن ثم على المجتمع كله، وجاءت السنة فخصصت من الميتة صنفين: "الحوت - السمك - والجراد"، وخصصت من الدم صنفين: "الكبد والطحال"؛ وذلك لانتفاء علة المنع عنهما.

فبالنسبة للميتة قال ابن القيم في بيان علة تحريمها: "إن الميتة إنما حرمت لاحتقان الرطوبات والفضلات والدم الخبيث فيها، والذكاة[5] لما كانت تزيل ذلك الدم والفضلات؛ كانت سبب الحل، وإلا فالموت لا يقتضي التحريم، فإنه حاصل بالذكاة كما يحصل بغيرها، وإذا لم يكن في الحيوان دم وفضلات تزيلها الذكاة؛ لم يحرم بالموت، ولم يشترط لحله ذكاة كالجراد، ولهذا لا ينجس بالموت ما لا نفس له سائلة، كالذباب والنحلة، ونحوهما، والسمك من هذا الضرب؛ فإنه لو كان له دم وفضلات تحتقن بموته، لم يحل لموته بغير ذكاة، ولم يكن فرق بين موته في الماء وموته خارجه؛ إذ المعلوم أن موته في البر لا يذهب تلك الفضلات التي تحرمه عند المحرمين إذا مات في البحر...[6]

وقد خصص سبحانه وتعالى ميتة البحر وأحلها في قوله: )أحل لكم صيد البحر وطعامه( (المائدة: ٩٦)، وجاء في الحديث الصحيح عن البحر: «هو الطهور ماؤه، الحل ميتته»[7].

يقول الشيخ محمد متولي الشعراوي في تفسير قوله تعالى: )إنما حرم عليكم الميتة والدم( (البقرة: ١٧٣): "ومعنى الميتة - بالياء الساكنة - أي: التي خرجت روحها حتفا؛ لأنه قد تخرج الروح إزهاقا بمعنى أن تذبحه فيموت؛ لكن هناك مخلوقات تموت حتف أنفها، وساعة تموت الحيوانات حتف أنفها تحتبس فيها خلاصة الأغذية التي تناولتها وهي الموجودة بالدم، وهذا الدم فيه أشياء ضارة كثيرة، ففي الدم مواد ضارة فاسدة استخلصتها أجهزة الجسم وهو حي، وكانت في طريقها إلى الخروج منه، فإذا ما ذبحناه؛ سال كل الدم الفاسد والسليم، ولأن درء المفسدة مقدم على جلب المصلحة، فإننا نضحي بالدم السليم مع الدم الفاسد، وهذا الدم يختزنه الجسم عندما يموت، وتظل بداخله الأشياء الضارة فيصبح اللحم مملوءا بالمواد الضارة التي تصيب الإنسان بالأمراض. ونظرة بسيطة إلى دجاجتين، إحداهما مذبوحة أريق دمها، والأخرى منخنقة، أي: لم يرق دمها، فإننا نجد اختلافا ظاهرا في اللون، حتى لو قمنا بطهي هذه وتلك فسنجد اختلافا في الطعم، سنجد طعم الدجاجة المذبوحة مقبولا، وسنجد طعم الدجاجة الميتة غير مقبول.

وكان الذين لا يؤمنون بإله أو بمنهج يقومون بذبح الحيوانات قبل أكلها؛ لأن تجاربهم قد هدتهم إلى أن هذه عملية فيها مصلحة، وإن لم يعرفوا طريقة الذبح الإسلامية.

والحق سبحانه يصرح في قوله: )إنما حرم عليكم الميتة( أن كل ميتة حرام، وما دامت ميتة فقد كان فيها حياة وروح ثم خرجت، لكننا نأكل السمك وهو ميت، وذلك تخصيص من السنة لعموم القرآن، فقد قال صلى الله عليه وسلم: «أحلت لكم ميتتان ودمان، فأما الميتتان فالحوت والجراد، وأما الدمان فالكبد والطحال».

لماذا هذا الاستثناء في التحليل؟ لأن للعرف في تحديد ألفاظ الشارع مدخلا، فإذا حلفت ألا تأكل لحما وأكلت سمكا فهل تحنث؟ لا تحنث ويمينك صادقة! رغم أن الله وصف السمك بأنه لحم طري؛ إلا أن العرف ساعة يطلق اللحم لم يدخل فيه السمك.

إذن، فالعرف له اعتبار، لذلك فالزمخشري يقول في هذه المسألة: لو حلفت ألا تأكل اللحم وأكلت السمك فإجماع العلماء على أنك لم تحنث في يمينك". وضرب مثلا آخر فقال: لو حلفت بأن تركب دابة، والكافر قد أسماه الله دابة فقال: )إن شر الدواب عند الله الذين كفروا( (الأنفال: ٥٥) فهل يجوز ركوب الكافر؟ لا يجوز، فكان مقتضى الآية أنه يصح لك أن تركبه، وعلق على ذلك قائلا: صحيح أن الدابة هي كل ما يدب على الأرض، إلا أن العرب خصتها بذوات الأربع.

لهذا كان للعرف مدخل في مسائل التحليل والتحريم، فإذا قال قائل: إن الله حرم الميتة، والسمك والجراد ميتة فلماذا نأكلها؟ نرد عليه: إن العرف جرى على أن السمك والجراد ليسا لحما، بدليل قولهم: "إذا كثر الجراد أرخص اللحم"، وذلك يعني أن الجراد ليس من اللحم.

أما بالنسبة للسمك فلم يكن كالميتة التي حرمها الله؛ لأن الميتة المحرمة هي كل ما يذبح ويسيل دمه، والسمك لا نفس سائلة له، أي: لا يسيل دمه كسائر الدماء. والجراد أيضا كذلك، إذن فتحليل أكله وهو ميت إنما جاء بسبب عدم وجود نفس سائلة يترتب عليها انتقال ما يضر من داخله إلى الإنسان، أما الكبد والطحال فليسا بدم؛ فالدم له سيولة، والكبد والطحال لحم متجمد متماسك[8].

قال النووي في "المجموع": "ولا يحل شيء من الحيوان المأكول سوى السمك والجراد إلا بذكاة، لقوله تعالى: )حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع إلا ما ذكيتم وما ذبح على النصب( (المائدة: 2)، ويحل السمك والجراد من غير ذكاة لقوله صلى الله عليه وسلم: «أحلت لنا ميتتان: الحوت والجراد»[9]؛ ولأن ذكاتهما لا تمكن في العادة فسقط اعتبارهما... وقد أجمعت الأمة على تحريم الميتة غير السمك والجراد، وأجمعوا على إباحة السمك والجراد، وأجمعوا أنه لا يحل من الحيوان غير السمك والجراد إلا بذكاة أو ما في معنى الذكاة"[10].

وقد حرم الله تعالى الدم إجمالا في الآية السابقة، ثم خص ذلك في الآية الأخرى في سورة الأنعام، قال تعالى: )قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير فإنه رجس أو فسقا أهل لغير الله به( (الأنعام: ١٤٥) فنفى سبحانه وتعالى في هذه الآية حرمة سائر الدماء إلا ما كان مسفوحا، وهو المصبوب السائل الذي يخرج بالذبح أو النحر ونحوه.

 ومن ذلك ندرك علة تحليل النبي -صلى الله عليه وسلم- أكل الكبد والطحال؛ لأنهما خلاصة دم متجمد، فلا صورة سائلة له، فانتفت بذلك عنهما علة المنع.

وإلى هذا ذهب جمهور الأئمة، فقالوا: إن الدم المحرم هو الدم المسفوح لا مطلق الدم، فيحمل الدم المطلق في الآية على المقيد في آية الأنعام[11].

قال القرطبي: "اتفق العلماء على أن الدم حرام نجس لا يؤكل ولا ينتفع به.

قال ابن خويزمنداد: وأما الدم فمحرم ما لم تعم به البلوى، ومعفو عما تعم به البلوى، والذي تعم به البلوى هو الدم في اللحم وعروقه، ويسيره في البدن والثوب يصلى فيه، وإنما قلنا ذلك لأن الله تعالى قال: )حرمت عليكم الميتة والدم(، وقال في موضع آخر: )قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا( (الأنعام: ١٤٥)، "فحرم المسفوح من الدم؛ لأن التحفظ من هذا إصر وفيه مشقة، والإصر والمشقة في الدين موضوع، وهذا أصل في الشرع؛ أنه كلما حرجت الأمة في أداء العبادة فيه وثقل عليها - سقطت العبادة عنها فيه، ألا ترى أن المضطر يأكل الميتة، وأن المريض يفطر ويتيمم في نحو ذلك.

وذكر الله - سبحانه وتعالى- الدم هاهنا مطلقا، وقيده في الأنعام، بقوله: )مسفوحا(وحمل العلماء هاهنا المطلق على المقيد إجماعا، فالدم هنا يراد به المسفوح؛ لأن ما خالط اللحم فغير محرم بإجماع، وكذلك الكبد والطحال مجمع عليه، وفي دم الحوت المزايل له اختلاف، وروي عن القابسي: أنه طاهر، ويلزم عن طهارته أنه غير محرم، وهو اختيار ابن العربي، قال: لأنه لو كان دم السمك نجسا لشرعت ذكاته. وهو مذهب أبي حنيفة في دم الحوت، والدليل على أنه طاهر أنه إذا يبس ابيض، بخلاف سائر الدماء فإنه يسود. وهذه النكتة لهم في الاحتجاج على الشافعية[12].

وعلى هذا فالتعارض المتوهم بين السنة والقرآن في حكم أكل الميتة والدم ليس صحيحا؛ لأن قوله تعالى: )حرمت عليكم الميتة والدم( حكم عام مجمل، وقد استثنى الله -عز وجل- من الميتة ميتة البحر، فقال تعالى: )أحل لكم صيد البحر وطعامه( (المائدة: ٩٦)، وقد خص الدم بما هو مسفوح فقط، وذلك يوافق تماما ما جاء في الحديث الصحيح: «أحلت لكم ميتتان ودمان...» فالميتتان هما الحوت (السمك) والجراد؛ لأن دمهما يختلف عن سائر الدماء، فلا ضرر من أكلهما، والدمان هما الكبد والطحال؛ لأنهما ليسا دما مسفوحا، بل خلاصة دم متجمد، فلا ضرر من أكلهما، فأين التعارض إذن؟!

ثانيا. الإعجاز العلمي للتشريع الإسلامي في تحريم الميتة والدم، واستثناء السمك والجراد والكبد والطحال:

لقد أثبت العلم - بما لا يدع مجالا للشك - أن الدماء التي أودعها الله لحوم الحيوانات تحمل من الجراثيم والمضار الكثير.

ومن هنا ندرك الحكمة والمقصد الشرعي من التذكية التي أمر بها الحق سبحانه قبل تناول لحوم الحيوانات؛ وذلك أن التذكية إخراج للدم الخبيث الضار.

إن ذبح الحيوان بالطريقة المعهودة في الإسلام يستخلص المصدر الأساسي لنقل هذه الجراثيم وهو الدم، فلا يمكن بعدها السماح بانتقالها إلى الأعضاء.

وإذا ذبح الحيوان قبل موته تخلص الجسم من هذه المادة التي تسبب انتقال هذه الجراثيم إليه؛ لأن الدم هو السائل الحيوي المهم في جسم الكائن الحي والذي يستطيع مقاومة ملايين الطفيليات بما يحويه من كرات بيضاء وأجسام مضادة ما دام الكائن حيا وفي درجة حرارته الطبيعية، فإذا مات الحيوان وتوقف الدم عن الجريان أصبحت الميكروبات بدون مقاومة، وفي هذه الحالة يكون أسلم الطرق هو الإراقة الكاملة لهذا الدم، وإخراجه من الجسم في أسرع وقت ممكن.

ولما كان الدم هو المادة المرئية الخارجة من الحيوان عند التذكية فإنه يحسن أن نتناوله بشيء من التأصيل الشرعي العلمي.

التفسير العلمي لتحريم الدم:

الدم هو هذا السائل الأحمر القاني الذي يتكون من أخلاط عديدة منها الخلايا الحمراء الممتلئة بمادة الهيموجلوبين التي تقوم بنقل الأكسجين إلى مختلف خلايا الجسم ضد غزو حاملات الأمراض من الجراثيم والطفيليات، والصفائح التي تتحطم حول نزيف الدم من أجل تجلطه.

ويحمل الدم سموما وفضلات كثيرة ومركبات ضارة، وذلك لأن إحدى وظائفه الهامة هي نقل نواتج استقلاب الغذاء في الخلايا من فضلات وسموم ليطرحه خارج الجسم عبر منافذها التي هيأها الله - عز وجل- لهذا الغرض، وأهم هذه المواد هي: البولة وحمض البول والكرياتنين وغاز الفحم، كما يحمل الدم بعض السموم التي ينقلها من الأمعاء إلى الكبد ليصار إلى تعديلها.

وكذلك فإن الجراثيم الممرضة ربما انتقلت إليه عبر السكين التي ذبح بها الجزار، أو عبر الهواء المحيط، أو قد تنتقل من مصدر مجاور؛ فإذا انتقل عدد من الجراثيم إلى الدم فإن الجرثومة الواحدة تتضاعف هندسيا كل نصف ساعة، فتتوالد الجرثومة الواحدة إلى اثنتين، ولو اعتبرنا أن 1000 جرثومة انتقلت إلى هذا الجرام من الدم فإنها تصبح بعد نصف ساعة 2000، وبعد ساعة واحدة يرتفع العدد إلى 4000، وبعد ساعة ونصف تصبح 8000 جرثومة ثم يرتفع عدد الجراثيم إلى 16000 جرثومة بعد ساعتين، وبعد ثلاث ساعات يكون العدد قد وصل إلى 64000 جرثومة تغزو هذا الجرام الواحد من الدم.

ومعلوم أن الدم أصلا توجد فيه كميات هائلة من الجراثيم، بل إنه بعد وفاة الحيوان يصبح ملوثا ضارا جدا بصحة الإنسان إذا تم شربه، أو حفظه في مكان ثم شربه بعد ذلك.

وهنا سؤال يطرح نفسه وهو إذا كان فعل الجراثيم بالدم هو ما ذكر آنفا، فبالتأكيد سيكون فعلها باللحم كذلك فلماذا يؤكل اللحم ولا نصاب بما يصاب به آكل الدم؟

والجواب على ذلك هو أن الجراثيم تبدأ بغزو السطح الخارجي عبر التهام ما يوجد في الطبقة الصلبة، فيتناقص عنها الغذاء ويموت عدد كبير منها لعدم قدرتها على التكاثر بسرعة، فإذا أراد الطباخ أن يطبخ هذه القطعة من اللحم فإنه يقوم بغسلها من الخارج؛ وعندها تكون كمية الجراثيم قد أزيلت بهذه العملية، ثم بالطبخ يتم القضاء على كمية أخرى من الجراثيم.

وعند تناول كمية كبيرة من الدم فإن هذه المركبات تمتص ويرتفع مقدارها في الجسم، إضافة إلى المركبات التي يمكن أن تنتج عن هضم الدم نفسه، مما يؤدي إلى ارتفاع نسبة البولة في الدم، والتي يمكن أن تؤدي إلى اعتلال دماغي ينتهي بالسبات.

وهذه الحالة تشبه مرضيا ما يحدث في حالة النزف الهضمي العلوي، ويلجأ عادة هنا إلى امتصاص الدم المتراكم في المعدة والأمعاء لتخليص البدن منه ووقايته من حدوث الإصابة الدماغية.

وهكذا فإن علماء الصحة لم يعتبروا الدم بشكل من الأشكال في تعداد الأغذية الصالحة للبشر.

يقول الدكتور يوسف عبد الرشيد الجرفي: "القاسم المشترك الذي يجمع بين تحريم القرآن الكريم للدابة المنخنقة التي خنقت فماتت وبقي دمها في جسمها، والموقوذة التي ضربت بآلة حادة فماتت، والمتردية التي وقعت من عل فماتت بصدمة عضلية، والنطيحة التي نطحت، هذه الأربعة أنواع من الدواب التي حرم الله أكلها يجمعها قاسم مشترك واحد، هو أن الدم بقي في جسمها". ويقول الدكتور جون هونوفر لارسن: "الميتة مستودع للجراثيم، ومستودع للأمراض الفتاكة، والقوانين في أوربا تحرم أكل الميتة، كما يقول: إن قوانيننا الآن تحرم أكل لحم الحيوان إذا مات مختنقا، حيث اكتشفنا مؤخرا أن هناك علاقة بين الأمراض التي يحملها الحيوان الذي يموت مختنقا وبين صحة الإنسان؛ حيث يعمل جدار الأمعاء الغليظة للحيوان كحاجز يمنع انتقال الجراثيم من الأمعاء الغليظة - حيث توجد الفضلات - إلى جسم الحيوان وإلى دمه طالما كان الحيوان على قيد الحياة. ومعلوم أن الأمعاء الغليظة مستودع كبير للجراثيم الضارة بالإنسان، والجدار الداخلي لهذه الأمعاء يحول دون انتقال هذه الجراثيم إلى جسم الحيوان، كما أن في دماء الحيوان جدارا آخر يحول دون انتقال الجراثيم من دم الحيوان، فإذا حدث للحيوان خنق فإنه يموت موتا بطيئا.

وتكمن الخطورة في هذا الموت البطيء عندما تفقد مقاومة الجدار المغلف للأمعاء الغليظة تدريجيا، مما يجعل الجراثيم الضارة تخترق جدار الأمعاء إلى الدماء وإلى اللحم المجاور، ومن الدماء تنتقل هذه الجراثيم مع الدورة الدموية إلى جميع أجزاء الجسم؛ لأن الحيوان لم يمت بعد، كما تخرج من جدار الدماء إلى اللحم بسبب نقص المقاومة في جدر هذه الأوعية الدموية، فيصبح الحيوان مستودعا ضخما لهذه الجراثيم الضارة.

ثم تفتك هذه الجراثيم المتكاثرة بصحة الحيوان حتى الموت، وموته في هذه الحالة يعني وجود خطر كبير في جسد هذا الكائن الذي يموت مختنقا.

أما الحيوان الذي يموت ضربا فيقول الدكتور جون: "يصاب هذا الحيوان كذلك بالموت البطيء، كالمختنق تماما فيقع له ما وقع للمختنق؛ وزيادة على ذلك فإن الضرب يتسبب في تمزيق الأوعية الدموية في مكان الضرب، كما يمزق الخلايا فيه، فيختلط تركيب الدماء مع تركيب الخلايا مما يتسبب في حدوث تفاعلات للمواد السامة الضارة؛ ولذلك تلحظ وجود تورم يقع في مكان الضرب إن هذا التورم الحادث سببه وجود التفاعلات الكيميائية الضارة التي أصبحت مولدات لمواد سامة إلى جانب التسلخ الذي يحدثه الضرب بجسم الحيوان، وبهذا يصبح الحيوان الذي مات من الضرب مستودعا للجراثيم الضارة وخطرا على صحة الإنسان".

كما يقول عن الحيوان الذي يسقط من مكان عال وهو الذي يسمى (المتردية): "الحيوان الذي يموت بهذه الطريقة تكون حالته مثل حالة الذي مات بالضرب، ففي مكان السقوط يحدث التمزق ويبدأ بالموت موتا بطيئا... وحتى لو مات مباشرة بعد السقوط فإن الجراثيم تغزو الجسم بسرعة، ولذلك نجد أن العفونات سرعان ما تتصاعد من جسم هذا الكائن، وهذا دليل على ما يوجد فيه من جراثيم وميكروبات خطيرة.

كما سئل الدكتور عن الحيوان الذي يموت بسبب التناطح فقال: "الموت بهذه الطريقة يشابه الذي يموت ضربا ولكنه أخطر، ففي الغالب أن الحيوان عندما ينطح بقرنه تتم عملية النطح في منطقة البطن، وبالأخص في الأمعاء، فيدخل القرن ملوثا بالجراثيم إلى الدماء في أمعاء الحيوان الآخر، وتجري الدماء في جسمه، ثم يموت تبعا لذلك، ويشكل تناول لحم الحيوان في هذه الحالة خطرا محققا على صحة الإنسان.

كما سئل عن الحيوان الذي يموت بسبب افتراس حيوان آخر له فقال: معلوم أن مخالب السبع مملوءة بالجراثيم، فإذا غرسها في جسم هذا الحيوان سارت تلك الجراثيم في دمه؛ عندها يموت الحيوان ببطء ويصبح مستودعا للجراثيم الضارة، أما عندما يذبح الحيوان بالطريقة المعهودة عند المسلمين؛ نكون قد استخلصنا المصدر الأساسي لنقل هذه الجراثيم وهو الدم، ولا يمكن بعدها السماح بانتقالها إلى الأعضاء.

وإذا ذبح الحيوان قبل موته تخلص الجسم من هذه المادة التي تسبب انتقال هذه الجراثيم إليه؛ لأن الدم هو السائل الحيوي المهم في جسم الكائن الحي والذي يستطيع مقاومة ملايين الطفيليات بما يحويه من كرات بيضاء وأجسام مضادة، مادام الكائن حيا وفي درجة حرارته الطبيعية، فإذا مات الحيوان وتوقف الدم عن الجريان أصبحت الميكروبات بدون مقاومة، وفي هذه الحالة يكون أسلم الطرق هو الإراقة الكاملة لهذا الدم، وإخراجه من الجسم في أسرع وقت ممكن[13].

يقرر الدكتور أحمد شوقي إبراهيم: "إن أكل لحم بعض الميتة لا يضر إذا تناولها الإنسان طعاما في حالات معينة، إذا لم تحدث فيها عمليات التعفن والتحلل، ومن ثم لم تتكاثر الجراثيم في لحمها، لذلك لا يفسد لحمها، ومثال ذلك ميتة البحر... وهي ما خرج من حيوان البحر حيا ومات بعد خروجه منه، فماء البحر يحتوي على أملاح تحفظ له طهره ونقاءه، فلا تتكاثر فيه الجراثيم الضارة، ومن ثم لا تفسد لحوم ميتة البحر، إلا بعد مضي وقت، أو إذا لم تحفظ جيدا بعد خروجها من البحر وموتها بعد ذلك... وموت الجراد كتذكيته، وليس بالجراد دم، ومن ثم فلا تحدث في جسمه عمليات تعفن أو تحلل إلا بعد وقت".

ثم يتحدث عن الإعجاز العلمي في تحريم أكل الدم، فيقول: "ومن خطوط الدفاع في الجسم جهاز يسمى "الجهاز الشبكي البطاني" أو "الخلايا الشبكية البطانية"، وهي خلايا كثيرة ومتعددة، وتوجد في كثير من أعضاء الجسم، وأكثر وجودها في جدران أوعية الدم بالكبد وجدران أوعية الدم بالطحال.

ولما كان الدم في دورة سريعة فإنه لابد أن يمر بالكبد والطحال وما فيهما من الخلايا الشبكية البطانية أو الجهاز الشبكي البطاني، تلك الخلايا التي تلتهم الجراثيم التي تسبح في مجرى الدم وتقضي عليها، وفضلا عن القضاء على الميكروبات، فإن الكبد يعالج المواد السامة بالدم من خلال عمليات حيوية كثيرة ومعقدة، وينقي الدم منها، إذن فالدم بالكبد والطحال هو أنقى دم في الجسم، وأكثره خلوا من الجراثيم ونفايات عمليات الأيض بالجسم، فضلا على أنه لا يمكن استخلاص الدم من الكبد أو الطحال استخلاصا تاما، وهذه الحقائق العلمية لم تكتشف إلا حديثا، وساعدتنا على أن نفهم بعض الجوانب العلمية، والإعجاز العلمي في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أحلت لكم ميتتان...»[14].

مما سقناه يتأكد لنا يقينا مدى توافق القرآن الكريم مع السنة النبوية في هذا الشأن، فحديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حديث صحيح يتوافق تماما مع ما جاء به القرآن في الشأن نفسه، ناهيك عن أن العلم الحديث أثبت مدى إعجاز التشريع الإسلامي وتكامله في بيان تحريم أكل الميتة والدم عامة، مع إباحة بعض الأصناف منهما؛ لانتفاء علة التحريم عنها؛ مما يدل على إعجاز التشريع الإسلامي في كل زمان ومكان.

الخلاصة:

  • لقدحرمالإسلامأكلالميتةلمافيهامنخطرعظيمعلىصحةالإنسان،نتيجةاحتباسالدمداخلالميتة،وقدأحلاللهلناميتةالبحر لاختلاف دمها عن سائر الدماء، فقال تعالى: )أحل لكم صيد البحر وطعامه( (المائدة: ٩٦).
  • لقدحرمالإسلامأكلالدم،وخصهبالمسفوحمنه؛لعظيمضررهبآكله،فقالتعالى: )قللاأجدفيماأوحيإليمحرماعلىطاعميطعمهإلاأنيكونميتةأودمامسفوحا( (الأنعام: ١٤٥).
  • لميعارضرسولالله -صلىاللهعليهوسلم- القرآنالكريمعندماقال: «أحلتلكمميتتانودمان؛فأماالميتتان: فالحوتوالجراد،وأماالدمان: فالكبدوالطحال»بلوافقهتمامالموافقة؛لأنعلةالمنعهيوجودالدمالفاسدالذييضر،فأماالحوت (الأسماك) والجراد،فدمها يختلف عن سائر الدماء، ولذلك فلا حرج من أكلهما، كما أن الكبد والطحال ما هما إلا خلاصة دم متجمع متجمد، وعلة المنع هي كون الدم مسفوحا، ولذلك فلا حرج من أكلهما أيضا.
  • لقدكشفالعلمالحديثعنكثيرمنالأمراضالتييسببهاأكلالميتة،ووضحالعلماءأنالحيوان الميت حتف أنفه يتحول جسده إلى بؤرة خبيثة مليئة بالجراثيم، والميكروبات والمواد الضارة التي تفتك بحياة الإنسان في حالة ما إذا أكل منها.

لقد أثبت العلم الحديث أن الدم بالكبد والطحال هو أنقى دم موجود داخل جسم الحيوان لقوة وسائل المناعة بهما، مما يدل على إعجاز التشريع الإسلامي في تحليل أكلهما، وصدق الله حينما قال مخاطبا رسوله الكريم: )وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيما (113)( (النساء).

 

 

 

(*) حجية السنة ومصطلحات المحدثين وأعلامهم، د. عبد المتعال محمد الجبري، مكتبة وهبة، القاهرة، ط1، 1407هـ/ 1986م. اللعاب الأخير في مجال إنكار سنة البشير النذير، د. طه حبيشي، مكتبة رشوان، القاهرة، ط2، 1427هـ/ 2006م.

[1] . صحيح: أخرجه ابن ماجه في سننه، كتاب: الأطعمة، باب: الكبد والطحال، (2/1102)، رقم (3314)، وصححه الألباني في صحيح وضعيف سنن ابن ماجه برقم (3314).

[2] . الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1405هـ/ 1985م، (6/318).

[3]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: فرض الخمس، باب: فرض الخمس، (6/ 227)، رقم (3093). صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: الجهاد والسير، باب: قول النبي صلى الله عليه وسلم "لا نورث ما تركنا فهو صدقة"، (7/ 2746)، رقم (4498).

[4]. حسن: أخرجه أبو داود في سننه (بشرح عون المعبود)، كتاب: الديات، باب: ديات الأعضاء، (12/ 199)، رقم (4551). وحسنه الألباني في صحيح وضعيف سنن أبي داود برقم (4564).

[5]. ذكاة الحيوان: أي ذبحه، وفي الاصطلاح: هي السبب الموصل لحل أكل الحيوان البري اختيارا. انظر: الموسوعة الفقهية الكويتية (11/ 139).

[6]. زاد المعاد في هدي خير العباد، ابن قيم الجوزية، تحقيق: شعيب الأرنؤوط وعبد القادر الأرنؤوط، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط7، 1405هـ/ 1985م، (3/ 393).

[7]. صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، مسند المكثرين من الصحابة، مسند أبي هريرة رضي الله عنه، (16/ 299)، رقم (8720). وصحح إسناده الشيخ أحمد شاكر في تعليقه على المسند.

[8]. تفسير الشعراوي، الشيخ محمد متولي الشعراوي، مطابع أخبار اليوم، القاهرة، د. ت، (2/ 714: 716) بتصرف.

[9]. صحيح: أخرجه ابن ماجه في سننه، كتاب: الصيد، باب: صيد الحيتان والجراد، (2/ 1073)، رقم (3218). وصححه الألباني في صحيح وضعيف سنن ابن ماجه برقم (3218).

[10]. المجموع، النووي، دار الفكر، بيروت، د. ت، (9/ 72) بتصرف.

[11]. مجلة البحوث الإسلامية، مجلة دورية تصدر عن الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد، (6/ 126).

[12]. الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1405هـ/ 1985م، (2/ 221، 222) بتصرف.

[13]. موسوعة البحوث والمقالات العلمية، علي بن نايف الشحود.

[14]. انظر: موسوعة المعارف الطبية في ضوء القرآن والسنة، د. أحمد شوقي إبراهيم، دار الفكر العربي، القاهرة، ط1، 1423هـ/ 2002م، (3/ 13: 16).

 

  • الاحد PM 07:09
    2020-10-18
  • 1852
Powered by: GateGold