ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ

شٌبهات وردود

المكتبة المرئية

خَــيْـرُ جَــلـيـسٌ

المتواجدون الآن
حرس الحدود
مجتمع المبدعين

البحث
عرض المادة
كيف كان حكم الله مهيمنا على أهل الكتاب في كل زمان
د/ احمد نصير
كيف كان حكم الله مهيمنا على أهل الكتاب في كل زمان
وفيه مطلبان :-
الأول : لا يخلو زمان من بيان حكم الله
أي أن الأحكام الضرورية المرعية في كل ملة لا يرد إليها النسخ
الثاني : الشريعة الإسلامية هي الشريعة الخاتمة فكانت كاشفة عن حكم الله الذي ضاع بين الأمم السابقة
المطلب الأول
(لا يخلو زمان من بيان حكم الله)
توارث أمانة الأحكام المرعية بلا نسخ عبر الزمان
قال تعالى (وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِم بِعَيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ) (46)
قال العلماء ("العلم" أن تربط الأحكام بأدلتها الأثرية أو النظرية؛ فالأثرية ما كان من كتاب أو سنة أو إجماع، والنظرية: العقلية؛ أي: (العلل المرعية التي يعتبرها الشرع)[1] ، ولهذا السبب ذكرت الآيات أن شريعة موسى عليه السلام اُتْبِعت بشريعة عيسى عليهما السلام فجاء الإنجيل مصدقًا لما جاء في التوراة ، وذلك توطئة وتمهيدًا لذكر شريعة النبي محمد r خاتم الأنبياء والتي جاءت شرعته مصدقة لهاتين الشريعتين على وجه الإجمال ، ومهمينة عليهما أي ناسخة لهما فيما جاء بالقرآن من أحكام بخلافهما ، وفي غير ذلك ، فشرع ما قبلنا شرع لنا ،ما لم نؤمر بخلافه .
قوله (وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِم بِعَيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ..) (46) فيه دلالة على عدم انقطاع الوحي حتى مجيء نبي الله عيسى عليه السلام ، حيث لا يخلو زمان من بيان حكم الله ، كما تضمن أن الإنجيل لم ينسخ التوراة بالكلية ، بل هو -الإنجيل- مصدق لما جاءت به التوراة من أحكام ثابتة ومرعية في كل ملة ، فثمة أحكام جاء الإنجيل لبيانها بعد أن طمست في التوراة وحرفت وبدلت ، للتأكيد عليها واستظهار حكم الله فيها ، وهي الضروريات الخمس التي هي أسس العمران المرعية في كل ملة، والتي لولاها لم تجر مصالح الدنيا على استقامة، ولفاتت النجاة في الآخرة ، وهي حفظ "الدِّينُ، والنفس، والعقل، والنسل، والمال"[2] ، فالأحكام التي تدور في فلكها تمثل قواعد كلية يستنبط منها الفقهاء المصالح المرعية في الأحكام الشرعية[3] ، والشرائع تتعاضد وتتكامل لتؤكد الشريعة اللاحقة ما طمس من الشريعة السابقة ، لا سيما إذا طال التحريف العلل الشرعية والمقاصد المرعية في كل ملة .
قوله (..وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ) (46) تأكيد على أن شريعة أهل الإنجيل لم تقتصر على بيان الأخلاق والمعاملات بين الناس ولم تقتصر على بيان العقيدة السليمة والعبادة الصحيحة ، كما يظن البعض، وإنما شملت كذلك ما يحتاجه الناس في أمور حياتهم وحكمهم ، وسياسة شأن دنياهم ، قال الرازي (أن الإنجيل هدى بمعنى أنه اشتمل على الدلائل الدالة على التوحيد والتنزيه ، وبراءة الله تعالى عن الصاحبة والولد والمثل والضد ، وعلى النبوة وعلى المعاد ، فهذا هو المراد بكونه هدى ، وأما كونه نورا ، فالمراد به كونه بيانا للأحكام الشرعية ولتفاصيل التكاليف) [4] ، (أي أن الإنجيل تضمن إلى جانب روحانياته أسس الأحكام الموجودة في التوراة)[5] .
قال العلماء (وإنما خص أهل الإنجيل بالذكر ، لبيان أن الإنجيل لم ينزله الله للأمم كافة ، وأن شريعته ليست باقية لكل زمان ، لأن بعثة عيسى عليه السلام كانت خاصة بالأمة اليهودية)[6] ، يقول النبي r (كَانَ النَّبِيُّ يُبْعَثُ إِلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً وَبُعِثْتُ إِلَى النَّاسِ عَامَّةً) [7] ، وذلك لأن الأحكام تدور مع علتها وجودًا وعدمًا ، ومن ثم تبدلت الأحكام والشرائع ونسخت بحسب طبائع البشر واختلاف استعداداتهم وإمكانياتهم .
أما أمة "محمد"r فلأنها أمة وسطًا فُضلت على سائر الأمم بالشريعة الخالدة التي تتناسبت أحكامها وتشريعاتها مع كل مصالح وحاجات كل جيل لاحق لجيل الصحابة والسلف الصالحون دون أن يطرأ عليها نسخ أو يطالها تحريف.
قوله (وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنجِيلِ بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فِيهِ..) (47) (الواو استئنافيّة ، واللام لام الأمر ، وفعل (يحكم) مضارع مجزوم بلام الأمر) [8]، قال الواحدي أي (ليحكموا بهذا الكتاب في ذلك الوقت) [9]، وفي ذلك دليل على أن الإنجيل مثل التوراة فيه بيان أحكام الله التي تقضي بين الناس في المسائل التي يتنازعون فيها ، وما يشابهها من الأقضية والجنايات والتحكيم والقصاص والتسوية والصلح والعفو ، قال الألوسي (أمر مبتدأ لهم بأن يحكموا ويعملوا بما فيه من الأمور التي من جملتها دلائل رسالته r وما قررته شريعته الشريفة من أحكامه) [10]، قال أبو حفص (المرادُ "وليحكمْ أهلُ الإنجيلِ بما أنزل الله فيه" زجرهم عَنْ تحريفِ ما فِي الإنجيل وتَغْييرهِ كما فعله اليهودُ مِنْ إخفاءِ أحكامِ التَّوراةِ)[11]
ولو أنهم احتكموا للإنجيل لعلموا أن النبي أحمد r سوف ينزل بشريعة جديدة هي مصدقة لما تضمنته الشرائع السابقة من أحكام مرعية ، وناسخة لشريعتهم التي طالها التحريف والتبديل ، كما في قوله تعالى (وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءهُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ) (الصف/6) ، فعَنْ رَسُولِ اللَّهِ r أَنَّهُ قَالَ (وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَا يَسْمَعُ بِي أَحَدٌ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ يَهُودِيٌّ وَلَا نَصْرَانِيٌّ ثُمَّ يَمُوتُ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَّا كَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ)[12] .
قوله تعالى (وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) (47) بيان للأسباب التي حالت بين أهل الإنجيل وتحملهم أعباء الدعوة وأمانة الشريعة ، مما اضطرهم إلى عدم الحكم بما أنزل الله ، حيث سبق أن بينت الآيات أن ظلم اليهود كان سبب نكولهم عن حمل هذه الأمانة ، وهنا تبين الآية أن فسق بعض من ينتسبون للإنجيل حال بينهم كذلك وبين حمل أعباء الدعوة والحكم بما أنزل الله [13]
يقول الدكتور سفر الحوالي (الذي حدث هو أن شريعة عيسى عليه السلام لم يكتب لها التطبيق على المستوى العام لسببين متلازمين : الأول: -
أنه لم يقم لها دولة تتبناها وتقيمها في الأرض، إذ من المعلوم أن عيسى عليه السلام، توفاه الله ورفعه إليه وهو لم يزل في مرحلة الدعوة التي تشبه حال الدين الإسلامي قبل الهجرة
الثاني: أنه عليه السلام، قد بعث إلى قوم قساة القلوب غلاظ الأكباد ، وفي الوقت ذاته كانت المنطقة المبعوث فيها جزءً من مستعمرات إمبراطورية وثنية عاتية ، فكان ميلاد الدين الجديد في محيط معاد كل العداء له ولرسوله ، نتج عنه اضطهاد للمؤمنين ، لم يدع لهم فرصة لتطبيقه إلا في النطاق الشخصي الضيق) [14].
المطلب الثاني
الشريعة الخاتمة كاشفة عن حكم الله الذي ضاع بين الأمم السابقة
قال تعالى (وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَآ آتَاكُم فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (48) وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللّهُ إِلَيْكَ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ (49) أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ) (50)
قوله (وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ) فالقرآن الكريم جاء ليصدق ما جاء في التوراة والإنجيل من عقائد وأحكام ثابتة لا تتغير ولا تتبدل وتمثل ركائز هذا الدين ، أما ما به من شريعة وما يرتبط به من تكاليف وأحكام عملية ، فإنها ناسخة لما سبقتها من الشرائع طالها التحريف والتبديل ، حيث لا يعرف منها ما زال على أصله وما بُدل وحُرِّف منها ، قال تعالى (إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرائيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) [الشعراء/76]
قوله (.. وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ) ما يعني وجوب العمل بشريعة الإسلام ، وإبطال العمل بكل ما يخالفها من أحكام ، فعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ r (لَا تَسْأَلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ عَنْ شَيْءٍ فَإِنَّهُمْ لَنْ يَهْدُوكُمْ وَقَدْ ضَلُّوا فَإِنَّكُمْ إِمَّا أَنْ تُصَدِّقُوا بِبَاطِلٍ أَوْ تُكَذِّبُوا بِحَقٍّ فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ مُوسَى حَيًّا بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ مَا حَلَّ لَهُ إِلَّا أَنْ يَتَّبِعَنِي)[15] .
وذلك لسبيين : الأول : أن الأمم السابقة تخلت عن حفظ فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (78) كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ) (المائدة 79) فطمست معالم دينهم لأجل ذلك ، أي بتركهم هذه الفريضة ، زاد المنكر ، وقل المعروف ، فتغيرت معالم دينهم ، أما أمة الإسلام فلأنها أمة وسطا فقد ميزت على سائر الأمم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، قال تعالى (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) (110) أي بالتزام أمة الإسلام بأداء هذه الفريضة ، لم يحصل هدم للدين بل الذي حصل أن ثبتت أركانه ، فلما حصل هذا البون الشائع بين أهل الشريعتين كان لزاما أن تتعدل بعض الأحكام لاسيما الشعائر والعبادات والأحكام التكليفية العملية على وجه العموم ليتناسب الحكم الجديد مع المتغيرات التي اعترت البشر زمانا ، فيكون الحكم متناسبا مع ظروفهم واستعداداتهم وأحوالهم التي استجدت.
الثاني : ترتب على حفظ أهل الدين لإسلام عقيدة ومنهجا ، في حين فسدت عقائد أهل الكتاب وعبادتهم بفضل تمسكهم بفريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وقد أضحى أهل الزمان غير الزمان ، والاستعدادت الفطرية مختلفة عما كان عليه أهل وزمانهم ، استتبع ذلك لزوم أن تتغير الشرائع بما يتناسب مع تغير الاستعدادات البشرية وتتغير التكليف الربانية مع تغير الحال ، فقد رأينا إعراض قوم موسى عن نصرته ، وإقبال قوم محمد على نصرته ، فلذلك كان لابد من أن تتغير الأحكام وفقا لذلك ، فحيث كان الظلم تشدد التشريع ، وحيث انتفى حصل التخفيف ، ومن ذلك قوله تعالى (وَلأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الذي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ . . ) [ آل عمران : 50 ] ، فإذا تغيرت الأحكام عما سبق دل ذلك أن الإسلام مهيمنا على غيره من الشرائع السابقة .
أي جاء الإسلام بتصحيح العقيدة التي حرفت والشرائع التي بدلت والأحكام التي حرفت ، وبتكاليف تتناسب مع تنوع الطبائع البشرية ، مع مراعاة أنه جاء مصدقا لما في التوراة والإنجيل من أحكام فيها حكم الله لم يطلها التحريف على وجه الإجمال لا التفصيل ، قال الرازي (إنما كان القرآن مهيمناً على الكتب لأنه الكتاب الذي لا يصير منسوخاً البتة ولا يتطرق إليه التبديل والتحريف ، وإذا كان كذلك كانت شهادة القرآن على أن التوراة والإنجيل والزبور حق صدق باقية أبداً فكانت حقيقة هذه الكتب معلومة أبداً)[16].
فبمقارنة الشريعة الإسلامية بغيرها من الشرائع من جهة الحفظ ، نجد أنها محفوظة بحفظ الله لها ، قال تعالى (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) ( الحجر/ 9 ) في حين أن غيرها من الشرائع طالها التحريف والتبديل ، فضاعت بإهمال البشر لها وتقصيرهم فيها .
وأما من حيث البناء والتجديد فإنها أكمل الشرائع وأتمها ، حيث إن صلاحيتها لم تقتصر على قوم دون آخرين ولا زمان دون غيره ، بل امتدت دعوة الإسلام لكل زمان بعد وفاة الرسول r وإلى كل مكان ، قال رَسُولُ اللَّهِ r (إِنَّ مَثَلِي وَمَثَلَ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ قَبْلِي كَمَثَلِ رَجُلٍ بَنَى بَيْتًا فَأَحْسَنَهُ وَأَجْمَلَهُ إِلَّا مَوْضِعَ لَبِنَةٍ مِنْ زَاوِيَةٍ فَجَعَلَ النَّاسُ يَطُوفُونَ بِهِ وَيَعْجَبُونَ لَهُ وَيَقُولُونَ هَلَّا وُضِعَتْ هَذِهِ اللَّبِنَةُ قَالَ فَأَنَا اللَّبِنَةُ وَأَنَا خَاتِمُ النَّبِيِّينَ)[17] ، (فظاهر السياق أن تكون اللبنة في مكان يظهر عدم الكمال في الدار بفقدها وقد وقع)[18] ، وفي الحديث تشبيه حيث (شبه الأنبياء وما بعثوا به من إرشاد الناس إلى مكارم الأخلاق بدار أسس قواعده ورفع بنيانه ، وبقي منه موضع لبنة فنبينا بعث لتتميم مكارم الأخلاق) [19] ، ولعل تلك اللبنة ما فضلت به الأمة من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، قال ابن حجر (والمراد أنها مكملة محسنة وإلا لاستلزم أن يكون الأمر بدونها كان ناقصا وليس كذلك ، فإن شريعة كل نبي بالنسبة إليه كاملة , فالمراد هنا النظر إلى الأكمل بالنسبة إلى الشريعة المحمدية مع ما مضى من الشرائع الكامل)[20].
قوله (فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءكَ مِنَ الْحَقِّ) الأمر للنبي r والضمير عائد علي المحكمين بتلك الشريعة سواء أكان التحكيم واجبًا لمن هم رعايا الدولة المسلمة سواء "مسلمين" أو "ذميين" ، أو كان التحكيم جوازيا لمن ليسوا كذلك من "المعاهدين والمستأمنين" و"رعايا الدول الأخرى الذين يلجئون إلى التحكيم الإسلامي" ، على التفصيل المتقدم ذكره .
وهنا تقضي قواعد الإسناد المعمول بها في الفقه الإسلامي بتطبيق أحكام الشريعة الإسلامية ، لأنها هي ما أنزل الله في القرآن الذي وُصف بأنه مهيمنًا على غيره من الكتب ، وعدم الالتفات لأي قاعدة تشريعية تخالف أحكام الشريعة الإسلامية ، فلا يجوز الاحتكام إلى ما عندهم من التوراة والإنجيل لأن حكم الله الذي فيهما قد بدل وحرف على الغالب ، كما أنه نسخ بتنزيل الكتاب المهين عليهما .
قال الماوردي (هذا يدل على وجوب الحكم بين أهل الكتاب إذا تحاكموا إلينا ، وألا نحكم بينهم بتوراتهم ولا بإنجيلهم) [21]، بمعنى أنهم إذا تحاكموا إلينا بصفة خاصة أي باعتبار أن القاضي الإسلامي يطبق أحكام الشريعة الإسلامية ، فإن هذا اللجوء للمحكمة الشرعية الإسلامية بمثابة نزول منهم عن تطبيق الأحكام التي يستندون إليها في توراتهم وإنجيلهم أي أحكام دينهم الخاصة بنزاعاتهم ، وذلك فيما يخص نزاعاتهم الملية أو الطائفية المتعلقة بأحوالهم الشخصية ، وإقرار منهم بارتضائهم تطبيق أحكام الإسلام على النزاع المعروض ، أما في غير هذا الفرض ، فإن قاضي المسائل المتعلقة بالنظام العام واحد ، يطبقها على المسلمين وغير المسلمين على وجه سواء ، أي إذا لجئوا لمحكمة لا تتعلق بقضايا الأسرة أو إثبات الملة ، فهنا لا تطبق أحكام دينهم ، وإنما الواجب تطبيق الأحكام التي أنزلها الله في كتابه وتلك التي نصت عليه سنة رسوله ، واستنطبها العلماء منهما سواء باجتهاد أو بغير اجتهاد لوضوح النص وصراحته .
قال مفتي الديار المصرية (قال بعض العلماء : " وهذا يفيد أن اليهود الذين عاشروا النبي r ومن جاءوا بعدهم مخاطبون بشريعة القرآن ، وأنه نسخ ما قبله من الشرائع إلا ما جاء النص بوجوب العمل به كالقصاص ، أو ما لم يثبت أنه نسخ ، والمعول عليه في الحالين هو القرآن وما جاء به الرسول r)[22]
قال ابن عاشور (والذي يستخلص من الفقه في مسألة الحكم بين غير المسلمين دون تحكيم : أن الأمة أجمعت على أن أهل الذمة داخلون تحت سلطان الإسلام، وأن عهود الذمة قضت بإبقائهم على ما تقتضيه مللهم في الشؤون الجارية بين بعضهم مع بعض بما حددت لهم شرائعهم)[23] ، يعزى ذلك إلى أن الجنايات والحدود شرعها الله تعالى لحفظ الضروريات الخمس ، تلك الضروريات المعتبرة في كل ملة [24] ، (بحيث لم تختلف فيها الملل كما اختلفت في الفروع ، فهي أصول الدين، وقواعد الشريعة، وكليات الملة)[25]
ولذلك يرى ملك والشافعي وأحمد أن الشريعة الإسلامية تطبق علي كل جريمة ترتكب في دار الإسلام بصرف النظر عن الجاني أكان مسلما أو ذميا أو مستأمنا ، فالمستأمن إذا ما ارتكب جريمته داخل دار الإسلام ثم هرب منها فلا تسقط عقوبته ، بل تظل واجبة وتستوفي منه حين القدرة عليه) [26]
أما الأحناف ، فيري أبو يوسف أن الشريعة الإسلامية تسري علي كل المقيمين في دار الإسلام سواء أكان مسلما أو ذميا أو مستأمنا سواء تعلقت جريمته بحقوق الجماعة أو الأفراد
غير أن أبو يوسف استثني من ذلك شرب المستأمن الخمر فقال : "يقام عليه الحدود إلا حد الشرب الخمر كالذمي لأنه التزام أحكامنا مدة مقامه في دارنا" [27]
وعلي ذلك فإن رأيه يتفق مع رأي الجمهور ، إلا في مسألة شرب الخمر ، لكن إذا سكر الشارب في الطريق العام ، هنا يجب عليه الحد ، لأنه لم يسر بشربها وأخل بالحياء العام ، وكذلك القوانين الوضعية تعاقب على السكر البين في الطريق أو الأماكن العامة
بينما يري أبو حنيفة أن الشريعة الإسلامية لا تطبق علي المستأمن إلا في الجرائم التي تمس حقوق الأفراد دون غيرها من الجرائم [28] ، وبالنظر إلى هذا القول نجد أن الحدود السبعة (الردة ، الحرابة ، السرقة ، شرب الخمر ، الزنا ، القذف) ، والقصاص تضمنت مساس بحقوق الأفراد والمجتمع ، ومن ثم يتفق الأحناف مع الجهمور في وجوب تطبيق الشريعة الإسلامية في "الجنايات" ، ومن ثم قد تختلف نظريتهم فيما عدا ذلك بالنسبة لأمور الأحوال الشخصية كالزواج والطلاق وبعض المعاملات المدنية أو التجارية ....الخ ، بحسب تقدير كل منهم في مساسها أو عدم مساسها بالنظام العام.
قوله (...وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءكَ مِنَ الْحَقِّ) يستبين بهذا النهي وجوب تطبيق الشريعة الإسلامية على كل من يدخل دار الإسلام ، فيرتكب به جريمة أو فعل معاقب عليه يتصل بحقوق الله تعالى ، أما ما يتصل به من حقوق للعباد ، فهنا الأصل هو القصاص وضمان ما أتلف من أموال ، واستثناء من ذلك فيجوز العفو بينهم ، وإثبات حصوله لانقضاء الاتهام ، ومن ثم فلا وجه لاتباع أهواءهم فيما ذلك ، فالأحكام الشرعية واضحة ولا يجوز المساومة فيها ، لاسيما وأنها تتعلق بين من يخضوعون لسطان دار الإسلام
لكن في فرض أن أحد أطراف العلاقة مستأمنا أي داخل لدار الإسلام بعهد وأمان مؤقت ، ثم يعود إلى داره دار الكفر ، هنا المجال في المساومة واسع ، لاسيما إذا ما علمنا أن ثمة خلاف فقهي في هذه المسألة ، ولذلك سوف نذكر مختصرا لما ورد إلينا من أقوال الفقهاء في هذه المسألة ، وقد لاحظنا أنه يختلف باختلاف نقاشهم لنوع الجريمة المرتكبة ، ومدى مساسها بالمجتمع المسلم والحياء العام ، وهو ما يسمى بـ "الإطار التشريعي العام للدولة" أي النظام العام ، وتفصيل ذلك على النحو التالي : -
أولا : بالنسبة لعقوبة شرب الخمر : استثنى جمهور الفقهاء من المالكية و الحنابلة و الشافعية و الحنفية في ظاهر الرواية عندهم الذميين والمستأمنين من عقوبة شرب الخمر لأنهم لا يؤمنون بحرمتها[29] ، ولم يتحدثوا عن التفرقة بين حالة السكر البين وغير البين ، إذ لم يجرؤ أحد عن أن يعلن بشربها في زمنهم ، فضلا عن أن حديثهم عن عدم الإيمان بحرمتها يختص بعقيدتهم ، لكن إذا استطالت حالت السكر البين لتمس بالمجتمع والجيران ، فهنا خرجت المسألة عن حرية الاعتقاد ، ودخلت في دائرة الشريعة الإسلامية ، حيث تجب عقوبتهم لذلك المساس .
أما غيرهم - كالظاهرية - فعندهم تجب عقوبة شرب الخمر علي شاربها مسلما كان أو غير مسلم [30]
وعند الشيعة الإمامية يحدون إذا تظاهروا بشرب الخمر [31] ،وعند الزيدية يحدون إذا سكروا لتحريم السكر عليهم [32]
أما بالنسبة للقوانين الوضعية فإنها تعاقب علي السكر البين في مكان عام بصرف النظر عن شخصية مرتكب تلك الجريمة ، ولا تعاقب علي الشرب دون سكر ، أما في غير هذه الحالة فتتباين التشريعات الجنائية في هذا الصدد ، ومن ثم فإن حالة خروج الشارب إلى المجتمع في حالة سكر بين هي القدر المشترك بين فقهاء الشريعة الإسلامية والقوانين الوضعية بشأن تقرير العقاب علي هذه الجريمة بصرف النظر عن شخصية مرتكبها ، و في ذلك حماية لمصلحة المجتمع من خطر هؤلاء إذا سكروا .
ثانيا : بالنسبة لحد الزنا : يرى الجمهور إيجاب الحد علي المستأمن والذمي علي السواء إذا ثبت ارتكاب الزنا داخل دار الإسلام
وكذلك عند أبي يوسف من الأحناف أنهما يحدان – المستأمن – إذا ما زنيا في دار الإسلام ، ووجه قوله أنه لما دخلا دار الإسلام فقد التزما أحكام الإسلام مدة إقامته فيها فصار كالذمي .
وعند أبو حنيفة و محمد الحربي المستأمن إذا زنا بمسلمة أو ذمية أو ذمي زنا بحربية مستأمنة لا حد على الحربي والحربية عندهما ، ووجه قولهما أن الحربي لم يدخل دار الإسلام على سبيل الإقامة والتوطن بل على سبيل العارية ليعاملنا ونعامله ثم يعود فلم يكن دخوله دار الإسلام دلالة التزامه حق الله سبحانه وتعالى خالصا
أما حكم الذمي أو الذمية إذا زايا بمستأمنة أو مستأمن ، فإن المستأمن إذا زنى بذمية أو ذمي زنى بمستأمنة ، فإنه يحد الذمي والذمية في قول أبو حنيفة ، وفي قول محمد لا تحد الذمية ويحد الذمي ، وقال أبو يوسف يحدون كلهم [33].
ويرى الباحث أن التفرقة بين المستأمن والذمي في إيجاب حد الزنا فيها اضطراب ، سيما إذا ما وقعت جريمتهم داخل دار الإسلام ، فإن هذه التفرقة يعزوها الدليل ، بل إن الدليل الوارد في ذلك عام ، ولا يجوز تخصيصه أو الاستثناء منه بدون دليل ، أي يجب الحد على الزاني والزانية ، دون تقييد لصفة الزانية أو الزاني متى وقعت الجريمة داخل دار الإسلام ، فوجب الأخذ بظاهر القرآن ، ولا يجوز ترك ظاهره إلا عملا بدليل آخر أو أن يظهر في ذلك مصلحة معتبرة شرعا ، ولا أدري أي مصلحة معتبرة شرعا يستندون عليها في هذا الشأن فتعين هجر القول المخالف لرأي الجمهور لهذا لعدم الدليل على هذه التفرقة
لكن يخال إلي أنه إذا زنى المستأمن بمستأمنة ، فهذه المسألة ليست التي تحدث عنها أبو حنيفة ومحمد ، لكن يمكن أن يؤخذ برأيهما في هذا الفرض ، وإن كان رأيهم أعم من ذلك ، باعتبار أنه إذا كان الطرفان مستأمنين ، فهذا شأن خاص بدينهم ، فهم لا يعتقدون حرمة ذلك ، فلا يعاقبون شريطة الاستتار ، فلا يطلع عليهم أرهم في خلوتهم ولا يجوز التجسس عليهم ، أما إذا جهروا ولم يستتروا فعقوبتهم واجبة .
ثالثا : حد القذف يكاد ينعقد الإجماع علي إيجاب حد القذف علي المستأمنين إذا ما ارتكبوا جريمتهم داخل دار الإسلام ، لمساس هذه الجريمة المباشر بالمجتمع ، فلا يقع فيها عفو ولا صلح ، لأن حق الله فيها غالب ، ولأنه التزم أحكام الإسلام مدة إقامته فيها فصار كالذمي ، كما أنهم لما دخلوا دار الإسلام فقد التزموا أمان المسلمين عن الإيذاء بأنفسهم ، فظهر حكم الإسلام في حقهم [34].
رابعا : حد السرقة فالجمهور بأن المستأمن يحد بقطع اليد سواء بسواء مثل الذمي
أما عند محمد بن الحسن لا يقام حد السرقة علي المستأمن ، وإنما يضمن ما سرقه فمن سرق منهم في دار الإسلام ، ويجب التعزير أي بعقوبة وضعية كالحبس ، فيضمنوا المال إذا سرقوه ولا قطع عليهم ، لأنهم لم يصالحوا ولم يكونوا ذمة تجري عليهم الأحكام .
وهكذا يُصر بعض الأحناف علي التوسع في العمل بالاستحسان بدون دليل ، حتى لو بخلاف الدليل المعتبر (السارق والسارقة فاقطعوا أيدهما) ، ومستندهم في ذلك ما خال في ذهنهم أن المستأمن ليس كالذمي.
فلا أدري إذا ما علم اللصوص من دار الحرب برأيهم ، وقد علموا ألا قطع في السرقة ، ماذا يفعلون في ديارنا !؟ .
خامسا : القصاص في القتل و الجراح
فعند الجمهور إذا اعتدى مستأمن على غيره في دار الإسلام ، فإنه يقتص منه لأنه قد ثبت القصاص في شرعهم ، فحكمه سواء الجاني إذا كان مستأمنا فحكمة مثل الجاني الذمي أو المسلم ، فيقتص منه ، أما في الفرض العكسي أي أي لو وقعت الجناية من مسلم أو ذمي على "مستأمن" فهل يجب القصاص جزاء عدلا ، لقوله (النفس بالنفس والجروح قصاص) ، ولقوله r (مَنْ قَتَلَ مُعَاهَدًا لَمْ يَرِحْ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ وَإِنَّ رِيحَهَا تُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ أَرْبَعِينَ عَامًا) [35]، ففي هذه المسألة رأيين ، الأول بالقصاص ، والثاني بالتعزير بدلا من القصاص لعدم تكافؤ الدمين ، ولأن الأمان مؤقت ، ويجب في ذلك الدية، إضافةً إلى تعزيره بما يناسب من العقوبة على التعدي وبقدره ، ويسقط القصاص في هذه الحال لوجود الشبهة في إباحة دمه لسابق حرابته للمسلمين.
وقد بين محمد بن الحسن علة الرأي القائل بأنه إذا قتل رجلا من المستأمنين رجلا من المسلمين أو من أهل الذمة عمدا أو خطأ أو قطع يده عمدا أو خطأ فإنه يقتص منه لأن في هذا حقوق المسلمين وأهل الذمة فلا بد من أخذها لهم
أما إذا كان المعتدي من المسلمين وقطع يد مستأمن أو قتله عمدا ، فلا يقتص له منه في العمد عنده ، فقد قيل له ولما لا يكون هذا بمنزلة أهل الذمة بالرغم من وجوب القصاص للذمي من المسلم في النفس - عنده - وما دون ذلك ؟
فرد عليه أن وجه قوله أنه ليس هذا بمنزلة أهل الذمة لأنه محارب ألا ترى أني لا أجري عليه الأحكام والحدود فما أصاب الذمي والمسلم من هذا المستأمن من قطع يد أو قتل فلا قصاص عليهما فيه وعليهما فيما أصابا من ذلك عمدا كان أو خطأ دية الحر المسلم [36]
وأرى أن في رأييه وجه معتبر ، وهو أن المستأمن لا يطبق عليه في بلاده حد القصاص ، والقاعدة المتبعة أن القاعدة الجنائية الأصلح للمتهم أي الأكثر تخفيفا هي الواجبة التطبيق ، فإذا كان أمان المستأمن مؤقت ، وليس بدائم ، وأنه سوف يرجع إلى دار الكفر مرة أخرى ، فعلام تطبق أحكام الإسلام عليه وهو في الأصل لا تطبق عليه في داره ، فلزم هنا العمل بما فيه مصلحة للجاني ،وكأنه ارتكب الجناية عليه في داره أي دار الكفر ، فيتم تعزيره وفقا لقوانين بلاد المستأمن المجني عليه ، ولا قصاص إن كان ذلك هو الأصلح للمتهم .
سادسا : جريمة الربا وما يجوز بيعه أو البيوع المنهي عنها : هنا فرق الفقهاء بين وقوع هذه الجريمة بين مسلم أو ذمي داخل حدود الديار الإسلامية مع مستأمن أم خارجها ، وكثير من الفقهاء لم أجد في مذاهبهم حديثا عن هذه المسألة تحديدا .
قال مالك والشافعي وأبو ثور في ذلك كله لا يجوز في دار الحرب ولا غيرها لمسلم أن يبيع أو يشتري ،كما لا يجوز له في دار الإسلام[37]
وقال أبو يوسف لا أجيز لمسلم أن يشتري من حربي إذا دخل بأمان درهما بدرهمين ولا شيئا من الربا ولا يبيعه خنزيرا ولا ميتة .
أما الأحناف فقد ردوا بيع المحرمات والتعاقد بالربا إذا تم في دار الإسلام ، ويتفق معهم في هذا الشأن قول أبي حنيفة ومحمد
لكن إذا جرت المعاملة في دار الحرب ، فهناك قول لأبي حنيفة ومحمد بأنه لابأس ، فقيل لهما لما هذا ومذهبهما بخلاف ذلك إذا دخل المسلم بلادهم –أي في الفرض العكسي حيث تجري المعاملة في دار الحرب - حيث قالا لا بأس أن يبيعهم الميتة ويبيعهم الدرهم بالدرهمين ؟
فردا عليهم بأن ذلك لا بأس به في بلادهم وليس هذا كالباب الأول وهما في دار الإسلام وتجري عليهما أحكام المسلمين ، فلا يجوز بينهم إلا ما يجوز بين المسلمين وإذا كان المسلم مستأمنا في دار الحرب ، فله أن يأخذ أموالهم برضاهم بما أوجب وبما أعطاهم لا بأس بذلك لأن أحكام المسلمين لا تجري عليهم هناك وهذا[38].
يتبين من رأي الأحناف في هذا الشأن أنهم ولئن عادوا نسبيا لرأي الجمهور بصدد معاملات الكفار في دار الإسلام إلا أنهم عادوا مرة أخرى إلي الحكم بغير دليل بصدد معاملاتهم مع المسلمين خارج دار الإسلام وداخل دار الحرب حتى إنهم علي الرغم من أنهم يستندون في خروجهم علي الأدلة بالمصلحة فيسمونها استحسانا ، إلا أن وجه الاستحسان غير ظاهر في هذه المسألة .
ولكنني أرى أن رأي أبي حنيفة ومحمد لا يخلو من فائدة في الفرض حيث يشترط أن تجري المعاملة على هذه الشاكلة في دار الحرب ، ولا سبيل للمسلم أن يعمل بخلاف ذلك ، وهو مضطر للمعاملة معهم ، فذلك قد يفتى له بالجواز بقدر الضرورة الملجئة لذلك ، لكن يجب مراعاة كل حالة على حدة ، دون تعميم ، والمثال على ذلك دخول زوجته حجرة العمليات وهو مضطر لدفع تكاليف العملية بالفيزا ، وتأخر في السداد فترتبت عليه فائدة ، وقد تعذر عن السداد في الموعد لقوة قاهرة أو عذر شرعي مبيح .
قوله (لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا ..) (48) والمقصود بالشرعة والمنهج الأحكام العملية الفرعية التي طالها النسخ ، أما الشريعة التي لم يمسها التحريف والعقيدة التي هي التوحيد ، فهي دين الله الذي لم يتبدل ، وهو مرعي في كل ملة ، بمعنى (عدم التعلق بشرائع الأولين)[39] ، أي أن شريعتهم انتهى زمانها في المسائل الفرعية ، وبقيت شريعة الإسلام الواجبة التطبيق دون حاجة لشرائع من سبقنا ، ولذلك قال النبي r لعمر بن الخطاب (أَمُتَهَوِّكُونَ فِيهَا يَا ابْنَ الْخَطَّابِ) عاتبه أنه كان يقرأ كتب أهل الكتاب وغضب منه ، فعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ أَتَى النَّبِيَّ r بِكِتَابٍ أَصَابَهُ مِنْ بَعْضِ أَهْلِ الْكُتُبِ فَقَرَأَهُ النَّبِيُّ r فَغَضِبَ فَقَالَ أَمُتَهَوِّكُونَ فِيهَا يَا ابْنَ الْخَطَّابِ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَدْ جِئْتُكُمْ بِهَا بَيْضَاءَ نَقِيَّةً لَا تَسْأَلُوهُمْ عَنْ شَيْءٍ فَيُخْبِرُوكُمْ بِحَقٍّ فَتُكَذِّبُوا بِهِ أَوْ بِبَاطِلٍ فَتُصَدِّقُوا بِهِ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَنَّ مُوسَى r كَانَ حَيًّا مَا وَسِعَهُ إِلَّا أَنْ يَتَّبِعَنِي)[40].
قال الشنقيطي (المراد به أن بعض الشرائع تنسخ فيها أحكام كانت مشروعة قبل ذلك ، ويجدد فيها تشريع أحكام لم تكن مشروعة قبل ذلك) [41] ، قال السعدي (وهذه الشرائع التي تختلف باختلاف الأمم، هي التي تتغير بحسب تغير الأزمنة والأحوال، وكلها ترجع إلى العدل في وقت شرعتها، وأما الأصول الكبار التي هي مصلحة وحكمة في كل زمان، فإنها لا تختلف، فتشرع في جميع الشرائع) [42] .
قوله (..وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَآ آتَاكُم فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) (48) يعني أن الرغبة في تجميع أهل الشرائع جميعا ليكونوا أمة واحدة لا يكون البتة على حساب تغيير شريعة الإسلام أو الانتقاص منها ، بل يعمل بشريعة الإسلام كما هي حتى لو أدى ذلك إلا أن يظل الناس متفرقين على إحدى وسبعون شعبة ، كلها في النار إلا ما كان عليه أهل ملة الإسلام منذ أن خلق الله أرض إلى قيام الساعة ، قال الشعراوي (هي أمة واحدة يعني في عقائدها وإن اختلفتْ في الشريعة والمنهج ، والأحكام الجزئية التي تتعرض لأقضية الحياة)[43] .
قال صاحب الظلال (بذلك أغلق الله - سبحانه - مداخل الشيطان كلها؛ وبخاصة ما يبدو منها خيراً وتأليفاً للقلوب وتجميعاً للصفوف؛ بالتساهل في شيء من شريعة الله؛ في مقابل إرضاء الجميع! أو في مقابل ما يسمونه وحدة الصفوف! إن شريعة الله أبقى وأغلى من أن يضحى بجزء منها في مقابل شيء قدر الله ألا يكون! فالناس قد خلقوا ولكل منهم استعداد ، ولكل منهم مشرب ، ولكل منهم منهج ، ولكل منهم طريق ... وإنها لتعلة باطلة إذن ، ومحاولة فاشلة ، أن يحاول أحد تجميعهم على حساب شريعة الله ، أو بتعبير آخر على حساب صلاح الحياة البشرية وفلاحها ، فالعدول أو التعديل في شريعة الله لا يعني شيئاً إلا الفساد في الأرض؛ وإلا الانحراف عن المنهج الوحيد القويم)[44]
قال تعالى (وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ اللّهُ) التكرار لتأكيد أن مناط الحكم والتحكيم في شأن أهل الكتاب هو تطبيق شرع الله ، وإنزال حكم الله على المحكومين ، فقد قسم العلماء معاملة أهل الكتاب في دار الإسلام على أربعة أقسام ، ولكننا جعلناها خمسة بفصل القسم الرابع إلى رابع وخامس :-
القسم الأول: عبادات وشعائر وطقوس الذميين كصلاته وذبحه وغيرها ، فلا خلاف بين العلماء في أن المسلمين لا يتعرضون لهم بتعطيل ، إلا إذا كان فيه فساد عام كقتل النفس، مثل قتل الأطفال إرضاء للشياطين .
ومثال ما يتعلق بعقائدهم وطقوسهم الدينية إجراء الانتخابات بين الأساقفة والمطرانية ...الخ لتولي زعامات دينية ، فهذا لا اختصاص فيه للمحكام الشرعية ، وتختص به المحاكم الملية متى أنشأ نظام الدولة محاكم لهم خاصة .
مثال آخر إثبات الملة ، فهذا شأنهم ولا دخل للمسلمين فيه ، أما إذا أراد أحدهم إثبات خلاف ملته أي أنه يعتقد دين آخر فهذا ليس شأنهم ، بل هو مسيس الصلة بالنظام العام ، وهنا تطبق أحكام الملة التي يرغب في الالتحاق بها
القسم الثاني: ما يتجاوز من أفعالهم إلى ما فيه مساس بالنظام العام أو الإفساد بالمفهوم الإسلامي ، كالسرقة والاعتداء على النفوس والأعراض ، وقد أجمع علماء الأمة على أن هذا القسم يجري عليه أحكام الإسلام، لأنا لم نعاهدهم على الفساد، وقد قال تعالى: (وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ) [البقرة:205]، ولذلك نمنعهم من بيع الخمر للمسلمين ومن التظاهر بالمحرمات.
القسم الثالث: ما يجري بينهم من المعاملات والعادات بما لا يمس النظام العام ، كشرب الخمر وأكل الميتة والخنزير ، أي الأعمال التي يستحلونها ويحرمها الإسلام ، فهذه أيضا يقرون عليها ، ما لم يكن تأثير العادة يمس بالمجتمع كحالة السكر البين كما ذكرنا
القسم الرابع : ما يجري بينهم من المعاملات التي فيها اعتداء بعضهم على بعض تجيز الشريعة الصلح فيها : كالجنايات التي فيها قصاص، والديون، فهذا القسم الذي يجوز فيه الصلح والعفو بينهم ، وبابه واسع ، هنا القاضي يرفع الظلم عنهم ، فهو يؤسس حكمه على مقاصد الشريعة المرعية في كل ملة ، فللقاضي المسلم الولاية الكاملة على أهل الذمة في كل ما يخرج عن شئونهم الدينية ، فإذا ما تراضوا فيما بينهم صلحا في مثل تلك الأقضية فقد انحسرت ولايته عنها ، وإلا فإنه يبسط حكم الله عليهم.
القسم الخامس : والأنكحة والطلاق ، وتخاصم الزوجين ، فهو أمر لصيق الصلة بالقسم الأول ، أي الأمور الاعتقادية أو الشعائر الدينية ، لكنه ولأن فيه مساس - ولو غير مباشر - بالنظام العام ،فهنا يرتهن تطبيق الشريعة الإسلامية عليهم بأمرين بأحد أمرين :-
الأول : أن يتراضيا عن التنازل عن أحكام دينهم الخاصة بشئونهم الملية أو الطائفية[45] ، فإذا استعدى أحدهم على الآخر بشكاية لقاضي شرعي أي يحكم بأحكام الشريعة الإسلامية ، ولا يوجد دفع بعدم الاختصاص ، فهنا يقضي بينهم وجوبا بأحكام الإسلام ،بقدر ما يرفع عنهم الظلم أي بالقسط ، لأن اختصاصه بنظر القضية انعقد بعد أن ثبت لديه تخليهما عن تطبيق شريعتهما ، واللجوء إلى أحكام الشريعة الإسلامية اسثتناء من الأصل ، فإن تمسك كلا منهما بتطبيق أحكام دينهم ، فالاختصاص هنا يؤول إلى المحاكم الملة إن كان نظام الدولة قد أنشأها [46].
الثاني : أن تكون المسألة ذات صلة بالنظام العام ، فهنا يجب تطبيق الشريعة لمساسها المباشر بالنظام العام ، كأن تجيز قوانينهم الملة أو الطائفية الزواج بين الشذوذ .
فهناك كنائس مسيحية تجيز العلاقات المثلية وتسمح لأفراد مجتمع الميم بالزواج والخدمة الكهنوتية، ومنها الكنائس اللوثرية الإنجيلية الأمريكية، والأسقفية، والمشيخية في أمريكا، وكنيسة إنجلترا، وبعض الكنائس البروتستانتية الأخرى[47]
وقد أثيرت شبهة بأن هذه الآية ناسخة لما سبقها ، وهو ما روي عن بن عباس رضي الله عنهما قال ( آيتان منسوختان من سورة المائدة فاحكم بينهم أو اعرض عنهم فأنزل الله عز وجل وإن الحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم) [48] ، ولكن مناط العمل بهما مختلف عن هذه الآية ، لأن قوله (فاحكم بينهم أو اعرض عنهم) يتعلق بالتحكيم الدولي كما ذكرنا ، أو ما يسمى بالدويلات الكونفدالية ، بينما في هذه المسألة فإنها تتحدث عن التحكيم الداخلي ، ولكن ولأنه في عهد النبي r انتهى تحالفه مع اليهود بالإجلاء من المدينة ، وسمح ليهود خيبر بأن يكونوا أهل ذمة ، فصار أهل الكتاب من أهل موادعة إلى أهل ذمة تغيرت الأحكام في بسط أحكام الشريعة الإسلامية عليهم ، ومنها مرفق القضاء ، فهذا مقصد ابن عباس من دعوى النسخ على حال زمانه ، والله أعلم .
قال أبو عمر يوسف النمري (في النظر عندي ألا يحكم بنسخ شيء من القرآن إلا ما قام عليه الدليل الذي لا مدفع له ولا يحتمل التأويل وليس في قوله عز وجل :{وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} دليل على أنها ناسخة للآية قبلها لأنها يحتمل معناها أن يكون {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} إن حكمت {وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} فتكون الآيتان مستعملتين غير متدافعتين) [49]
قوله (وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللّهُ إِلَيْكَ) تحذير للنبي r ومن معه من خداع الكافرين والمنافقين وحيلهم لتبديل حكم الله تعالى ، وفيه تأكيد على أن أحكام الله تعالى ليست اختيارية ولا استرشادية ، وإنما هي أحكام واجبة التطبيق ، ولا يجوز تعطيلها ولا الانحراف عن منهج الله وشرعه قيد أنملة ، ولا يجوز كذلك مناقشة أصحاب الأهواء في التخلي عنها ولا تبديلها ، حتى ولو تذرعوا بأنهم مستثنون من تطبيقها لعدم إيمانهم بها ، ذلك أن حكم الله فيما يتعلق بالضرورات الخمس المذكورة سلفا غير مرتهن تطبيقه بالإيمان به ، فهو يطبق على من آمن به ومن لم يؤمن ، وذلك لأنها حقوق الله تعالى راعى فيها مصلحة المجتمع ككل وليس لمصلحة آحاد الناس أو فئة أو طائفة منهم .
وعلى ذلك يجب الانتباه إلى محاولات بعض الدول إلى توقيع اتفاقيات دولية لتطبيق قوانين وتشريعات تظلم أهل الكتاب فيما يتعلق بأمور دينهم ، متى كانت ذات صلة بالنظام العام ، أي متى كانت تستدعي هدم فضيلة ونشر رذيلة أو أن أي ما من شأنه تقويض حرية الرأي والتعبير ، أو تحول دون إعلاء من حرية الإعتقاد ، فإن أهواءهم إذا سارت إلى مثل هذا المنزلق فلا يجوز مسايرتهم فيه ، بحجة أن لهم دينهم ولنا دين ، كذلك إذا كان مصدرها قرارات ملية أو مجالس طائفية .
ومثال ذلك أي قانون يؤدي إلى خلط الأنساب ففي النظام الأمريكي يجوز لنظام التنبي أن تنشأ علاقة نسب قانونية كاملة، حيث يصبح الطفل المتبنى قانونياً ابنًا أو ابنة للوالدين المتبنين، وتُصدر له شهادة ميلاد جديدة تحل محل الأصلية، ويتمتع بكافة حقوق ومسؤوليات النسب
كذلك اتجهت بعض القوانين الحديثة في بعض الدول الغربية نحو إلغاء تجريم فعل زنا الأزواج من قانون العقوبات، ومعاملته كقضية مدنية أو مسألة متعلقة بالطلاق والأسرة ، فتقيم المرأة أكثر من علاقة مع غير زوجها لرفع العقوبة الجنائية عنها ، والاقتصار على التعويض المدني أو الطلاق.
كذلك قد نرى قوانين تمنع صراحة التحول للإسلام مثل الهند (ولاية كارناتاكا) كنموذج لقوانين منع التحول:يُعرف بـ"قانون منع التحول الديني"، يهدف لمنع التحول الهندوسي للإسلام والمسيحية، خاصة للزواج ، من ذلك ما يلي :-
يتطلب القانون تقديم طلب قبل شهر، ونشره للجمهور للاعتراض.
لجان تحقيق تبحث في الدوافع
تطبيق عقوبات (غرامات، سجن 3-5 سنوات) إذا ثبت أن التحول كان بغرض الزواج أو التعليم أو الوظائف، وتُضاعف العقوبة للمرأة والطفل والطبقات المهمشة.
مما يرهب الناس من التقدم على هذه الخطوة خوفا من وقوع الظلم عليهم بسبب هذه الإجراءات المتعسفة ، فإذا ثبت تزوجه بمسلمة بعد التحول للإسلام -وهذا أمر طبيعي- ، فإنه تطبق عليه عقوبة السجن .
ففي قوله (وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللّهُ إِلَيْكَ) يدل على أن الشريعة تطبق عليهم كاملة بلا نقصان ، فأحكام الله ليست محلا لنقاشات البشر ، وإنما هي أوامر يجب أن تنفذ ، في حق المسلمين والذميين على السواء ، ما لم يتعلق بأحكام دينهم التي لا مساس فيها بالنظام العام ، وقد أوضحنا الفكرة أكثر من مرة
وهذا التحذر القرآني تبعه كذلك تحذير رسول الله r لنا فقال رسول الله r (لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَنْ قَبْلَكُمْ شِبْرًا بِشِبْرٍ وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ حَتَّى لَوْ سَلَكُوا جُحْرَ ضَبٍّ لَسَلَكْتُمُوهُ قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى قَالَ فَمَنْ؟ ) [50]، وفي رواية لأحمد قال رسول الله r (لَيَحْمِلَنَّ شِرَارُ هَذِهِ الْأُمَّةِ عَلَى سَنَنِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلِ الْكِتَابِ حَذْوَ الْقُذَّةِ بِالْقُذَّةِ) [51].
فليس من السائغ أن يتمسك أهل ملة بحقهم في نشر الدعارة والترخيص بالزنا بحجة أنهم لا يؤمنون بتحريمها ، فنرى منهم زنا المحارم أو الشذوذ الجنسي واللواط ........الخ ، فكل ذلك اعتداء على المجتمع وهو اعتداء على حق الله الثابت في كل دين وملة ، فعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ r كَانَ يُعَلِّمُهُمْ هَذَا الدُّعَاءَ كَمَا يُعَلِّمُهُمْ السُّورَةَ مِنْ الْقُرْآنِ يَقُولُ قُولُوا اللَّهُمَّ إِنَّا نَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ جَهَنَّمَ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ)[52] ، قال ابن رجب (ففتنة المحيا تدخل فيها فتن الدين والدنيا كلها، كالكفر والبدع والفسوق والعصيان، وفتنة الممات يدخل فيها سوء الخاتمة وفتنة الملكين في القبر، فإن الناس يفتنون في قبورهم مثل أو قريباً من فتنة الدجال)[53].
قال تعالى (فَإِن تَوَلَّوْاْ) (49) هذا في شأن المعاهدين المستأمنين ، ذلك أن أهل الإسلام وأهل الذمة لا ينبغي لهم أن يتولوا عن حكم الله ورسوله ، بل إن اعتراضهم على ذلك جناية منهم ، وإنما أشارت الآية إلى أن المحكومين بحكم الله تعالى ينقضون هذا الحكم ، يعني (أبَوْا أن يرضوا بحكمك) [54] وليس ذلك بكائن إلا في "التحكيم الاختياري"
أما المسلمون وأهل الذمة فإن حكم الله ينفذ فيهما جبرا لا اختيارا ، قال تعالى (قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ) (التوبة/29) ، فالعلة من قتالهم أنهم لا يحرمون من حرم الله ورسوله ، والعلة في النهي عن قتالهم أنهم يعطون الجزية وهم صاغرون أي خاضعون لسلطان الإسلام ، فينزل فيهم حكم الله ورسوله .
قال تعالى (فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ) (49) (أي فتلك أمارة أن الله أراد بهم الشقاء والعذاب ببعض ذنوبهم وليس عليك في توليهم حرج)[55] ، لأن من يجانب حكم الله يشقى ، ومن يعارض حكم الله يذوق وبال أمره ، فما شقت البشرية جمعاء إلا لأنها بعدت عن تحكيم الله ، ولم ترض بحكمه .
وتكلم سيد قطب عن شقاء البشرية بسبب ارتكابها ذنب البعد عن منهج الله فقال (وإن البشرية لتخبط في التيه كلما تركت هذا الهدى أو انحرفت عن شيء منه واستبدلت به شيئاً من تصوراتها هي ومقولاتها وأنظمتها وأوضاعها وشرائعها وقوانينها وقيمها وموازينها بغير «علم» ولا «هدى» ولا «كتاب منير» ... فالذي يريد أن يتملى شقاء البشرية في انحرافها عن هدى الله لا يحتاج أن ينقب ، فهو حوله في كل أرض تراه الأعين وتلمسه الأيدي ، ويصرخ منه العقلاء في كل مكان ) [56].
قوله ( أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ)(50) قال الواحدي (أيطلب اليهود في الزَّانيين حكماً لم يأمر الله به ، وهم أهل كتاب ، كما فعل أهل الجاهليَّة)[57]
ولذلك قيل أن "حكم الشرع مبني على علم، وما سواه مبني على جهل، وهذا في غاية التوبيخ والتقريع أن تبتغي حُكْمًا جاهليًا وتَدع حُكْم العليم الخبير".
وقال ابن كثير (كما كان أهل الجاهلية يحكمون به من الضلالات والجهالات ، وكما يحكم به التتار من السياسات الملكية المأخوذة عن ملكهم جنكزخان الذي وضع لهم "اليَساق" وهو عبارة عن كتاب مجموع من أحكام قد اقتبسها عن شرائع شتى ، من اليهودية والنصرانية والملة الإسلامية ، وفيها كثير من الأحكام أخذها من مجرد نظره وهواه ، فصارت في بنيه شرعًا متبعًا ، يقدمونها على الحكم بكتاب الله وسنة رسوله r ومن فعل ذلك منهم فهو كافر..)[58].
قوله (..وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ)(50) (فالله لا يخلق شيئاً عبثاً ولا يشرع شيئاً سدى)[59]، قال ابن كثير أي: " ومن أعدل من الله في حكمه لمن عقل عن الله شرعه، وآمن به وأيقن وعلم أنه تعالى أحكم الحاكمين، وأرحم بخلقه من الوالدة بولدها، فإنه تعالى هو العالم بكل شيء، القادر على كل شيء، العادل في كل شيء) [60].
وقوله ﴿ مَنْ ﴾: استفهام بمعنى النفي،أي: لا أحسن من الله حكمًا، جاء بهذه الصيغة ليكون أبلغ ومشعرا بالتحدي كما في قوله تعالى: ﴿ أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ ﴾ قال القرطبي: "أي: أتقن الحاكمين صنعًا في كل ما خلق، وقيل: بأحكم الحاكمين قضاء بالحق، وعَدْلًابين الخلق"[61]
قوله (..لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ)(50) قال الشوكاني: "لا أحسن من حكم الله عند أهل اليقين لا عند أهل الجهل والأهواء"[62]
ولذلك قيل بأنه "كلما كان الإنسان أشد يقينًا، كان بيان حسن أحكام الله عنده أكثر ، وإذا شئت أن تعرف هذا فانظر إلى العلماء المحققين كيف يستنبطون من الأحكام الشرعية ما تقتنع به العقول؛ لأنهم موقنون بأن حكم الله أحسن الأحكام فيفتح الله عليهم".
[1] ) موسوعة توحيد رب العبيد ج11 ص181 لمؤلفه محم كتاب التوحيد لمؤلفع الشيخ محمد بن عبد الوهاب القول المفيد على كتاب التوحيد لابن عثيمين ج2 ص 256 ، دار ابن الجوزي / المملكة العربية السعويدةي
مجموعة فتاوى ورسائل للعثيمين ج10 ص 840
[2] ) الموافقات للشاطبي ج1 ص 5
[3] ) الدهلوي : حجة الله البالغة ج1 ص 24
[4] ) تفسير الرازي ج1 ص 1665
[5] ) تفسير الشعراوي ج1 ص 2193
[6] ) محاسن التأويل تفسير القاسمي
[7] ) رواه البخاري ج2 ص 58 رقم 323
[8] ) http://ahmadkelhy.blogspot.com/2012/12/34-49.html
نور الدين أبي الحسن الباقولي : كشف المشكلات وإيضاح المعضلات في إعراب القرآن ص 213
[9] ) الوجيز للواحدي ج1 ص 160
[10] ) تفسير الألوسي ج5 ص 7
[11] ) اللباب في علوم الكتاب ج6 ص 100
[12] ) رواه مسلم ج1ص 365 رقم 218
[13] ) وقال صاحب المنار محمد رشيد رضا ما ملخصه : وأنت إذا تأملت الآيات السابقة ظهر لك نكتة التعبير بالكفر في الأولى وبوصف الظلم في الثانية ، وبوصف الفسق في الثالثة ، ففي الآية الأولى كان الكلام في التشريع ، وإنزال الكتاب مشتملا على الهدى والنور ، والتزام الأنبياء وحكماء العلماء بالعمل والحكم به . فكان من المناسب أن يختم الكلام ببيان أن كل معرض عن الحكم به لعدم الإذعان له ، مؤثرا لغيره عليه . يكون كافرا به ، وأما الآية الثانية فلم يكن الكلام فيها في أصل الكتاب الذي هو ركن الإِيمان ، بل في عقاب المعتدين على الأنفس أو الأعضاء ، فمن لم يحكم بحكم الله في ذلك يكون ظالما في حكمه ، وأما الآية الثالثة فهي في بيان هداية الإِنجيل وأكثرها مواعظ وآداب وترغيب في إقامة الشريعة على الوجه الذي يطابق مراد الشارع وحكمته . فمن لم يحكم بهذه الهداية ممن خوطبوا فهم الفاسقون بالمعصية ، والخروج عن محيط تأديب الشريعة
( انظر الوسيط لسيد طنطاوي ج1 ص 1285 )
[14] ) يقول الدكتور سفر (وكان أول من وضع العراقيل أمام دعوة المسيح وشريعته اليهود قتلة الأنبياء، وتكاد الأناجيل والرسائل تكون وصفاً للعنت الذي لقيه المسيح وأتباعه من الطوائف اليهودية، وقد جللوا عداوتهم بإغراء الحاكم الرومانى بقتله وصلبه، ولكن الله تعالى رفعه إليه ونجاه منهم ومنه ،وبعد وفاة المسيح عليه السلام، اشتدت المحنة على أتباعه من اليهود والرومان سواءً.
أما اليهود فكانوا كما تحدثت رسالة (أعمال الرسل) يقتلون المسيحيين ويرجمونهم ويغرون بهم الولاة... وكان من أبرز المضطهدين لهم شاؤل اليهودى، الذي تقول عنه الرسالة المذكورة: "أما شاؤل فكان يسطو على الكنيسة وهو يدخل البيوت ويجر رجالاً ونساءً ويسلمهم إلى السجن".
على أن أعظم محنة نزلت بالمسيحية -عقيدة وشريعة- هي عملية (الغزو من الداخل) التي قام بها شاؤل: فقد تظاهر باعتناق المسيحية وجاء بتعاليم مناقضة سبق ذكر بعضها، وأخذ يؤلب على المسيحيين الحقيقيين، وبذلك أحدث فوضى عقائدية وبلبلة فكرية، فتضاعف البلاء على المسيحيين، إذ أصيبوا في دينهم وأنفسهم دفعة واحدة.
وأما الرومان فقد أنزل أباطرتهم بأتباع المسيح أشد الأذى، واشتهر باضطهادهم (نيرون 64م) و(تراجان-106م) و(ريسويس-251م) و(دقلديانوس-280م) وبلغ بهم الاضطهاد إلى درجة أن بعض الأباطرة كانوا يضعون المسيحيين في جلود الحيوان ويطرحونهم للكلاب فتنهشهم، أو يلبسونهم ثياباً مطلية بالقار ويوقدونها لتكون مشاعل بشرية يستضيئون بها في مراقصهم وفي وسع المرء أن يدرك الحال التي تكون عليها شريعة يضطهد أتباعها ثلاثة قرون ويطاردون في معتقداتهم وأفكارهم، وهذه المطاردة كيف يمكن أن تقوم عليها دولة تنافح عنها وتلزم بتعاليمها وتثبت للعالم أنها شريعة كاملة.
د سفر الحوالي : العلمانية ونشأتها وتطورها وآثارها في الحياة الإسلامية المعاصرة ج1 ص 45
[15] ) رواه أحمد في مسنده ج29 ص 153 رقم 14104 وحسنه الألباني : إرواء الغليل ج6 ص 34 مشكاة المصابيح ج1 ص 38
[16] ) مفاتيح الغيب ج12 ص 11
[17] ) رواه البخاري ج11 ص 366 رقم 3271
[18] ) تحفة الأحوذي ج8 ص 129
[19] ) عمدة القاري شرح صحيح البخاري ج24 ص 80
[20] ) فتح الباري ابن حجر ج6 ص 559
[21] ) النكت والعيون ج1 ص 366
[22] ) الوسيط لسيد طنطاوي ج1 ص 1287
[23] ) انظر ابن عاشور (التحرير والتنوير ج5 ص 111 )
[24] ) كتاب الاعتصام للشاطبي ج1 ص 354
[25] ) الموافقات للشاطبي ج2 ص 43
[26] ) أحكام أهل الذمة و المستأمنون د/ عبد الكريم زيدان ص 217 و ما بعدها
[27] ) الجامع الصغير ج 1 ص 280
[28] ) التشريع الجنائي الإسلامي عبد القادر عودة ج 1 ص 280 و ما بعدها
[29] ) مغنى المحتاج ج4 ص 55
[30] )المحلي لابن حزم ج11 ص 372
[31] ) الروضة البهية في شرح اللمعة الدمشقية ج2 فصل رابع كتاب الحدود
[32] ) شرح الأزهار ج 4 ص 361
[33] ) الجامع الصغير للشيباني ج 1 ص 281
[34] ) بدائع الصنائع ج 7 ص 34
[35] ) رواه البخاري ج10ص 423 رقم 2930
[36] ) السير الكبير ج 1 ص 180
[37] ) اختلاف الفقهاء للطبري ص81
[38] ) السير الكبير للشيباني ج 1 ص 180
[39] ) أحكام القرآن للكيا الهراسي ج2 ص 202
[40] ) رواه أحمد ج30 ص 173 رقم 14623
[41] ) أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن ج1 ص 376
[42] ) تفسير السعدي ج1ص 234
[43] ) تفسير الشعراوي ج1 ص 6185
[44] ) في ظلال القرآن ج2 ص 383
[45] ) وقال مالك:"يقضي الحاكم المسلم بينهم فيه وجوبا ، لأن في الاعتداء ضربا من الظلم والفساد"، وكذلك قال الشافعي، وأبو يوسف، ومحمد، وزفر وقال أبو حنيفة:"لا يحكم بينهم حتى يتراضى الخصمان معا".
[46] ) قال أبو حنيفة إذا جاءت المرأة والزوج عليه أن يحكم بينهما بالعدل فإن جاءت المرأة وحدها ولم يرض الزوج لم يحكم وقال أبو يوسف ومحمد وزفر بل يحكم وكذلك اختلف أصحاب مالك على هذين القولين إذا شكا أحد الزوجين الذميين وأبى صاحبه من التحاكم بينهما والمشهور من مذهب مالك في الذميين يشكو أحدهما ويأبى صاحبه من التحاكم عندنا أنا لا نحكم بينهما إلا بأن يتفقا جميعا على الرضا بحكمنا فإن كان ظلما ظاهرا منعوا من أن يظلم بعضهم بعضا
انظر : التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد ج14 ص 391
[47] ) https://www.pewresearch.org/short-reads/2015/12/21/where-christian-churches-stand-on-gay-marriage/
[48] ) رواه الحاكم في المستدرك ج2 ص 341 رقم 3217 وقال صحيح الإسناد ولم يخرجاه وصححه الذهبي في التلخيص
[49] التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد ج14 ص 392
[50] ) رواه البخاري ج11 ص 272 رقم 3197
[51] ) مسند أحمد ج34 ص 499 رقم 16512 وصححه الألباني : السلسلة الصحيحة ج9 ص 92 رقم 3312
[52] ) رواه مسلم ج3 ص 252 رقم 930
[53] ) ابن رجب الحنبلي : اختيارالأولىى في شرح حديث اختصام الملأ الأعلى ج1 ص 31
[54] ) أبو الليث نصر بن محمد السمرقندي : بحر العلوم ج1 ص 481
[55] ) التحرير والتنوير ج5 ص 128
[56] ) في ظلال القرآن ج3 ص82
[57] ) الوجيز للواحدي ج1 ص 160
[58] ) تفسير ابن كثير ج 3 ص 131
[59] ) د علي الصلابي
[60] ) تفسير ابن كثير ج 3 ص 131
[61] ) تفسير القرطبي ج16 ص 393
[62] ) فتح القدير بين فني الرواية والدراسة من علم التفسير ج2 ص 71
-
السبت PM 03:02
2025-12-06 - 25



