المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 414886
يتصفح الموقع حاليا : 236

البحث

البحث

عرض المادة

أسباب العلمانية

أقصد بالأسباب الشروط التاريخية التي تسببت في إفرازها ووجودها في العالم الغربي أولا، وفي نسختها الكربونية العربية، من أجل فهم منطقي ومعمق لحقيقتها ومدلولها المفاهيمي، ومن ثم موقف الإسلام منها.

فلابد من تتبع السياق التاريخي الذي ولدت فيه العلمانية في الغرب، ويتعين تقصي الملابسات التاريخية لنشأتها في إطار الحضارة الغربية المسيحية بجذورها الإغريقية الفلسفية، وتراثها الروماني القانوني، ودينها المسيحي.

وقد بحث هذا المبحث كثيرا في شقيه الغربي والعربي ولذلك فستكون مقاربتنا هنا ملخصا جامعا لتلك المطارحات، مع إضافات ملتقطة من هنا وهناك.

والمتفق عليه بين جل الباحثين بما فيهم كثير من العلمانيين أن العلمانية إفراز ثقافي فلسفي في ظل شروط تاريخية واجتماعية ودينية غربية مخالفة للسياق الذي وجدت-أو بالأحرى- أُوجدت فيه في العالم العربي.

فالعلمانية ظاهرة غربية محضة تاريخا وموطنا وأسبابا، لها شروط سياسية ودينية واجتماعية ولدتها وساهمت في تشكيلها وبررت وجودها، وجعلت من أوروبا حاضنا رسميا لها.

بل الأكثر من هذا فالمسيحية بحد ذاتها لإقرارها بترك ما لقيصر لقيصر وما لله لله هي العامل المركزي الذي ساهم في بروز العلمانية.

فمن رحم المسيحية المحرفة مذهبا وتاريخا خرجت العلمانية.

ويمكن إجمال الأسباب التي ساهمت في تشكلها في الغرب فيما يلي (1):

[1 - الطغيان الكنيسي]

يظهر هذا الطغيان من خلال العناصر التالية:

أولا: الطغيان الديني:

انفردت الكنيسة بادعاء الحق في التكلم باسم الله وحاربت كل فرق المسيحية المخالفة لها.

وكان رجال الدين المسيحيون في القرن السابع عشر الميلادي يدعون أنهم يحكمون بناء على أوامر ونواهي إلهية، وأن عندهم تفويضا إلهيا بذلك، وأن لهم اتصالا مباشرا مع الله، فسيطروا على الدولة وأصبحت تحت رحمتهم. وهذه هي الحكومة الدينية أو الحكومة التيوقراطية (2).


(1) أساليب الغزو الفكري للعالم الإسلامي (62) والشريعة الإسلامية والعلمانية الغربية (17) والعلمانية بين التحريف والتخريب (12) والعلمانيون والقرآن (51) والعلمانية لسفر الحوالي. وقد استفدت منها جميعا وخصوصا من كتاب سفر، وزدت عليه أشياء من المصادر التي ذكرت هنا، ومن مصادر أخرى سيأتي الإشارة إليها في حينه.
(2) ويوهم عدد من العلمانيين أن الإسلاميين يدعون إلى حكومة دينية شبيهة بما فعلت الكنيسة.
ولهذا يركزون على مصطلح الدولة الدينية بدل الدولة الإسلامية، والحكم الديني أو الإلهي بدل الحكم الإسلامي.
وقد تفطن جل الكتاب المحايدين والنزيهين إلى ذلك، وأن تشبيه رجال الكنيسة المتسلطين بعلماء الإسلام محاولة مكشوفة ومغالطة مفضوحة ..

وزاد رجال الكنيسة فادعوا لأنفسهم حقوقا لا يملكها إلا الله، مثل حق الغفران. فأصدروا صكوكا بذلك.

ثم أعقب ذلك محاكم التفتيش التي راح ضحيتها الملايين، والتي كانت مخصصة لكل مخالفي الكنيسة، بدأت أولا بالمسلمين الأندلسيين، ثم بباقي أتباع المسيحية المخالفين للكنيسة، ثم بالعلماء التجريبيين المخالفين لآراء الكنيسة.

وكان للكنيسة سجون تحت الأرض، بها غرف خاصة للتعذيب وآلات لتكسير العظام وسحق الجسم البشري. وكان الزبانية يبدؤون بسحق عظام الرجلين ثم عظام الصدر والرأس واليدين تدريجيا حتى يهشم الجسم كله.

في ظل هذه الأوضاع عاش الناس تحت الرعب والاضطهاد، ترتعد قلوبهم وترتجف أوصالهم عند ذكر الكنيسة.

ثانيا: الطغيان السياسي:

كان رجال الكنيسة يدعون أنهم الأحق بالسلطة السياسية، لأنها نظام إلهي يمثل الخلافة عن الله.

ولذلك كان البابوات هم الذين يتولون تنصيب الملوك وبإمكانهم خلعهم، ومن حق الكنيسة أن تعلن الحرب الصليبية.

وكان الملوك الأوروبيون يهابون البابا ويطلبون مرضاته (1).

ثالثا: الطغيان المالي:

كانت الكنيسة تحث أتباعها على القناعة والزهد والصوم والبعد عن الدنيا. في حين كان أساقفتها يملكون الإقطاعات الضخمة والأملاك الكثيرة والقصور الفارهة التي تصرف غالبها في شهواتهم وترفهم.

وزاد رجال الكنيسة ففرضوا عشورا على كل أتباعها، هذا فضلا عن الهبات والعطايا التي كانت تصلها من الأثرياء الإقطاعيين للتملق لها وضمان سكوتها. زيادة على ما كانت تجنيه من مواسمها ومهرجاناتها من أموال ضخمة.

إضافة إلى إرغام الكنيسة لأتباعها على العمل المجاني داخل أملاك الكنيسة وإقطاعاتها.

وهكذا تحولت الكنيسة بتحالفها مع قوى الإقطاع الظالمة إلى هيئة إقطاعية تحتها آلاف الهكتارات والثروات الهائلة، وأصبح هَمُّ رجال الدين الأساسي هو الثروة وتوسيع دائرة نفوذهم وتسلطهم على الشعوب.

2 - السبب الثاني: الصراع بين الكنيسة والعلم.

ترجع أسباب هذا الصراع إلى عدة أمور منها:

- تعصب رجال الكنيسة الذين اعتبروا أنفسهم المصدر الوحيد للمعرفة. فتدخلوا فيما ليس من اختصاصهم كالعلوم التجريبية البحتة وعلوم الفلك ونحوها.

إدخال رجال الكنيسة للمفاهيم الدينية نظريات مغلوطة عن الكون والطبيعة مستمدة من نظريات فلسفية قديمة أو من أقوال القديسين القدامى، كنظرية بطليموس التي تجعل الأرض مركز الكون وأن باقي الأجرام تدور حولها.


(1) وقد اعترف العلماني عادل الجندي بأن العلمانية كانت نتيجة صراع مؤسستي الحكم والدين في أوروبا. العلمانية مفاهيم ملتبسة (318).

كما كانت تعتبر نفسها المصدر الوحيد للمعلومات الطبية والفلكية وغيرها.

فلما جاء القرن السابع عشر بدأ الباحثون الأوروبيون في الجهر ببعض النظريات التي تخالف ما عليه الكنيسة، وكانت أول النظريات ظهورا نظرية كوبرنيك الفلكية في كتابه «حركات الأجرام السماوية» التي بين فيها أن الأرض تدور كما تدور باقي الكواكب.

فحرمت الكنيسة كتابه ومنعت تداوله.

ثم جاء بعده برونو فأكد نفس النظرية فقبضت عليه محكمة التفتيش وسجنته ست سنوات، فلما أصر على رأيه أحرقته سنة 1600 وذرت رماده في الهواء.

وبعده جاء جليلو فأكد نفس النظرية فقبض عليه وسجن حتى تراجع خوفا وهو راكع، ومما قال في تراجعه أمام المحكمة: أنا جليلو وقد بلغت السبعين من عمري سجين راكع أمام فخامتك، والكتاب المقدس أمامي ألمسه بيدي، أرفض وألعن وأحتقر القول الإلحادي الخاطئ بدوران الأرض (1).

وأي إلحاد في دوران الأرض أو عدمه؟ ولكن هكذا رأت الكنيسة، وهكذا أسست لنهايتها.

وحبست الكنيسة دي روفنيس لإثباته أن قوس قزح إنما هو انعكاس لضوء الشمس في نقط الماء، وليس قوسا حربيا بيد الله ينتقم به من عباده إذا أراد كما تقول الكنيسة. وضربت برنيلي لأنه قال: إن النجوم لا تقع. وسجنت هارفي لبرهنته أن الدم يجري في الجسم (2).

ومع انتشار البحث العلمي في أوروبا بدأت تهتز مكانة الكنيسة في النفوس، وبدأت مصداقيتها تتلاشى، وكثرت المناهج الفلسفية الداعية إلى المنهج العقلي التجريبي بدل أساطير الكنيسة.

وهكذا تتابعت أبحاث ديكارت وسبينوزا وجون لوك وغيرهم.

وكذلك قابلت نظرية نيوتن في الجاذبية التي بينت إمكان تفسير الظواهر الطبيعية اعتمادا على ربط بعضها ببعض دون حاجة إلى تدخل خارجي.

فحاربتها الكنيسة واعتبرت أن الأشياء لا تعمل بذاتها، ولكن عناية الله هي التي تسيرها.

ولم تفهم الكنيسة أنه لا منافاة بين كون الله فاعلا من جهة، وبين كون الأشياء لها أسباب طبيعية تؤثر فيها كما هو رأي أهل السنة والحديث، خلافا للجبرية والقدرية.

كل هذه الظروف وغيرها جعلت من الكنيسة عائقا كبيرا أمام التقدم والبحث العلمي والتطور. لذلك كان واجبا الحد من نشاط الكنيسة ومجال عملها، وفصلها التام عن مجمل الحياة العامة وأصبح جميع الأوروبيين مقتنعين بضرورة الحد من هيمنة الكنيسة وحبسها داخل جدرانها وإفساح المجال للبحث العلمي بالتحرر السياسي.

من رحم هذه الأوضاع جاءت فلسفة الأنوار العلمانية.


(1) العلمانية للحوالي (151) وملاك الحقيقة لمراد وهبة (24).
(2) العلمانية في الإسلام (30).

«جاء التنوير الأوربي فلسفة رافضة لتجاوز الكنيسة حدودها التي رسمها الإنجيل: خلاص الروح ومملكة السماء، ومدافعة عن النزعة الدنيوية [العلمانية] للفلسفة الأوربية وداعية إلى العقل الذي استبعدته الكنيسة والرأي الذي قهره اللاهوت، ومنادية بالتحرر من سلطة التقاليد الكنسية التي كانت سوقا تجارية راجت فيها مفاسد القساوسة والبابوات» (1).

لما اشتعلت الثورة الفرنسية وانتصرت على الإقطاعيين وحلفائهم، هنا تلقت الكنيسة الضربة القاضية.

فحلت الجمعيات الدينية وسرح الرهبان وصودرت أملاكهم، فكان نهاية هذا العهد البئيس.

[3 - السبب الثالث: طبيعة الدين المسيحي]

ألا غضاضة عند المسيحيين بما فيهم رجال الدين من الفصل بين الدين وشؤون الحياة، كما هو واضح من خلال ما جاء في الإنجيل المحرف عن عيسى عليه السلام: أعط ما لقيصر لقيصر وما لله لله.

فالعلمانية في نشأتها تتلاءم مع الديانة المسيحية، ولم تكن خارجة عنها أو منكرة لحقيقتها، بل هي من أركان الديانة المسيحية، حتى قال بولس: إن من يقاوم السلطة يقاوم إرادة الله ويستحق إدانة الكنيسة (2).

فالديانة المسيحية في حد ذاتها تحمل بذورا علمانية، ولهذا دعا البابا الحالي يوم 10/ 10/ 2010 في اجتماع له مع قساوسة الشرق الأوسط إلى تطبيق ما سماه: العلمانية الإيجابية، كما أذيع في حينه في القنوات الإخبارية، منها الجزيرة.

وإذا كانت المسيحية ممثلة في كنيستها والدولة ممثلة في الرئيس أو الملك في الغرب، فإن الفصل بين الدين المسيحي والدولة شيء منطقي وممكن، على اعتبار وجود كيانين منفصلين لكل منهما.


(1) الإسلام بين التنوير والتزوير (21).
(2) الإسلام لا العلمانية (10 - 11) وتهافت العلمانية (209).

أما في الإسلام حيث لا كهنوت ولا طبقة دينية خاصة بالدين، فالفصل إذن بين الدين والدولة يعني الفصل بين الدولة واللاشيء حسب محمد الشرفي (1).

وحيث إن الإسلام متغلغل في كل المستويات داخل الدولة اجتماعيا واقتصاديا وشعبيا وسياسيا، فالفصل يعني الفصل بين الدولة والدولة.

ب ليس في المسيحية تشريعات اقتصادية وسياسية واجتماعية وثقافية وغيرها.

تدور الأناجيل على مبادئ أخلاقية عامة ومواعظ. بخلاف الشريعة الإسلامية الصالحة والمُصلحة لكل زمان ومكان، ففيها تشريعات سياسية واقتصادية واجتماعية، ونظم لشؤون الأسرة وتحديد لكل من الرجل والمرأة حقوقهما وواجباتهما، وضبط المعاملات التجارية والبيع والشراء، ووضع للعقوبات حدودا معلومة وغير ذلك.

ولكي يكون الرجل مسيحيا فهو ملزم باعتقاد عقيدة المسيحية وبالذهاب يوم الأحد للكنيسة إن شاء وأن يحتفل بعيد الميلاد.

بينما في الإسلام فهو أمام منظومة متكاملة من التشريعات والأوامر والنواهي التي تحكم حياته كلها، منذ استيقاظه إلى نومه، تحكم اعتقاداته وأفعاله وبيعه وشرائه وعلاقاته وغير ذلك.

وقد اعترف أحد أعتى العلمانيين تطرفا وهو القمني في أهل الدين والديمقراطية (256) بأن المسيحية ليست لها شريعة سماوية إلا في معاني المحبة والسلام والتراحم الإنساني بخلاف الإسلام.


(1) الإسلام والحرية (206).

4 - السبب الرابع: الفصل بين الدين والدولة من سمات المسيحية حتى قبل انتشار العلمانية.

فقد كانت في أوروبا سلطتان: سلطة سياسية يمثلها الرئيس أو الملك وأعوانه، وسلطة دينية يترأسها البابا ويساعده الرهبان والراهبات والقساوسة والكردنالات وغيرهم من رجال الإكليروس. وكانت لها ميزانيتها وإقطاعها وثرواتها (1).

وحتى بعد العلمانية لا زالت هذه السلطة على حالها إلى عصرنا، فللفاتكان حكومة خاصة غير الحكومة السياسية، فالمسيحية منذ نشأتها ظلت دينا لا دولة، وشريعة محبة، لا تقدم للمجتمع مرجعية قانونية ولا نظاما للحكم، ورسالة مكرسة لخلاص الروح، تدع ما لقيصر لقيصر وما لله لله، وظلت رسالة كنيستها خاصة بمملكة السماء، لا شأن لها بسلطان الأرض وقوانين تنظيم الاجتماع البشري في السياسة والاجتماع والاقتصاد وعلومها ومعارفها، كما قال عمارة (2).

وزاد: «فلما حدث وتجاوزت الكنيسة حدود رسالة الروح ومملكة السماء فاغتصبت السلطة الزمنية أيضا، أضفت على الدنيا قداسة الدين، وثبتت متغيرات الاجتماع الإنساني ثبات الدين، فدخلت بالمجتمعات الأوروبية مرحلة الجمود والانحطاط وعصورها المظلمة .. » (3).


(1) الإسلام والعلمانية وجها لوجه (49).
(2) الشريعة الإسلامية والعلمانية الغربية (18).
(3) نفس المرجع (19).

هنا تفجرت فلسفة الأنوار العلمانية كحركة تصحيحية للدين المسيحي وإرجاعه لطبيعته الأولى الذي أخرجته الكنيسة منها بجعل ما لقيصر لقيصر وما لله لله.

«الأمر الذي جعل سجن الدين في الكنيسة وفي الضمير الفردي ثورة تصحيح ديني، وليس عدوانا على الدين» (1).

أما في تاريخنا الإسلامي فكانت هناك سلطة سياسية واحدة تستمد مشروعيتها من بيعة العلماء والفقهاء والكتاب والوجهاء.

وكان العلماء والقضاة جزءا من الشعب ومرجعا له في القضايا الاجتماعية والاقتصادية وغيرها في تناغم وتجانس تام.

ولم يعرف تاريخ الإسلام سلطة دينية من جهة وأخرى سياسية.

وعليه «من هذا يتضح لنا أن نظام لا دينية الدولة إذا كان ينسجم مع المسيحية، ولا يقضي على سلطتها، وإنما يحدد اختصاصاتها بالنسبة للسلطة الدنيوية، فإن هذا النظام يتعارض تماما مع طبيعة الإسلام، ويكون خطرا مباشرا عليه كشريعة كاملة للحياة، ويعطل أجهزته المتحركة عن القيام بوظيفتها ويُحيله بالتالي إلى عاطفة وجدانية نائمة في قلوب الناس» (2).

5 - السبب الخامس: الحروب الدينية.

«العلمانية لم تكن نتاج مطارحات فكرية هادئة أو مجرد تعبير عن رغبة مزاجية عنت لبعض الأفراد أو المجموعات الفكرية والسياسية، بقدر ما كانت عبارة عن حل عملي فرضته أجواء الحروب الدينية التي شقت عموم القارة الأوروبية في القرنين السادس والسابع عشر.


(1) نفس المرجع (20).
(2) الإسلام والعلمانية وجها لوجه (50).

فالعلمانية كانت في صورتها العامة عبارة عن تسويات تاريخية فرضتها أجواء الحروب الدينية، مما جعل من غير الممكن استمرار الوضع على ما هو عليه، أو العودة به إلى ما قبل مرحلة الحروب الدينية» (1).

أدارت الكنيسة البابوية حروبا دائمة ولا هوادة فيها ضد من أسمتهم هراطقة الداخل وضد وثنيي وكفرة الخارج (2).

مرت أوروبا على امتداد (130) سنة (1559 - 1689) أي منذ ظهور الحركة البروتستانتية في الشمال الأوروبي ثم محاولة امتدادها نحو الوسط، بحالة واسعة من الاضطرابات السياسية والحروب الدينية المفزعة (3).

لذلك وفي ظل هذا الجو القاسي المفزع كان لابد من الخلاص من هذا الكابوس المرعب.

في حين كان الإسلام عامل راحة وطمأنينة لجميع المسلمين، ولم يَقُد رجال الدين فيه حروبا دينية، ولم تعش البلاد الإسلامية رعبا باسم الإسلام.

والحاصل أن العلمانية الأوروبية كانت رد فعل لصكوك الغفران والحرمان والطغيان الكنسي ومظالم الحكومة الدينية المتحدثة باسم الله، والتي اعتبرت كل ما لم يرضه رجال الكنيسة مخالفا للإرادة الإلهية (4).

وكانت ردة فعل للحروب الدينية التي أفزعت أوروبا وأقلقت راحتها.

وقد اعترف جمع من العلمانيين بأن العلمانية نبت غربي محض، خارج إطار التطور الطبيعي لبلادنا الإسلامية:


(1) في العلمانية والدين والديمقراطية (26).
(2) نفس المرجع (27).
(3) نفس المرجع (27).
(4) انظر تهافت العلمانية في الصحافة العربية (74).

منهم العلماني التونسي المتطرف عبد المجيد الشرفي، وهذه عبارته: إن العلمانية قد ظهرت أول ما ظهرت في المجتمعات المخالفة لنا في الدين ولم تنشأ من رحم مجتمعاتنا ومن تطورها الذاتي (1).

واعترف شريف حتاتة أن العلمانية في الغرب نتجت من خلال الصراع بين الرأسمالية الناشئة والإقطاع المدعوم من طرف الكنيسة الكاثوليكية، وأن هذا الصراع لم يحدث في البلدان العربية (2).

وهذا علماني راديكالي آخر يقر بأن العلمانية ولدت في سياق آخر وتاريخ آخر غير تاريخ الشعوب الإسلامية، وأنها إنتاج غربي تم فرضه مع الاستعمار. إنه محمد أركون (3). وهذا اعتراف هام.

وهذه علمانية بنت أحد علماء السوء الذين استغفلهم الغرب وصنعهم بيده فباعوا دينهم بدنياهم: إنها ماجدة بنت رفاعة الطهطاوي.

فحسب ماجدة فإن العلمانية دخلت مع الاستعمار (4). بل زادت المسألة إيضاحا فأقرت أنها نتيجة لتحولات تاريخية، كما حدث في أوروبا، لكنها ظهرت إما كنتيجة لقرارات علوية، وإما كاستجابة للضغوط الخارجية أو الاثنين معا، لذلك لم يكن لها مرتكزات اجتماعية في داخل المجتمعات العربية (5).


(1) العلمانية مفاهيم ملتبسة (129).
(2) نفس المرجع (103 - 104).
(3) قضايا في نقد العقل الديني (212).
(4) العلمانية مفاهيم ملتبسة (327 - 328) وقدر العلمانية في العالم العربي (141).
(5) نفس المرجع (328) وقدر العلمانية في العالم العربي (141).

بل زادت الاعتراف اعترافا فقالت: وإنما جاءت نتيجة عدوان خارجي وإخضاع المجتمعات العربية لاحتياجات التراكم الرأسمالي في المركز الأوروبي المسيطر (1).

وأكد محمد سبيلا العلماني المغربي على التميز الواضح بين الحالة الغربية والحالة العربية وأن بلادنا لم تعش حروبا طاحنة بين الفرق الدينية التي جاءت العلمانية حلا لمشاكلها. بينما لم نشاهد هذه الظاهرة في العالم العربي والإسلامي. ولم يظهر كهنوت متحالف مع الإقطاع (2).

ووضَّح سبيلا أنه لا يجد أي حرج عندما يقول: إن المجتمع العربي الإسلامي غير مستعد الآن لطرح إشكالية علمنة المجتمع (3).

وغنى العلماني المغربي أحمد عصيد خارج السرب وقفز فوق الحقائق، ضاربا عرض الحائط للثوابت التاريخية أن العلمانية جاءت مع الاستعمار فزعم أن العلمانية هي سيرورة تاريخية من داخل المجتمعات العربية واستشهد بأن أجداده الأمازيغ رغم أنهم كانوا ينصبون إماما للصلاة، ففي شؤونهم الدنيوية كانوا يحتكمون إلى أعرافهم وعقولهم وقوانينهم الخاصة (4).

وأنا على يقين أنه هو نفسه يعلم أن هذا كذب وتزوير للتاريخ، فلا زال المغاربة بشتى أطيافهم يحتكمون إلى شريعة الإسلام طيلة حكم الدول الإسلامية التي تعاقبت على المغرب إلى أن جاء المستعمر.

وسنعود لهذه (العصيدة) التي ادعاها عصيد في رسالة مفردة نفند فيها مزاعمه ومزاعم غيره في هذا الباب.

ولكننا نهمس الآن في أذنه بهمستين:

الأولى: ولماذا وجد الظهير البربري إذن؟ ولماذا قاومه المغاربة جميعا؟ أليس لأنه أراد التفريق بين العرب والأمازيغ في الحكم وأن الشريعة خاصة بالعرب، بينما يحتكم البربر إلى قوانين خاصة، فثار المغاربة جميعا عربهم وبربرهم ضد العلمانية الاستعمارية وسياستها. فلو لم يكن الأمازيغ يحكمون بالشريعة لما ثاروا ضد الوافد الجديد.

أليست هذه (العصيدة) امتدادا لتلك السياسة الاستعمارية؟

والثانية: يكفي عصيد أن يراجع ما قاله عدد من رفاقه في مفاهيمهم الملتبسة، في تنصيصهم على دخول العلمانية مع الاستعمار، وقد نقلت له أقوالهم، وأزيد هنا نقلا واحدا لشاكر النابلسي الذي يمارس نوعا من الدعارة الفكرية، فكتب يمتن للمستعمر الغازي الذي أنقذه من الشريعة بفرض العلمانية، بما في ذلك غزو بوش للعراق، الذي اعتبره فتحا مجيدا.

قال: العلمانية العربية لم تفشل، بل على العكس من ذلك فمنذ مطلع القرن العشرين وبفضل الاستعمار البريطاني والفرنسي للمنطقة العربية، تم تبني العلمانية الاقتصادية أو البنوك الربوية، وفصل الدين عن الاقتصاد، وكذلك بفضل هذين الاستعمارين تم تبني العلمانية في السياسة ... وتم جزئيا فصل الدين عن الدولة ولم يبق من الدين في الدولة والدستور غير نص (دين الدولة الإسلام) وهو نص غبي لا يعني شيئا وقد وُضع تَرْضِية للمؤسسات الدينية في العالم العربي، فالدولة العربية الحديثة لا علاقة لها بالإسلام (5).

وزاد: وأعتقد أن فتح بغداد المجيد في التاسع من أبريل 2003 كان نقطة تحول كبرى تجاه المزيد من العلمانية في العالم العربي. وهو أبعد أثرا من حملة نابليون على مصر (1798)، التي أدخلت عصر الأنوار والعلمانية إلى العالم العربي من البوابة المصرية (6).

فتح بغداد المجيد!!؟؟

فما رأي عصيد؟


(1) العلمانية مفاهيم ملتبسة (329).
(2) نفس المرجع (228).
(3) نفس المرجع (231) وقدر العلمانية في العالم العربي (45).
(4) العلمانية مفاهيم ملتبسة وقدر العلمانية في العالم العربي (149).

(5) العلمانية مفاهيم ملتبسة (137).
(6) نفس المرجع (138).

  • الخميس PM 03:53
    2022-08-04
  • 986
Powered by: GateGold