المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 411903
يتصفح الموقع حاليا : 299

البحث

البحث

عرض المادة

إنكار ربانية الوحي المحمدي لما فيه من نسخ

                                 إنكار ربانية الوحي المحمدي لما فيه من نسخ )*)

مضمون الشبهة:

ينكر بعض المشككين إلهية الوحي المحمدي وربانيته، ويستدلون على ذلك بوجود النسخ في أقواله - صلى الله عليه وسلم - وأفعاله، لا سيما في الأمور التعبدية، ويرتبون على ذلك وقوع التناقض في تشريعات القرآن على لسانه - صلى الله عليه وسلم -، ويمثلون لذلك بحدث "تحويل القبلة". هادفين من وراء ذلك إلى التشكيك في مصدر الوحي الإلهي؛ لوجود النسخ فيه.

وجوه إبطال الشبهة:

1) إن أقوال النبي - صلى الله عليه وسلم - وأفعاله كلها مستندة إلى وحي إلهي، فليست الأحكام المنسوخة والناسخة إلا جزءا من تعاليم الإسلام التي بلغها النبي - صلى الله عليه وسلم - كلها عن ربه - عز وجل - ولو كان النسخ من اختراعه - صلى الله عليه وسلم - لما أبقى - صلى الله عليه وسلم - على بعض الآيات المنسوخة تتلى جنبا إلى جنب مع الآيات الناسخة.

2) ليس في حدث تحويل القبلة أي تناقض، ثم إنه كان بوحي من الله - عز وجل -، ولعل إحساس اليهود بنكسة دينية كبرى عندما خالفهم النبي - صلى الله عليه وسلم - في قبلتهم، هو ما دفعهم إلى اختلاق الافتراءات الكاذبة على النبي صلى الله عليه وسلم.

3) ليس الإسلام بدعا من الشرائع في أمر النسخ؛ وذلك أنه كان موجودا في الشرائع السماوية السابقة. ثم إن ثمة حكما إلهية جليلة تقف وراء النسخ في الشريعة الإسلامية.

التفصيل:

أولا. النبي - صلى الله عليه وسلم - لا ينطق عن الهوى:

لا ينكر أحد من المنصفين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يخرج نطقه إلا بوحي من الله - عز وجل ـ؛ فأقواله - صلى الله عليه وسلم - وأفعاله كلها مستندة إلى وحي رباني، وهو - صلى الله عليه وسلم - بريء كل البراءة من نسبة أمر النسخ لبعض أحكام التعاليم الإسلامية إليه - صلى الله عليه وسلم -، يقول الله عز وجل: )ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها( (البقرة: ١٠٦)، يقول الإمام القرطبي في معرض تفسيره لهذه الآية الكريمة: "هذه آية عظمى في الأحكام، وسببها أن اليهود لما حسدوا المسلمين في التوجه إلى الكعبة، وطعنوا في الإسلام بذلك، وقالوا: إن محمدا يأمر أصحابه بشيء، ثم ينهاهم عنه، فما كان هذا القرآن إلا من جهته، ولهذا يناقض بعضه بعضا، فأنزل الله سبحانه وتعالى: )ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها( (البقرة: ١٠٦)، فمعرفة هذا الباب - النسخ - أكيدة وفائدته عظيمة، لا يستغني عن معرفته العلماء، ولا ينكره إلا الجهلة الأغبياء، لما يترتب عليه من النوازل في الأحكام ومعرفة الحلال من الحرام" [1].

وواضح من الآية السابقة أن وقوع النسخ في أقوال النبي - صلى الله عليه وسلم - وأفعاله لم يكن من عند نفسه - صلى الله عليه وسلم -، ولكنه من عند الله - عز وجل -، وليس النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا مبلغا عن ربه - عز وجل -، فكل تصرفاته - صلى الله عليه وسلم - مستندة إلى وحي إلهي.

ويؤكد هذا المعنى قوله تعالى: )وما ينطق عن الهوى (3) إن هو إلا وحي يوحى (4)( (النجم)، "يقول قتادة: وما ينطق بالقرآن عن هواه، إن هو إلا وحي يوحى"؛ أي: ما يخرج نطقه عن رأيه، إنما هو بوحي من الله - عز وجل -، وفي هذه الآية دلالة على أن السنة كالوحي المنزل في العمل[2]؛ لأن كليهما وحي من عند الله عز وجل.

وإنا نخاطب مثيري هذه الشبهة قائلين لهم: هلا درستم علم "الناسخ والمنسوخ" - وهو أحد علوم القرآن الهامة - وتعلمتموه، قبل أن تفتروا على القرآن الكريم، وعلى من أنزل إليه!!

ونخاطبهم مرة ثانية قائلين لهم: لو سلمنا جدلا بأن محمدا - صلى الله عليه وسلم - هو مخترع مبدأ النسخ لإزالة ما يخالف هواه، أما كان من الأولى - والحال هكذا - أن يقوم بحذف الآيات المنسوخة وإزالتها من المصاحف المكتوبة؟! أليس من الغريب أن تترك بعض الآيات المنسوخة جنبا إلى جنب مع الآيات الناسخة؟!

والحق أن ذلك ليس من الأمور الغريبة كما نظن؛ لأن الأمر ببساطة، غير متعلق بإرادة محمد - صلى الله عليه وسلم - بل هي إرادة الله - عز وجل - فهو الذي ينسخ ويبقي، وهو الذي يمحو ما يشاء ويثبت ما يشاء، يقول سبحانه وتعالى:)ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها( (البقرة: 106)، ويقول سبحانه وتعالى: )وإذا بدلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل قالوا إنما أنت مفتر بل أكثرهم لا يعلمون (101)((النحل).

والمتأمل في القرآن الكريم يجد الكثير من الآيات التي نسخت في الحكم، ولكنها بقيت تتلى مع سائر الآيات، ومن ذلك قوله تعالى: )يا أيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة( (المجادلة: 12)، فقد نسخ بقوله: )أأشفقتم أن تقدموا بين يدي نجواكم صدقات فإذ لم تفعلوا وتاب الله عليكم فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأطيعوا الله ورسوله( (المجادلة: 13)، وكذلك قوله سبحانه وتعالى: )وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين( (البقرة:184) نسخ بقوله سبحانه وتعالى: )فمن شهد منكم الشهر فليصمه( (البقرة: 185). وقوله سبحانه وتعالى: )والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لأزواجهم متاعا إلى الحول غير إخراج( (البقرة: 240)، نسخ بقوله سبحانه وتعالى: )والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا( (البقرة: 234)، وقوله سبحانه وتعالى: )وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله( (البقرة: 284)، منسوخ بقوله: )لا يكلف الله نفسا إلا وسعها( (البقرة: 286). وقوله: )إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين( (الأنفال: ٦٥) نسخ بقوله: )الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين( (الأنفال: ٦٦).

وغير ذلك من الآيات الكثير الذي نسخ حكمه، وبقيت تلاوته[3].

وما ذكرناه كاف للتدليل على بطلان دعوى المشككين الذين يزعمون أن النبي - صلى الله عليه وسلم - هو مخترع النسخ؛ ليغير ما شاء أن يغيره، ويزيل ما لا يوافق هواه؛ لأن الأمر - كما سبق أن قلنا - لو كان بيده - صلى الله عليه وسلم - لحذف الآيات المنسوخة من القرآن الكريم ولما أبقى عليها، وقد صدق الله تعالى إذ يقول عن نبيه: )قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي إن أتبع إلا ما يوحى إلي إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم (15)( (يونس:١٥).

ثانيا. إلهية الأمر بتحويل القبلة:

لقد أمر الله نبيه - صلى الله عليه وسلم - بتحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة المشرفة، فعن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: «بينما الناس بقباء في صلاة الصبح، إذ جاءهم آت فقال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد أنزل عليه الليلة قرآن، وقد أمر أن يستقبل الكعبة فاستقبلوها، وكانت وجوههم إلى الشام، فاستداروا إلى الكعبة» [4].

وعن البراء «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى إلى بيت المقدس ستة عشر شهرا أو سبعة عشر شهرا، وكان يعجبه أن تكون قبلته قبل البيت، وأنه صلى أول صلاة صلاها العصر وصلى معه قوم، فخرج رجل ممن كان صلى معه - صلى الله عليه وسلم - فمر على أهل المسجد، وهم راكعون، فقال: أشهد بالله، لقد صليت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل مكة، فداروا كما هم قبل البيت»[5].

فأنزل الله - عز وجل - في حديثه عن هذا الحدث التاريخي (حدث تحويل القبلة) قوله سبحانه وتعالى: )سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها قل لله المشرق والمغرب يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم (142)( (البقرة).

والمراد من "السفهاء" جميع من قال "ما ولاهم". و"السفهاء" جمع، واحده "سفيه"، وهو الخفيف العقل، من قولهم: ثوب سفيه، إذا كان خفيف النسج، وقيل: السفيه البهات والكذاب المتعمد خلاف ما يعلم، وقيل: الظلوم الجهول.

وقد اختلف المفسرون في بيان المقصود من قوله سبحانه وتعالى: )السفهاء( في هذه الآية؛ فقال بعضهم: اليهود الذين بالمدينة، وقال بعضهم: المنافقون، وقال الزجاج: كفار قريش لما أنكروا تحويل القبلة قالوا: قد اشتاق محمد إلى مولده، وعن قريب يرجع إلى دينكم، وقالت اليهود: قد التبس عليه أمره وتحير، وقال المنافقون: ما ولاهم عن قبلتهم، واستهزءوا بالمسلمين[6].

ونوضح ما ذكره المفسرون بما ذكره د. أحمد شلبي في موسوعته "التاريخ الإسلامي" مختصرا، يقول: أما المكان الذي اتجه له المسلمون في صلاتهم قبل الهجرة، فهو الكعبة؛ لأنها بيت الله العتيق، وبناء إبراهيم، وموضع فخار العرب. ويقول في الهامش: الصلاة قبل الهجرة كانت اجتهادا من الرسول - صلى الله عليه وسلم - واستمرارا لتعظيم الكعبة.

غير أن بعض المسلمين الأول ظنوا في اتجاههم للكعبة أن المكان نفسه معظم، فأراد الله - عز وجل - أن يعلمهم أن اتجاههم إنما هو في الحقيقة لوجهه تعالى، وليس فضل الكعبة إلا لأن هذا المكان شهد دين إبراهيم - عليه السلام -، وشهد عبادة الله منذ آلاف السنين، ولكن إذا تعلق بعض العرب بالكعبة تعلقا ذاتيا، وغفلوا عن أن الاتجاه إنما هو لله - عز وجل -، فقد اتجهت حكمة الله أن يختار مكانا آخر؛ ليختبر عمق إيمان المسلمين وطاعتهم، وليثبت في نفوسهم هذه الحقيقة الهامة، وهي أن الاتجاه يجب أن يكون لله عز وجل.

ولهذا اختار الله - عز وجل - للمسلمين قبلة جديدة عقب الهجرة، وهي الاتجاه لبيت المقدس، ثم ظهرت عوامل أخرى، فقد كان بيت المقدس قبلة اليهود، فإذا بهؤلاء يأخذون من اتجاه المسلمين إلى قبلتهم وسيلة للسخرية منهم، وانطلقوا يقولون: محمد لا يتبع ديننا، ويتبع قبلتنا، وشق على المسلمين أن يتجهوا إلى قبلة اليهود، ولكنهم استجابوا بكل قوة وإيمان لأمر ربهم، متحملين سخرية اليهود.

وقد توقع الرسول - صلى الله عليه وسلم - ووقع في روعه أن الله - عز وجل - سيحوله إلى الكعبة مرة أخرى، وكان - صلى الله عليه وسلم - يتطلع إليه تعالى في صمت ودون دعاء، آملا أن يحقق له ذلك؛ إرضاء للمسلمين وردا على سخرية اليهود، وقد عبر الله تعالى عن ذلك بقولهسبحانه وتعالى: )قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره( (البقرة: ١٤٤).

وكان ذلك إذنا للمسلمين بالعودة إلى قبلتهم الأولى. وكان تحول القبلة إلى بيت المقدس بعد الهجرة بقليل، وصرفت القبلة عن الشام إلى الكعبة في شهر رجب على رأس سبعة عشر شهرا من مقدم الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة[7].

إذن فليس تحويل القبلة إلى الكعبة الشريفة تبعا لهوى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وإنما هو بأمر الله له ولأصحابه، ولا بد للجميع أن ينقاد لأمر الله - سبحانه وتعالى - حتى ينال الأجر والثواب.

ثالثا. ليس الإسلام بدعا من الشرائع في أمر النسخ، وقد شرعه الله - عز وجل - لحكم تشريعية سامية:

النسخ في اللغة: يطلق بمعنى الإزالة، ومنه يقال: نسخت الشمس الظل: أي أزالته.

وفي الاصطلاح: رفع الحكم الشرعي بخطاب شرعي.

وقد تنزلت التشريعات السماوية من الله - عز وجل - على رسله لإصلاح الناس في العقيدة والعبادة والمعاملة، وحيث كانت العقيدة واحدة لا يطرأ عليها تغيير لقيامها على توحيد الألوهية والربوبية، فقد اتفقت دعوة الرسل جميعا إليها: )وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون (25)( (الأنبياء).

أما العبادات والمعاملات فإنها تتفق في الأسس العامة التي تهدف إلى تهذيب النفس، والمحافظة على سلامة المجتمع وربطه برباط التعاون والإخاء، إلا أن مطالب كل أمة قد تختلف عن مطالب أختها، وما يلائم قوما في عصر قد لا يلائمهم في آخر، ومسلك الدعوة في طور النشأة والتأسيس يختلف عن شرعتها بعد التكوين والبناء، فحكمة التشريع في هذه غيرها في تلك، ولا شك أن المشرع - سبحانه وتعالى - يسع كل شيء رحمة وعلما، ولله الأمر والنهي )لا يسأل عما يفعل وهم يسألون (23)( (الأنبياء). فلا غرابة في أن يرفع تشريع بآخر؛ مراعاة لمصلحة العباد عن علم سابق بالأول والآخر.

ومن هنا يعلم أن النسخ لا يكون إلا في الأوامر والنواهي، سواء أكانت صريحة في الطلب، أم كانت بلفظ الخبر الذي بمعنى الأمر والنهي[8].

والمتأمل يجد أن النسخ بالمعنى السابق موجود في الشرائع السماوية السابقة على الإسلام، كاليهودية، والنصرانية، فنجد أن اليهود يعترفون بأن شريعة موسى ناسخة لما قبلها، وجاء في نصوص التوراة النسخ، كتحريم كثير من الحيوانات على بني إسرائيل بعد حله، قال - سبحانه وتعالى - في إخباره عنهم: )كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة( (آل عمران: 93). وقال سبحانه وتعالى: )وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر( (الأنعام: 146)، وثبت في التوراة أن آدم كان يزوج أبناءه من الأخت، وقد حرم الله ذلك على موسى، وأن موسى أمر بني إسرائيل أن يقتلوا من عبد منهم العجل، ثم أمرهم برفع السيف عنهم.

أما بالنسبة للنصرانية، فقد أقرت أيضا بوجود النسخ، وكلم الرب موسى قائلا: "كلم بني إسرائيل قائلا: إذا حبلت امرأة وولدت ذكرا تكون نجسة سبعة أيام، كما في أيام طمث علتها تكون نجسة، وفي اليوم الثامن يختن لحم غرلته، ثم تقيم ثلاثة وثلاثين يوما في دم تطهيرها، كل شيء مقدس لا تمس، وإلى المقدس لا تجيء حتى تكمل أيام تطهيرها، وإن ولدت أنثى تكون نجسة أسبوعين كما في طمثها، ثم تقيم ستة وستين يوما في دم تطهيرها". (اللاويين 12: 1ـ 5). وربما كان اليهود يأخذون بهذا إلى اليوم، لكن من الذي نسخ هذا وعدله للمسيحيين الذين لا يفرقون بين من ولدت ذكرا ومن ولدت أنثى[9]؟!

فمبدأ النسخ إذن لم يكن بدعة محمدية كما يزعمون، بل كان من الأمور التي أقرتها الأديان السماوية السابقة، فهل يقال: إن موسى وعيسى - عليهما السلام - هما اللذان اخترعا مبدأ النسخ لإزالة ما يخالف إرادتهما؟!

الحكم التشريعية التي تقف وراء النسخ:

وقع النسخ بالشريعة الإسلامية ووقع فيها؛ بمعنى أن الله - عز وجل - نسخ بالإسلام كل دين سبقه، ونسخ بعض أحكام هذا الدين ببعض، وإن لكلا النسخين حكما ومقاصد إلهية:

أما حكمته - سبحانه وتعالى - في أنه نسخ به الأديان كلها، فترجع إلى أن تشريعه أكمل تشريع يفي بحاجات الإنسانية في مرحلتها التي انتهت إليها، بعد أن بلغت أشدها واستوت. أما حكمة الله في أنه نسخ بعض أحكام الإسلام ببعض؛ فترجع إلى سياسة الأمة وتعهدها بما يرقيها ويمحصها.

وتلك الحكمة على هذا الوجه، تتجلى فيما إذا كان الحكم الناسخ أصعب من المنسوخ، كموقف الإسلام في سموه ونبله من مشكلة الخمر في عرب الجاهلية بالأمس، وقد كانت مشكلة معقدة كل التعقيد، يحتسونها بصورة تكاد تكون إجماعية، ويأتونها لا على أنها عادة مجردة، بل على أنها أمارة القوة، ومظهر الفتوة وعنوان الشهامة! فهل كان معقولا أن ينجح الإسلام في فطامهم عنها، لو لم يتألفهم ويتلطف بهم إلى درجة أن يمتن عليهم بها أول الأمر، كأنه يشاركهم في شعورهم، وإلى حد أنه أبى أن يحرمها عليهم في وقت استعدت فيه بعض الأفكار لتسمع كلمة تحريمه، حين سألوه - صلى الله عليه وسلم - عن الخمر والميسر.

أما الحكمة في نسخ الحكم الأصعب لما هو أسهل منه، فالتخفيف على الناس ترفيها عنهم، وإظهارا لفضل الله عليهم ورحمته بهم، وفي ذلك إغراء لهم على المبالغة في شكره وتمجيده، وتحبيب لهم فيه وفي دينه. وأما الحكمة في نسخ الحكم بمساويه في صعوبته، أو سهولته، فالابتلاء والاختبار؛ ليظهر المؤمن فيفوز، والمنافق فيهلك، ليميز الخبيث من الطيب[10].

ويبين لنا د. أحمد بن منصور آل سبالك حكمة النسخ فيقول: بعد أن تكاثر أبناء آدم وتوزعوا في الأرض جرت حكمة الله - سبحانه وتعالى - ألا يدعهم وشأنهم، وإنما كان يتعهدهم بالأنبياء والرسالات التي - وإن اتفقت في الأصول - تنوعت في الشرائع، والأحكام والفروع، ذلك أن الشرائع قد روعي فيها طبيعة كل قوم، والمرحلة التي يمرون فيها والمصالح التي تخصهم، ومن ثم كان لا بد من اختلاف الشرائع باختلاف الزمان، والمكان، والأقوام.

يقول الله سبحانه وتعالى: )لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة( (المائدة: 48)، وبناء على ذلك كانت الشرائع اللاحقة تنسخ بعض أحكام الشرائع السابقة كما نسخت شريعة عيسى - عليه السلام - بعض أحكام التوراة التي جاء بها موسى - عليه السلام - والمشار إليها في قوله تعالى: )ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم( (آل عمران: ٥٠).

أما شريعة محمد - صلى الله عليه وسلم - فقد جاءت للناس كافة وللبشرية عامة، ومن هنا كانت ناسخة لكل ما تقدمها من الشرائع؛ لأنها الشريعة المتوافقة مع الفطرة. يقول الله سبحانه وتعالى: )فطرت الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم( (الروم: ٣٠).

ولما كان الانتقال من الجاهلية إلى الإسلام لا يمكن أن يتم طفرة، وبين عشية وضحاها، كان لا بد أيضا من بعض الأحكام الانتقالية الموقتة في الشريعة الخاتمة، ومن هنا كانت حكمة النسخ في الشريعة الإسلامية.

فعلى الرغم من أن الشريعة الإسلامية نسخت الشرائع السابقة لها، ومع أنها باقية خالدة إلى يوم القيامة، ولا يصح نسخها بشريعة أخرى، فإن مدة نزول القرآن، وهي مدة التحول من الجاهلية إلى الإسلام كان لا بد لها من أحكام خاصة، حتى إذا انتهت هذه المدة انتهى النسخ، ومن هنا كان النسخ خاصا بتلك المدة الزمنية التي كان يتنزل فيها الوحي. وبانقطاع الوحي، انقطع النسخ.

وأما الأحكام التي نسخت في الشريعة الإسلامية، فقد كانت الحكمة في بعضها التدرج في التشريع، وذلك في الأحكام الشاقة على النفوس، سواء أكانت منهيات، كتحريم الخمر والزنا، أم مأمورات كتشريع الصوم والجهاد، وكانت الحكمة في بعضها مراعاة مرحلة الانطلاق والتأسيس التي تحتاج إلى جهد كبير، ومن هنا كان فرض قيام الليل، ووجوب الثبات أمام المشركين، ثم خففت ذلك بعد أن كثر عدد المسلمين، وازدادت قوتهم، فعاد الأمر إلى طبيعته المعتادة، فأصبح قيام الليل سنة، والوقوف أمام اثنين من المشركين هو الواجب.

وراعى بعض ثالث أمورا تربوية كنسخ القبلة، ونسخ الصدقة بين يدي مناجاة النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقد كان ذلك اختبارا لثبات المؤمن وعدم ثبات المنافق، يقول الله سبحانه وتعالى: )وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه( (البقرة: ١٤٣).

وراعى بعض رابع ظروفا مكانية أو زمانية، كالقتال في الحرم، أو في الأشهر الحرم، وأمثال ذلك[11].

ومما لا شك فيه أن الصحابة - رضي الله عنهم - والتابعين من بعدهم كانوا على دراية تامة بالناسخ والمنسوخ، حتى يمكنهم العمل بما هو متأخر، سواء كان في القرآن الكريم، أو في السنة النبوية الشريفة، ولم يكن ذلك إلا ضمن قضايا تفسير القرآن الكريم، ولذلك ورد النهي عن أن يتحدث في تفسير القرآن من لا يعرف ناسخه من منسوخه، على أن كل من تعرض لتفسير القرآن الكريم كان يتعرض لقضية النسخ، وكذلك الذين كتبوا في أصول الفقه كانوا يتعرضون لذلك[12].

مما سبق يتضح لنا أن من أهم حكم النسخ:

  • مراعاة مصالح العباد.
  • تطور التشريع إلى مرتبة الكمال حسب تطور الدعوة وتطور حال الناس.
  • ابتلاء المكلف واختباره بالامتثال وعدمه.
  • إرادة الخير للأمة والتيسير عليها؛ لأن النسخ إن كان إلى أشق ففيه زيادة الثواب، وإن كان إلى أخف ففيه سهولة ويسر[13].

وبهذا يتبين لنا أن القرآن الكريم وحي من عند الله - سبحانه وتعالى -، وليس للنبي - صلى الله عليه وسلم - دخل فيه، وأن النسخ كما وقع في الشريعة الإسلامية فقد وقع في الشرائع السابقة للإسلام، فليس الإسلام بدعا في ذلك، وكان تحويل القبلة بأمر من الله سبحانه وتعالى، إلا أن اليهود لحقدهم وغيظهم أخذوا يروجون الادعاءات والأباطيل حول هذا الحادث العام في تاريخ الإسلام.

الخلاصة:

  • لا ينطق النبي - صلى الله عليه وسلم - عن هواه؛ فأقواله وأفعاله كلها مستندة إلى وحي إلهي، وليست الأحكام المنسوخة والناسخة التي جاء بها - إلا جزءا من تعاليم الإسلام التي بلغها - صلى الله عليه وسلم - كلها عن ربه - عز وجل -، ولو كان النسخ من اختراعه - صلى الله عليه وسلم - كما يزعم الزاعمون لما أبقى على بعض الآيات المنسوخة تتلى جنبا إلى جنب مع الآيات الناسخة.
  • لا دخل للنبي - صلى الله عليه وسلم - في حدث تحويل القبلة، وما كان هذا التحويل إلا بوحي منه - عز وجل - إليه - صلى الله عليه وسلم -، وغاية ما هنالك أنه - عز وجل - أمر، فامتثل النبي - صلى الله عليه وسلم - له، ثم إن ثمة حكما إلهية كثيرة وقفت وراء هذا الحدث.
  • ليس الإسلام بدعا من الشرائع في أمر النسخ، وذلك أنه كان موجودا في الشرائع السماوية السابقة، فهل يقال: إن موسى وعيسى - عليهما السلام - هما اللذان اخترعا مبدأ النسخ؛ بغية إزالة ما يخالف إرادتهما؟!

 

 

(*) شغب اليهود على الأنبياء، د. محمد عبد القادر أبو فارس، دار الفرقان، عمان، د. ت.

[1]. الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1405هـ/ 1985م9 ج2، ص61، 62.

[2]. الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1405هـ/ 1985م، ج17، ص84، 85.

[3]. انظر: مباحث في علوم القرآن، مناع القطان، مكتبة وهبة، القاهرة، ط13، 1425هـ/ 2004م، ص235: 237.

[4]. أخرجه البخاري في صحيحه، أبواب القبلة، باب ما جاء في القبلة ومن لا يرى الإعادة على من سها (395)، وفي مواضع أخرى، ومسلم في صحيحه، كتاب المساجد، باب تحويل القبلة من القدس إلى الكعبة (1206).

[5]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الإيمان، باب الصلاة من الإيمان (40)، ومسلم في صحيحه، كتاب المساجد، باب تحويل القبلة من القدس إلى الكعبة (1204).

[6]. الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1405هـ/ 1985م، ج2، ص148 بتصرف.

[7]. موسوعة التاريخ الإسلامي، د. أحمد شلبي، مكتبة النهضة المصرية، مصر، 1989م، ج1، ص294: 296 بتصرف يسير.

[8]. مباحث في علوم القرآن، مناع القطان، مكتبة وهبة، القاهرة، ط13، 1425هـ/ 2004م، ص223: 225 بتصرف.

[9]. محمد مؤسس الدين الإسلامي ومؤسس إمبراطورية المسلمين، جورج بوش، ترجمة: د. عبد الرحمن عبد الله الشيخ، دار المريخ، الرياض، ط2، 2004م، ص71 مقدمة المترجم.

[10]. مناهل العرفان في علوم القرآن، الشيخ محمد عبد العظيم الزرقاني، مكتبة نزار مصطفى الباز، مكة المكرمة، الرياض، ط1، 1417هـ/ 1996م، ج2، ص154، 155 بتصرف.

[11]. البرهان على سلامة القرآن من التحريف والتبديل والزيادة والنقصان، د. أحمد بن منصور آل سبالك، معهد علوم القرآن والحديث، القاهرة، ط1، 1427هـ/ 2006م، ص194، 195.

[12]. نظرية النسخ في الشرائع السماوية، د. شعبان محمد إسماعيل، دار السلام، القاهرة، ط1، 1408هـ/ 1988م، ص162.

[13]. مباحث في علوم القرآن، مناع القطان، مكتبة وهبة، القاهرة، ط13، 1425هـ/ 2004م، ص232.

 

  • الثلاثاء AM 12:19
    2020-09-22
  • 1524
Powered by: GateGold