المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 413652
يتصفح الموقع حاليا : 236

البحث

البحث

عرض المادة

أسطورة الوطن الأصلي

أكد المؤتمر الصهيوني الرابع والثلاثين (٢٠٠٢ ( في قراراته على مركزية إسرائيل في حياة الدياسيورا وهو في هذا لا يختلف عن المؤتمر الحادي والثلاثين (١٩٨٧ (الذي طرح مبدأ ثنائية المركزية (أي أن يكون ليهود العالم مركزان أحدهما في إسرائيل والثاني في الدياسيوراأما المؤتمر الثالث والثلاثين (١٩٩٧ (فطرح مفهوم مركزية إسرائيل في الحياة اليهودية، متبنياً بذلك الرؤية الأمريكية لإشكالية الهوية في المجتمعات الاستيطانية ولعلاقة المستوطن بوطنه الأصلي. فهناك أمريكيون ألمان وأمريكيون أيرلنديون وأمريكيون عرب وأمريكيون يهود. فالأمريكيون الألمان أمريكيون وطنهم الأصلي ألمانيا، والأمريكيون الأيرلنديون أمريكيون وطنهم الأصلي أيرلندا، والأمريكيون اليهود أمريكيون ووطنهم الأصلي إسرائيل (فلسطين) (حسب التصور الصهيوني).

 وتبني الرؤية الأمريكية للهوية يعني أن بوسع الأمريكي اليهودي أن يصبح مواطناً أمريكياً يندمج في مجتمعه دون أن ينصهر فيه تماماً، فهو أمريكي يحتفظ بهويته اليهودية، ومن ثم تتحقق الرؤية الصهيونية الخاصة بمركزية إسرائيل في الحياة اليهودية.  

 ولكن المفارقة الكبرى أن أسطورة الوطن الأصلي هي عكس الأسطورة الصهيونية تماماً، فالوطن الأصلي هو الوطن الذي تهاجر منه وليس الوطن الذي تهاجر إليه، والصهيونية تعني أولاً وقبل كل شيء الهجرة إلى فلسطين والاستيلاء عليها والاستيطان فيها. وفي دراستنا للصهيونية قسمنا الصهيونية إلى قسمين: "صهيونية استيطانية" وهي صهيونية اليهودي الذي يترك وطنه ليستوطن في فلسطين ويحمل السلاح ضد أهلها، و"صهيونية توطينية "، وهي صهيونية اليهودي الذي يبقى في وطنه ولكنه يؤيد الاستيطان فيجمع الأموال ويحضر المهرجانات الصهيونية ويساهم في توطين اليهود الآخرين في فلسطين دون أن يهاجر هو نفسه. وقد قيل في تعريف الصهيونية التوطينية إنها صهيونية اليهودي الذي يأخذ أموالاً من يهودي آخر لتوطين يهودي ثالث في أرض الميعاد!  

 وبطبيعة الحال لا يقبل الصهاينة بهذا التقسيم، لأنهم لو فعلوا لفقدوا كثيراً من الشرعية، فهم يدعون أن الصهيونية هي أيديولوجية الشعب اليهودي بأسره وقانون العودة هو دعوة لكل يهود العالم للاستيطان في فلسطين، وتقسيم الصهيونية إلى استيطانية وتوطينية يعني أن قانون العودة موجه لجزء صغير من يهود العالم، وهذا ما يرفضه الصهاينة الذين استوطنوا بالفعل في فلسطين، ولهذا يمارسون ضغوطاً على يهود العالم لكي ينفضوا عن أنفسهم الصهيونية التوطينية ويتحولوا إلى صهاينة حقيقيين، أي استيطانيين. وهكذا، فمركزية إسرائيل في حياة الدياسيورا، بالنسبة للصهاينة الاستيطانيين والإسرائيليين، تعني الهجرة الاستيطانية. وهذا ما أكده المؤتمر الصهيوني الأخير، حيث أيد محورية الهجرة الاستيطانية كأساسٍ لتحقيق الصهيونية، وبالتالي أعطى إسرائيل دور المركز بالنسبة ليهود العالم، معتبراً أن كل من لا يعتزم الهجرة إلى إسرائيل غير صهيوني، بل وخائن للهوية اليهودية!.

وتمثل التجمعات الصهيونية، خاصة في الولايات المتحدة، المعارضة الأساسية لهذا الموقف الذي يقلص، بل يقوض، دورهم تماماً ويهمشهم ويشكك في صهيونتهم. ولهذا، ترى المنظمات المؤيدة لهذا الاتجاه أن اليهود "أمة" لا ترتبط بوطن واحد، وتكتفي بالحديث عن "شعب يهودي" دون الارتباط بوطن، كما تطالب بتأكيد المشاركة بين الدولة الصهيونية ويهود العالم على قدم المساواة، وبالنظر إلى الهجرة نحو إسرائيل لا كأساس لتحقيق الصهيونية وإنما كمثل أعلى.  

 وقد نشبت المعارك بين الفريقين، صهاينة العالم (التوطينيين) والصهاينة الاستيطانيين، في المؤتمرات الصهيونية المتعاقبة. ففي المؤتمر الخامس والعشرين (١٩٦١) أكد بن جوريون أن الهجرة إلى إسرائيل واجب ديني وقومي على كل اليهود، لأن اليهودي لا يعبر عن إيمانه بالصهيونية إلا بوجوده في الدولة الصهيونية. وتصدى له ناحوم جولدمان، ممثل يهود العالم، فأكد أن اليهودي قد يكون صهيونياً مخلصاً مع استمراره في بلده الأصلي. وفي المؤتمر الثامن والعشرين (١٩٧٢) بدأت الدولة الصهيونية تصعد حملتها لتهجير اليهود السوفييت، ولكن جولدمان اعترض على هذه الحملة مؤكداً أن من حق كل يهودي أن يبقى في وطنه الحقيقي (أي الوطن الذي يعيش فيه) لا أن يهاجر إلى وطنه الأصلي الوهمي (أي الدولة الصهيونية!)

وأحياناً ما يزداد تطرف بعض الصهاينة الاستيطانيين فيثيرون قضية حساسة، وهي كيف يمكن لهؤلاء "الزعماء الصهاينة" أن يحضروا المؤتمرات الصهيونية وأن يثرثروا عن الهوية اليهودية والارتباط الأزلي بأرض الميعاد دون أن يستوطنوا هم أنفسهم فيها؟ وفي إحدى المؤتمرات تقدم بعض الاستيطانيين بمشروع قرار يلزم من يحضرون المؤتمرات الصهيونية عدة مرات بالاستيطان في فلسطين المحتلة، فانسحب وفد منظمة " الهادساه(المنظمة النسائية الصهيونية الأمريكية) وهي أكبر المنظمات الصهيونية على الإطلاق، ولم يعد الوفد إلى قاعة المؤتمر إلا بعد سحب مشروع القرار.  

 وحدث شيء مماثل في المؤتمر الأخير، حيث ألقى حاييم تسلر، أمين صندوق الوكالة اليهودية، خطاباً قال فيه إنه يفضل المهاجرين غير اليهود من الاتحاد السوفيتي السابق على هؤلاء اليهود الذين يصلون ثلاث مرات في اليوم ويبقون في نيوريوك، أي أنه أعطى أولوية مطلقة للاستيطان الصهيوني تجب حتى الانتماء لليهودية. وبطبيعة الحال ثارت ثائرة المؤتمر وقامت لجنة من يهود العالم الذين يجمعون التبرعات بإقالته.  

 وهكذا تظل الإشكاليات الأساسية كما هي: من هو اليهودي؟ من هو الصهيوني؟ مركزية إسرائيل في حياة الدياسيورا أم مركزية الدياسيورا في حياة يهود العالم؟ وتظل الأسطوانة المشروخة تدور، وتظل التناقضات تعتمل داخل الكيان الصهيوني، ولكنها لا تتفجر إلا بفعل المقاومة الفلسطينية.  

 والسبب في إثارة موضوع الهجرة الاستيطانية بهذه الحدة هو عزوف يهود العالم عن الاستيطان في فلسطين. ففي ٩ يونيو/حزيران ٢٠٠٢ ) أي قبل عقد المؤتمر بعدة أيام) أُعلنت أرقام الهجرة إلى فلسطين المحتلة خلال النصف الأول من العام، وبلغ العدد ٦٤٦ مهاجراً لا أكثر ولا أقل، وأغلبهم (٤٤٠ (من بلدان الاتحاد السوفيتي السابق، بينما جاء ١٥ من فرنسا، ٨و من إنجلترا، و١٣ من الولايات المتحدة وكندا!. وعلقت إحدى الصحف الإسرائيلية بقولها إن تلك الأعداد أشبه بأعداد أفواج سياحية، وأضافت أن معظم هؤلاء المهاجرين يستخدمون إسرائيل كمحطة مؤقتة، يهاجرون بعدها إلى بلاد مثل كندا وأستراليا.  

ولا شك أن هذا العزوف يعود بالأساس إلى المقاومة الفلسطينية التي تبين لكل العالم أن الشعب الفلسطيني دخل حرباً من أجل تحرير وطنه، وأنه لم يعد مجرد قطعة أرض خالية يأتي لها من يشاء ليؤسس المستعمرات الاستيطانية والمنازل الفاخرة وحمامات السباحة المترفة.  

  

التراث اليهودي المسيحي

  

موضوع علاقة الصهيونية بالمسيحية موضوع خلافي ومركب متعدد الأبعاد، وهو يحتاج إلى كثير من التأمل وإعادة النظر في المصطلحات فيما تخبئه من مفاهيم، إذ أنه ليس موضوعاً دينياً محضاً وإنما له بُعد سياسي. ولهذا نجد أن بعضاً ممن له مصلحة يقوم بليّ عنق المصطلحات ليفرض عليها مفاهيم معينة حتى يمكنه توظيفها لصالحه. وهذا ما فعله الصهاينة وأنصارهم. ومع الأسف، هناك في العالم العربي من ينقل ما يرد لنا من مصطلحات، ثم يرددها ببغائية مذهلة دون أن يدرك عملية التشويه التي تمت، والتي لا تخدم إلا صالح أعداء الوطن والأمة.  

وقد اخترقت مثل هذه المصطلحات الخطاب التحليلي العربي. خذ على سبيل المثال مصطلحاً مثل «الحروب الصليبية»، هذه ترجمة للكلمة الغربية (الإنجليزية) crusade نسبة إلى cross ب، أي الصلي . وهي تعني أن الحملات الصليبية كانت حملات مسيحية، بينما يعرف أي دارس لهذه الواقعة التاريخية أنها كانت حملات استعمارية حتى النخاع والمسيحية براء منهاوقد أدرك المؤرخون العرب والمسلمون المعاصرون لهذه الحملات طبيعتها الاستعمارية الاستيطانية، ولذلك كانوا يسمونها «حروب الفرنجة» نسبة إلى غالبية العنصر البشري الذي قام بالغزو والسلب والنهب (الذي أتى أساساً من بلاد الفرانك، أي فرنسا). وهو غزو وسلب ونهب لم يكن يُفرِّق بين المسلم والمسيحي واليهودي، ولهذا قامت بعض هذه الحملات التي يقال لها «صليبية» بسلب بيزنطة عاصمة المسيحية الشرقية، بل ويقال إن هذه الحملات أنهكت قوى الإمبراطورية الرومانية الشرقية، الأمر الذي جعل سقوطها في يد العثمانيين فيما بعد أمراً يسيراً. وبدلاً من استخدام المصطلح العربي القديم الدقيق، الدال على طبيعة الظاهرة، فق قمنا بترجمة المصطلح الغربي، الذي يحاول تخبئتها وتعميتها.  

وإذا كان هذا هو الحال مع مصطلحات واضحة البراءة مثل «الحروب الصليبية»  و«المسألة اليهودية» فما بالكم بمصطلحات مثل «التراث اليهودي المسيحي» و «الصهيونية المسيحية» اللذين شاع استخدامهما في الآونة الأخيرة؟ وهما مصطلحان يفهم منهما أن ثمة علاقة قوية، بل وعضوية، بين اليهودية والمسيحية وبين المسيحية والصهيونية. وقد بلغ المصطلحان من الذيوع أن كثيراً من الناس يتقبلونهما، وما يعبران عنه من مفاهيم، بحسبانهما من البديهيات. ولكن الرؤية المتفحصة لهذين المصطلحين تبين أن علاقتهما بالواقع واهية لأقصى حد، وأنهما مصطلحان «أيديولوجيان» بمعنى أن لهما مضموناً فكرياً متحيزاً لأيديولوجيات بعينها (الإمبريالية والصهيونية).  

والملاحظ أن ثمة عنصراً أخلاقياً مشتركاً بين الديانات الثلاثة: اليهودية والمسيحية والإسلام (يصلح أساساً لعقد اجتماعي جديد). ولكن، إلى جانب نقط الاتفاق الأخلاقية، هناك نقاط اختلاف، بعضها جوهري، في رقعة أصول الدين أو لاهوته. ومصطلح «التراث اليهودي المسيحي» يتجاهل مثل هذه الاختلافات، فهو يفترض أن اليهودية والمسيحية يكوِّنان كلاًّ واحداً، وهو ادعاء له ما يسانده بشكل جزئي داخل النسق الديني المسيحي ولكنه لا يعبِّر بأية حال عن الصورة الكلية إذ أنه يتجاهل حقائق دينية أساسية. فهناك الاختلافات الأساسية الواضحة بخصوص طبيعة الإله وعلاقته بالبشر. كما يختلف موقف اليهودية والمسيحية من الخطيئة بشكل جوهري، فالمسيحية تؤمن بأن الإنسان ساقط بسبب الخطيئة الأولى. أما اليهودية، فلا تؤمن بالخطيئة الأولى. ولهذا يُعتبر أداء الشعائر، واتباع الأوامر والنواهي كافيان، في السياق اليهودي، لخلاص الإنسان. أما في المسيحية (الكاثوليكية على الأقل )، فلابد من قيام الكنيسة والكهنوت بعملية الوساطة حتى يتم الخلاص، فلا خلاص خارج الكنيسة.  

وثمة خلافات بين العقيدتين حول فكرة المسيح، فعلى حين أن اليهودية ترى المسيح باعتباره شخصية سياسية قومية سيقود شعبه إلى صهيون ويعيد بناء الهيكل ويؤسس المملكة اليهودية مرة أخرى، فإن المسيح في العقيدة المسيحية إله/إنسان مهمته خلاص كل البشرية لا الشعب اليهودي وحسب ( ولذا فنحن في كتاباتنا عن الصهيونية واليهودية نشير إلى المسيح المخلِّص اليهودي بكلمة «الماشيَّح»، أي نستخدم المنطوق العبري حتى نفرِّق بين النسقين الدينيين).  

وتُعدُّ قضية صلب المسيح قضية أساسية ونقطة خلاف رئيسية. فمن المعروف أن كل أمة أو مجموعة عرْقية أو دينية تؤمن بأنها مدينة بوجودها لشكل من أشكال التضحية والفداء الرمزي أو الفعلي الذي يكتسب مكانة رمزية ويصبح بمثابة الركيزة النهائية للنسق ولحظة التأسيس. إن حادثة الصلب في المسيحية هي هذه اللحظة، حين نزل ابن الإله إلى الأرض وارتضى لنفسه أن يُصلَب، وكان فعله هذا الفداء الأكبر. لكن لحظة الصلب هذه ليست لحظة زمنية، رغم حدوثها في الزمان، وهي لا ترتبط بفترة تاريخية معينة رغم وقوعها في التاريخ (فهي كونية). وفي احتفالات الجمعة الحزينة، يحاول المسيحي المؤمن أن يستعيد آلام المسيح، هذه الواقعة الكونية التي لا يمكن أن تنافسها واقعة أخرى. واليهود عنصر أساسي في حادثة الصلب، فكهنتهم وحاخاماتهم هم الذين حاكموا المسيح وهم الذين أصروا على صلبه، فهم قتلة الرب، الذين يقتلونه دائماً، بإنكارهم إياه.

ورغم المحاولات العديدة، المسيحية واليهودية، لتغيير هذه البنية الرمزية للوجدان المسيحي، فإن مثل هذه المحاولات لا تُكلَّل بالنجاح نظراً لأن المجال الرمزي يتسم بقدر من الثبات ولا يخضع بسهولة للأهواء وللتيارات السياسية المتغيرة. ولهذا، فكثيراً ما تنشب الصراعات فجأة وبلا مقدمات حين يقوم بعض المسيحيين بتمثيل مسرحيات دينية تبرز الرموز المسيحية وتسقط على اليهودي دور قاتل الرب. وقد نشب صراع حول أوشفيتس كان في جوهره صراعاً حول الرموز ومعناها. فحادثة الإبادة (الهولوكوست) أصبحت في الوجدان اليهودي لا تختلف كثيراً عن حادثة الصلب في الوجدان المسيحي. ولذا، حين أقامت بعض الراهبات الكرمليات ديراً في هذا المعتقل لإقامة الصلاة على الضحايا من أي عرْق أو دين أو جنسية، اعترض ممثلو أعضاء الجماعات اليهودية، لأن هذا يعني فرض لحظة الصلب المسيحية على لحظة الصلب اليهودية!  

وثمة رأي داخل المسيحية يقول بأن العهد الجديد لم ينسخ العهد القديم، ولكنه مع هذا حل محله وتجاوزه. ومع أن الكنيسة لم تستبعد العهد القديم، فإن الإيمان المسيحي يستند إلى أن الشريعة (أو القانون) قد تحققت من خلال المسيح وتم تجاوزها، وأن الرحمة الإلهية والإيمان بالمسيح وسيلة للخلاص حلت محل الشريعة والأوامر والنواهي، ومن ثم كان رفض الشعائر الخاصة بالطعام والختان التي تَمسَّك بها اليهود. وقد ذهب المسيحيون إلى أن اليهودية دين الظاهر والتفسير الحرفي دون إدراك المعنى الداخلي أو الباطن، وأن الكنيسة هي يسرائيل فيروس، أي يسرائيل الحقيقية، وأنها يسرائيل الروحية، أما اليهود فهم يسرائيل الزائفة الجسدية التي لا تدرك مغزى رسالتها. وبالتالي، فَقَد اليهود دورهم، وأصبحت اليهودية ديانة متدنية بالنسبة إلى المسيحيين، ووُصِفَ اليهود بأنهم شعب يحمل كتباً ذكية ولكنه لا يفقه معنى ما يحمل.  

لكل هذا، أعادت الكنيسة تفسير العهد القديم بحيث اكتسب مدلولاً جديداً مختلفاً تماماً عن مدلوله عند اليهود الذين استمروا في شرحه وتفسيره على طريقتهم، وفهمه فهماً حرفياً وحلولياً وقومياً. ومن ثم اختلف النسق الديني اليهودي عن النسق الديني المسيحي. ومن أهم أشكال الاختلاف أن المسيحية أصبحت ديناً عالمياً، باب الهداية فيه مفتوح للجميع، على عكس اليهودية التي ظلت ديناً حلولياً مغلقاً مقصوراً على شعب أو عِرْق بعينه يظل وحده موضع الحلول الإلهي. ثم تَعمَّق الاختلاف بحيث أصبحت للمسيحيين رؤية مختلفة تماماً عن رؤية اليهودية.  

وقد تبدَّى كل هذا في شكل صراع تاريخي حقيقي، فقد رفض اليهود المسيح (عيسى بن مريم) ولا يزالون يرفضونه. ويلوم الآباء المسيحيون الأوائل اليهود باعتبارهم مسؤولين عما حاق بالمسيحيين الأولين من اضطهاد، وأنهم هم الذين كانوا يحرضون الرومان ضد المسيحيين ويلعنون المسيحيين في المعابد اليهودية، وأنهم هم المسؤولون في نهاية الأمر عن صلب المسيح. وهم يرون أن هدم الهيكل وتشتيتهم هو العقاب الإلهي الذي حاق بهم على ما اقترفوه من ذنوب (وتشكِّل معاداة اليهود، باعتبارهم قتلة الرب، جزءاً أساسياً وجوهرياً من التراث الفني الديني المسيحي من موسيقى ورسم ومسرحيات).  

وقد استمر الصراع إلى أن تغلبت المسيحية في نهاية الأمر على اليهودية، وانتشرت بين جماهير الإمبراطورية الرومانية. واستمر من تَبقَّى من اليهود في الإيمان باليهودية التعبير عن رأيهم في كتب مثل التلمود والقبَّالاه، وفي الحديث عن المسيح والمسيحيين بنبرة سلبية وعنصرية للغاية.  

وقد تَحدَّد موقف الكنيسة (الكاثوليكية) من اليهود في مفهوم الشعب الشاهد، وهو أن اليهود هم الشعب الذي أنكر المسيح الذي أرسل إليهم، وهم لهذا قد تشتتوا عقاباً لهم على ما اقترفوه من ذنوب. ولكن رفض اليهود للمسيح سر من الأسرار، فاليهود في ضعفهم وذلتهم وتشرُّدهم يقفون شاهداً على عظمة الكنيسة، أي أن اليهود بعنادهم تحولوا إلى أداة لنشر المسيحية.  

ومن ثم، يمكن القول إن العلاقة بين اليهودية والمسيحية علاقة عدائية متوترة إلى أقصى حد، واستخدام مصطلح «التراث اليهودي المسيحي» فيه محاولة لطمس معالم ونقط الاختلاف الجوهرية بين العقيدتين حتى يمكن زيادة الدعم الغربي للدولة اليهودية، والحصول على رضاء الجماهير الغربية على هذا الدعم الذي يتنافى مع القيم المسيحية والأخلاقية الإنسانية.  

 

  • الخميس PM 04:13
    2022-08-18
  • 839
Powered by: GateGold