المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 413510
يتصفح الموقع حاليا : 264

البحث

البحث

عرض المادة

اتهام النبي - صلى الله عليه وسلم - بانتهاز الفرص لنقض العهود

                       اتهام النبي - صلى الله عليه وسلم - بانتهاز الفرص لنقض العهود(*)

مضمون الشبهة:

يتهم بعض الطاعنين النبي - صلى الله عليه وسلم - بأنه كان ينتهز الفرص لنقض العهود، ويبرهنون على ذلك بأنه - صلى الله عليه وسلم - كان ينتظر أي فرصة تسنح لفتح مكة، فلما وقع الاعتداء على خزاعة تظاهر بالغضب، وبأخذ الثأر، والانتصار لهم لينقض العهد، ويهجم على مكة. ويتساءلون: أليس فيما فعله النبي - صلى الله عليه وسلم - من انتهاز الفرص ونقض العهود ما يتنافى مع أخلاق الأنبياء؟! هادفين من وراء ذلك إلى الطعن في وفائه - صلى الله عليه وسلم - بالوعد وحفظه للعهد.

وجها إبطال الشبهة:

1)    إن شريعة الإسلام تدعو إلى احترام العهود، والرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يكن أبدا رجلا انتهازيا، بل كان وفيا بالعهود والوعود التي يبرمها, وسيرته العطرة خير شاهد على ذلك.

2)    إن قريشا هم الذين نقضوا عهدهم مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، وذلك باشتراكهم مع بكر في قتل عشرين رجلا من خزاعة، وهم في عقد النبي - صلى الله عليه وسلم - وعهده؛ لذا ندمت قريش على ما فعلوا، وحاولوا تجديد الصلح والعهد مرة أخرى.

التفصيل:

أولا. كان النبي - صلى الله عليه وسلم - وفيا بالعهود والوعود التي يبرمها:

إن حفظ العهد، والوفاء بالوعد، خلق رفيع من أخلاق النبي - صلى الله عليه وسلم - الحميدة، التي اشتهر بها - صلى الله عليه وسلم - فقد كان أحفظ الناس للعهود والمواثيق، ومن أشدهم وفاء للوعود، فلم يؤثر عنه أنه نقض عهدا أو خالف وعدا لأحد من الناس، سواء كان من أتباعه أم من أعدائه، وسيرته العطرة خير شاهد على ذلك، كيف لا! وشريعة الإسلام التي بعث بها تحث على احترام العهود والمواثيق، وتؤكد على المحافظة عليها، وتعتبر نقض العهد وإخلاف الوعد من كبائر الذنوب، ومساوئ الشيم، قال - عز وجل - في وصف عباده المؤمنين: )والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون (8)( (المؤمنون)، فعد حفظ العهد من جملة الأخلاق الحميدة التي يتصف بها المؤمنون، وقد حرم الله - سبحانه وتعالى - نصرة المسلمين لإخوانهم في الدين إذا كانوا يقيمون بين قوم مشركين، بينهم وبين المسلمين عهد وميثاق، يقول عز وجل: )إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك بعضهم أولياء بعض والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق والله بما تعملون بصير (72)( (الأنفال) [1].

وقد حفل القرآن الكريم بكثير من الآيات التي تناولت العهود والوفاء بها، ذلك أن الوفاء بالعهود من شروط الإيمان، ومن سمات المؤمنين أن يلتزموا بعهودهم ويذعنوا لشروطها، والله - عز وجل - يكرم الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه، بقوله عز وجل: )من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا (23)( (الأحزاب).

وقد شرف الله - سبحانه وتعالى - الذين بايعوا الرسول - صلى الله عليه وسلم - في الحديبية، ووعد الصادقين منهم بحسن الجزاء في قوله سبحانه وتعالى: )إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم فمن نكث فإنما ينكث على نفسه ومن أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجرا عظيما (10)( (الفتح).

ويعظم الله - سبحانه وتعالى - شأن الموفين بعهدهم، ويسلكهم في عقد النخبة المتميزة من المتقين الذين جمعتهم الآية الكريمة من قوله عز وجل: )ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون (177)( (البقرة).

ويهتم كتاب الله - عز وجل - بالوفاء بالعهد اهتماما شديدا، وإن التوجيهات الربانية في شأنه حاسمة قاطعة ملزمة، لا تحتمل أي قدر من التهاون - وإن قل - فيقول عز وجل: )وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلا إن الله يعلم ما تفعلون (91)( (النحل) [2].

وهكذا نجد أن القرآن الكريم يحث على الوفاء بالعهد والمواثيق، وقد كان الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم - متخلقا بأخلاق القرآن، ملتزما بكل ما جاء به، داعيا إلى العمل بكل ما جاء فيه.

وكان - صلى الله عليه وسلم - لا يقتصر في وفائه على المسلمين، بل كان أشد الناس محافظة على العهود والمواثيق مع أعدائه، حتى ولو كان فيها إعنات له، حتى إذا نقض أعداؤه الميثاق جعل الله له بذلك مخرجا، كما حدث من يهود بني النضير، وبني قريظة، الذين نقضوا عهدهم مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكما حدث من مشركي قريش، حين نقضوا شروط صلح الحديبية بينه وبين سهيل بن عمرو ممثل المشركين، وكان من شروط الصلح أن من جاء محمدا من المشركين مسلما رده إليهم[3].

من المواقف التي تدل على وفائه - صلى الله عليه وسلم - بالعهد رده لأبي جندل:

وإن من أبلغ دروس صلح الحديبية درس الوفاء بالعهد, والتقيد بما يفرضه شرف الكلمة من الوفاء بالالتزامات التي يقطعها المسلم على نفسه، وقد ضرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بنفسه أعلى مثل في التاريخ القديم والحديث لاحترام كلمة لم تكتب, فما بالنا بكلمة كتبت, وفي الجد في عهوده، وحبه للصراحة والواقعية، وبغضه التحايل والالتواء والكيد، وذلك حينما كان يفاوض سهيل بن عمرو في الحديبية، حيث جاءه ابن سهيل يرسف في الأغلال[4]، وقد فر من مشركي مكة، وكان أبوه يتفاوض مع الرسول - صلى الله عليه وسلم - وكان هذا الابن ممن آمنوا، جاء مستصرخا بالمسلمين، وقد انفلت من أيدي المشركين, فلما رأى سهيل ابنه قام إليه وأخذ بتلابيبه، وقال: «يا محمد، لقد لـجت القضية بيني وبينك قبل أن يأتيك هذا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صدقت"، فقال أبو جندل: يا معشر المسلمين، أتردونني إلى أهل الشرك فيفتنونني في ديني؟! فلم يغن عنه ذلك شيئا، ورده رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال لأبي جندل: إنا قد عقدنا بيننا وبين القوم صلحا، وأعطيناهم على ذلك وأعطونا عهدا، وإنا لا نغدر بهم»، غير أن النبي - صلى الله عليه وسلم - إزاء هذه المأساة التي حالت بنود معاهدة الصلح بينه وبين أن يجد مخرجا منها لأبي جندل المسلم، طمأن أبا جندل وبشره بقرب الفرج له ولمن على شاكلته من المسلمين، وقال له وهو يواسيه: «يا أبا جندل، اصبر واحتسب، فإن الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجا ومخرجا» [5].

وفي هذه الكلمات النبوية المشرقة العظيمة دلالة ساطعة على مقدار حرص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتمسكه بفضيلة الوفاء بالعهد مهما كانت نتائجه وعواقبه فيما يبدو للناس.

لقد كان درس أبي جندل امتحانا قاسيا ورهيبا لهذا الوفاء بالعهد أثبت فيه الرسول - صلى الله عليه وسلم - والمسلمون نجاحا عظيما في كبت عواطفهم وحبس مشاعرهم، وقد صبروا لمنظر أخيهم أبي جندل وتأثروا من ذلك المشهد عندما كان أبوه يجتذبه من تلابيبه، والدماء تنزف منه, مما زاد في إيلامهم حتى إن الكثيرين منهم أخذوا يبكون بمرارة إشفاقا منهم على أخيهم في العقيدة، وهم ينظرون إلى أبيه المشرك وهو يسحبه بفظاظة الوثني الجلف ليعود به مرة أخرى إلى سجنه الرهيب في مكة.

وقد صبر أبو جندل واحتسب لمصابه في سبيل دينه وعقيدته, وتحقق فيه قول الله سبحانه وتعالى: )ومن يتق الله يجعل له مخرجا (2) ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبه إن الله بالغ أمره قد جعل الله لكل شيء قدرا (3)( (الطلاق)، فلم تمر سنة حتى تمكن مع إخوانه المسلمين المستضعفين بمكة من الإفلات من قيود مكة، وأصبحوا قوة صار كفار مكة يخشونها, بعد أن انضموا إلى أبي بصير، وسيطروا على طرق قوافل المشركين الآتية من الشام[6].

وثمة موقف آخر - يعد من أوضح الأمثلة على وفائه - صلى الله عليه وسلم - بعهده مع المشركين - حدث بعد عودة الرسول - صلى الله عليه وسلم - من الحديبية إلى المدينة، ممثلا في مسلم آخر هو أبو بصير عتبة بن أسيد بن جارية الثقفي حليف بني زهرة، أفلت من قومه سائرا على قدميه ساعيا إلى المدينة، فكتب أزهر بن عبد عوف الزهري إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كتابا بعث به مع خنيس بن جابر العامري يذكر عهد الصلح ويطلب رد أبي بصير إلى مكة، فقدم العامري إلى المدينة بصحبة دليل له يقال له: (كوثر) بعد أبي بصير بثلاثة أيام، «فأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبا بصير أن يرجع معهما، فقال: يا رسول الله، تردني إلى المشركين يفتنوني في ديني؟! فقال صلى الله عليه وسلم: "يا أبا بصير، إنا قد أعطينا هؤلاء القوم ما قد علمت، ولا يحل لنا في ديننا الغدر، وإن الله - سبحانه وتعالى - جاعل لك ولمن معك من المسلمين فرجا ومخرجا"، فقال: يا رسول الله تردني إلى المشركين؟! قال: "انطلق يا أبا بصير، فإن الله سيجعل لك فرجا ومخرجا".

فسار أبو بصير معهما والمسلمون يشيعونه، ويطيبون خاطره ويشجعونه، ولما أن وصل مع حارسيه إلى ذي الحليفة، وكان الوقت ظهرا صلى أبو بصير صلاة المسافر، واشترك مع حارسيه في تناول بعض الطعام، وبحيلة ذكية استطاع أبو بصير أن يأخذ السيف، فقتل العامري، وهم بقتل الرجل الآخر، ولكنه أفلت منه وخرج هاربا يعدو إلى المدينة، وأبو بصير في أثره، فلما انتهى إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال له: ويحك مالك؟ قال: قتل والله صاحبكم صاحبي وأفلت منه ولم أكد، وإني لمقتول، واستغاث برسول الله فأمنه، وأقبل أبو بصير فأناخ بعير العامري ودخل متوشحا سيفه, فقال: يا رسول الله قد وفت ذمتك وأدى الله عنك، وقد أسلمتني بيد العدو، وقد امتنعت بديني من أن أفتن، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ويل أمه، مسعر حرب[7] لو كان له أحد» [8].

فخرج أبو بصير ومعه خمسة كانوا قد قدموا معه مسلمين من مكة حتى انتهوا إلى سيف البحر.

فلما بلغ سهيلا قتل أبي بصير للعامري اشتد, وقال: ما صالحنا محمدا على هذا، وجرت في ذلك مناقشات حول دية القتيل ومن يتحملها، ومن العجيب أن أبا سفيان بن حرب كان من رأيه أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - غير مسئول عن دم القتيل.

ثم إن أبا جندل بن سهيل بن عمرو انفلت فخرج هو وسبعون راكبا ممن أسلموا فلحقوا بأبي بصير؛ ولأن أبا جندل قرشي فقد سلم له أبو بصير الأمر، فكان أبو جندل يؤمهم في الصلاة، واجتمع إلى أبي جندل ناس من بني غفار وأسلم وجهينة لا تمر بهم عير لقريش إلا أخذوها وقتلوا من فيها، وضيقوا على قريش فلا يظفرون بأحد منهم إلا قتلوه. فأخذ أبو جندل يقول في ذلك شعرا منه:

أبلغ قريشا عن أبي جندل

أنا بذي المروة في الساحل

في معشر تخفق راياتهم

بالبيض فيها والقنا الذابل[9]

يأبون أن تبقى لهم رفقة

من بعد إسلامهم الواصل

أو يجعل الله لهم مخرجا

فالحق لا يغلب بالباطل

ولما استشرى فزع قريش من أبي جندل، وأبي بصير، أرسلت قريش أبا سفيان إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسألونه ويتضرعون إليه أن يبعث إلى أبي بصير وأبي جندل ومن معهم، وقالوا وهنا تقع المفارقة العظمى: من خرج منا إليك فأمسكه فهو لك حلال غير حرج أنت فيه، وقال أبو سفيان -: فإن هؤلاء الركب قد فتحوا علينا بابا لا يصلح إقراره، فكتب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى أبي بصير، وأبي جندل يأمرهما أن يقدما عليه، ويأمر من معهما ممن اتبعهما من المسلمين أن يرجعوا إلى بلادهم وأهليهم فلا يتعرضوا لأحد مر بهم من قريش وعيرانها، فقدم كتاب رسول الله إلى أبي بصير وهو يموت، فجعل يقرؤه ومات وهو في يديه، فدفنه أبو جندل، وجعل عند قبره مسجدا، وقدم أبو جندل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومعه ناس من أصحابه ورجع سائرهم إلى أهليهم، وأمنت بعد ذلك عيرات قريش[10].

وهكذا يتضح مدى وفائه - صلى الله عليه وسلم - للعهد مع المشركين، وبعد هذا البيان الأخلاقي الرفيع الذي يؤكد التزامه - صلى الله عليه وسلم - بعهده مع المشركين، هل بتلك الأخلاق يكون الرسول - صلى الله عليه وسلم - انتهازيا؟!

وماذا يقول المدعون في رد النبي - صلى الله عليه وسلم - لأبي بصير وأبي جندل؟ أليس هذا قمة الوفاء بالعهد؟!

ثانيا. إن قريشا هي التي نقضت عهدها مع النبي - صلى الله عليه وسلم -:

لقد كان من بنود صلح الحديبية بند يفيد أن من أحب أن يدخل في عقد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعهده فليدخل فيه، ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدها فليدخل فيه، وأن القبيلة التي تنضم إلى أي الفريقين تعتبر جزءا من ذلك الفريق، فأي عدوان تتعرض له أي من تلك القبائل يعتبر عدوانا على ذلك الفريق[11]، فدخلت بنو بكر في عقد قريش وعهدهم، ودخلت خزاعة في عقد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعهده.

والسبب في دخول خزاعة في عقد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن خزاعة كانت حليفة جده عبد المطلب حين تنازع مع عمه نوفل في ساحات وأفنية من السقاية كانت في يد عبد المطلب، فأخذها منه نوفل، فاستنهض عبد المطلب قومه فلم ينهض معه منهم أحد، وقالوا: لا ندخل بينك وبين عمك، ثم كتب إلى أخواله بني النجار فجاء منهم سبعون، وقالوا: ورب هذه البنية - الكعبة - لتردن على ابن أختنا ما أخذت منه، وإلا ملأنا منك السيف، فرده، ثم حالف نوفل بني أخيه عبد شمس، وحالف عبد المطلب خزاعة، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - عارفا بذلك، ولقد جاءته خزاعة يوم الحديبية بكتاب جده عبد المطلب فقرأه عليه أبي بن كعب - رضي الله عنه - فأقرهم النبي صلى الله عليه وسلم.

وقد كان بين بني بكر وبين خزاعة حروب وقتلى في الجاهلية، وتشاغلوا عن ذلك لما ظهر الإسلام، فلما كانت هدنة الحديبية، ووقف القتال بين المسلمين وقريش، اغتنمتها طائفة من بني بكر يقال لهم "بنو نفاثة"، ذلك أن شخصا منهم هجا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصار يتغنى بالهجاء، فسمعه غلام من خزاعة، أي من القبيلة التي دخلت في عقد رسول الله، فثارت ثائرته فضربه وشجه، فثار الشر بين القبيلتين، فطلب بنو نفاثة من أشراف قريش أن يعينوهم بالرجال والسلاح على خزاعة فأمدوهم، فجاءوا خزاعة ليلا وهم آمنون على ماء لهم يقال له "الوتير" وقتلوا منهم عشرين، أو ثلاثة وعشرين، وقاتل معهم جمع من قريش مستخفيا، منهم: صفوان بن أمية، وحويطب بن عبد العزى، وعكرمة بن أبي جهل، وشيبة بن عثمان، وسهيل بن عمرو، وهؤلاء أسلموا جميعا بعد ذلك، وما زالوا بهم حتى أدخلوهم دار بديل بن ورقاء الخزاعي بمكة، فلما ناصرت قريش بني بكر على خزاعة، ونقضوا ما كان بينهم وبين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الميثاق، ندموا وجاء الحارث بن هشام إلى أبي سفيان وأخبره بما فعل القوم، فقال:

"هذا أمر لم أشهده، ولم أغب عنه، وإنه لشر، والله ليغزونا محمد، ولقد حدثتني هند بنت عتبة - يعني زوجته - أنها رأت رؤيا كرهتها، رأت دما أقبل من الحجون - اسم مكان بمكة - يسيل حتى وقف بالخندمة - اسم مكان آخر بمكة - فكره القوم ذلك"، وهذا القول يبين مقدار جرم ما فعلته قريش مع حلفاء رسول الله.

وعند ذلك خرج عمرو بن سالم الخزاعي - سيد خزاعة - حتى قدم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة ودخل المسجد، ووقف على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو جالس في المسجد بين الناس، وأنشد:

يا رب إني ناشد محمدا

حلف أبينا وأبيه الأتلدا[12]

قد كنتم ولدا وكنا والدا

ثمت أسلمنا فلم ننزع يدا

فانصر هداك الله نصرا أعتدا

وادع عباد الله يأتوا مددا

فيهم رسول الله قد تجردا

إن سيم خسفا وجهه تربدا[13]

في فيلق كالبحر يجري مزبدا[14]

إن قريشا أخلفوك الموعدا

ونقضوا ميثاقك المؤكدا

وجعلوا لي كداء[15] رصدا

وزعموا أن لست أدعو أحدا

وهم أذل وأقل عددا

هم بيتونا بالوتير[16] هجدا[17]

وقتلونا ركعا وسجدا

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نصرت يا عمرو بن سالم"، ودمعت عيناه، وفي رواية: «فقام - صلى الله عليه وسلم - وهو يجر رداءه ويقول: لا نصرني الله إن لم أنصر بني كعب».[18] وعن عائشة - رضي الله عنها - أنها قالت: لقد رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غضب مما كان من شأن بني كعب غضبا لم أره غضبه منذ زمان، ثم قال - صلى الله عليه وسلم - لعمرو بن سالم وأصحابه بعد أن علم منهم حقيقة ما حدث: ارجعوا وتفرقوا في الأودية فرجعوا وتفرقوا، وكان عددهم نحو أربعين راكبا من خزاعة، وقصد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بتفرقهم إخفاء مجيئهم[19].

ومما سبق يتضح سوء ما فعلته قريش؛ لنقضهم العهد، وسفكهم لدماء بني خزاعة، الذين هم في عقد النبي - صلى الله عليه وسلم - وعهده، واستحلالهم لدمائهم رغم المعاهدة، وما تنص عليه، فغضب النبي - صلى الله عليه وسلم - لذلك أشد الغضب، ولا شك أن ما فعلته قريش وحلفاؤها كان غدرا محضا ونقضا صريحا للميثاق لم يكن له أي مسوغ، ولذلك سرعان ما أحست قريش بغدرها، وخافت وشعرت بعواقبه الوخيمة، وعقدت مجلسا استشاريا، وقررت أن تبعث قائدها أبا سفيان ممثلا لها، ليقوم بتجديد الصلح.

وقدم أبو سفيان المدينة فدخل على ابنته أم حبيبة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - فلما ذهب ليجلس على فراش رسول الله - صلى الله عليه وسلم - طوته عنه، فقال: يا بنية، أرغبت بي عن هذا الفراش، أم رغبت به عني؟‏ قالت: بل هو فراش رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنت رجل مشرك نجس‏، فقال: والله لقد أصابك بعدي شر‏.

ثم خرج حتى أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكلمه، فلم يرد عليه شيئا، ثم ذهب إلى أبي بكر فكلمه أن يكلم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: ما أنا بفاعل، ثم أتى عمر بن الخطاب فكلمه، فقال: أأنا أشفع لكم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟‏ والله لو لم أجد إلا الذر لجاهدتكم به، ثم جاء فدخل على علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - وعنده فاطمة ابنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعندها الحسن غلام يدب بين يديهما، فقال‏: يا علي، إنك أمس القوم بي رحما، وإني قد جئت في حاجة، فلا أرجعن كما جئت خائبا، اشفع لي إلى محمد، فقال‏: ويحك يا أبا سفيان، والله لقد عزم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أمر ما نستطيع أن نكلمه فيه‏، فالتفت إلى فاطمة، فقال: هل لك أن تأمري بنيك هذا فيجير بين الناس، فيكون سيد العرب إلى آخر الدهر‏؟‏ قالت: والله ما يبلغ ابني ذاك أن يجير بين الناس، وما يجير على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحد.

وحينئذ أظلمت الدنيا أمام عيني أبي سفيان، فقال لعلي بن أبي طالب في هلع وانزعاج ويأس وقنوط: يا أبا الحسن، إني أرى الأمور قد اشتدت علي، فانصحني، قال: والله ما أعلم لك شيئا يغني عنك‏. ولكنك سيد بني كنانة، فقم فأجر بين الناس، ثم الحق بأرضك‏، قال: أوترى ذلك مغنيا عني شيئا‏؟‏ قال: لا والله ما أظنه، ولكني لم أجد لك غير ذلك، فقام أبو سفيان في المسجد، فقال: أيها الناس، إني قد أجرت بين الناس، ثم ركب بعيره، وانطلق‏.

ولما قدم على قريش، قالوا: ما وراءك‏؟‏ قال: جئت محمدا فكلمته، فوالله ما رد علي شيئا، ثم جئت ابن أبي قحافة فلم أجد فيه خيرا، ثم جئت عمر بن الخطاب، فوجدته أدنى العدو، ثم جئت عليا فوجدته ألين القوم، وقد أشار علي بشيء صنعته، فوالله ما أدري هل يغني عني شيئا أم لا‏؟‏ قالوا: وبم أمرك‏؟‏ قال: أمرني أن أجير بين الناس، ففعلت، قالوا: فهل أجاز ذلك محمد‏؟‏ قال: لا‏. قالوا: ويلك، إن زاد الرجل على أن لعب بك‏، قال: لا والله ما وجدت غير ذلك[20].

وهكذا نجد أن قريشا قد أحست بجريمتها، فأرسلت أبا سفيان لإرضاء الرسول - صلى الله عليه وسلم - وتجديد العهد، ولكن أنى يهدر النبي - صلى الله عليه وسلم - دماء حلفائه وينسى ذمتهم؛ لهذا كان عدلا من النبي - صلى الله عليه وسلم - أن سارع إلى الثأر لقتلى حلفائه، واستنقاذ بيت الله الحرام من أيدي المشركين، فهل بعد هذا يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - قد انتهز هذه الفرصة لغزو مكة ودخولها؟!

الخلاصة:

  • لقد كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - أرفع الناس خلقا، فقد أثنى عليه الله - سبحانه وتعالى - بقوله: )وإنك لعلى خلق عظيم (4)( (القلم)، وكان مما اشتهر به النبي - صلى الله عليه وسلم - من حفظه للعهد، وسيرته العطرة خير شاهد على ذلك، فلقد عقد النبي - صلى الله عليه وسلم - عهودا مع اليهود والمشركين، فلم يبادر إلى نقض عهد شده، ولكنهم هم الذين نقضوا العهود، وكان يلتزم بما تنص به عهودهم، وكيف لا يلتزم وشريعته التي يحملها هي الداعية إلى الوفاء بالعهد، قال سبحانه وتعالى: )والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون (8)( (المؤمنون)، وكثير من الآيات تحث على حفظ العهد، وتعلي مكانة المحافظين عليه، ويكفي الطاعنين ردا عليهم: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - التزم بعهده مع المشركين، ورد عليهم أبا جندل وأبا بصير، فذاك إنما يدل على الالتزام التام بالعهد، ويدل على الخلق الرفيع للنبي صلى الله عليه وسلم.
  • إن الخيانة جاءت من قريش وحليفتها الذين اعتدوا على قبيلة خزاعة - الذين كانوا في عقد النبي - صلى الله عليه وسلم - وعهده - رغم أن بنود المعاهدة تقتضي أن من دخل في عهد قريش فهو منهم، ومن دخل في عهد المسلمين فهو منهم، وينطبق عليهم شروط العهد، ولكن مشركي قريش أخلفوا المعاهدة، ولما أحسوا بذلك أرسلوا أبا سفيان ليجدد العهد مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، وذلك لإحساسهم بجرم ما فعلوا مع خزاعة وفحشه، فكيف يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - انتهازيـا وقد وفي بعهده رغم أن بنوده لم تكن - ظاهريا - في صالحه؟!
  • لقد نقض المشركون عهدهم مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقتلوا عشرين من حلفائه حتى ألجئوهم إلى الحرم، فكيف يسكت عنهم ولا يناصر من دخل في حلفه؟

 

 

 

(*) محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، محمد رضا، دار الكتب العلمية، بيروت، 1395هـ/ 1975م.

[1]. الأدلة على صدق النبوة المحمدية، هدى عبد الكريم مرعي، دار الفرقان، الأردن، 1411هـ/ 1991م، ص 348.

[2]. البيان المحمدي، د. مصطفى الشكعة، الدار المصرية اللبنانية، القاهرة، ط1، 1416هـ/ 1995م، ص 171، 172.

[3]. الأدلة على صدق النبوة المحمدية، د. هدى عبد الكريم مرعي، دار الفرقان، الأردن، 1411هـ/ 1991م، ص 349، 350.

[4]. الأغلال: القيود.

[5]. إسناده حسن: أخرجه أحمد في مسنده، مسند الكوفيين، حديث المسور بن مخرمة الزهري ومروان بن الحكم رضي الله عنه (18930)، والبيهقي في سننه الكبرى، كتاب الجزية، باب الهدنة على أن يرد الإمام من جاء بلده مسلما من المشركين (18611)، وحسن إسناده الأرنؤوط في تعليقه على مسند الإمام أحمد (18930).

[6]. السيرة النبوية: عرض وقائع وتحليل أحداثحداثث، د. علي محمد الصلابي، دار الفجر للتراث، القاهرة، ط1، 1424هـ/ 2003م، ج2، ص 406، 407 بتصرف يسير.

[7]. مسعر حرب: موقدها.

[8]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الشروط، باب الشروط في الجهاد والمصالحة مع أهل الحرب وكتابة الشروط (2581).

[9]. القنا الذابل: الرماح الدقيقة.

[10]. البيان المحمدي، د. مصطفى الشكعة، الدار المصرية اللبنانية، القاهرة، ط1، 1416هـ/ 1995م، ص225: 227 بتصرف يسير.

[11]. الرحيق المختوم، صفي الرحمن المباركفوري، دار المؤيد، الرياض، 1418هـ/ 1998م، ص 394.

[12]. الأتلد: القديم الأصيل.

[13]. تربد: احمر غضبا.

[14]. المزبد: الهائج.

[15]. كداء: اسم موضع في مكة.

[16]. الوتير: اسم عين ماء.

[17]. الهجد: النائمون.

[18]. إسناده حسن: أخرجه أبو يعلى في مسنده، مسند عائشة رضي الله عنها (4380)، والهيثمي في مجمع الزوائد، كتاب المغازي والسير، باب غزوة الفتح (10227)، وحسن إسناده حسين سليم أسد في تعليقات مسند أبي يعلى.

[19]. محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، محمد رضا، دار الكتب العلمية، بيروت، 1395هـ/ 1975م، ص 303، 304 بتصرف يسير.

[20]. الرحيق المختوم، صفي الرحمن المباركفوري، دار المؤيد، الرياض، 1418هـ/ 1998م، ص 395: 397.

 

  • الخميس PM 10:02
    2020-09-17
  • 1443
Powered by: GateGold