المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 412347
يتصفح الموقع حاليا : 288

البحث

البحث

عرض المادة

حقيقة العلمانية وتعريفها اصطلاحا ً

لابد من النظر إلى العلمانية عند إرادة تعريفها نظرة شمولية من خلال كافة الإفرازات الثقافية لروادها، ولابد من التعامل مع الظواهر الاجتماعية والثقافية المختلفة وغيرها التي خلفتها، ولابد من الأخذ بعين الاعتبار للأسس الفلسفية التي خرجت من رحمها، ولابد كذلك من فهم السياق التاريخي والثقافي والاجتماعي العام الذي وجدت فيه.

وقد غفل عن كل هذا أو بعضه كثير ممن تصدوا للتعريف بالعلمانية.

فعرفها بعضهم بأنها فصل الدين عن الدولة، أو فصل الدين عن السياسة.

وهو تعريف ساذج قاصر لا يغطي حقيقة العلمانية الغربية، ونسختها العربية المستوردة. واختزالها إلى هذا نوع من التبسيط المخل، باعتراف جمع من العلمانيين. فليست العلمانية قاصرة على السياسة، بل هي شاملة للاقتصاد والاجتماع والأخلاق والفن وفلسفة الحياة وغيرها.

بل من الباحثين من يرى أن التعريف السابق تعريف سطحي ومضلل، إذ جذور العلمانية أعمق من ذلك بكثير، وفصل الدين عن السياسة يمثل إحدى الثمار البدائية التي يمكن اقتطافها من هذه الشجرة. وهي تمتد إلى جميع أبعاد شؤون الحياة البشرية، ومنها الحياة السياسية (2).


(1) - وقد أسهب عبد الوهاب المسيري في «العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة» و «العلمانية تحت المجهر» في تحليل مفهوم العلماني، وكشف التطور المفاهيمي لهذا المصطلح، كما أسهب الطعان في العلمانيون والقرآن الكريم في تتبع أغلب التعريفات لهذا المصطلح.
(2) التراث والعلمانية (80).

ولهذا عرفها آخرون بأنها فصل الدين عن الحياة (1).

وهو تعريف قاصر كذلك، لأن العلمانية بمفهومها الشامل لا تقف عند مجرد الفصل، بل لها موقف سلبي من الدين من جهة، ومن جهة أخرى لها مفهوم فلسفي حسب د. ج. ويل، حيث قال: الفكرة العلمانية تنطوي على مفهوم فلسفي يتعلق باستقلال العقل في قدرته.

وعند كلود جفراي: إلغاء كل مرجع ديني (2).

وعرفها كورنليس فان بيرسن بأنها تعني: تحرر الإنسان من السيطرة الدينية أولا، ثم الميتافيزقية ثانيا على عقله ولغته.

وقال: إنها تعني تحرر العالم من الفهم الديني وشبه الديني، إنها نبذ لجميع الرؤى الكونية المغلقة وتحطيم لكل الأساطير الخارقة وللرموز المقدسة ... إنها تعني أن يدير الإنسان ظهره لعالم ما وراء الطبيعة (3).

وعرفها فتحي القاسمي العلماني: بأنها نزعة استقلالية بشرية انبنت على انسلاخ عن سيطرة المفاهيم الدينية على الإنسان (4).


(1) العلمانية لسفر الحوالي (24) والتطرف العلماني في مواجهة الإسلام (15 - 16).
(2) العلمانية وانتشارها شرقا وغربا لفتحي القاسمي (48)، بواسطة العلمانيون والقرآن (130).
(3) مداخلات فلسفية في الإسلام والعلمانية للعطاس (42)، نقلا عن العلمانيون والقرآن (129 - 130).
(4) العلمانية وانتشارها شرقا وغربا لفتحي القاسمي (47) نقلا عن العلمانيون والقرآن (244).

وعرفها المؤتمر العام الدائم للتيار العلماني في لبنان: نظرة شاملة للعالم أي للإنسانية جمعاء، والكون كله تؤكد استقلالية العالم بكل مقوماته وأبعاده وقيمه، تجاه الدين ومقوماته وقيمه، والاستقلالية تعني أن هناك قيما ذاتية فعلية للعالم غير مستمدة من الدين وغير خاضعة له (1).

وهذا تعريف شامل للعلمانية. إنها باختصار إقصاء للدين من جميع المجالات.

وهو نفس ما عبر عنه عبد السلام سيد أحمد، فالعلمانية عنده تقوم على إحلال منظومة متكاملة من القيم والأخلاق والعلائق الإنسانية أو الإنسية مقابل الدينية (2).

وعرفها معجم أكسفورد (785): العلمانية تعني:

أ- دنيوي أو مادي، ليس دينيا ولا روحيا، مثل التربية اللادينية، الفن، الموسيقى اللادينية، السلطة اللادينية أو الحكومة المناقضة للكنيسة.

ب- الرأي الذي يقول: إنه لا ينبغي أن يكون الدين أساسا للأخلاق والتربية (3).

وعرفتها دائرة المعارف البريطانية (9/ 19) تحت مادة ( Secularism): هي حركة اجتماعية تهدف إلى صرف الناس وتوجيههم من الاهتمام بالآخرة إلى الاهتمام بهذه الدنيا وحدها. 


(1) من الفكر الحر إلى العلمنة (122). نقلا عن العلمانيون والقرآن (245).
(2) العلمانية تحت المجهر (72).
(3) التيار العلماني الحديث (44).

وذلك أنه كان لدى الناس في العصور الوسطى رغبة شديدة في العزوف عن الدنيا والتأمل في الله واليوم الآخر، وفي مقاومة هذه الرغبة طفقت ( Secularism) تعرض نفسها من خلال تنمية النزعة الإنسانية، حيث بدأ الناس في عصر النهضة يظهرون تعلقهم الشديد بالإنجازات الثقافية والبشرية، وبإمكانية تحقيق مطامعهم في هذه الدنيا القريبة، وظل هذا الاتجاه يتطور باستمرار خلال التاريخ الحديث كله، باعتبارها حركة مضادة للدين ومضادة للمسيحية (1).

وفي معجم ويبستر Webster عرفها بـ: فهي رؤية للحياة، أو في أي أمر معين يعتمد أساسا على أنه يجب استبعاد الدين وكل الاعتبارات الدينية وتجاهلها، ومن ثم فهي نظام أخلاقي يعتمد على قانون يقول: بأن المستويات الأخلاقية والسلوكيات الاجتماعية يجب أن تحدد من خلال الرجوع إلى الحياة المعيشية والرفاهية الاجتماعية دونما الرجوع إلى الدين (2).

وفي معجم المورد عرفها بـ (827): عدم المبالاة بالدين أو بالاعتبارات الدينية (3).

والملتزم بالعلمانية عند عبد الصبور شاهين هو: الإنسان الرافض للدين، المبعد له عن حياته، المحارب لرسالته في المجتمع، الحريص على أن يلتزم الناس بقيم مدنية ولا دينية عالمية (4).

وهي عند فهمي هويدي: منظومة فكرية متكاملة، وأساس متميز لرؤية الواقع والعالم، وأنها رؤية للكون وفلسفة في الحياة (5).


(1) نفس المصدر (43).
(2) علماني وعلمانية تأصيل معجمي لأحمد فرج (136 - 137).
(3) تهافت العلمانية (229).
(4) العلمانية تاريخ الكلمة وصيغتها (117).
(5) المفترون (264 - 265) بتصرف.

وهو ما أكده جماعة من العلمانيين:

فاعتبر عادل ضاهر أن العلمانية غير منحصرة في فصل الدين عن الدولة، وقال: هي موقف شامل ومتماسك من طبيعة الدين وطبيعة العقل وطبيعة القيم وطبيعة السياسة (1).

واعتبر كذلك أن التعريف السائد للعلمانية (أي: فصل الدين عن الدولة) تعريف سطحي جدا (2)، إنها عنده في المقام الأول موقف من الإنسان والقيم والدين والمعرفة (ص9).

وقال في مكان آخر (ص54) معرفا العلمانية: تعني بالضرورة رفض مبدأ العودة إلى الدين بوصفه المرجع الأخير والسلطة الأخيرة في كل الشؤون.

واختار العلماني المصري شريف حتاتة أن العلمانية دعوة شاملة وليست قاصرة على فصل الدين عن الدولة (3).

وزاد مؤكدا قبل هذا (102) أن القوانين والنظم والتعليم والإعلام ومختلف الأنشطة التي تقوم بها الدولة مفروض ألا تبقى لها أية علاقة بالأفكار الدينية بأي نوع من الأنواع.

وعند لكحل: إن العلمانية منظومة فكرية وسياسية وقانونية (4).


(1) الأسس الفلسفية للعلمانية (6).
(2) وعنده (38) هذا الفهم السائد للعلمانية هو تعريف لها باعتبار أغراضها، لا باعتبار الأسس التي تقوم عليها.
(3) العلمانية مفاهيم ملتبسة (111).
(4) العلمانية مفاهيم ملتبسة (281).

وقالت ماجدة رفاعة الطهطاوي: فالعلمانية لا تنحصر في الفصل بين الدين والدولة، وإنما هي تمثل قطيعة معرفية مع الماضي أي: الانتقال من هيمنة الفكر الميتافيزيقي (المطلق) التي اتسمت به العصور الوسطى إلى الأزمنة الحديثة التي اهتمت بالحقائق النسبية والجزئية، وأعطت الأولوية للعقل وحرية التفكير (1).

ولا زلنا مع هذه النصوص التي نريد من تنويعها وتكثيرها البرهنة على أن العلمانية فلسفة عامة للحياة، وليست فصل الدين عن السياسة كما يوهم بعض العلمانيين تمويها وتعمية.

وهذه شهادة غاية في الصراحة: قال محمود إسماعيل بعد تأكيده أن تعريف العلمانية بفصل الدين عن الدولة تعريف قاصر، وزاد: إذ نعتقد أنه يشمل إلى جانب ذلك نمطا في التفكير يتعلق برؤية عامة للكون والحياة، ولا يقتصر على تصور للحكم فقط، إنه مشتق من العالم كبديل للرؤية اللاهوتية التي ترى أن هذا العالم محكوم بقوة غيبية مفارقة لهذا العالم، تقدر مصائره وتتحكم في أقداره. من هنا كانت العلمانية رؤية تذهب إلى أن القوانين الموضوعية لحركة التاريخ تنبثق من العالم نفسه، وليست قدرا مهيمنا عليه من خارجه (2).

وزاد: فالعلمانية كما أوضحنا سلفا رؤية شاملة وفلسفة حياة (3).


(1) العلمانية مفاهيم ملتبسة (326 - 327). ويكفي عنوان كتابهم هذا دليلا على حيرتهم وتخطبهم واضطرابهم وشعورهم باليأس، فعلمانيتهم ذات مفاهيم ملتبسة مختلة متناقضة، فليست تنويرية ولا تقدمية ولا عقلانية، بل هي مفاهيم ملتبسة، والحمد لله رب العالمين، وكفى الله المؤمنين القتال.
(2) العلمانية مفاهيم ملتبسة (90).
(3) نفس المصدر (98).

وعند أركون الحداثة في الفكر الفرنسي والألماني تعني أولا وقبل كل شيء الموقف الفلسفي من الوجود (1).

وقال كمال عبد اللطيف في التفكير في العلمانية (37) بعد تأكيده على أن العلمانية تعني رفض هيمنة المقدس (أي: الدين) على الحياة، وهي بديل عنه، قال: وقد ارتكز المفهوم في سياق تطوره الفكري إلى قاعدة فلسفية كبيرة، هي قاعدة المعتقد الليبرالي، هذه القاعدة التي تسلم بأولوية الإنسان الفرد في الوجود، كما تسلم بالقيمة المطلقة للحرية، وتعتقد بالأهمية اللانهائية لقدرات العقل الإنساني.

وعرفها عاطف أحمد بقوله: موقف معرفي يتسم بالتعامل مع أمور الواقع البشري والطبيعي بعقل مستقل يستمد معطياته من خبرتنا بالواقع ذاته خارج أية هيمنة لأية سلطة معرفية أخرى تعتبر نفسها فوق بشرية. الإسلام والعلمنة (15).

أي بعبارة أوضح: إقصاء الدين من أي تدخل في شؤون الحياة وإحلال العقل محله.

وعرفها بعضهم بأنها التخلي عن كل سند ديني أو غيبي أو ميتافيزيقي، وجعل الإنسان يعتمد على نفسه (2).


(1) قضايا في نقد العقل الديني (99).
وانظر العلمانية مفاهيم ملتبسة (76 - 265).
(2) العلمانية تحت المجهر (66).

وعرفها هبة رؤوف عزت في المرأة والدين والأخلاق (170 - 172) بأنها نزع القداسة عن كل ما هو مقدس وإخراج المطلق من المنظومة المعرفية وسيادة النسبية (1).

وعرفها توماس فورد هلت في معجم علم الاجتماع المعاصر بأنها منظومة متكاملة تحتوي على ميتافيزيقا واضحة ورؤية شاملة للكون (2).

وفي المعجم نقلا عن للاري ساينر أن للعلمانية استخدامات:

1 - انحسار الدين وتراجعه (الرموز والعقائد والمؤسسات تفقد هيمنتها ونفوذها).

2 - الفصل بين المجتمع والدين.

3 - التركيز على الحياة المادية في الوقت الراهن بدلا من مستقبل روحي.

4 - اضطلاع منظمات غير دينية بالوظائف الدينية.

5 - اختفاء فكرة المقدس.

6 - إحلال المجتمع العلماني محل المجتمع المقدس (3).

وجعل الطعان بعد تحليل طويل في كتابه العلمانيون والقرآن الكريم (130) العلمانية في المنظور الغربي: هي التحرر من الأديان عبر السيرورة التاريخية، واعتبار الأديان مرحلة بدائية لأنها تشتمل على عناصر خرافية كالماورائيات والغيبيات، ولا يتم الخلاص من هذه الأعباء إلا عن طريق تحقيق النضج العقلي الذي تحققه العلمنة عبر آلياتها الثقافية والفكرية والفلسفية.


(1) العلمانيون والقرآن (274).
وعند مراد وهبة في ملاك الحقيقة (29): التفكير في النسبي بما هو نسبي وليس بما هو مطلق.
(2) العلمانية تحت المجهر للمسيري (62).
(3) العلمانية تحت المجهر (62 - 63).

وعرفها كذلك (281) بأنها أنسنة الإلهي وتأليه الإنساني.

وعرفها محمود أمين العالم العلماني المصري بأنها ليست مجرد فصل الدين عن الدولة، وإنما هي رؤية وسلوك ومنهج.

وهي عند علماني آخر هو جلال أمين منظومة شاملة ورؤية للكون (الطبيعة والإنسان) تستند إلى ميتافيزيقا مسبقة، تطرح إجابات عن الأسئلة النهائية الكبرى، والعلمانية رؤية للكون تضم إيديولوجيات مختلفة (1).

إذن فالعلمانية حسب جلال أمين رؤية للكون تضم إيديولوجيات مختلفة (2).

بينما جعل المسيري (3) للعلمانية مفهومين:

1 - العلمانية الجزئية: وهي المعبر عنها بفصل الدين عن الدولة، أي فصل الدين عن عالم السياسة، وربما الاقتصاد، وربما بعض الجوانب الأخرى من الحياة العامة، وهي تلزم الصمت بشأن المجالات الأخرى من الحياة، ولا تنكر وجود مطلقات وكليات أخلاقية وإنسانية، وربما دينية.

2 - العلمانية الشاملة، وهي رؤية شاملة للعالم ذات بعد معرفي (كلي ونهائي).

وهي ترى أن مركز الكون كامن فيه غير مفارق أو متجاوز له، وأن العالم بأسره مكون من مادة واحدة، ليست لها قداسة ولا تحوي أية أسرار. وفي حالة حركة دائمة لا غاية لها ولا هدف ولا تكترث بالخصوصيات أو التفرد أو المطلقات أو الثوابت.

فلا يوجد فيها مجال لسوى حيز واحد هو الحيز الطبيعي/ المادي، ويتفرع عن هذه الرؤية منظومات معرفية، الحواس والواقع المادي مصدر المعرفة ... ويتفرع عنها:

- رؤية أخلاقية:

المعرفة المادية هي المصدر الوحيد للأخلاق، وبما أن المادة في حالة حركة دائمة، لا يوجد أية قيم أخلاقية ثابتة.

- ورؤية تاريخية:

فالتاريخ يتبع مسارا واحدا، وإن اتبع مسارات مختلفة، فإنه سيؤدي في نهاية الأمر إلى النقطة النهائية نفسها.

- ورؤية للإنسان:

فالإنسان جزء لا يتجزأ من طبيعة المادة، ليس له حدود مستقلة تفصله عنها، وهو كائن ليس له وعي مستقل خاضع للحتميات المادية المختلفة، غير قادر على التجاوز والاختيار الأخلاقي الحر، أي أنه يتم تفكيكه وتسويته بالكائنات الأخرى. فمرجعيته النهائية مادية كامنة، وهو إنسان يتم اختزاله إلى بعد واحد (البعد المادي).

 


(1) العلمانية تحت المجهر (109)، وزاد: ولكن هذا المسار يتجه في واقع الأمر نحو الغرب، فالنموذج الغربي في التنمية هو المثل الأعلى المطلوب احتذاؤه ... كل هذا يعني في واقع الأمر أن العلمنة هي شكل من أشكال التحديث والتغريب (التحديث في الإطار الغربي المادي) وكل هذا يتم تحت شعار العالمية والحياد والموضوعية.
(2) تزعم العلمانية متمثلة في أهم نزعاتها، اللبرالية والماركسية أن آراءها هي ثمرة تقدم العقل البشري وأنها النتاج العلمي والطبيعي أو الاجتماعي للعالم، وهو نتاج عالمي محايد، مجرد عن الأحكام القيمية والميتافيزيقية، لا يحمل بصمات ثقافية أو حضارة بعينها. العلمانية تحت المجهر (109).
(3) العلمانية تحت المجهر (121). والعلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة (197 - 220).

والحاصل كما يرى المسيري أن العلمانية الشاملة ليست مجرد فصل الدين عن الدولة، أو عما يسمى الحياة العامة، وإنما هي فصل لكل القيم الدينية والأخلاقية والإنسانية (المتجاوزة لقوانين الحركة المادية والحواس) عن العالم، أي عن كل الإنسان (في حياته العامة والخاصة) بحيث يصبح العالم مادة نسبية لا قداسة لها.

وعرف المسيري في ندوة لندن حول سقوط العلمانية والتحدي الإسلامي (يونيو 1994) بأنها فصل كل المطلقات الأخلاقية والمعرفية والإنسانية عن الدنيا، بحيث تصبح كل الأمور نسبية، والتعبير الفلسفي لذلك هو: إن العلمانية تعني أن العالم مكتف بذاته، وأنه يحوي داخله كل ماهو ضروري لإدراكه والإفادة منه، وأن عقل الإنسان قادر على فهم كامل للطبيعة وعلى تحقيق السيطرة التامة عليها، وهو قادر وحده على إدارة العالم وتأسيس نظمه المعرفية والأخلاقية، وليس بحاجة إلى أي شيء آخر خارج النظام الطبيعي المادي وفي هذه الحالة تصبح مرجعية الإنسان كامنة في ذاته (1).

من هنا ذهب المسيري إلى أن العلمانية الشاملة والامبريالية صنوان، لأسباب ذكرها في كتابه (2).

وأهم تلك الأسباب:


(1) المفترون (251).
(2) العلمانية تحت المجهر (124).

1 - الإنسان الغربي بدأ مشروعه التحديثي بالنزعة الإنسانية التي همشت الإله ووضعت الإنسان في مركز الكون، إلا أنها شأنها شأن أية فلسفة مادية ترى أن الإنسان هو إنسان طبيعي/ مادي، يضرب بجذوره في الطبيعة/ المادة، لا يعرف حدودا أو قيودا، ولا يلتزم بأية قيمة معرفية أو أخلاقية، فهو مرجعية ذاته، ولكنه في الوقت نفسه يتبع القانون الطبيعي ولا يلتزم سواه، ولا يمكن تجاوزه.

2 - إنه بدلا من مركزية الإنسان في الكون تظهر مركزية الإنسان الأبيض، وبدلا من الدفاع عن مصالح الجنس البشري بأسره يتم الدفاع عن مصالح الجنس الأبيض.

وبدلا من ثنائية الإنسان الطبيعية/ المادة، وتأكيد أسبقية الأول على الثاني، تظهر ثنائية الإنسان الأبيض في مقابل الطبيعة/ المادة وبقية البشر الآخرين، وتأكيد أسبقيته وأفضليته عليهم، وبدلا من الاحتكام للقيم الإنسانية تستخدم القوة ويصبح هم هذا الإنسان الأبيض هو غزو الطبيعة المادية والبشرية وحوسلتها (1) وتوظيفها لحسابه واستغلالها.

كل هذا دفع المسيري إلى القول بأن العلمانية الشاملة هي النظرية، والامبريالية هي الممارسة.

وقد تابعه على هذا الرأي الطعان في دراسته. ويؤكد ذلك أن العلمانية لما هيمنت على الحياة والمجتمعات والدول في القرن التاسع عشر سال لعابها على قهر المجتمعات والدول الضعيفة، فاكتسح العلمانيون والحداثيون دول أوروبا وآسيا وعاثوا فيها فسادا ونهبا وقتلا وتشريدا وتجويعا وإبادة جماعية. فالثورة الفرنسية مثلا التي نادت بالحرية والإخاء والمساواة هي التي أرسلت جيوشها الاستعمارية لقهر الآخر وإذلاله واستعباده.

إذن العلمانية فلسفة لها نظرة معينة للكون والإنسان والمستقبل.

لهذا وصف المفكر الأمريكي اليهودي العلمانية بأنها رؤية دينية، لأنها تحتوي على مقولات عن وضع الإنسان في الكون وعن مستقبله لا يمكن تسميتها علمية، ذلك لأنها مقولات ميتافيزيقية لاهوتية.

وفي هذا الدين (العلماني) يصنع الإنسان نفسه أو يخلقها (تأليه الإنسان) كما أن العالم ليس له معنى يتجاوز حدوده، وبوسع الإنسان أن يفهم الظواهر الطبيعية وأن يتحكم فيها وأن يوظفها بشكل رشيد لتحسين الوضع الإنساني (2).

وقد قارب فهمي هويدي تقسيم المسيري العلمانية إلى جزئية وشاملة، فقسمها إلى معتدلة ومتطرفة (3).

وعند هويدي العلمانيون المتطرفون ليسوا ضد الشريعة فحسب، بل ضد العقيدة أيضا، ولذا فهم يعتبرون الإسلام مشكلة يجب حلها بالانتهاء منها وتجفيف ينابيعها لاستئصالها.

وزعم أن المعتدلين ليس لديهم مشكلة مع العقيدة، فهم يعتبرون أن الدين الإسلامي حالة يمكن التعايش معها.


(1) أي: جعلها وسيلة.
(2) العلمانية تحت المجهر (244).
(3) المفترون (6 - 267 - 269 - 270) والعلمانية تحت المجهر والعلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة (122).
وقد أنكر عدد من العلمانيين وجود علمانية متطرفة، منهم أحمد عصيد. قدر العلمانية في العالم العربي (171).

ويرى هويدي ضرورة القبول بشرعية التيار المعتدل المتصالح مع الدين.

وادعى هويدي والمسيري أن التيار المعتدل قابل للتعايش والحوار بخلاف الآخر.

ولي وقفة تصحيحية مع هذا الرأي فيما بعد إن شاء الله، وإن تحمس له المسيري وحكاه المسيري عن القرضاوي والعوا وطه جابر العلواني وجماعة سماهم التيار الإسلامي الأساسي (1).

لكني أشير إشارة إلى ما يلي: هذه الدعوة التي أطلقها هويدي وآخرون لا تعدو أن تكون شعارا لإبداء حسن النوايا فقط، أو بالأحرى للتظاهر بمظهر الاعتدال والوسطية، أو طلب ود التيار العلماني ومغازلته، لسبب بسيط هو عدم وجود ما أسماه التيار المعتدل داخل العلمانية باعترافهم هم.

وإلا فليخبرنا مَنْ مِن رموز العلمانيين الكبار هو معتدل؟ هل القمني الذي يقول بتضمن القرآن للأساطير والخرافات ويسخر من أحكام الشريعة؟ أم أبو زيد الذي يقول بأن القرآن منتج ثقافي؟ أم حسن حنفي الذي هدم أصول الإسلام كلها باسم التجديد؟ أم أركون المشكك في القرآن والسنة؟ أم طيب تيزيني؟ أم فرج فودة؟ أم فؤاد زكريا؟ أم غيرهم؟ ثم على فرض وجود معتدل، فالجميع يقف في صف واحد وفي خندق واحد في السراء والضراء، ويناصر بعضهم بعضا. وكم من عرائض كتبها مختلف العلمانيين دفاعا عن القمني وأبي زيد وعشرات غيرهم.

وزعم عمارة أن الخلاف مع من سماهم تيار العلمانيين الوطنيين والقوميين خلاف في الفروع لا في الأصول، وبين أنهم من يرفضون تبني الدولة للإسلام (2).


(1) لا ندري ماذا يقصد بالأساسي؟ يعني هو ومن معه الأساسي وغيرهم من الإسلاميين ثانوي!.
(2) الحوار بين الإسلاميين والعلمانيين (14 - 15).

وزاد أن العلمانيين لابد أن يساهموا في نهضة الأمة (1).

وفي اعتقادي أن العلمانية المعتدلة أو الجزئية هي قنطرة العلمانية المتطرفة أو الشاملة (2).

وقد مرت العلمانية الغربية بهذا المسار.

وثانيا: لا توجد حدود فاصلة بين هذه وتلك، ونسأل هنا فهمي هويدي: وماذا إذا أنكرت العلمانية عقيدة واحدة لا العقيدة جملة، هل هي معتدلة تقبل التعايش أم متطرفة لا سبيل معها إلى التعايش معها.

وثالثا: الذي يعترض على كل أحكام الشريعة مثله من يعترض على قسم منها.

فما سموه بالتيار العلماني المعتدل لا يرى تحكيم الشريعة في السياسة ولا في الاقتصاد، وأي فرق بين هذا وبين من يلغي الشريعة جملة وتفصيلا.

وهذا علماني يؤكد على أنه لا توجد علمانية معتدلة وأخرى راديكالية وأن العلمانية شيء واحد، إما أن تؤخذ كاملة أو تترك كاملة، إنه شاكر النابلسي (3).

الخلاصة:

نخلص بعد هذا إلى استنتاج الأسس التي تقوم عليها العلمانية:

1 - الرؤية المادية، وإنكار كل ما وراء المادة.


(1) نفس المرجع (18).
(2) وقد مر مفهوم العلمانية بتطور مفاهيمي. انظر العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة (232).
(3) العلمانية مفاهيم ملتبسة (145).

2 - تنحية الغيب والميتافيزيقا.

3 - نزع القداسة عن المقدس.

4 - العقلانية المطلقة.

5 - النسبية المطلقة.

6 - فصل الدين عن الحياة، وإلغاؤه تماما من المنظومة المعرفية أو السلوكية (1).

من هنا يتضح أن العلمانية مذهب إلحادي. ولهذا فدائرة المعارف البريطانية لما ذكرت الإلحاد قسمته إلى قسمين:

1 - إلحاد نظري.

2 - وإلحاد عملي.

وذكرت الفلسفة العلمانية ضمن الإلحاد العملي (2).

ولما ناقش مجمع الفقه الإسلامي الدولي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي في دورته الحادية عشر بالمنامة في مملكة البحرين، من 25 - 30 رجب 1419هـ، الموافق 14 - 19 تشرين الأول (نوفمبر) 1998م. أصدر قرارا رقم: 99 (2/ 11) في قضية العلمانية جعلها مذهبا إلحاديا. ومما جاء فيه: إن العلمانية نظام وضعي يقوم على أساس من الإلحاد يناقض الإسلام في جملته وتفصيله، وتلتقي مع الصهيونية العالمية والدعوات الإباحية والهدامة، لهذا فهي مذهب إلحادي يأباه الله ورسوله والمؤمنون. انتهى.


(1) العلمانيون والقرآن (275).
(2) انظر العلمانية في الإسلام (14).

نعم قد يوجد من العلمانيين من ليس ملحدا نظريا، لكنه يقصي الدين والمفاهيم الدينية عن كل مجالات الحياة. لأن الدين في نظره كان تعبيرا زمنيا عن أوضاع اجتماعية معينة قبل تمكن العقل البشري من فهم آليات الكون وتفاعلاته المختلفة.

واتضح من خلال كل ما تقدم أن العلمانية ليست مجرد تحكيم العقل كما يدعي بعض العلمانيين (1)، بل هي منظومة فلسفية، لها رؤية للكون والمستقبل، ولهذا سمى أتباع روبرت أدين العلمانية بالدين العقلاني (2).

فالعلمانية كما قال بعض الباحثين لا تكتفي بتحرير الدولة أو الفضاء السياسي عامة من سيطرة الدين بقدر ما تعمل على إحلال دين علماني وثوقي محل الديانات القائمة، أي: فرض رؤية دهرية وغرس قيم وسلوكيات علمانية صلبة تحل محل التصورات والقيم الدينية بقوة الدولة وأجهزتها الإيديولوجية العنيفة.


(1) الإلحاد في الغرب لرمسيس عوض (251). نقلا عن العلمانيون والقرآن الكريم (128).
لكن المشكلة لا تكمن في استخدام العقل أو عدم استخدامه، وإنما في نوع العقل الذي يستخدم (عقل مادي أداتي أم عقل قادر على تجاوز المادة؟) وفي الإطار الكلي الذي يتحرك فيه هذا العقل والمرجعية النهائية التي تصدر عنه كما قال المسيري في العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة (287).
(2) في العلمانية والدين والديمقراطية (43 - 44).

وهي حسب المسيري: رؤية عقلانية مادية ترى العالم في إطار مرجعية مادية كامنة فيه، فالعالم يحوي داخله ما يكفي لتفسيره، والعقل قادر على استخلاص القوانين التي تلزمه لإدارة حياته (1). فليس في حاجة إلى قوى غيبية لإرشاده وهدايته.

وليست -كما يرى عزيز العظمة- واقعا تاريخيا موضوعيا وعالميا في آن (2). يريد أن يجعلها حتمية موضوعية وينفي تاريختها.

وفي ختام هذا المبحث هذا تعريف شامل حسب تصوري للعلمانية:

هي رؤية عقلانية مادية شاملة للإنسان والكون وفلسفة عامة للحياة تؤمن بقدرة العقل البشري المطلقة على فهم الطبيعة والسيطرة عليها، وتقوم على فصل كل الظواهر الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية عن القيم الدينية والأخلاقية، وإنكار كل ما وراء المادة وتنحية الغيب والميتافيزيقا ونزع القداسة عن المقدس.


(1) العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة (197).
(2) العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة (94).

  • الخميس PM 10:03
    2022-08-04
  • 1081
Powered by: GateGold