المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 415379
يتصفح الموقع حاليا : 254

البحث

البحث

عرض المادة

الخريطة العامة للهويات اليهودية فى الوقت الحاضر

لاحظنا التطور التاريخي للهويات اليهودية المختلفة والذي نجم عنه ظهور هويات لا حصر لها ولا عدد. كما لاحظنا أن تعريف الشريعة اليهودية لمن هو اليهودي كان تعريفاً يعاني من الخلل، فلا هو بالديني ولا هو بالعرْقي، بل يجمع عناصر دينية وعرْقية دون تعريف حدود كل عنصر. وقد زادت الصورة اختلاطاً وسوءاً مع ظهور الفرق اليهودية الحديثة، وظهور اليهودية الإثنية والإنسانية، وإصرار كل هؤلاء على أن يسموا أنفسهم يهوداً.

كل هذا يعني أن كلمة «يهودي» تشير إلى أشخاص يؤمنون بأنساق دينية متعارضة من بعض النواحي، وينتمون إلى تشكيلات حضارية مختلفة، أي أنها دال يشير إلى مدلولات دينية وقومية مختلفة. ولتوضيح الصورة قليلاً، يمكن القول بأن مصطلح «يهودي» كان يشير، منذ نهاية القرن التاسع عشر وحتى عشية ظهور الدولة الصهيونية، إلى عشرات الهويات والانتماءات الدينية والوثنية والطبقية:

1 ـ يهود اليديشية، ويُطلَق عليهم عادةً يهود شرق أوربا أو الإشكناز. وهم أكبر القطاعات اليهودية في العالم. وكان هؤلاء يوجدون في أوكرانيا ومنطقة الاستيطان اليهودية في روسيا وبولندا. وكانوا ينقسمون بدورهم إلى قسمين أساسيين:

أ) يهود متدينون يعرِّفون يهوديتهم على أساس ديني.
ب) يهود تمت علمنتهم ويعرِّفون يهوديتهم على أساس إثني.

وكان معظم أعضاء هذا التجمع اليهودي يتحدثون اللغة اليديشية، وقد حملوها معهم إلى إنجلترا والولايات المتحدة وأمريكا اللاتينية وجنوب أفريقيا، ولكن كانت بينهم قطاعات تتحدث البولندية والأوكرانية والروسية والألمانية.

2 ـ يهود العالم الغربي المندمجون الذين كانوا يتحدثون لغة بلادهم. وهؤلاء كانوا ينقسمون إلى عدة أقسام، فمنهم يهود متدينون يعرِّفون أنفسهم على أسس دينية مختلفة ( إصلاحى ـ محافظ ـ تجديدى ـ أرثوذكسى ) ومنهم أيضاً يهود لادينيون. وأكبر تَجمُّع لهؤلاء يُوجَد في الولايات المتحدة. وقد تزايد عددهم بوصول يهود اليديشية الذين اندمجوا بدورهم في المجتمعات التي وصلوا إليها، واكتسبوا سماتها الإثنية والحضارية، وفقدوا هويتهم السلافية اليديشية وظهر ما نسميه «الهوية اليهودية الجديدة». كما أن العناصر السفاردية في المجتمعات الغربية اندمجت هي الأخرى في محيطها الحضاري، خصوصاً أن أعدادهم كانت صغيرة.
3 ـ يهود أمريكا اللاتينية الذين يتحدثون الإسبانية والبرتغالية أساساً. وقد انضم إليهم آلاف من يهود اليديشية واليهود السفارد من العالمين الغربي والعربي. وقد احتفظت كل جماعة يهودية مهاجرة بلغتها وهويتها التي أحضرتها من بلدها الأصلي لأن المجتمع الكاثوليكي اللاتيني كان محتفظاً بهويته، فكان التعبير عن الهوية اليهودية هو ذاته صدى لبنية المجتمع المضيف. وحينما بدأ المجتمع اللاتيني يفقد هويته بالتدريج، وبدأت تتصاعد فيه معدلات العلمنة، أخذ أعضاء الجماعات اليهودية يفقدون هم أيضاً هويتهم ويندمجون، ولكن في محيطهم اللاتيني.

4 ـ يهود الشرق والعالم الإسلامي والعالم العربي، وكان من بينهم اليهود العرب (اليهود المستعربة)، واليهود السفارد الذين يتحدثون اللادينو، وكانت توجد جماعات كبيرة منهم في العالم العربي، وقد انضمت إليهم أعداد كبيرة من يهود اليديشية، ويهود البلاد الغربية (خصوصاً فرنسا). كما تم صبغ كثير من اليهود المحليين العرب بالصبغة الغربية، وحصلت أعداد كبيرة منهم على جنسيات أوربية.

5 ـ الجماعات اليهودية المتفرقة (مثل الفلاشاه وبني إسرائيل) التي اسـتمر معظمهـا في البقـاء، ولم يختف في واقع الأمر سـوى يهود الخزر، إذ لا يزال يُوجَد بعض أعضاء من يهود كايفنج ومئات وربما آلاف من يهود المارانو والدونمه، وإن كان ثمة نظرية تذهب إلى أن اليهود القرّائين الذين يتحدثون التركية هم من بقايا يهود الخَزَر.

6 ـ تم تصنيف جميع الجماعات السابقة إلى يهود غربيين يُسمَّون «الإشكناز»، ويهود شرقيين يُسمَّون «السفارد» (أحياناً) برغم خطأ التسمية.

7 ـ نحن نرى أن كل التقسيمات السابقة آخذة في الاختفاء وأن ثمة ثلاثة أقسام أساسية الآن في العالم:

أ) خارج فلسطين، ظهر ما يمكن تسميته «الهوية اليهودية الجديدة» وهي هوية ظهرت في المجتمعات الغربية الحديثة، وهي ذات ملامح يهودية إثنية أو دينية، ولكن البُعد اليهودي فيها هامشي، لا يؤثر في سلوك أعضاء الجماعات اليهودية، إذ أن ما يحكم هذا السلوك هو الرؤية العامة السائدة في المجتمع (المتعة واللذة) والتي تُوجِّه سلوك المسيحيين واليهود والبوذيين والملحدين... إلخ.

ب) داخل المُستوطَن الصهيوني ظهرت هوية جديدة تماماً لا علاقة لها بكل الهويات السابقة، وهي جيل الصابرا ويتنبأ الدارسون بأن هؤلاء الصابرا سيكونون أغيارا يتحدثون العبرية لاتربطهم بأعضاء الجماعات اليهودية فى العالم سوى روابط واهية لاتختلف كثيرا عن علاقة اليونانيين المحدثين بالاغريق القدامى. ويميل كثير من علماء الاجتماع إلى أن اليهود المولودين في إسرائيل ينقسمون أيضاً إلى شرقيين وغربيين، ومن ثم يُطلَق مصطلح «الصابرا» في واقع الأمر على أولاد اليهود الغربيين وحدهم.

جـ ) يهود متدينون ( أرثوذكس ) وهم أقلية صغيرة خارج إسرائيل وأقليه كبيرة داخلها.

والصورة، كما نرى، مركبة وغير متجانسة على جميع المستويات. فهذه الجماعات التي كانت تفصل بعضها عن البعض هوة من الخلافات الدينية، وكانت تتحدث عشرات اللغات واللهجات، تقع ضمن تشكيلات اجتماعية وثقافية لا حصر لها، ابتداءً من يهود الغرب المندمجين في مجتمعاتهم الرأسمالية ومروراً بيهود اليمن الذين يشكلون جزءاً متكاملاً من مجتمعهم العربي بكل فنونه وتقاليده ومزاياه وعيوبه،وانتهاء بيهود الفلاشاه (في إثيوبيا) الذين ينتمون إلى تشكيل قَبَلي بسيط ويتحدثون الأمهرية لغة أغلبية أهل إثيوبيا ويتعبدون بالجعزية لغة الكنيسة القبطية فيها!ويُلاحَظ هنا كيف يتداخل الانتماء الإثني مع الأبعاد الدينية.وربما كان هذا التداخل هو ما جعل مندوب الوكالة اليهودية في الخمسينيات لا يتردد في أن ينصح الفلاشاه بحل مشاكلهم كلها لا بالهجرة إلى إسرائيل وإنما عن طريق التنصر والانضمام إلى الكنيسة القبطية في إثيوبيا!

وهذه الهويات اليهودية المختلفة لا وجود لها خارج محيطها الحضاري. فإن فقد يهود الفلاشاه الأمهرية والجعزية والشعائر الدينية المختلفة التي استقوها من محيطهم الحضاري، فإنهم يفقدون هويتهم التي يُقال لها «يهودية». ويسري الشيء نفسه على يهود الولايات المتحدة، فخصوصيتهم نابعة من انتمائهم إلى المجتمع الأمريكي، ولا يمكن تَخيُّلهم خارج هذا المحيط الثقافي.

وإذا كانت هناك هوية يهودية مسـتقلة نسـبياً عن محيطها الحضاري، فهذا لا يعني بالضرورة أن هناك هوية يهودية عالمية واحدة مترابطة. والواقع أن هناك هويات يهودية مختلفة متعددة بعدد المجتمعات التي تتواجد فيها هذه الهويات، إذ أن انفصالها النسبي لم يؤد بالضرورة إلى ترابط الواحدة مع الأخرى. فيهود شرق أوربا كانوا يكتسبون هويتهم الشرق أوربية اليهودية من خلال اليديشية. وكان اليهود السفارد يكتسبون هويتهم الإسبانية من خلال اللادينو. وكانت كل من اليديشية واللادينو تعزل أعضاء الجماعة عن محيطهم. ومن ثم كان الصدام بين السفارد والإشكناز حاداً دائماً في جميع نقط التماس، سواء في أوربا في القرن السابع عشر أو في العالم الجديد في القرن الثامن عشر أو في المُستوطَن الصهيوني في القرن العشرين.

الهوية اليهودية الجديدة في المجتمعـات الغربية الحديثة
New Jewish Identity in Modern Western Societies
«الهوية اليهودية الجديدة» مصطلح قمنا بصكه لوصف الهوية اليهودية الجديدة التي نشأت تدريجياً في العالم الغربي بعد عصر الانعتاق وتَصاعُد معدلات العلمنة حتى أصبحت النموذج السائد فيه. واليهود الجدد هم أصحاب هذه الهوية الجديدة. ويمكن القول بأن الهويات اليهودية المختلفة، بعامة، قد تحدَّدت معالمها وتَشكَّل مضمونها في المجتمعات التقليدية (قبل الرأسمالية) بطريقة مختلفة عن تَشكُّلها في المجتمعات العلمانية الحديثة. فالمجتمعات التقليدية هي مجتمعات تدور حول منظومة عقيدية تستند إلى ميتافيزيقا ومطلقات معرفية وأخلاقية ويأخذ تقسيم العمل فيها شكل الفصل الحاد بين الطبقات والأقليات والجماعات. وبذا اضطلع اليهود فيها بدور الجماعة الوظيفية الوسيطة (وأحياناً العميلة) المنغلقة على نفسها، شأنهم في هذا شأن الأرمن في تركيا والصينيين في جنوب شرقي آسيا.


لكن يهود العالم الغربي، شأنهم شأن بقية قطاعات المجتمع الغربي، خضعوا بعد القرن التاسع عشر لعملية ضخمة من العلمنة والتحديث، ووجدوا أنفسهم يتفاعلون مع بيئة حضارية وسياسية مختلفة تماماً عما ألفوه من قبل، فقد تزايد معدل العلمنة في المجتمعات الغربية إلى أن أصبحت المجتمعات تُهيمن عليها العقيدة العلمانية (الشاملة) التي لا تتبنى أية معايير دينية أو أخلاقية للحكم على الفرد. فهي مجتمعات تدور حول مبدأي المنفعة واللذة وحول مفهوم الإنسان الطبيعي (الاقتصادي والجسماني)، ولا تحكم على الفرد إلا على أساس كفاءته ومدى نفعه وتكيفه مع قيم المجتمعات بحيث يصبح مواطناً يتوجه ولاؤه نحو الدولة وخدمة مصلحتها، قادراً على البيع والشراء والبحث عن اللذة وتعظيم الإنتاج والإشباع والقتال حينما يُطلَب منه ذلك.

وتتسم هذه المجتمعات بتَراجُع العقيدة المسيحية وعدم الاكتراث بها وبكل الأديان والمقدسات والغيبيات. ففي الماضي، أي حتى منتصف القرن التاسع عشر وربما أواخره، كان على اليهودي الذي يود الاندماج الكامل في مجتمعه أن يُغيِّر دينه ويعتنق ديناً آخر، أي المسيحية، كما فعل هايني ووالدا كلٍّ من ماركس ودزرائيلي. ولكن المسيحية دين له رموزه المركبة والمعادية لليهود واليهودية، ولذا كانت تجربة التنصر مريرة ولا شك. أما يهود العالم الغربي في الوقت الحاضر، فيمكن لمن يريد منهم أن يتخلَّى عن دينه أن يفعل ذلك ببساطة شديدة دون أن يُضطر بالضرورة إلى التنصر أو اعتناق أي دين آخر (كما فعـل الفيلـسـوف إسبـينوزا أول يهـودي إثني)، وبوسعه بعد ذلك أن ينتظم في صفوف الملايين التي تدخل الآلة الرشيدة اليومية والتي يتم تنميطها من الداخل والخارج بشكل دائم من خلال البنية التحتية المادية والمؤسسات الإعلامية والتربوية. وهذه الملايين لا تكترث بالخصوصية، إلا باعتبارها مصدراً متجدداً للمتعة والإثارة. وهذه المجتمعات الغربية التي يعيش فيها اليهود الجدد لا تهتم كثيراً بالدين (أو أية أبعاد معرفية كلية نهائية)، ولذا فهو لا يُوجِّه سلوك أعضائها ولا رؤيتهم لذاتهم أو للواقع، وإن كان هناك بُعد ديني فهو عادةً هامشي ضامر. وهي مجتمعات لا ترى اليهودي باعتباره قاتل المسيح أو عدو الإله، ولا ترى اليهود باعتبارهم الشعب الشاهد. وأعضاء هذه المجتمعات قد يتحدثون عن التراث اليهودي/المسيحي ولكن الإنسان بالنسبة لهم، في التحليل الأخير، هو الإنسان الاقتصادي،المنتج والمستهلك، والإنسان الجسماني، الباحث عن المتعة.وهي مجتمعات لم تَعُد تكترث كثيراً بالشعائر المسيحية ولا بالأعياد المسيحية باستثناء الكريسماس الذي فُرِّغ من مضمونه الديني وأصبح مناسبة اجتماعية وموسماً للبيع والشراء. وبدلاً من العقيدة المسيحية، ظهرت مجموعة من العقائد العلمانية المختلفة (مثل الوجودية والماركسية والنازية والليبرالية أو حتى الاستهلاكية) يمكن أن يؤمن بها كل من يشاء.

ولا تمارس هذه المجتمعات أي تمييز ضد اليهود أو ضد أية أقلية أخرى،فرقعة الحياة (العلمانية) العامة مفتوحة أمام الجميع، وبإمكان الجميع الالتقاء فيها بعد أن يطرحوا جانباً خصوصياتهم الثقافية والدينية،أو بعد أن يتركوها في منازلهم في رقعة الحياة الخاصة (وقد طلبت حركة الانعتاق من اليهودي أن يكون يهودياً في المنزل مواطناً في الشارع).وفي رقعة الحياة العامة يمكنهم أن ينخرطوا، ما حلا لهم الانخراط،في البيع بأعلى الأسعار، والشراء بأرخصها، والبحث الدائم (المنهجي أو التلقائي) عن اللذة وعن التخفيضات والأوكازيونات، دون أي تمييز على أساس العقيدة أو الجنس أو اللون. ومن ثم لا يوجد أي تمايز ثقافي أو وظيفي أو مهني لليهود في مواجهة غيرهم، وإن كان هناك مثل هذا التمايز فهو من رواسب الماضي، فالجميع يلتقي على أرض علمانية صلبة.

هذه صورة المجتمع العلماني النماذجية، أي أنها صورة غير واقعية ولكنها، مع هذا، ممثلة للواقع. وداخل هذا الإطار، ظهرت الهوية اليهودية الجديدة، التي نطلق على أصحابها مصطلح «اليهود الجدد» لنميزهم عن يهود ما قبل القرن التاسع عشر وعن يهود مرحلة ما قبل الانعتاق. وفي بعض الدراسات المتخصصة، يُقال لليهود الجدد «يهود ما بعد مرحلة الإعتاق»، كما يمكن أن يُشار إليهم ببساطة بوصفهم «يهود العالم الغربي»، أو «اليهود الغربيين»، مع إسقاط المصطلحات التي تشير إلى هويات إثنية أو إثنية دينية مختلفة، مثل: «يهود اليديشية» أو «السفارد» أو «الإشكناز»، لأنها لم تَعُد تَصلُح إطاراً مرجعياً. فاليديشية اختفت تقريباً، كما اختفت أية ملامح إثنية أتى بها المهاجرون اليهود من أوطانهم الأصلية. وأهم كتلة يهودية بين اليهود الغربيين تتمثل في الأمريكيين اليهود (وليس اليهود الأمريكيين) الذين استُوعبوا في الحضارة الأمريكية تماماً ولا وجود لهم خارجها ولا يمكن فَهْم سلوكهم دون الرجوع إليها.

والأمريكيون اليهود هم أهم قطاعات هؤلاء اليهود الجدد وأكبرها، إذ يشكلون نحو 90% منهم، ويمثلون جماهير الصهيونية الغربية وعمودها الفقري ويؤثرون في صنع القرار الأمريكي، وحيث إن يهود أوربا الغربية بل ويهود أوربا الشرقية أيضاً آخذون في التلاشي (باستثناء يهود فرنسا التي هاجر إليها يهود المغرب)، فإننا نستخدم أحياناً مصطلح «اليهود الجدد» كمرادف لمصطلح «الأمريكيون اليهود». وقد ساهمت خصوصية الولايات المتحدة الأمريكية في سرعة ظهور الهوية اليهودية الجديدة وفي بلورتها، وتتمثل هذه الخصوصية في العناصر التالية:

1 ـ المجتمع الأمريكي مجتمع استيطاني يتكون من فسيفساء إثنية. ورغم أن ثمة نواة بروتستانتية بيضاء أسست المجتمع وشكلت أغلبية أعضاء النخبة، فإن المجتمع لا تُوجَد فيه أغلبية متجانسة. ولذا، لا يشكل اليهود الأقلية الإثنية أو الدينية الوحيدة، وإنما توجد بالإضافة إليهم عشرات الأقليات الأخرى، مثل الإيطاليين والأيرلنديين والمهاجرين ذوي الأصل الإسباني من بورتوريكو وأمريكا اللاتينية، إلى جوار العرب والسلاف. كما تُوجَد الآن أعداد كبيرة من الآسيويين من الهند والصين واليابان، وهناك أيضاً أعداد كبيرة من الأقليات الدينية من كل شكل ولون.

2 ـ المجتمع الأمريكي مجتمع جديد منفتح يوجد فيه مجال للريادة والاستثمارات والحراك الاجتماعي، الأمر الذي يسَّر لأعضاء الجماعات اليهودية أن يحققوا كل إمكانياتهم الاقتصادية وأن يستثمروا كفاءاتهم ورؤوس أموالهم بشكل كامل. والمجتمع الأمريكي الرأسمالي، الذي تشتغل فيه قطاعات ضخمة بالتجارة والبيع والشراء والأعمال المالية، لم يفرض على أعضاء الجماعات اليهودية دور الوسيط، ولم يُحرِّم عليهم أي نشاط اقتصادي.

3 ـ لم يمارس المجتمع الأمريكي أي تمييز ضد أعضاء الجماعات اليهودية في الحقوق السياسية أو المدنية، بل منحهم هذه الحقوق كاملة منذ البداية. ولم يُظهر هذا المجتمع سوى أشكال طفيفة من التفرقة الاجتماعية (هي شكل من أشكال التحامل أكثر من كونها تفرقة عنصرية) مثل حرمان اليهود من عضوية النوادي الاجتماعية الأرستقراطية أو التعيين في بعض المناصب الحيوية. وقد تهاوت هذه الحواجز ذاتها في أوائل السبعينيات حين عُيِّن كيسنجر وزيراً للخارجية عام 1973، وإرفينج شابيرو مديراً لواحدة من أكبر الشركات الأمريكية (شركة دي بونت) عام 1974.

4 ـ المجتمع الأمريكي مجتمع ليس له تاريخ طويل أو تراث مُركَّب، ومن ثم لا تسيطر علىه أية أساطير عرقية أو مفاهيم دينية قديمة ذات امتداد زمني أو ذات جذور تاريخية راسخة. وإن كانت هناك رواسب حملها بعض المهاجرين معهم، مثل الأيرلنديين أو الألمان وغيرهم، فهي مجرد رواسب لم تكتسب أية مركزية ولم تضرب بجذور عميقة. ويقول بعض علماء الاجتماع إن التعصب الأمريكي عادةً ما يستهدف السود بالدرجة الأولى، ثم الكاثوليك بالدرجة الثانية، ولكنه لا يستهدف أعضاء الجماعات اليهودية إلا بالدرجة الأخيرة.

5 ـ المجتمع الأمريكي هو أكثر المجتمعات علمانية على وجه الأرض، حيث تم فصل الدين والأخلاق وكل القيم عن الدولة وعن رقعة الحياة العامة (أي عن 90% من حياة الإنسان الأمريكي).

لكل هذا، وجد المهاجرون اليهود أنفسهم في وضع حضاري جديد تماماً، إذ أن المجتمع الأمريكي مجتمع منفتح بمعنى الكلمة، بخلاف المجتمعات الغربية المنغلقة المثقلة بالأساطير القديمة والتقاليد التاريخية والقيم التي ورثتها. ولذلك اندمجوا فيه بسرعة وتهاوت أسوار العزلة الثقافية والاقتصادية والاجتماعية عنهم، فلم يُضطروا إلى السكنى في أماكن خاصة بهم (الجيتو)، ولم يُفرَض عليهم أن يرتدوا أزياء مُميَّزة. ولهذا، اختفت بقايا ثقافة يهود اليديشية الإثنية من شرق أوربا، كما اختفت تقريباً اللغة اليديشية ذاتها بسرعة، وكذلك الأمر مع المدارس ذات الطابع اليهودي التقليدي بل وغير التقليدي.

ومع هذا، يمكن القول بأن الهوية اليهودية الجديدة في الولايات المتحدة، رغم تبلورها بسرعة وبشكل حاد، فإنها لا تشكل سوى حالة متقدمة من متتالية نماذجية آخذة في التحقق. فالهوية اليهودية الجديدة هي ثمرة التفاعل التلقائي واليومي بين أعضاء الجماعات اليهودية ومجتمعاتهم العلمانية، إلا أنها في الوقت نفسه ثمرة تخطيط واع. فبعد انهيار أسوار الجيتو، وفتح أبواب الانعتاق، والاندماج، أدرك بعض قيادات الجماعات اليهودية الفكرية ضرورة تحديث الهوية اليهودية لتتفق مع الأوضاع الجديدة، بكل ما تعطيه لليهود من حقوق جديدة، وبكل ما تُلزمهم به من واجبات جديدة أيضاً. وقد كان مُتصوَّراً أن تحديث الهوية اليهودية هو السبيل الوحيد لاحتفاظ اليهودي بيهوديته (الدينية أو الإثنية) وتحقيق الاستمرار لها داخل مجتمعات ما بعد الانعتاق، لأن الاصطدام بالمنظومة العلمانية أمر لا جدوى له. ولكن ما حدث كان عكس المتوقع. إذ اندمج اليهود تماماً في مجتمعاتهم بحيث أصبحت أنماط سلوكهم وأسلوب حياتهم لا تختلف كثيراً عن الأنماط والأساليب السائدة في مجتمعاتهم، كما أن أحلامهم وطموحاتهم لا تختلف عن أحلام وطموحات معظم أعضاء مجتمعاتهم التي ارتفعت فيها معدلات العلمنة. أما البُعد اليهودي في هويتهم فقد أصبح هامشياً للغاية، وظهر أن الهوية اليهودية الجديدة (من منظور خصوصيتها اليهودية الدينية أو الإثنية) هوية هشة رخوة تنتمي يهوديتها إلى المظهر والقشرة لا إلى المخبر والجوهر.

فعلى المستوى الديني، نجد اليهودي الجديد « المتدين» (باستثناء قلة صغيرة) ينتمي عادةً إلى فرقة من الفرق اليهودية الجديدة (الإصلاحية أو المحافظة أو التجديدية) التي تؤمن بصياغة مخففة للغاية من اليهودية. وهو قد يُصنِّف نفسه يهودياً متديناً ومع هذا لا ينتمي إلى أي من الفرق. وهذا الانتماء الديني يأخذ شكل الإيمان ببعض الأفكار الغامضة عن وجود الإله وبعض المبادئ الأخلاقية العامة الموجودة في معظم الأديان والمنظومات الأخلاقية. وهو إيمان منفصل تماماً عن الشعائر الدينية والإثنية اليهودية، فقد اختفت، بشكل كامل تقريباً، الشعائر الدينية اليومية التي تنظم حياة اليهودي بل واختفت الشعائر الأسبوعية والشهرية ولم يبق سوى الشعائر السنوية ذات الطابع الاحتفالي والتي لا تتطلب أية عملية ضبط للذات. بل، على العكس، يتحول الاحتفال بالشعائر إلى فرصة لتأكيد الذات والإفصاح عنها وإدخال قدر من المتعة عليها. ولذا، تم التركيز على تلك الشعائر ذات القيمة الجمالية أو الإثنية أو تلك التي تشبه بعض الطقوس والشعائر (المسيحية) بحيث يستطيع الجميع الاحتفال بشعائرهم في ذات الوقت وفي رقعة الحياة العامة. وانطلاقاً من هذا، نجد أن الشعائر تأخذ شكل تناول العشاء أو وجبة مطبوخة بطريقة معينة في بعض الأعياد أو إيقاد شموع السبت (لا يقيم شعائر السبت كلها سوى 5% من يهود أمريكا) أو إيقاد شمعدان الحانوخاه في ديسمبر أو تزيين المنزل بشجرة الحانوخاه التي ليس لها أي مضمون ديني (وتشبه تماماً شجرة الكريسماس). بل وهناك العم ماكس رجل الحانوخاه، بديل بابا نويل أو سانتا كلوز. وهذا اليهودي الجديد قد يذهب إلى المعبد اليهودي ولكنه يفعل ذلك مرة أو مرتين في السنة (عادةً في يوم الغفران وربما في عيد الفصح). والشعائر تُقام لا باعتبارها شعائر دينية وإنما باعتبارها حدثاً اجتماعياً إذ تحوَّل الزمان الديني المقدَّس (بالإنجليزية: سيكريد تايم sacred time) إلى احتفال عائلي، أي إلى زمن عائلي (بالإنجليزية: فاميلي تايم family time)، ثم تحول الزمن العائلي بدوره إلى "وقت الفراغ" أو "الويك إند".

ويمكن أن يغالي اليهودي الجديد قليلاً ويصر على ضرورة ممارسة شعائر الطعام الشرعي ولكنه عادةً ما يقيم بعضها لا كلها، كما يمكنه أن يُصر على إقامة احتفال بلوغ سن التكليف (بارمتسفاه) لأطفاله (حتى لا يختلف عن أقرانه المسيحيين ممن يحتفلون بتثبيت التعميد). ولكن هذا الاحتفال، تماماً مثل الاحتفال بالحانوخاه، مُفرَّغ تماماً من أي مضمون ديني أو حتى أي مضمون إثني حقيقي. فهو حَدَث بورجوازي استهلاكي ضخم يُشبه الاحتفال بعيد الميلاد حين يحتفل الإنسان بميلاده البيولوجي لا بميلاده الديني. وبدلاً من أن يتذكر اليهودي أنه قد وصل إلى السن الـذي يجب عليه أن يحمل فيها نيـر العهـد ويُنفذ الوصـايا والأوامر والنواهي، فإنه يعقد حفلة فاخرة مكلفة وسوقية (تثير حفيظة كثير من الحاخامات). وقد لخص أحد الحاخامات الموقف الديني في الولايات المتحدة بقوله: « إن يهود أمريكا قد أصبحوا أقل تديناً وأصبحت يهوديتهم أكثر تأمركاً». ويمكن إعادة صياغة هذا القول لينطبق على يهود المجتمعات الغربية ككل فنقول: « إن يهود العالم الغربي العلماني قد أصبحوا أقل تديناً وأصبحت يهوديتهم أكثر علمانية ».

أما من الناحية الإثنية، فيُلاحَظ أن اليهود الجدد يتحدثون لغة البلد الذي ينتمون إليه وقد يستخدمون كلمة عبرية هنا وكلمة يديشية هناك من قبيل التظاهر الإثني، ولكن هذا لن يعوق عملية التواصل الرشيد البرجماتي. وتُعَدُّ الإنجليزية، وليس العبرية، لغة معظم يهود العالم إذا أضفنا يهود أستراليا ونيوزيلندا وجنوب أفريقيا وإنجلترا وكندا إلى الأمريكيـين اليهـود، وهي اللغة التي يتحدثون بها ويحبون ويكرهون ويتعبدون ويدبجون مؤلفاتهم الدنيوية والدينية بها.

ومن الواضح أن الحضارة الغربية الحديثة قد بهرت الكثيرين من اليهود وحلت محل ثقافتهم اليهودية التقليدية تماماً. وكما قال أحد المعلقين، فإن يهود العالم الغربي يعرفون موتسارت ومايكل جاكسون، ولكنهم لم يسمعوا قط بموسى بن ميمون ولا يعرفون عن مضمون التلمود شيئاً، وبعضهم يصاب بصدمة عميقة حينما يعرف عن بعض جوانب التلمود المظلمة والسلبية. وغني عن القول أن النسق القيمي الذي يتبناه عامة اليهود الجدد والأمريكيون اليهود هو نسق مادي استهلاكي، شأنهم في هذا شأن عامة جماهير المجتمعات الغربية. والواقع أن الإسهامات الثقافية المتميِّزة ليهود العالم الغربي، في مجالات الأدب والفنون التشكيلية والعلوم، تُعَدُّ من أكبر الشواهد على مدى اندماجهم في هذه الحضارة وتَملُّكهم ناصية مصطلحها. فهي إسهامات غربية علمانية بالدرجة الأولى، وقد تكون لها نبرة يهودية حين تتناول أحياناً موضوعات يهودية، ولكن المجتمعات الغربية لا تُمانع في هذا بتاتاً ما دامت هذه النبرة لا تتعارض مع أداء اليهودي في رقعة الحياة العامة. والعقد الاجتماعي الأمريكي يسمح للأمريكيين بأن يحتفظوا بشيء من عقائدهم الدينية وثقافتهم الأصلية بشرط ألا يتناقض ذلك مع الانتماء الأمريكي الكامل.

ولذا، يستطيع اليهودي أن يُعبِّر عن إحساسه بالانتماء للتراث اليهودي (دون إلمام به)، وأن يتباهى أمام الجميع بذلك، وأن يشعر بالفخـر بالإنجـازات اليهودية، ويشتري أعمالاً فنية يهودية (نجمة داود ـ شمعدان المينوراه ـ أعمال شاجال ـ أفلام وودي آلن)، ويشتري أيضاً بعض الهدايا التذكارية (سوفينير) من إسرائيل، ويُساهم في المناسبات والمؤسسات الخيرية والثقافية اليهودية أكثر من أقرانه من غير اليهود. ولكن كل هذه أمور هامشية بالنسبة لانتمائه لمجتمعه ولأدائه في رقعة الحياة العامة.
ولا يتفاعل اليهود الجدد مع ثقافة إسرائيل العبرية إلا باعتبارها ثقافة أجنبية يربطهم بها اهتمام خاص، تماماً مثلما يتفاعل المهاجر الإيطالي مع الثقافة الإيطالية حينما يدفعه الحنين الرومانسي إلىها (نوستالجيا nostalgia) وذلك دون أن يضحي بهويته الأمريكية.

ويُعَدُّ تزايد معدلات الزواج المُختلَط من أهم علامات تآكل الهوية اليهودية وهشاشتها. فقد أصبحت هذه الهوية اليهودية الجديدة، بسبب هامشيتها بالنسبة لسلوك اليهودي في المجتمعات الغربية، لا تُشكِّل عائقاً أمام الزواج المُختلَط. فحينما يقرر شخص غير يهودي، مثلاً، أن يتزوج من يهودي رجلاً كان أو امرأة، فإن انتماء هذا الأخير لا يمس جوهر رؤيته للكون أو لنفسه ولا يؤثر في سلوكه بشكل كبير. فاليهودي، شأنه شأن المسيحي، يؤسس حياته على أسس علمانية، ولذا لا يتردد اليهودي في الزواج من شخص غير يهودي. بل ويُقال إن إعادة تعريف الهوية اليهودية لم تَعُد تشكل فقط حاجزاً أمام الزواج المُختلَط، بل وأصبحت حافزاً على مثل هذا الزواج في المجتمعات العلمانية، حيث يبحث الجميع عن مغامرات جديدة ومغايرة وعن أساليب حياة مختلفة، واليهودي يتيح هذه الفرصة ويُحقق مثل هذه الأمنية لمن يقترن به.

ومن أكبر العلامات الأخرى على الاندماج الكامل ما يُعرَف بالاندماج الاقتصادي. فلم يَعُد اليهود يشكلون كتلة اقتصادية مستقلة داخل المجتمعات الغربية. ولم يَعُد لهم هرم وظيفي مستقل عن الهرم السائد في المجتمع (إلا من بعض الجوانب فقط). كما لا يمكن الحديث عن «رأسـمالية يهودية» أو حتى عن «رأسـمالية يهودية أمريكية أو إنجليزية»، فرؤوس الأموال التي يملكها الرأسماليون اليهود إنما هي رؤوس أموال أمريكية أو إنجليزية ليس لها حركية مستقلة أو اتجاه مستقل، أي أنها جزء صغير من كلٍّ أكبر. والرأسمالي أو المهني أو العامل اليهودي لا يواجه مشاكل خاصة به، بل يواجه المشاكل نفسها التي يواجهها أقرانه في الشريحة الاجتماعية نفسها أو في المهن نفسها. ويُلاحَظ أن الأمريكيين اليهود يتركزون في الوقت الحالي في المهن (الطب والجامعات والإعلام... إلخ) وهو اتجاه آخذ في التعمق باعتبار أن عدد الشباب اليهودي في الجامعات الأمريكية يتزايد على مر الأيام. ولكن هذا هو الاتجاه العام في المجتمعات الاستهلاكية، إذ يزيد قطاع الخدمات تدريجياً بازدياد الرفاهية. ومع تزايد اعتماد المجتمعات الحديثة على الآلات العلمية والإلكترونيات، يزداد احتياج المجتمع إلى المهنيين. وإذا كانت نسبة اليهود المهنيين أعلى من النسبة العامة في الولايات المتحدة، فهذا ليس دليلاً على التمييز العنصري وإنما هو دليل على أن اليهود، باعتبارهم أقلية، يتسمون بقدر من الحركية أعلى من تلك التي يتسم بها بقية أعضاء المجتمع، فيسارعون باغتنام الفرص التعليمية المتاحة ويحققون درجة من الحراك الاجتماعي تزيد عن تلك التي يحققها بقية أعضاء المجتمع، وهم في هذا لا يختلفون عن أعضاء الأقليات الأخرى.
ويهود الدول الغربية الحديثة لا يعيشون في جيتوات مقصورة عليهم وإنما يتقرر مكان معيشتهم بحسب دخولهم وبحسب ما تمليه مصالحهم (الطبقية والمهنية والحرفية). وقد نجم عن هذا أن اليهود الجدد، والأمريكيين اليهود على وجه الخصوص، يعيشون إما في المدن الكبرى أو في مـدن صـغيرة أو جديـدة قريبة من المدن الكبـرى (الضواحي). ويتسبب هذا التوزيع في تشتيت اليهود الجدد، وفي ابتعادهم عما تبقى من مراكز الثقافة اليهودية وعن أقرانهم، وفي اقترابهم من غير اليهود، الأمر الذي يزيد معدل اندماجهم والزواج المُختلَط بينهم. ومن المفارقات التي تستحق الذكر أن الحراك الاجتماعي يُعتبَر من أهم أسباب تَشتُّت اليهود الجدد، وارتقائهم في سلم المجتمع وفي مراحل التعليم العالي، وفي بحثهم الدائب عن أفضل المؤسسات التعليمية وأحسن الفرص الاقتصادية. وتكمن المفارقة في أن القيمة الإيجابية التي يعلقها اليهود الجدد على التعليم هي نفسها التي تسبب انتشارهم، بكل ما يتضمنه هذا الانتشار من سلبيات من منظور التماسك الاجتماعي.

وفي هذا الإطار، سنجد أن توجهات يهود العالم الغربي السياسية (بما في ذلك تأييدهم لإسرائيل والصهيونية) لا يختلف عن الأنماط السياسية السائدة في المجتمع، وأن طريقة تصويتهم في الانتخابات لا تختلف (إلا في بعض التفاصيل) عن النمط السائد في المجتمع. فيُلاحَظ مثلاً أن يهود الولايات المتحدة كانوا يتجهون حتى عهد قريب اتجاهاً ليبرالياً وكان أغلبيتهم يصوتون لصالح الحزب الديموقراطي. وهم، في هذا، لا يختلفون كثيراً عن أعضاء الأقليات الأخرى أو عن سكان المدن. وهم يكونون جماعات ضغط تتحرك داخل النظام السياسي ولكنها لا تختلف في هذا عن الأقليات وجماعات الضغط الأخرى (فالديموقراطية الأمريكية لم تَعُد ديموقراطية انتخابية وإنما صارت ديموقراطية جماعات الضغط).

وقد أدَّى تَزايُد معدلات الاندماج إلى الابتعاد عن التراث أو الموروث الثقافي التقليدي، وبالتالي إلى ضعف الهوية الإثنية الخاصة. ومن المُلاحَظ أن أزمة الهوية والإحساس بالاغتراب، وهما من الموضوعات الأساسية في الأدب الغربي الحديث وفي المجتمعات الغربية، قد أصابا اليهود الجدد أيضاً، ومن هنا بحثهم الدائب عن هوية. والواقع أن هذا البحث ترجم نفسه إلى حاجة نفسية لافتراض وجود ظاهرة معاداة اليهود في كل مكان. ففي غياب أي مضمون إيجابي للهوية، يصبح الآخر المعادي عنصراً ضرورياً لوجودها ومصدراً أساسياً لها. وقد ذكر أحد المعلقين الأمريكيين أن سارتر يرى أن المعادي لليهود إن لم يجد يهوداً لاخترعهم اختراعاً. ولكن الوضع أصبح معكوساً بالنسبة للأمريكيين اليهود واليهود الجدد، فهم إن لم يجدوا أعداء اليهود لاخترعوهم. والمؤسسة الصهيونية تدرك هذه الحاجة النفسية للأمريكيين اليهود، فتقوم بتعميق إحساسهم بالمخاطر الحقيقية أو الوهمية المحيطة بهم والمؤامرات التي تُحاك ضدهم، وتؤكد على الهولوكوست أو الإبادة النازية باعتبارها موضوعاً أساسياً فيما يُسمَّى «التاريخ اليهودي» وعلى إمكانية قيام أفران الغاز في بروكلين (نيويورك) أو في كولومبوس (أوهايو) أو حتى في باريس (فرنسا) أو موسكو (روسيا).

ولكن الشكل الأساسي للهوية المعلنة بين الأمريكيين اليهود واليهود الجدد بشكل عام هو إعلان انتمائهم الصهيوني بشكل متشنج حتى يضفوا ما يشبه المضمون الإيجابي الصلب على هذه الهوية اليهودية الجديدة الهشة السطحية، فهي تجعل الأمريكي اليهودي فرداً من الشعب اليهودي القديم فخوراً بتراثه ورموزه القومية، خصوصاً الرمز القومي الأكبر، أي الدولة الصهيونية. ولكن، بشيء من التحليل المتعمق، سنكتشف أن يهود العالم الغربي والأمريكيين اليهود قبلوا الصهيونية حسب شروطهم هم. ونحن نقسم الصهيونية إلى نوعين: صهيونية استيطانية، أي أن يهاجر المواطن اليهودي من بلده ويتحول إلى مستوطن صهيوني في فلسطين، وصهيونية توطينية أو صهيونية الغوث والمعونة والهوية، وهذه صهيونية تترجم نفسها إلى تبرعات مالية لإسرائيل للمساعدة في توطين اليهود الآخرين، وإلى تأييد وضغط سياسيين من أجلها، وإلى مصدر من مصادر الهوية، بحيث تصبح إسرائيل بالنسبة لهؤلاء الأمريكيين اليهود هي البلد الأصلي (مسقط الرأس) مثل إيطاليا بالنسبة إلى الإيطاليين وأيرلندا بالنسبة إلى الأيرلنديين ولبنان بالنسبة إلى اللبنانيين، فكأن الأمريكيين اليهود قد تَقبَّلوا الصهيونية بعد أمركتها، تماماً مثلما فعلوا مع اليهودية!

لكل هذا، لا يهاجر اليهود الجدد إلا بأعداد صغيرة، فمعدل هجرة الأمريكيين اليهود في السنة هو 1250 فقط (ولعل هذا العدد قد تزايد قليلاً مع انتشار البطالة في المجتمع الأمريكي)، ولكنهم دائماً على استعداد لإحداث الضوضاء والتظاهر من أجل إسرائيل والكتابة إلى الكونجرس ودفع التبرعات الآخذة في التناقص (لا يُساهم سوى 02% من يهود أمريكا في الجباية اليهودية الموحَّدة ،كما لُوحظ مؤخراً أن ما تحصل عليه الجمعيات الخيرية غير اليهودية من أعضاء الجماعات اليهودية في الولايات المتحدة يزيد على ما تحصل عليه الجمعيات اليهودية). وقد لاحظ أحد الدارسين أن الهجرة إلى إسرائيل تتناسب تناسباً عكسياً مع تَصاعُد نبرة هذه الصهيونية التوطينية وازدياد حدتها.

لكن الأهم من هذا كله أن هذه الصهيونية لا تشكل رؤية متكاملة للحياة، فهي لا تتحكم إلا في جانب واحد وسطحي من الشخصية، إذ تظل قيم اليهودي الجديد وهويته المتعيِّنة غربية علمانية استهلاكية. ومما ييسر الأمر بالنسبة إلى اليهود الجدد أنه لا يوجد أي تعارض أو تناقض بين مصالح بلادهم ومصالح إسرائيل التي تمثل هذه المصالح في الشرق الأوسط. فتأييدهم للمُستوطَن الصهيوني لا يختلف في أساسياته (وإن اختلف أحياناً في نبرته) عن تأييد غير اليهود للمشروع الصهيوني. وهو تأييد مؤسِّسي عام تشترك فيه الحكومات الغربية والمؤسسات الإعلامية والثقافية. وحين يُشارك اليهودي الجديد في هذا لا يعدو أن يكون صوتاً في جوقة، يسبح مع التيار لا ضده. ويمكن الزعم بأن تأييد يهود أمريكا لإسرائيل ينبع أساساً من أمريكيتهم، أي من انتمائهم الأمريكي وليس من خصوصيتهم اليهودية.

ولكن هذا الانتماء الصهيوني يخبئ كثيراً من التناقضات والمفارقات. فأولاً: إذا كانت إسرائيل هي حقاً البلد الأصلي، فإن هذا يعني أنها البلد الذي هاجر المهاجر منه لا البلد الذي يهاجر إليه، أي أن الأسطورة الصهيونية في محاولة التكيف مع الواقع الأمريكي قضت على نفسها. وثانياً: يساعد هذا الانتماء الصهيوني السطحي على مزيد من الاندماج والانصهار، فهو انتماء إثني لا ديني يُفقدهم ما تبقَّى لهم من انتماء ديني. وحيث إنهم يكتسبون سماتهم الإثنية الحقيقية من مجتمعاتهم، فهم يزدادون في واقع الأمر تأمركاً وعلمنة وتظل الاختلافات بينهم وبين بقية المواطنين باهتة وطفيفة، ويصبح مضمون الحياة اليهودية الوحيد هو دفع التبرعات إلى إسرائيل وحضور المظاهرات التي ينصرف اليهودي الجديد بعدها إلى بيته الوثير في الضاحية، بعد أداء واجبه تجاه هويته اليهودية الجديدة الهشة، ليتمتع بحياة استهلاكية هنيئة ويلتهم كل أنواع الطعام، المباح وغير المباح شرعاً. وقد لاحظ بن جوريون نفسه هذا الوضع حينما ذكر أن صهيونية يهود أمريكا (والعالم الغربي) ليست إلا غطاء لعملية الاندماج السريعة. ويمكن تلخيص الموقف بالقول بأنه من منظور الهوية بين اليهود الجدد، يُوجَد سطح صهيوني لامع تزدهر فيه الهوية الإثنية الوهمية السطحية، وباطن غربي علماني تتآكل فيه الهوية الدينية أو التقليدية وتتشكل داخله الهوية اليهودية الجديدة. وإذا كان الصهاينة قد وصفوا اليهود المندمجين بأنهم المارانو الجدد (أي اليهود المتخفون، مثل يهود إسبانيا الذين اضطروا إلى التنصر، فأظهروا مسيحيتهم وظلوا في الباطن يهوداً)، فيمكننا أن نصف اليهود الجدد بأنهم مقلوب المارانو، أي أنهم يظهرون اليهودية بطريقة صاخبة ولكنهم يبطنون العلمانية والاستهلاكية والأمريكية.

ولكن كل هذا لا يعني عدم وجود تناقضات بين اليهود الجدد والمجتمعات التي ينتمون إليها، كما لا يعني أن كل أشكال التفرقة ضدهم قد اختفت تماماً. فهناك التوتر المتزايد بين الأمريكيين اليهود والسود، وبينهم وبين الكثير من أعضاء الجماعات المهاجرة. وهناك أشكال من التفرقة الاجتماعية غير الملحوظة (نسميه «تحامل»). ولكن مثل هذه التناقضات ومثل هذه التفرقة هي جزء من أي كيان اجتماعي. ويشبه وضع اليهود الجدد، في كثير من نواحيه، وضع أية أقلية في أي مجتمع غربي حديث منفتح، وهذا الوضع شيء جديد تماماً بالنسبة إلى يهود العالم الغربي.

  • الاثنين AM 02:47
    2015-12-21
  • 3302
Powered by: GateGold