المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 409160
يتصفح الموقع حاليا : 363

البحث

البحث

عرض المادة

الزعم أن الشيطان هو مصدر الوحي المحمدي

                                 الزعم أن الشيطان هو مصدر الوحي المحمدي (*)

مضمون الشبهة:

يزعم بعض المتقولين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان متصلا بالجن، وأن من كان يأتيه ويظن أنه جبريل الملك ما هو إلا شيطان كان يتمثل له على صورة جبريل - عليه السلام - ويبرهنون على ذلك بما كان من خلوته - صلى الله عليه وسلم - بغار حراء قبل البعثة، فإن ما كان ينزل عليه من وحي في تلك الخلوة ما هو إلا من تأثير مس الجن له صلى الله عليه وسلم. ويرمون من وراء ذلك إلى جعل الوحي شيطانيا محضا، بدلا من كونه وحيا سماويا ربانيا إلهيا، نزل به الروح الأمين على قلب محمد - صلى الله عليه وسلم - ليكون من المنذرين.

وجوه إبطال الشبهة:

1) من الواضح الجلي أن القرآن والسنة قد أكدا على صدق الاتصال الحسي بين النبي - صلى الله عليه وسلم - وجبريل - عليه السلام - وقد تمثل هذا في النفي المتكرر لأن يكون الوحي القرآني من كلام الشيطان، ناهيك عن أن الشيطان لا يتصور بصورة ملك.

2) لقد اشتمل القرآن الكريم على غيبيات كثيرة، والغيب لا يعلمه إلا الله، ولا علم لأحد به من جن أو إنس، فكيف يصدر عن هذا الشيطان المدعى مثل هذه الغيبيات التي لا يعلمها إلا الله؟! ثم إن القرآن يدعو إلى الهدى والصلاح، أما الشيطان فإمام الفساد والضلال، فكيف يكون هذا القرآن من وحي الشيطان؟!

3)  أجمعت الأمة على عصمة النبي - صلى الله عليه وسلم - من كيد الشيطان، فكيف يستلهم القرآن منه؟!

4) إن هؤلاء الذين يشككون في القرآن ومصدره، يؤمنون بنزول الوحي على موسى وعيسى - عليهما السلام - فكيف يفرقون في إيمانهم بين نبي وآخر؟ إن هذا أكبر دليل على تحاملهم على نبي الإسلام خاصة.

التفصيل:

أولا. نفي القرآن والسنة لأن يكون الوحي المحمدي كلام شيطان:

لقد ورد في القرآن الكريم والسنة المطهرة النفي المؤكد المتكرر لأن يكون الوحي القرآني كلام شيطان؛ فمن ذلك قوله تعالى: )وما هو بقول شيطان رجيم (25)( (التكوير)، وقوله تعالى: )وما تنزلت به الشياطين (210) وما ينبغي لهم وما يستطيعون (211)( (الشعراء). يقول القرطبي: قوله تعالى: )وما تنزلت به الشياطين (210)( (الشعراء) يعني القرآن، بل ينزل به الروح الأمين: )وما ينبغي لهم وما يستطيعون (211) إنهم عن السمع لمعزولون (212)( (الشعراء)، أي برمي الشهب[1].

وقوله عز وجل: )وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته والله عليم حكيم (52) ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم وإن الظالمين لفي شقاق بعيد (53) وليعلم الذين أوتوا العلم أنه الحق من ربك فيؤمنوا به فتخبت له قلوبهم وإن الله لهاد الذين آمنوا إلى صراط مستقيم (54)( (الحج). إن هذه الآيات في سورة الحج تعد نموذجا لبيان عناصر هذا النفي، المزيل للشبهة، المثبت لفؤاد المبلغ، ومن ثم لفؤاد أتباعه، وفؤاد طالبي الحق من بعده.

هذا، ومن الثابت أن الشيطان لا يستطيع أن يتمثل في صورة النبي - صلى الله عليه وسلم - والنبي بشر، فهو من باب أولى لا يستطيع أن يتمثل في صورة ملك، ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: «من رآني في المنام فقد رآني؛ فإن الشيطان لا يتمثل بي»[2].

وليس منع الشيطان من أن يأتي بصورة النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا لإمكان خصوصية كونه مصدر نقل الوحي من بين البشر، فمصدر نقل الوحي السماوي إذن أولى بالمنع، ولذا قال الآلوسي: "وإذا لم يتمثل مناما، فلأن لا يتمثل يقظة من باب أولى".

ثانيا. القرآن فيه غيب كثير، والجن لا يعلمون الغيب، فكيف تكون الشياطين مصدر القرآن؟! والشياطين من طبيعتهم الفساد، بينما القرآن يدعو للهداية والصلاح:

كيف تكون الشياطين مصدر القرآن، وفي القرآن غيب كثير، والجن لا يعلمون الغيب، حتى إنهم ما علموا بموت سليمان - عليه السلام - وهو أمامهم حتى سقط على الأرض، بعد أن أكلت دابة الأرض عصاه التي يستند عليها، قال تعالى: )فلما قضينا عليه الموت ما دلهم على موته إلا دابة الأرض تأكل منسأته فلما خر تبينت الجن أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين (14)( (سبأ).

وقد تحدى الله - عز وجل - بالقرآن الإنس والجن جميعا فعجزوا عن الإتيان بمثله، قال تعالى: )قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا (88)( (الإسراء).

فكيف ينسب القرآن إلى الجن وهم لا يستطيعون الإتيان بمثله[3]؟

وهل يعقل أن الجن - التي يزعمون أنها مصدر القرآن - تنزل القرآن على محمد - صلى الله عليه وسلم - ثم تتحدى نفسها فيه بمثل هذه الآيات؟!!

فمن المعروف أن الله - سبحانه وتعالى - قد قصر علم الغيب على نفسه دون غيره من الإنس والجن والملائكة، قال تعالى: )قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله( (النمل: ٦٥)، وقال أيضا: )وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو( (الأنعام: ٥٩)، وقال: عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا (26)( (الجن).

فهذه أدلة على أن الغيب لا يعلمه إلا الله، وقد حفل القرآن الكريم بكثير من الغيبيات، فكيف يعلمها الشيطان؟!

وإذا كان الجن لا يعلمون الغيب، فبالله عليكم أي جن هذا الذي يخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - عن غيبيات وحقائق علمية لم تعرف إلا في القرن العشرين، من كروية الأرض بشكل بيضاوى، ونظرية انتشار الكون، وأن عناصر المادة في الكون واحدة، وأن كمية الهواء في الأجواء تقل إلى درجة أن الإنسان يضيق صدره فيها، وأن الشمس والقمر يسبحان في هذا الفضاء، أي جن هذا الذي يستطيع معرفة ذلك كله؟! ولماذا خص به محمدا - صلى الله عليه وسلم - دون غيره؟! بل ولماذا لا يخبر جان بمثل هذا أحد المعاصرين؟!!

وكيف يدعي هؤلاء أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد استلهم القرآن من الشيطان، على الرغم من أن القرآن ينبهنا إلى عداوة الشياطين للإنسان، قال تعالى: )إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير (6)( (فاطر)، )فدلاهما بغرور فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوآتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة وناداهما ربهما ألم أنهكما عن تلكما الشجرة وأقل لكما إن الشيطان لكما عدو مبين (22)( (الأعراف).

فكيف يكون القرآن من وحي الجن والشيطان؟! وهو يدعو إلى معاداة الشيطان؛ لأنه يريد أن يضل الإنسان عن ربه فيهلك معه.

ثالثا. عصمة النبي - صلى الله عليه وسلم - من الشيطان:

لقد حفظ الله - عز وجل - عباده المخلصين من كيد إبليس وجنوده، فلا سبيل له عليهم، قال عز وجل: )إن عبادي ليس لك عليهم سلطان وكفى بربك وكيلا (65)( (الإسراء). وقد اعترف إبليس بعجزه عن الكيد لهم، فحكى عنه رب العزة قوله: )قال فبعزتك لأغوينهم أجمعين (82) إلا عبادك منهم المخلصين (83)( (ص).

ولا شك أن أنبياء الله - عز وجل - ورسله، وعلى رأسهم خاتمهم - صلى الله عليه وسلم - على قمة عباد الله المخلصين، الذين عصمهم رب العزة من كيد إبليس وجنوده. وحول عصمة النبي - صلى الله عليه وسلم - من الشيطان يقول القاضي عياض في كتابه "الشفا": "واعلم أن الأمة مجمعة على عصمة النبي - صلى الله عليه وسلم - من الشيطان وكفايته منه، لا في جسمه بأنواع الأذى - كالجنون والإغماء - ولا على خاطره بالوساوس" [4].

وقد دل على المفهوم السابق القرآن الكريم والسنة المطهرة:

أما القرآن الكريم: فقد ورد فيه تعرض الشيطان لبعض الأنبياء في أجسامهم ببعض الأذى، وعلى خاطرهم بالوسوسة، مع عصمة الله - عز وجل - لهم بعدم تمكن الشيطان من إغوائهم، أو إلحاق ضرر بهم يضر بالدين. قال سبحانه وتعالى: )واذكر عبدنا أيوب إذ نادى ربه أني مسني الشيطان بنصب وعذاب (41)( (ص)، وقال سبحانه: )فأزلهما الشيطان عنها فأخرجهما مما كانا فيه( (البقرة: 36). وقال عز وجل: )قال هذا من عمل الشيطان إنه عدو مضل مبين (15)( (القصص)، وقال سبحانه وتعالى: )وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه هو السميع العليم (36)( (فصلت).

وليس في هذه الآيات الكريمات ونحوها ما يتعارض مع قوله تعالى: )إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين (42)( (الحجر).

أما السنة المطهرة: فقد ورد فيها ما يؤكد ما ورد في القرآن الكريم من تعرض الشياطين لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غير موطن؛ رغبة في إطفاء نوره، وإماتة نفسه، وإدخال شغل عليه، ولكن كانت عصمة الله - عز وجل - له حائلة دون تمكن الشياطين من إغوائه أو إلحاق ضرر به.

ومن هذه الأحاديث التي تدل على ما سبق، ما يأتي:

  • عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«ما منكم من أحد إلا وقد وكل به قرينه[5] من الجن"، قالوا: وإياك يا رسول الله؟ قال: "وإياي، إلا أن الله أعانني عليه فأسلم، فلا يأمرني إلا بخير»[6].

وقوله «فأسلم» برفع بالميم وفتحها، روايتان مشهورتان، فمن رفع قال: معناه: أسلم أنا من شره وفتنته، ومن فتح قال: إن القرين أسلم من الإسلام، وصار مؤمنا لا يأمرني إلا بخير.

وصحح الخطابي وغيره رواية الرفع، ورجح القاضي عياض والنووي والزرقاني الفتح؛ لأنه ظاهر الحديث في قوله صلى الله عليه وسلم: «فلا يأمرني إلا بخير».

  • وعن أبي هريرة رضي الله عنه: قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن عفريتا من الجن جعل يفتك[7] علي البارحة ليقطع علي الصلاة، وإن الله أمكنني منه فذعته[8]، فلقد هممت أن أربطه إلى جنب سارية من سواري المسجد حتى تصبحوا تنظرون إليه أجمعون، أو كلكم، ثم ذكرت قول أخي سليمان: )قال رب اغفر لي وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي إنك أنت الوهاب (35)( (ص)، فرده الله خاسئا» [9] [10].
  • وعن أبي الدرداء رضي الله عنه: قال: «قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسمعناه يقول: "أعوذ بالله منك"، ثم قال: "ألعنك بلعنة الله" ثلاثا. وبسط يده كأنه يتناول شيئا، فلما فرغ من الصلاة قلنا: يا رسول الله! قد سمعناك تقول في الصلاة شيئا لم نسمعك تقوله قبل ذلك، ورأيناك بسطت يدك، قال: "إن عدو الله - إبليس - جاء بشهاب[11] من نار، ليجعله في وجهي، فقلت: أعوذ بالله منك ثلاث مرات. ثم قلت: ألعنك بلعنة الله التامة، فلم يستأخر، ثلاث مرات، ثم أردت أخذه، والله! لولا دعوة أخينا سليمان لأصبح موثقا يلعب به ولدان أهل المدينة»[12].

وهكذا كانت عصمة المولى - عز وجل - لرسوله - صلى الله عليه وسلم - من الشياطين، حتى مرض وفاته الذي لده[13] فيه بعض الحاضرين عنده بغير إذنه، ولما سألهم - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك قالوا: «خشينا أن يكون بك ذات الجنب، فبين لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن ذات الجنب من الشيطان، وهو معصوم منه قائلا:إنها من الشيطان، ولم يكن الله - عز وجل - ليسلطه علي» [14] [15].

وإذا كانت عصمة النبي - صلى الله عليه وسلم - من الجن بهذا الشكل وهذه الدرجة، فكيف يتلقى عنه القرآن؟! بل إن الجن أنفسهم ليتعجبون مما نزل على محمد - صلى الله عليه وسلم - يقول تعالى: )قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن فقالوا إنا سمعنا قرآنا عجبا (1) يهدي إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنا أحدا (2)( (الجن)، ويدعون قومهم للإيمان به، يقول تعالى: )وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن فلما حضروه قالوا أنصتوا فلما قضي ولوا إلى قومهم منذرين (29) قالوا يا قومنا إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى مصدقا لما بين يديه يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم (30) يا قومنا أجيبوا داعي الله وآمنوا به يغفر لكم من ذنوبكم ويجركم من عذاب أليم (31))( (الأحقاف), فكيف يوحون إلى محمد القرآن ثم يتعجبون منه ويأمرون قومهم بأن يجيبوا محمدا صلى الله عليه وسلم؟!

رابعا. تفريق هؤلاء الطاعنين بين النبي - صلى الله عليه وسلم - وبين غيره من الأنبياء - عليهم السلام - في شأن الوحي:

 إننا نتوجه إلى مثيري هذه الشبهة بالتساؤلات الآتية: لماذا تفرقون في أمر الوحي بين محمد - صلى الله عليه وسلم - وبين أخويه موسى وعيسى - عليهما السلام ـ؟ وكيف ترفضون الوحي إلى محمد - صلى الله عليه وسلم - وتقبلون ما هو دون الوحي من إلهامات تزعمون أنها حصلت لقديسيكم، وفيها من الأقوال والأخبار ما لا تقبله العقول؟!

إنما حدث ذلك بسبب أحقاد هؤلاء الدفينة، وعداوتهم المتوارثة، وعدم رغبتهم في اتباع الحق الذي أتاهم به خاتم النبيين، وإمام المرسلين، ورغبتهم في اتباع الهوى الذي زينته لهم نفوسهم الأمارة بالسوء[16].

ومن قديم كان الادعاء الذي حكاه الله سبحانه وتعالى بقوله : ) وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء( (الأنعام: ٩١)، ورد عليهم بقوله تعالى: )قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورا وهدى للناس( (الأنعام: 91).

فكأن الله - سبحانه وتعالى - يقول: كيف يستكثرون الوحي على محمد - صلى الله عليه وسلم - مع أنه قد حصل بالفعل؛ كالوحي إلى موسى - عليه السلام - بالتوراة وإلى عيسى - عليه السلام - بالإنجيل[17]، فكيف يؤمنون بنسبة التوراة والإنجيل إلى الله، وينكرون كلامه في القرآن، مع العلم بأن القرآن هو الصدق، كل الصدق في كل ما جاء به من عقيدة وشريعة وقصص[18]، وهو كتاب تكفل الله بحفظه من التحريف والتبديل منذ أن أنزله، على خلاف التوراة والإنجيل اللذين يجدون فيهما التحريف والتبديل واختلاف الروايات، ومن هنا رفعت الثقة التاريخية والقداسة الدينية عن أخبارهما وتشريعاتهما[19].

وينكر د. محمد أبو شهبة على المفترين تناقضهم وتفريقهم بين الأنبياء، ويوضح لهم أن التشكيك في نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - هو تشكيك في نبوة كل الأنبياء، يقول: "ثم ما رأي هؤلاء الطاعنين - وفيهم من ينتمي إلى بعض الأديان - في أنهم لا ينالون من نبي الله محمد - صلى الله عليه وسلم - وحده، وإنما ينالون من جميع أنبياء الله ورسله الذين كانت لهم كتب وصحف أوحي بها من عند الله سبحانه وتعالى!! فهل تطيب نفوسهم أن يخربوا بيوتهم قبل أن يخربوا بيوت غيرهم؟!! وما رأيهم فيما جاء في كتب العهد القديم والجديد من إيحاءات ونبوات؟! وهل يقولون في وحي نبي الله موسى وعيسى - عليهما السلام - ما يقولون في وحي خاتم الأنبياء محمد صلى الله عليه وسلم" [20]؟!

إذن فما يقال تأييدا لوحي عيسى - عليه السلام - أو موسى يصح أن يقال تأييدا لوحي محمد صلى الله عليه وسلم... أما الأمر الذي يجب أن ينكره البحث العلمي - بهذا التحديد - فهو أن يناقش نوع من الوحي ويتشكك فيه باسم العلم، ثم يصان نوع آخر على أنه بديهي التسليم، وبعيد عن مجال الجدل العقلي النظري أو العلم التجريبي!! فقضية الوحي إذن قضية عامة مشتركة، تشمل جميع الأنبياء عليهم السلام )كل من عند ربنا( (آل عمران: ٧) [21].

إن الرسول - صلى الله عليه وسلم - ليس ببدع من الرسل في باب الوحي، فقد أوحي إليه كما أوحي إليهم، وصدق الحق - سبحانه وتعالى - إذ يقول: )إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وعيسى وأيوب ويونس وهارون وسليمان وآتينا داوود زبورا (163)( (النساء). وقال سبحانه وتعالى: )وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء إنه علي حكيم (51)( (الشورى)[22].

ثم إذا علمنا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد جاءت البشارة به في كتبهم - التوراة والإنجيل - فإنه أيضا جاء في كتبهم أنه يوحى إليه، وأنه لا يتكلم من نفسه، إنه النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي لا يتكلم إلا بالوحي... كما تنص التوارة: "وأجعل كلامي في فمه، فيكلمهم بكل ما أوصيه به. ويكون أن الإنسان الذي لا يسمع لكلامي الذي يتكلم به باسمي أنا أطالبه". (التثنية 18: 18, 19), فهو لا يتكلم من نفسه، ولكن يتكلم بما يوحي إليه ربه.

كما يخبر المسيح عيسى - عليه السلام - عن هذه الحقيقة بقوله: "وأما متى جاء ذاك روح الحق فهو يرشدكم إلى جميع الحق؛ لأنه لا يتكلم من نفسه، بل كل ما يسمع يتكلم به". (يوحنا 13: 16).

وإذا كان هذا ثابتا في كتبهم لا يمارى فيه؛ فإن صفة الوحي إلى نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - توافق صفة الوحي إلى من تقدمه من النبيين: )كذلك يوحي إليك وإلى الذين من قبلك الله العزيز الحكيم (3)( (الشورى)[23]. فلا شك أن هذا مثل ذاك، لذا كان قول ورقة بن نوفل لمحمد صلى الله عليه وسلم: «هذا الناموس الذي أنزل على موسى».[24] وإذا كان ذلك كذلك فلماذا هذا التحيز بقولهم باتصال النبي - صلى الله عليه وسلم - بالجن وتلقيه عنها؟! فهذا ما لا يقبله عقل ولا يتوافق مع منهجية البحث.

إن القرآن تحدى العرب والعجم، والإنس والجن، أن يأتوا بمثله أو بسورة من مثله، وكان القرآن - ولا يزال - معجزة الرسول - صلى الله عليه وسلم - ولم الشك في أمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - وقد لبث في قومه - من قبل ذلك - أربعين عاما؟ فلم يحدثهم بنبوة ولا برسالة! ذلك أن هذا الأمر، إنما يرجع إلى مشيئة الله فحسب، يقول سبحانه وتعالى: )قل لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا أدراكم به فقد لبثت فيكم عمرا من قبله أفلا تعقلون (16)( (يونس).

وقد عرف النبي - صلى الله عليه وسلم - في قومه قبل البعثة بالصادق الأمين، وقد لقبه قومه بذلك لأنهم لم يعهدوا عليه كذبا قط، بل كانوا يعرفونه بالصدق والأمانة، ورجاحة العقل، فلم الشك في أمره مع أنه تجرد من كل أمر دنيوي[25]؟

وكان الوحي في غار حراء من أشد ما لقيه النبي - صلى الله عليه وسلم - في تلقي الوحي، وجبريل - عليه السلام - ليس ملكا عاديا، بل هو الروح، كما أن القرآن روح، فتجتمع الحياة الحقة منهما، وإذا كانت الحياة تسري في الجسد الميت عندما ينفخ فيه الروح، فما ظنك بروح يلقن النبي - صلى الله عليه وسلم - روحا، وجبريل - عليه السلام - هو الأمين الذي يتسم بأمانة الأداء، فلا يبدل مما يؤديه حرفا زيادة ولا نقصا.

وقد جاءت الآيات في القرآن الكريم في وصف كيفية إنزال جبريل - عليه السلام - بالقرآن، يقول سبحانه وتعالى: )نزل به الروح الأمين (193)( (الشعراء). ويضاف إلى هذا أن قلب النبي - صلى الله عليه وسلم - قد نزع منه حظ الشيطان، وتم إعداده إلهيا. فلا مجال في ذلك لتواجد الشياطين أو وسوستها للنبي الكريم - صلى الله عليه وسلم - في تلقي ألفاظ القرآن الكريم[26].

ويجدر بنا الآن أن نتوجه إلى مثيري هذه الشبهة بهذه الأسئلة: لماذا لم يعلم أحد الشياطين أحدا من العرب قرآنا مثل هذا؟! ولماذا خص محمدا دون من عداه مع أنه أمي؟ أليس من الحكمة أن يختار هذا الشيطان أو الجان رجلا متعلما، أو يتنزل على من عرف باتصاله بالجن والكهانة، أو حتى أرباب الفصاحة من الشعراء؛ إذ كانوا يقولون إن لكل شاعر شيطانا؟!!، ثم أين كان هذا الجن منذ أن كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتعبد في الغار من سنوات، ولماذا يأتي فجأة هكذا، ولم يمهد، وخاصة أن هذا أمر خطير سيغير وجهة الكون؟!

ومن ثم فلا يسعنا إلا القول بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - معصوم من الجن، وأن ما يأتيه وحي نزل به الروح الأمين جبريل - عليه السلام - من رب العالمين، بلسان عربي مبين[27].

الخلاصة:

  • سجل التاريخ الاتصال بين النبي - صلى الله عليه وسلم - وملك الوحي جبريل - عليه السلام - والقرآن والسنة الصحيحة قد أكدا ذلك.
  • كان النبي - صلى الله عليه وسلم - معروفا في قومه بالصادق الأمين، ومعروفا برجاحة العقل، فكيف لمن عاش أربعين عاما بين الناس معروفا بالصدق والأمانة أن يتحول فجأة إلى كاذب أثيم؟!
  • إن هناك أدلة عقلية تبطل ما ادعاه هؤلاء الطاعنون من أن الشيطان هو مصدر الوحي المحمدي، وهي:
  • أن القرآن فيه غيب كثير، والجن لا يعلمون الغيب، فكيف يصدر عنهم هذا الكلام المتضمن الكثير من الغيبيات؟!
  • أن الشياطين من طبيعتهم الفساد والإضلال للناس، بينما يدعو القرآن للهداية والخير والصلاح، وينهى عن الشر والفساد، فكيف يصدر مثل هذا الكلام من الشياطين أو من إبليس؟!
  • أن الله - عز وجل - تحدى بالقرآن الإنس والجن، فعجزوا عن الإتيان بمثل هذا القرآن فكيف ينسب القرآن للجن، وهي لا تستطيع الإتيان بمثله، وهل يتحدى الجن نفسها فيما قالته - حسب زعمهم ـ؟!
  • لماذا لم تعلم الجن أحد العرب غير محمد - صلى الله عليه وسلم - وهو - صلى الله عليه وسلم - أمي؟! ولماذا لم يختر هذا الشيطان رجلا متعلما؟ ولـم لـم ينزل على أصحاب الكهانة والدجل أو من عرفوا باتصالهم بالجن؟!
  • أين كان هذا الشيطان منذ أن كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتعبد قبل أن ينزل عليه الوحي، ولماذا تأخر هذه الفترة ثم خرج فجأة بمثل هذا الأمر الخطير الذي غير مجرى حياة البشر؟!
  • إنكار نبوة النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - والتشكيك في مصدر الوحي إليه، إنما هو تشكيك في نبوة أنبياء الله جميعهم من قبله؛ وذلك أن من يشكك في مصدر الوحي المحمدي يفرق بين أنبياء الله، فكيف يؤمنون بالوحي إلى موسى وعيسى - عليهما السلام -، ولا يؤمنون بالوحي إلى محمد صلى الله عليه وسلم؟!

 

 

(*) تلقي النبي ألفاظ القرآن الكريم، عبد السلام مقبل المجيدي، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط1، 1421هـ/ 2000م.

[1]. الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1405هـ/ 1985م، ج13، ص142.

[2]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب التعبير، باب من رأى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في المنام (6592)، ومسلم في صحيحه، كتاب الرؤيا، باب قول النبي: "من رآني في المنام فقد رآني" (6056)، واللفظ له.

[3]. عصمة الأنبياء والرد على الشبه الموجهة إليهم، د. محمد أبو النور الحديدي، مطبعة الأمانة، القاهرة، 1399هـ/ 1979م، ص41، 42.

[4]. الشفا بتعريف حقوق المصطفى، القاضي عياض، دار الكتب العلمية، بيروت، د. ت، ج2، ص117.

[5]. القرين: المصاحب.

[6]. أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب صفة القيامة والجنة والنار، باب تحريش الشيطان وبعث سراياه لفتنة الناس (7286).

[7]. يفتك: يأخذه على غفلة وخديعة.

[8]. ذعت: خنق.

[9]. الخاسئ: المطرود.

[10]. أخرجه البخاري في صحيحه، أبواب المساجد، باب الأسير أو الغريم يربط في المسجد (449)، ومسلم في صحيحه، كتاب المساجد، باب جواز لعن الشيطان في أثناء الصلاة والتعوذ منه (1237)، واللفظ له.

[11]. الشهاب: الشعلة الساطعة من النار.

[12]. أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب المساجد، باب جواز لعن الشيطان في أثناء الصلاة والتعوذ منه (1239).

[13]. لد المريض: جعل لسانه في جانب فمه ووضع له الدواء في الجانب الآخر.

[14]. إسناده حسن: أخرجه أحمد في مسنده، باقي مسند الأنصار، حديث السيدة عائشة رضي الله عنها (26389)، والحاكم في مستدركه، كتاب الطب (8235)، وحسن إسناده الأرنؤوط في تعليقه على مسند أحمد.

[15]. رد شبهات حول عصمة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في ضوء الكتاب والسنة، د. عماد الشربيني، دار الصحيفة، القاهرة، ط1، 1424هـ/ 2003م، ص70: 74.

[16]. عصمة الأنبياء والرد على الشبه الموجهة إليهم، د. أبو النور الحديدي، مطبعة الأمانة، القاهرة، 1399هـ/ 1979م، ص39.

[17]. المصطفون الأخيار، الشيخ عطية صقر، دار مايو الوطنية، القاهرة، 1997م، ص124، 125.

[18]. المصطفون الأخيار، الشيخ عطية صقر، دار مايو الوطنية، القاهرة، 1997م، ص12.

[19]. المصطفون الأخيار، الشيخ عطية صقر، دار مايو الوطنية، القاهرة، 1997م، ص25.

[20]. السيرة النبوية في ضوء القرآن والسنة، د. محمد محمد أبو شهبة، دار القلم، دمشق، ط8، 1427هـ/ 2006م، ج1، ص278.

[21]. مفتريات المستشرقين وعملائهم على الإسلام، د. إسماعيل علي محمد، دار النيل، مصر، ط1، 1421هـ/ 2000م، ص71.

[22]. مفتريات المستشرقين وعملائهم على الإسلام، د. إسماعيل علي محمد، دار النيل، مصر، ط1، 1421هـ/ 2000م، ص279.

[23]. وإنك لعلى خلق عظيم، صفي الرحمن المباركفوري، شركة كندة، القاهرة، ط1، 1427هـ/ 2006م، ج1، ص327.

[24]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب التعبير، باب أول ما بدئ به رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ من الوحي الرؤيا (6581)، ومسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب بدء الوحي إلى رسول الله (422).

[25]. دلائل النبوة ومعجزات الرسول، د. عبد الحليم محمود، دار الإنسان، القاهرة، ط2، 1404هـ/ 1984م، ص344.

[26]. تلقي النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ألفاظ القرآن الكريم، عبد السلام المجيدي، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط1، 1421هـ/ 2000م، ص82، 83 بتصرف.

[27]. دلائل النبوة ومعرفة أحوال صاحب الشريعة، أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقي، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1405هـ/ 1985م، ج2، ص151، 152.

 

  • الاثنين PM 09:26
    2020-09-21
  • 1887
Powered by: GateGold