ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ
شٌبهات وردود
المكتبة المرئية
خَــيْـرُ جَــلـيـسٌ
المتواجدون الآن
حرس الحدود
مجتمع المبدعين
البحث
عرض المادة
ذِكرُ الأَدلَّة وَمُنَاقَشَتُهَا حول الادعاء برؤية النبي -صلى الله عليه وسلم- يقظة بعد موته، في الدنيا
ذِكرُ أَدلَّتِهِمْ وَمُنَاقَشَتُهَا:
الدَّلِيلُ الأَوَّلُ:
يستدل التجانيون على إمكان رؤية النبي -صلى الله عليه وسلم- يَقَظَةً بعد موته في الدنيا بما رواه أبو هريرة -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول: "مَنْ رآني فِي الْمَنَامِ فَسَيَرَاني فِي اليَقَظَةِ، وَلَا يَتَمَثَّلُ الشَّيْطَانُ بِي" (1)، قالوا: فالحديث صريح في رؤية النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- يَقَظَةً بعد موته في الدنيا، قال ابن أبي جمرة: "ودعوى الخصوص بغير مخصِّص منه -عليه السلام- تَعَسُّفٌ" (2).
ومناقشة هذا الاستدلال من وجوه:
الأول: من حيث لفظ الرواية:
(1) جاء الحديث من عدة طرق عن أبي هريرة إحداهن باللفظ المذكور آنفًا:
"من رآني في المنام فسيراني في اليقظة، ولا يتمثل الشيطان بي"، وأما سائر الطرق:
ففي إحداهن: "ومَن رآني في المنام فقد رآني، فإن الشيطان لا يتمثل صورتي" (3).
وفي الثانية: "من رآني في المنام فقد رآني، فإن الشيطان لا يتمثل بي" (4).
(1) رواه البخاري (12/ 383 - فتح)، رقم (6993)، واللفظ له، ومسلم (15/ 26 - شرح النووي)، وأبو داود (13/ 366 - عون).
(2) "رماح حزب الرحيم" (1/ 205).
(3) رواه من طريق أبي صالح ذكوان السمان عن أبي هريرة -رضي الله عنه- مرفوعًا: البخاري رقم (6197)، والإمام أحمد (1/ 400)، (2/ 463).
(4) رواه من طريق محمد بن سيرين عن أبي هريرة -رضي الله عنه- مرفوعًا: مسلم في "صحيحه" (15/ 24 - نووي)، والإمام أحمد (2/ 411، 472).
والثالثة (1) الرابعة (2) مثل الثانية.
وفي الخامسة: "من رآني في المنام فقد رأى الحق، فإن الشيطان لا يتشبه بي" (3).
وفي رواية بالشك: "من رآني في المنام فسيراني في اليقظة، أو: فكأنما رآني في اليقظة، لا يتمثل الشيطان بي" (4).
(ب) وقد جاء الحديث عن جمع من الصحابة -رضي اللَّه عنهم- غير أبي هريرة -رضي اللَّه عنه- وألفاظها جميعًا متقاربة لكنها تخالف الرواية المشكِلة بلفظ: "فسيراني في اليقظة، وهاك بيانها:
اللفظ الأول:
رواه أنس بن مالك، وجابر بن عبد اللَّه، وأبو سعيد الخدري، وابن عباس، وابن مسعود، وأبو جحيفة -رضي اللَّه عنهم- مرفوعًا: "من رآني في المنام فقد رآني" (5).
اللفظ الثاني:
رواه أبو قتادة، وأبو سعيد الخدري -رضي اللَّه عنهما- مرفوعًا: "من رآني فقد رأى الحق" (6).
(1) رواه من طريق العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة -رضي الله عنه- مرفوعًا: ابن ماجه رقم (3901).
(2) رواه من طريق عاصم بن كليب عن أبيه عن أبي هريرة -رضي الله عنه- مرفوعًا: الإمام أحمد (2/ 232، 342).
(3) رواه من طريق محمد بن عمرو بن علقمة الليثي عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف عن أبي هريرة -رضي الله عنه- مرفوعًا: الإمام أحمد (2/ 261).
(4) رواه من طريق محمد بن شهاب الزهري عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف عن أبي هريرة -رضي
الله عنه- مرفوعًا: الإمام أحمد (5/ 306)، وقد اختُلف على الزهري في لفظ الحديث.
(5) انظر: "صحيح البخاري" رقم (6994)، و"سنن ابن ماجه" رقم (3902)، (3903)، (3905)، و "سنن الترمذي" (3/ 238)، (3904).
(6) انظر: "صحيح البخاري" رقم (6996)، (6997)، و"صحيح مسلم" (15/ 26 - نووي).
اللفظ الثالث:
رواه جابر -رضي اللَّه عنه- مرفوعًا: "من رآني في النوم فقد رآني". فظهر من هذين الوجهين أن الرواية التي استدل بها القوم جاءت مخالفة لجميع ألفاظ مَن روى هذا الحديث مِن أصحاب أبي هريرة عنه -رضي اللَّه عنه-، بل جاءت مخالفة لجميع ألفاظ مَن روى هذا الحديث مِن أصحاب النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-.
الوجه الثاني:
ونتيجة لهذا الاختلاف حكم العلماء بأن لفظ: "فسيراني في اليقظة" مشكل، ومِن ثَمَّ أخذوا يتأولونه، ويذكرون له أجوبة كي يتوافق مع روايات الجمهور، وأولوه على عدة تأويلات على النحو التالي:
1 - قال ابن التين: "المراد به من آمن به في حياته ولم يره؛ لكونه حينئذ غائبًا عنه (1)، فيكون بهذا مُبَشِّرًا لكل من آمن به، ولم يره، أنه لا بد أن يراه في اليقظة قبل موته (2)، والمعنى: أن اللَّه سيوفقه للهجرة إليه، والتشرف بلقائه في حياته، ويكون اللَّه -تَعَالَى- جعل رؤيته في المنام علامة على رؤياه في اليقظة.
ب- وقال ابن بَطَّالٍ: معناه: سيرى تأويل تلك الرؤيا في اليقظة وصحتها، وخروجها على الوجه الحق (3).
جـ- وقيل: إنه على التشبيه والتمثيل، ويدل على ذلك قوله في الرواية الثانية: "فَكَأَنَّمَا رَآنِي فِي الْيَقَظَةِ" (4).
(1) أي لأنه لم يكن هاجر في حياة النبي -صلى الله عليه وسلم-.
(2) "فتح الباري" (12/ 385).
(3) "نفس المرجع" (12/ 385)، "شرح المواهب اللدنية" للزرقاني (5/ 293).
(4) "نفسه" (12/ 385).
د- وقيل المعني أنه يراه يَقَظَة في الآخرة، وفي هذا بِشَارَةٌ لرائيه بأن يموت مسلمًا؛ لأنه لا يراه تلك الرؤية الخاصة باعتبار القرب إلا من تَحَقَّقَ موته على الإسلام.
هـ- أنه يراه في المرآة التي كانت له إن أمكنه ذلك، وهو قول ابن أبي جمرة، قال في "الفتح": "وهذا من أبعد المحامل" (1).
و- أنه يراه حقيقة في الدنيا، ويخاطبه (2).
وهذا الاحتمال الأخير باطل، كما بينه:
الوجهُ الثالثُ: ذِكر الأدلة النقلية على استحالة وقوع ذلك شرعًا:
إن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قد مات؛ فادعاء حياته بعد موته -صلى الله عليه وسلم- قبل يوم القيامة مستحيلٌ شرعًا؛ لأنه يلزم منه مخالفته لقوله -تَعالَى-: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر: 30].
وقال الألوسي -رحمه اللَّه تعالى-: "ويكفي في إبطال هذا القول قولُه تعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} [الزمر: 42]، فإذا أمسك التي قضى عليها فمن أين لها التمكن من التصرف؟ ومن أين لأحدٍ أن يراها؟ " (3).
وقال الصنعاني -رحمه الله - تعالى-:
"والآيات القرآنية، والأحاديث النبوية، والمعلوم من الضرورة الدينية، أنَّ من وَارَاهُ القبر لا يخرج منه إلا في المحشر، قال اللَّه -تَعَالَى-: {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى} [طه: 55]، ولم يقل: تَارَاتٍ أُخَرَ، وقال -تَعَالَى-: {ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ (21) ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ (22)} [عبس: 21، 22]، وقال الله -تَعَالَى-: {أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لَا يَرْجِعُونَ} [يس: 31].
(1) "نفسه" (12/ 385).
(2) "نفسه" (12/ 385).
(3) "غاية الأماني في الرد على النبهاني" (1/ 52).
وأما الأحاديث النبوية فإنها متواترة: أن من أُدْخِلَ قبره لا يخرج منه إلا عند النفخة الثانية في الصور ... وبالجملة، فالقول بخروج الميت من قبره، وبروزه بشخصه لقضاء أغراض الأحياء - قوله مخالف للعقل والنقل" (1).
ولا يَرِدُ على ذلك أن الأنبياء أحياء في قبورهم، وكذلك الشهداء، ولا ما ورد عن النبي -صلى الله عليه وسلم- من أنه تُرَدُّ عليه روحه حتى يَرُدَّ السلام على من سَلَّمَ عليه (2)، فإن تلك حياة برزخية تختلف عن هذه الحياة؛ ولذا يُقْتَصَرُ في شأنها على ما ورد في النصوص، ثم إنه يلزم من ذلك: أن يُطَالَبُوا بالتكاليف، وأن يخرجوا ليجاهدوا أعداء الله، واللازم باطل، وإذا بطل اللازم بطل الملزوم.
إذن لم يثبت بدليل شرعي حصولُ رؤية النبي -صلى الله عليه وسلم- يقظة بعد موته -صلى اللَّه عليه وسلم-، بل الأدلة تدل على استحالة ذلك شرعًا، وغاية ما دلت عليه النصوص إمكانية الرؤيا المنامية، ورواية الجمهور للحديث المذكور في صدر الكلام تؤكد ترجيح ألفاظها على اللفظ المشكل الذي فيه: "من رآني في المنام فسيراني في اليقظة" (3)، فهذه الرواية فيها تعليق الجواب على الشرط، وذلك يستلزم أن من رآه -صلى اللَّه عليه وسلم- في المنام يراه في اليقظة، وهذا مخالف للحس والواقع، فقد رآه -صَلَّى الله عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ- جمعٌ كثير من سلف الأمة وخَلفها في المنام، ولم يذكر أحد منهم أنه رآه -صلى الله عليه وسلم- في اليقظة بعد انتقاله إلى الرفيق الأعلى، ومعلوم أن خبر الصادق المصدوق -صلى الله عليه وسلم- لا يتخلف أبدًا (4)، فدل هذا على مرجوحية اللفظ المشكِل ووجوب تأويله.
(1) "الإنصاف في حقيقة الأولياء وما لهم من الكرامات والألطاف" للصنعاني ص (51).
(2) رواه أبو داود، وسكت عنه "سنن أبي داود" (6/ 26 - عون)، والإمام أحمد في "مسنده" (2/ 527)، وصحح ابن القيم إسناده، كما في "عون المعبود" (6/ 30).
(3) انظر: تخريجه ص (134) هامش (1).
(4) انظر: "فتح الباري" (12/ 385).
الوَجْهُ الرابع: الدليل العقلي على استحالة وقوع ذلك:
قال القرطبي -رحمه الله-: "اختُلِف في معنى الحديث، فقال قوم: هو على ظاهره، فمن رآه في النوم رأى حقيقته كمن رآه في اليقظة سواء، وهذا قولٌ يُدرَك فسادُه بأوائل العقول، ويلزم عليه: أن لا يراه أحد إلا على صورته التي مات عليها.
- وأن لا يراه رائيان في آنٍ واحدٍ في مكانين.
- وأن يحيا الآن، ويخرج من قبره، ويمشي في الأسواق، ويخاطب الناس، ويخاطبوه، ويلزم من ذلك أن يخلو قبره من جسده، فلا يبقى في قبره منه شيء، فَيُزَارُ مجردُ القبر، ويُسلَّمُ على غائب؛ لأنه جائز أن يُرَى في الليل والنهار، مع اتصال الأوقات على حقيقته في غير قبره، وهذه جهالات لا يلتزم بها من له أدنى مُسْكَةٍ من عقل" (1).
واعتُرِض على هذا بأن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- يمكن أن يراه شخصان في مكانين مختلفين في وقت واحد، كما تُرى الشمس أو القمر في أماكنَ متعددةٍ في آنٍ واحدٍ من جماعة كثيرين، وأنشد بعضهم:
كالشمس في كبد السماء وضوءها ... يغشى البلادَ مشارِقًا ومغاربا (2)
وأجيب عن هذا الاعتراض بأن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- بَشَرٌ كان يأكل الطعام، ويمشي في الأسواق، ولم يكن له حجم الشمس وارتفاعها، حتى يمكن أن يراه جمع كثير في وقت واحد، ثم إن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- إذا كان في بيته لا يراه إلا من كان معه في البيت، دون من كان خارجه، وكذلك الشمس؛ فإنها لو رُؤِيَتْ فرضًا داخل بيتٍ في جرْمِها، لاستحال رؤية جرمها في بيت آخر (3).
(1) "شرح الزرقاني على المواهب اللدنية" (5/ 293).
(2) "غاية الأماني" (1/ 52).
(3) "شرح الزرقاني" (5/ 295).
3 - أنه على فرض صحة هذا الاحتمال لا يليق بعالم بَلْهَ غيره أن يصرف هذا الدليل إلى هذا الاحتمال: لأن من القواعد الأصولية أن الدَّليلِ إذَا تَطَرَّقَ إِلَيهِ الاحْتِمَالُ بَطَلَ بِهِ الاسْتِدْلَالُ، فكيف إذا كان هذا الاحتمال ينقضه نفسُ الحديث، ويرده الشرع والعقل؟!
4 - ما نقلوه عن ابن أبي جمرة من قوله: "ومن يدعي الخصوص فيه بغير مخصص منه -عليه السلام- فمتعسف".
مردود بأن الحديث ليس نصًّا صريحًا في رؤية النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- يقظة بعد موته في الدنيا، ولا في الآخرة، فتخصيصه بالدنيا بغير مخصص تعسف -أيضًا- لكن لما كان تأويله برؤية النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- يقظة بعد موته في الدنيا مخالفًا للشرع والعقل؛ حمله جمهور العلماء على رؤية النبي -صلى الله عليه وسلم- يقظة في الآخرة، واللَّه أعلم.
الوجه الخامس: اضطراب مقالات القوم في كيفية الرؤية:
(فلما اشتد الإنكارعلى هؤلاء القائلين برؤيته -صلى اللَّه عليه وسلم- في الدنيا بعد وفاته يقظة لا منامًا، اضطربت مقالاتهم في كيفية تلك الرؤيا، فمنهم من أخذته العزة بالإثم فنفى الموت عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- بالكلية، وزعم أن موته -صلى الله عليه وسلم- هو تستره عمن لا يفقه عن اللَّه (1).
- ومنهم من زعم أنه -صلى اللَّه عليه وسلم- يحضر كل مجلس أو مكان أراد بجسده وروحه ويسير حيث شاء في أقطار الأرض في الملكوت، وهو بهيئته التي كان عليها قبل وفاته (2).
(1) كما حكاه الشعراني عن أبي المواهب الشاذلي، وقد تقدم نقله ص (131).
(2) "رماح حزب الرحيم" (1/ 210).
- ومنهم من زعم أن له -صلى اللَّه عليه وسلم- مقدرة على التشكل والظهور في صور مشايخ الصوفية (1).
وفريق لان بعض الشيء:
- فمنهم من زعم أن المراد برؤيته كذلك يقظة القلب لا يقظة الحواس الجمسانية (2).
- ومنهم من قال إن الاجتماع بالنبي -صلى اللَّه عليه وسلم- يكون في حالة بين النائم واليقظان (3).
- ومنهم من قال إن الذي يُرى هي روحه -صلى اللَّه عليه وسلم- (4).
وعليه؛ فبعد أن ظهر تفرد تلك الرواية التي استدل بها القوم عن روايات الجمهور، وتلك الاحتمالات التي تأولها أهل العلم في المراد بمعناها، وتلك الإشكالات والإنكارات التي وردت على المعنى الذي قصده القوم، واضطراب مقالاتهم في كيفية نلك الرؤيا، بكل ذلك يسقط استدلالهم بها، والقاعدة المشهورة في ذلك: إذا ورد على الدليل الاحتمال بطل به الاستدلال) (5).
(1) "الإنسان الكامل" لعبد الكريم الجيلي (2/ 74، 75)، وانظر: "الفكر الصوفي في ضوء الكتاب والسنة" ص (149 - 171).
(2) نقله الشعراني في "الطبقات الكبرى" عن محمد المغربي الشاذلي.
(3) ذكره الشعراني في "الطبقات الصغرى" ص (89).
(4) "الذخائر المحمدية" لمحمد علوي المالكي ص (259).
(5) بنصه من: "خصائص المصطفى -صلى الله عليه وسلم- بين الغلو والجفاء" للدكتور الصادق بن محمد بن إبراهيم ص (191، 192).
الدليل الثَّاني للتِّجانية:
- قال في "رماح حزب الرحيم": "إن رؤية النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- داخلة تحت قدرة اللَّه -تَعَالَى- فالمنكِر لها منكِرٌ لقدرة اللَّه على ذلك، ومن أنكر قدرة اللَّه؛ فقد كفر، واللَّه -سبحانه وتعالى- الذي أحيا الميت ببعض البقرة: {فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا} [البقرة: 73]، والذي جعل دعاء إبراهيم سببًا لإحياء الطيور: {ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا} [البقرة: 260]، وجعل تعجب العُزَيْرِ سببًا لموته وموت حماره، ثم لإحيائهما بعد مئة سنة، قادر على أن يجعل رؤيته -صلى اللَّه عليه وسلم- في النوم سببًا لرؤيته في اليقظة" (1). اهـ ملخصًا.
وقال محمد الحافظ التجاني (2): "وأصل الاجتماع الروحي اجتماع النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- ليلة الإسراء بالأنبياء -عليهم السلام- وهم في الدار الآخرة، وكان الكليم سيدنا موسى -عليه السلام- سببًا في تخفيف الصلوات عن هذه الأمة، وهو في الدار الآخرة، وصح أن سيدنا أبا بكر الصديق -رضي الله عنه- أنفذ وصية ثابت بن قيس بن شماس، وقد أوصى بها بعد استشهاده" (3).
فقد أخرج الحاكم في "المستدرك" عن ثابت عن أنس: "أن ثابت بن قيس جاء يوم اليمامة، وقد تحنط، ولبس أكفانه، وقد انهزم أصحابه، وقال: (اللهم إني أبرأ إليك مما جاء به هؤلاء، وأعتذر إليك مما صنع هؤلاء، فبئس ما عودتم أقرانكم، خلوا بيننا وبين أقراننا ساعة)، ثم حَمَلَ فقاتل ساعة، فقُتل، وكانت درعه قد سُرقت، فرآه رجل فيما يرى النائم، فقال: إن درعي في قِدْرٍ تحت إكافٍ (4) بمكان كذا وكذا، وأوصى بوصايا، فطُلِب الدرع، فوُجِدَ حيث قال، فأنفذوا وصيته" (5).
(1) "رماح حزب الرحيم" (1/ 205).
(2) محمد بن عبد اللطيف بن سالم الشريف الحسني التِّجاني المصري (ت 1398 هـ) من أشهر دعاة
التجانية، ترك مؤلفات كثيرة، وكان مهتمًّا بعلوم الحديث الشريف، وقد أسس مجلة "طريق الحق"
الناطقة بلسان التجانيين سنة (1370 هـ - 1950 م).
(3) انظر الجواب عنه في "الموافقات" (2/ 457) وما بعدها، وراجع هنا ص (69)، (85).
(4) الإكاف: البَرْذَعة.
(5) رواه الحاكم في "المستدرك" (3/ 235)، وقال: "صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي، وقال الهيثمي في "المجمع": "ورواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح" (9/ 322)، وانظر ص (69).
وعن مسلم أبي سعيد مولي عثمان بن عفان أن عثمان -رضي اللَّه عنه- أعتق عشرين عبدًا مملوكًا، ودعا بسراويل، فشدها عليه -ولم يلبسها في جاهلية ولا إسلام- وقال: "إني رأيت رسول الله -صلى اللَّه عليه وسلم- البارحة في المنام، وأبا بكر، وعمر، فقالوا لي: اصبر! فإنك تفطر عندنا القابلة"، ثم دعا بمصحف فنشره بين يديه فَقُتِلَ، وهو بين يديه (1).
وقال محمد الحافظ: "وهذا يثبت أن روح الحي تجتمع بأرواح الأموات في النوم، والذي يجمعهم في النوم يجمعهم في اليقظة، والجميع في العلم تحت سلطانه".
[- المناقشة]
ليس كلُّ مُمكنٍ يقعُ في الوجود
1 - إن هذا الرد يلزمنا لو كنا نستدل على عدم إمكان الرؤية يقظة باستبعاد القدرة على ذلك، معاذ اللَّه! والذين ينكرون رؤية النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- يقظة بعد موته في الدنيا هم مِن أعلم الناس بقدرة الله -تَعَالَى-: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا} [فاطر: 44]، فالله -تَعَالَى- قادر على أن يجعل عباده كلَّهم مؤمنين: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [يونس: 99]، كما أنه قادر على أن يجعل المبتدع سنيًّا ملتزمًا، ولكن هكذا شاء اللَّه -عزَّ وجلَّ-: {وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [السجدة: 13].
فمن اعتقد أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- لا يُرى يقظة بعد موته في
الدنيا، فقد بنى ذلك على أن هذه المسألة من المسائل الاعتقادية -لا أنه منكر لقدرة الله- والأصل في الأمور الاعتقادية الحظر، حتى يرد دليل يرفع هذا الحظر، وليس هناك دليل شرعي معتبر يرفع هذا الحظر، بل دلَّ الشرع والعقل على خلاف ذلك.
2 - إن قدرة اللَّه -تَعَالَى- متعلقة بكل شيء؛ إذ هو القادر على كل شيء -سبحانه- فلا تلازمَ إذن بين قدرة اللَّه -تَعَالَى- وبين رؤية النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- يقظة بعد موته في الدنيا؛ إذ لو قلنا بذلك، للزم من هذا القولِ إباحةُ جميع المحرمات، وتحريمُ جميع المباحات، وإلغاء جميع الشرائع، وإفساد العباد والبلاد؛ لأنَّ اللَّه قادر على ذلك جميعًا، فمن الممكن أن نبيح الفاحشة؛ لأن إباحتها داخلة تحت قدرة اللَّه، ومن الممكن أن نحرم الصلاة؛ لأن تحريمها داخل تحت قدرة اللَّه، فإذا بطل اللازم بطل الملزوم، واللَّه أعلم.
3 - إن رؤية النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- يقظة بعد موته في الدنيا قد أنكرها جمع غفير من العلماء والأئمة؛ كابن حجر العسقلاني، وأبي بكر بن العربي، وابن تيمية، والألوسي، وغيرهم، فهل معنى هذا أنهم يجهلون قدرة اللَّه -عزَّ وجلَّ-؟! {سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} [النور: 16].
4 - إن ما استدل به "محمد الحافظ" من إمكان رؤية النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- يقظة بعد موته في الدنيا، قياسًا على رؤية النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- للأنبياء ليلة الإسراء يقظة في الدنيا؛ لا يصح، وبيان ذلك:
1 - أن الإسراء والمعراج كانا معجزة للنبي -صلى اللَّه عليه وسلم- خاصة لا يقاس عليها غيرها.
ب- أن رؤية النبي -صلى الله عليه وسلم- يقظة بعد موته في الدنيا أمر من أمور الاعتقاد لا يجوز فيها القياس؛ لأنها توقيفية.
(1) قال الهيثمي: "رواه عبد الله، وأبو يعلى في (الكبير)، ورجالهما ثقات". اهـ. من "مجمع الزوائد" (7/ 232).
5 - أن كل ما ذكره من الآثار فغاية ما فيها رؤى منامية، وهذه ثابتة للنبي -صلى الله عليه وسلم- ولسائر أُمته في الأحاديث الصحيحة (1)، والنزاع في اليقظة لا في المنام.
6 - قوله: " ... وهذا يثبت أن روح الحي تجتمع بأرواح الأموات في النوم، والذي يجمعهم في النوم يجمعهم في اليقظة، والجميع في العالَم تحت سلطانه".
يُجاب عنه من وجهين:
ا- أن هذا القياس لا يصح؛ لأن الرؤية في النوم قد جاءت بذكرها الأحاديث الصحيحة بخلاف رؤية اليقظة؛ فقد دل الشرع والعقل على خلافها، فلا يصح قياس ما دلَّ الدليل علي منعه على ما دل الدليل على إثباته.
ب- أن قوله: " ... والذي يجمعهم في النوم يجمعهم في اليقظة، والجميع في العالم تحت سلطانه" غاية ما فيه الاستدلال بعموم قدرة اللَّه -تَعَالَى-، وقد سبق الجواب عنه.
الدَّلِيلُ الثَّالِثُ مِن أَدِلَّتِهِم:
أن رؤية النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- يقظة بعد موته في الدنيا كرامة يمنحها الله من يشاء من عباده، فالمنكِر لها منكرٌ لكرامات الأولياء الثابتة بالكتاب والسُّنَّة والآثار المسندة؛ ففي الكتاب قصة أصحاب الكهف، وقصة الخضر مع موسى، وقصة آصف بن برخيا مع سليمان ... وغيرها.
وفي السُّنَّة: قصة الثلاثة الذين انطبق عليهم الغار، وحديث جريج، وكلام الطفل ببراءته ... وغيرها كثير.
ومن الآثار: قصة عمر -رضي اللَّه عنه- مع سارية (2).
ومن العقل والنظر: وقوعها المتكرر تكرارًا ينتهي إلى حد القطع بشهادة الكتاب والسُّنَّة والإجماع.
(1) انظرها ص (21).
(2) انظرها ص (187).
[* المناقشة]
1 - إن هذا الدليل لا يرد على محل النزاع؛ إذ لا تلازم بين إنكار رؤية النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- يقظة بعد موته في الدنيا وبين إنكار الكرامة، فقد أنكر رؤيةَ النبي -صلى الله عليه وسلم- يقظة بعد موته جمعٌ من العلماء المثبتين لكرامات الأولياء؛ كابن تيمية، وابن حجر العسقلاني، والقرطبي، وابن العربي، والأهدل، وغيرهم.
2 - إن رؤية النبي -صلى الله عليه وسلم- يقظة بعد موته في الدنيا ليست من باب الكرامة، وبيان ذلك:
ا- أن الكرامة هبة من الله -تَعَالَى- لمن يشاء من عباده الصالحين لا تُطْلبُ ابتداءً (1)، وهم يقولون بطلبها ابتداء.
ب- أن الكرامة لا تُدْرَك بالتعلم، وهم يقولون بأنها تدرك بالتعلم والكسب عن طريق كثرة الذكر والرياضة (2).
قال الشيخ صنع اللَّه الحلبي الحنفي: "أما اعتقادهم أن هذه التصرفات لهم من الكرامات فهو من المغالطة؛ لأن الكرامة شيء من عند اللَّه يكرم بها أولياءه، لا قصد لهم فيها، ولا تحديَ، ولا قدرة، ولا علم؛ كما في قصة مريم بنت عمران، وأسيد ين حضير، وأبي مسلم الخولاني" (3). اهـ.
ج- أن الكرامة أمر خارق للعادة، لا يخالف النصوص الشرعية الثابتة بالكتاب والسنَّة، ورؤية النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- يقظة بعد موته في الدنيا معارضة لنص شرعي (4)، كما أنها مستحيلة عقلًا (5).
(1) "مجموع الفتاوى" (11/ 360).
(2) "بغية المستفيد" ص (79، 80).
(3) انظر: "تيسير العزيز الحميد" ص (198).
(4) هو قوله تعالى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر: 30]، وانظر ص (137، 138).
(5) انظر ص (139).
د- أن الكرامة غالبًا لا تحدث إلا مرة واحدة في العمر، وربما مرة واحدة على امتداد الزمان، بينما يرى -التجانيون أن رؤية النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- يقظة بعد موته في الدنيا تقع لآلاف البشر في الوقت الواحد، وكل ذلك يبطل القول بأنها من باب الكرامة، واللَّه أعلم.
دَلِيلُهُم الرَّابعُ:
"أن رؤية النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- يقظة بعد موته في الدنيا قد وقعت لجمع غفير من سلف هذه الأمة؛ منهم: الشيخ أبو مدين المغربي شيخ الجماعة، والشيخ عبد الرحمن القناوي، والشيخ أبو العباس المرسي، والشيخ أبو السعود بن أبي العشائر، وإبراهيم المتبولي، والشيخ جلال الدين السيوطي، وغيرهم" (1).
[* المناقشة]
1 - إذا ظهر في كلام الأولياء والصالحين ما يخالف الشرع والعقل فينبغي أن يُحمَلَ على أحسن المحامل، ويُصارَ إلى تأويله؛ إذ قد يُنْقَلُ عنهم الكلام، ويُفْهَمُ على غير ما أرادوا؛ لتفاوت المدارك واختلاف العقول، فمن ذلك مثلًا ما قاله أبو العباس المُرْسِي: "لي أربعون سنة ما حُجِبتُ عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، ولو حُجِبْتُ طرفةَ عين، ما أعددتُ نفسي من جملة المسلمين". قال الشيخ الأهدل: "فهذا كلام فيه تجوُّز يقع مثله في كلام الشيوخ والصالحين، والمراد به أنه لم يُحْجَبْ حجابَ غفلةٍ ونسيان عن دوام المراقبة واستحضارها في الأعمال والأقوال، ولم يُرِدْ أنه لم يحجب عن الروح الشخصية؛ فذلك مستحيل" (2).
(1) "رماح حزب الرحيم" (1/ 199).
(2) "شرح المواهب اللدنية" للزرقاني (5/ 300، 301).
أما من لم يبلغ درجة أولئك في الصلاح والتقوى فلا عبرة بما يقوله، إنما هو شيطان تمثل له، وأخبر قرينه بخبر كاذب، بل قد يتمثل الشيطان لعباد اللَّه الصالحين؛ كما حدث لعبد القادر الجيلاني، فقد رأى الشيطان في النوم، فقال له: "أنا ربك قد أبحت لك المحرمات"، فقال: "اخسأ يا لعين"، فقيل له: "بم عرفت أنه شيطان؟ " قال: "بقوله: أبحت لك المحرمات، وبقوله: أنا ربك، ولم يقل: أنا اللَّه" (1).
وقد روى سليمان بن حرب عن حماد بن زيد عن أيوب قال: "كان محمد -يعني ابن سيرين- إذا قصَّ عليه رجل أنه رأى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: (صِف لي الذي رأيتَه)، فإن وصف له صفة لا يعرفها، قال: لم تره" (2).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "والضُّلَّال من أهل القبلة يرون من يعظمونه، إما النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وإما غيره من الأنبياء يقظة، ويخاطبهم ويخاطبونه، وقد يستفتونه ويسألونه عن أحاديث، فيجيبهم"، ثم قال: "لكن كثيرًا من الناس يكذِّب بهذا، وكثيرًا منهم إذا صدَّق به يظن أنه من الآيات الإلهية، وأن الذي رأي ذلك رآه لصلاحه ودينه، ولم يعلم أنه من الشيطان، وأنه بحسب قلة علم الرجل يضله الشيطان، ومن كان أقل علمًا قال له ما يعلم أنه مخالف للشريعة. وهو -وإن ظن أنه قد استفاد شيئًا- فالذي خسره من دينه أكثر" (3).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه اللَّه- أيضًا:
"والشياطين كثيرًا ما يتصورون بصورة الإنس في اليقظة والمنام، وقد تأتي لمن لا يعرف، فتقول: أنا الشيخ فلان أو العالِم فلان، وربما قالت: أنا أبو بكر وعمر، وربما أتى في اليقظة دون المنام وقال: أنا المسيح، أنا موسى، أنا محمد، وقد جرى مثل ذلك أنواع أعرفها، وثَمَّ من يصدق بأن الأنبياء يأتون في اليقظة في صورهم، وثَمَّ شيوخ لهم زهد وعلم وورع يصدقون بمثل هذا.
(1) "نفسه" (5/ 298).
(2) قال الحافظ: "إسناده صحيح".اهـ. من "فتح الباري" (12/ 383، 384).
(3) "مجموع الفتاوى" (27/ 391، 392)، و "الجواب الباهر" ص (54، 55).
ومن هؤلاء من يظن أنه حين يأتي إلى قبر نبي أن النبي يخرج من قبره في صورته فيكلمه ... ، وبعضهم كان يحكي أن ابن منده كان إذا أشكل عليه حديث جاء إلى الحجرة النبوية، ودخل، فسأل النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- عن ذلك فأجابه، وآخر من أهل المغرب حصل له مثل ذلك، وجعل ذلك من كراماته، حتى قال ابن عبد البر لمن ظن ذلك: "ويحك! أترى هذا أفضل من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار؟ فهل من هؤلاء من سأل النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وأجابه؟ وقد تنازع الصحابة في أشياء فهلا سألوا النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- فأجابهم، وهذه بنته فاطمة تنازع في ميراثه، فهلا سألته فأجابها؟ " (1).
2 - إن ما وقع لهؤلاء الشيوخ هل ثبت عنهم أنه كان يقظة أو منامًا؟ وإذا ثبت أنه كان يقظة، فهل ثبت عنهم بسند صحيح يوثق به؟ وإذا ثبت أنه كان يقظة بسند صحيح يوثق به، فهل هم معصومون من تلبيس الشيطان عليهم؟
كل هذه الأسئلة لا نجد الجواب عليها!!
3 - إن رؤية النبي -صلى الله عليه وسلم- يقظة بعد موته لم تُنقل عن أحد من أهل القرون الثلاثة المشهود لهم بالخير من المصطفى -صلى الله عليه وسلم-.
إذ كيف يظهر -صلى اللَّه عليه وسلم- للمفضول ولا يظهر للفاضل؟ وقد حدثت حوادث كانت الحاجة فيها إلى ظهوره شديدة جدًّا (2) لو كان ذلك ممكنًا؛ منها:
1 - اختلاف المهاجرين والأنصار -رضي اللَّه عنهم- على الخلافة، وقد بقي النزاع بينهم مستمرًّا ثلاثة أيام، حتى شغلهم ذلك عن دفن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، فلو ظهر لهم وأخبرهم بأن الخليفة أبو بكر الصديق -رضي الله عنه- لانقطع النزاع، فكيف لا يظهر في اليقظة لأفضل الناس بعده في أمر مهم؟
(1) "مجموع الفتاوى" (10/ 407).
(2) انظر: "الفكر الصوفي" ص (474) وما بعدها.
2 - اختلاف أبي بكر -رضي اللَّه عنه- مع فاطمة الزهراء -رضي اللَّه عنها- على الميراث، واشتداد حزنها على أبيها -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ- بعد وفاته.
3 - جمع أمير المؤمنين عثمان بن عفان -رضي اللَّه عنه- المصحف الشريف، يقول فيه الألوسي -رحمه اللَّه تعالى-: "وليت شعري! لِمَ كان عثمان يطلب شاهدين من كل من أتاه بآية يشهدان على أنها من القرآن، وهلا رأى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- يقظة وسأله عن تلك الآية، وهو وسائر الصحابة أحق ممن ذكر بهذه الفضيلة" (1).
4 - ما وقع بين طلحة والزبير وعائشة من جهة، وعلي بن أبي طالب من جهة أخرى، حتى وقعت حرب الجمل، فقُتل فيها خلق كثير من الصحابة.
5 - خلاف على -رضي اللَّه عنه- مع الخوارج، وما وقع بين علي ومعاوية -رضي اللَّه عنهما- من النزاع (2).
ففي كل هذه الحوادث لم يُرْوَ أن النبي -صلى الله عليه وسلم- ظهر لأصحابه يقظة؛ ليفصل بينهم مع أنهم أصحابه، فكيف يظهر لمن دونهم منزلة وتقوى؟ واللَّه أعلم.
دَليلُهُمُ الخَامِسُ:
أن رؤية النبي -صلى الله عليه وسلم- يقظة قد قال بها علماء كثيرون قبل التجاني؛ كالإمام السيوطي (3)، وابن أبي جمرة، والشيخ يوسف بن إسماعيل النبهاني، وابن حجر المكي الهيتمي، والغزالي، وابن الحاج، والسبكي، والعفيف اليافعي.
(1) "غاية الأماني" (1/ 225، 226).
(2) "شرح المواهب اللدنية" (5/ 295)، و"غاية الأماني في الرد على النبهاني" (1/ 226).
(3) ألف السيوطي كثيرًا من الكتب المستقلة، بلغ عدد منها شهرة واسعة، ولكن بعض أعماله كراسات =
قال السيوطي -بعد أن ذكر حديث البخاري: "مَن رَآنِي في المَنَامِ فَسَيَرانِي في اليقَظَةِ، وَلَا يَتَمَثَّلُ الشيْطَانُ بِي"، وبعضَ النقول عن بعض العلماء- قال: "فحصل من مجموع هذه النقول والأحاديث أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- حي بجسده وروحه، وأنه يتصرف ويسير حيث شاء في أقطار الأرض والملكوت، وهو بهيئته التي كان عليها قبل وفاته، لم يتبدل منه شيء، وأنه مغيب عن الأبصار كما غُيِّبت الملائكة مع كونهم أحياء بأجسادهم، فإذا أراد اللَّه -تعالى- رفع الحجاب عمن أراد إكرامه برؤيته رآه على هيئته التي هو عليها، لا مانع من ذلك، ولا داعي للتخصيص برؤية المثال" (1).
= صغيرة، وبعضها ضعيف المحتوى، وقيل في محصوله:، إنه لا يقدم جديدًا، وإنما يتوفر على نقل ما وصله"، وقال مؤيدوه: "إنه عوض بذلك المسلمين عن الكتب التي ضاعت في الحروب والاضطرابات"، وقد جمع -رحمه الله- ما لا يتفق جمعه بسهولة، وانظر: "الخصومة في مهدية السودان" ص (43).
"لقد ذهب السيوطي إلى القول برؤية النبي والمَلَك في اليقظة والمنام، وإلى أنه رأى النبي -صلى الله عليه وسلم- أكثر من سبعين مرة، وصحح عليه الأحاديث، وهذا أيضًا ألَّب العلماء عليه، ويقال إنه رجع في النهاية عن معتقده الصوفي وهاجمه، ولكن الذي انتشر عنه هو ما كان في محيط التصوف ودعاوى أهله". اهـ. من "الخصومة" ص (42).
وقد ألف السيوطي كتابه "تنوير الحلك بإمكان رؤية النبي والملَك" رَدَّ به على منكري رؤيته -صلى الله عليه وسلم- بعد وفاته في اليقظة، وقال فيه الألوسي: "وكل ما أتى به لا دليل فيه"، إلى أن قال: "والسيوطي -رحمه الله- كان فيما ألفه من الكتب حاطب ليل، في كل كتاب له مذهب ومشرب، وما أتى به في كتابه هذا لا يُعول عليه". اهـ. من "غاية الأماني" (1/ 51).
(1) "الحاوي للفتاوى" (2/ 435).
وقال الغزالي -بعد أن مدح الصوفية، ووصفهم بأنهم خير خلق الله-: "حتى إنهم في يقظتهم يشاهدون الملائكة وأرواح الأنبياء، ويسمعون منهم أصواتهم، ويقتبسون منهم فوائد، ثم يترقى الحال من مشاهدة الصورة والأمثال إلي درجات يضيق عنها نطاقُ النطق" (1). اهـ.
[* المناقشة]
هذا الدليل مردود من وجهين:
1 - أن اللَّه -سبحانه وتعالى- حينما بعث نبيه -صلى الله عليه وسلم- أنزل عليه القرآن، وآتاه الحكمة؛ فحدَّ الحدود، وبيَّن الشرائع والأحكام، فما دلت الشريعة المطهرة على إثباته أثبتناه، وما دلت على نفيه نفيناه، وما اختُلِفَ فيه رُدَّ إلى كتاب اللَّه وسنَّة رسوله -صلى اللَّه عليه وسلم- إذ هما المرجع في هذا الباب؛ قال اللَّه -سبحانه وتعالى-: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} الآية [النساء: 59]، ولم يمت النبيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- إلا وقد أكمل اللَّه به الدين، وأتم به على عباده النعمة؛ كما قال عز وجل: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3].
ولم يرد في القرآن شيء يدل على رؤية النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- يقظة بعد موته في الدنيا، وكذلك لم يرو شيء في السنَّة المطهرة، وأما الحديث السابق فقد بيَّنَّا آنفًا بطلان الاستدلال به على رؤيته -صلى اللَّه عليه وسلم- يقظة بعد موته، ووجه الحق فيه، واللَّه أعلم.
2 - إن اللَّه -تَعَالَى- قد حفظ كتابه، قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9]، وقد عصم اللَّه نبيه -صلى اللَّه عليه وسلم- فلا يُبَلِّغ عن ربه إلا الحق: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 3، 4].
وكلام العلماء يُؤْخَذُ منه وُيرَدُّ، مهما بلغت منزلتهم علمًا وتقوى وورعًا، فهم مقيدون بالكتاب والسنَّة؛ إذ هما المِحَكُّ؛ فما وافقهما قُبِلَ، وما خالفهما رُدَّ، وعبارات العلماء في هذا المعنى كثيرة.
(1) "المنقذ من الضلال" ص (31)، وانظر: "أبو حامد الغزالي والتصوف" للشيخ عبد الرحمن دمشقية (159 - 178).
وهناك كثير من العلماء الأجلاء الذين لهم باع طويل في خدمة كتاب اللَّه وسنَّةِ رسوله -صلى اللَّه عليه وسلم- ومع ذلك لم يسلموا من الزلل، والأمثلة على ذلك كثيرة في باب العقائد، وفي باب الفروع.
ج- المذهب الراجح في رؤية النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- يقظة بعد موته في الدنيا:
قد تبيَّن لك أنه -صلى اللَّه عليه وسلم- لا يرى يقظة، ومن رأى ما يوهم ذلك فإنه من تلبيس الشيطان -لعنه اللَّه- ولا يرد عليه حديث: "فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لَا يَتَمَثَّلُ بِي".
فإن الشيطان كما أخبر -صلى اللَّه عليه وسلم- لا يتمثل به، لكن الشيطان يخبر قرينه بخبر كاذب؛ كما فعل ذلك مع الجيلاني (1).
وفي ذلك يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه اللَّه-: (وقد ثبت في الصحيح عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أنه قال: "مَنْ رَآنِي في المَنَامِ فَقَدْ رَآنِي حَقًّا؛ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لَا يَتَمَثَّل في صُورَتِي" (2). فهذا في رؤية المنام؛ لأن رؤية المنام تكون حقًّا، وتكون من الشيطان، فمنعه اللَّه أن يتمثل به في المنام، أما في اليقظة فلا يراه أحد بعينه في الدنيا) (3). اهـ.
وقال شيخ الإسلام -أيضًا-: "وأما في اليقظة فمن ظن أن أحدًا من الموتى يجيء بنفسه للناس عِيانًا قبل يوم القيامة؛ فمِن جهله أُتي" (4).
وقال -رحمه اللَّه-: "وكل من قال: إنه رأى نبيًّا بعين رأسه، فما رأى إلا خيالًا" (5).
(1) انظر: "شرح المواهب اللدنية" للزرقاني (5/ 298)، وقد تقدم ذكر خبر الجيلاني ص (47)، (148).
(2) رواه البخاري (12/ 383 - فتح)، ومسلم (15/ 26 - شرح النووي)، وراجع التعليق عليه ص (244).
(3) "قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة" ص (29، 30).
(4) "مجموع الفتاوى" (13/ 94).
(5) "الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان" ص (138).
وقال ابن الجوزي -رحمه اللَّه تعالى-:
"من ظن أن جسد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المودعَ في المدينة خرج من القبر، وحضر في المكان الذي رآه فيه، فهذا جهل لا جهلَ يُشبهه.
فقد يراه في وقتٍ واحدٍ ألفُ شخص، في ألف مكان، على صور مختلفة، فكيف يتصور هذا في شخص واحد" (1).
وقد سبق أن ذكرنا قول القرطبي (2) في استحالة رؤيته -صلى الله عليه وسلم- يقظةً بعد موته.
وقال القاضي أبو بكر بن العربي: "وشذ بعض الصالحين؛ فزعم أنها تقع بعين الرأس حقيقة" (3).
والأدلة على عدم إمكان رؤية النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- بعد موته في اليقظة كثيرة، أشرنا إلى كثير منها في المناقشة، ونلخصها فيما يلي:
1 - أن رؤية النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- يقظة من باب العقائد، والعقائد مبنية على التوقيف، فلا يجزم بنفي شيء أو إثباته إلا بدليل يصح الاعتماد عليه، ولم يرد في الكتاب ولا في السنة ما يدل علي إثباتها، ولم يدَّعِهَا أحد -فيما نعلم- من الصحابة -رضي الله عنهم-، ولا من التابعين ولا من أتباعهم، وهذا من أدلة الاستدلال عند أهل الأصول، وهو ما يعرف عندهم: "بانتفاء المَدْرَك".
أما حديث: "فَسَيَرَاني فِي اليَقَظَةِ"، فقد بينا كلام العلماء على هذه الرواية، ووجه الحق فيها.
2 - أن رؤية النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- يقظة بعد موته في الدنيا مستحيلة شرعًا وعقلًا، وقد سبق بيان ذلك.
(1) "صيد الخاطر" ص (534).
(2) تقدم ص (139)، وانظر: "زاد المسلم" (3/ 187).
(3) "شرح المواهب اللدنية" للزرقاني (5/ 299)، و "فتح الباري" (12/ 384).
3 - أنه قد حدثت حوادث خطيرة في صدر الإسلام كانت الحاجة فيها إلى ظهوره -صلى اللَّه عليه وسلم- شديدة جدًّا، ومع ذلك لم يذكر أحد أنه -صلى اللَّه عليه وسلم- رؤي يقظة، فكيف يظهر للمفضول، ولا يظهر للفاضل؟!
فمن قال: إن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- يرى يقظة بعد موته في الدنيا، فقد أتى بقول يُدْرَكُ فساده بأوائل العقول، قال القسطلاني في "المواهب اللدنية": "وبالجملة، فالقول برؤيته -صلى اللَّه عليه وسلم- بعد موته بعين الرأس في اليقظة يُدْرَكُ فساده بأوائل العقول، لاستلزامه خروجه من قبره، ومشيه في الأسواق، ومخاطبته للناس، ومخاطبة الناس له ... " إلخ (1).
(1) "نفس المرجع".
فَصلٌ فِيمَا يَدَّعِي التِّجَانِيَّةُ تَلَقِّيَهُ عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- بَعدَ مَوتِهِ يَقَظَةً
كما يزعم التجانيون أنهم يرون النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- يقظة، فإنهم يزعمون أنهم يستفتونه ويسألونه عن أمور دينهم ودنياهم، ويتلقون منه الأوراد، ويصحح لهم الأحاديث، فيعملون بذلك (1)، وفيما يلي بعض النصوص الدالة على ذلك، وهذه النصوص منها ما يدل على اعتقادهم ذلك، ومنها ما يدل على تطبيقهم لهذا الاعتقاد.
فمما يدل على اعتقادهم ذلك:
ما جاء في "بغية المستفيد" " ... عن الشيخ أحمد الزواوي كان يقول: طريقنا أن نكثر من الصلاة عليه -صلى اللَّه عليه وسلم- حتى نصير من جلسائه، ونصحبه يقظة مثل أصحابه، ونسأله عن أمور ديننا، وعن الأحاديث التي ضعفها الحفاظ عندنا، ونعمل بقوله فيها" (2). اهـ.
وأما ما يدل على تطبيقهم ذلك؛ فمنه:
1 - قول مؤلف "جواهر المعاني" عن الصلاة المسماة "بياقوتة الحقائق":
"هي من إملاء رسول اللَّه -صلى الله عليه وسلم- من لفظه الشريف على شيخنا يقظة لا منامًا" (3).
(1) ولا شك أنه يترتب على هذه الدعاوى آثار خطيرة لأنها تفتح باب تحريف الدين والابتداع فيه على مصراعيه، وكأن القوم لم يسمعوا قوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} الآية [المائدة: 3]، بل تفتح باب الفتن وإراقة الدماء كما تراه واضحًا في سيرة المهدي السوداني وغيره ممن حاولوا إضفاء الشرعية على بدعهم وتسويغ أفعالهم بأنها تأتي استجابة لتكليف مباشر من الرسول -صلى الله عليه وسلم-.
(2) "بغية المستفيد" ص (79).
(3) "جواهر المعاني" (2/ 228).
2 - ومن تلك الأوراد التي أملاها الرسول -صلى الله عليه وسلم- لأحمد التجاني -كما زعموا- صلاة "جوهرة الكمال"، التي جاء في فضلها ما يلي:
قال محمد سعد الرُّباطابيُّ: "وأما جوهرة الكمال فهي من إملاء رسول الله -صلى اللَّه عليه وسلم- لسيدنا الشيخ -رضي الله عنه- يقظة لا منامًا، فمن فضلها: أن المرة الواحدة منها تعدل تسبيح العالم ثلاث مرات بشرط الطهارة المائية، وأن من لازمها كل يوم سبع مرات يحبه النبي -صلى الله عليه وسلم-، وأن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- والخلفاء الأربعة يحضرون مع الذاكر عند السابعة منها، ولا يفارقونه حتى يفرغ من ذكرها" (1).
3 - ويقول التجاني عن فضل صلاة "الفاتح لما أُغلِق": "لما أمرني -صلى الله عليه وسلم- بالرجوع إليها سألته عن فضلها؟ فأخبرني أن المرة الواحدة منها تعدل من القرآن ست مرات، ثم أخبرني ثانيًا أن المرة الواحدة منها تعدل من كل تسبيح وقع في الكون، ومن كل ذكر، ومن كل دعاء كبير أو صغير، ومن القرآن ستة آلاف مرة" (2).
4 - وقال أيضًا مؤلف "جواهر المعاني": " ... سأل سيدَ الوجود، وعَلَمَ الشهود -صلى الله عليه وسلم- في كل نفس مشهود، عن نسبه، وهل هو من الأبناء والأولاد، أو من الآل والأحفاد؟ فأجابه -صلى الله عليه وسلم- بقوله: (أنت ولدي حقًّا)، كررها ثلاثًا -صلى اللَّه عليه وسلم-، وقال: (نسبك إلى الحسن بن علي صحيح)، وهذا السؤال من سيدنا -رضي اللَّه عنه- لسيد الوجود يقظة لا منامًا، وبشره -صلى اللَّه عليه وسلم- بأمور عظام جسام صلى اللَّه عليه، وسلَّم، وشرف، وكرَّم، ومجَّد، وعظَّم" (3).
(1) "شروط وأحكام أوراد الطريقة التجانية" ص (25).
(2) "جواهر المعاني" (1/ 136).
(3) "نفسه" (1/ 30، 31).
وقال -أيضًا- فيما يرويه عن شيخه التجاني: قال: رأيته مرة -صلى اللَّه عليه وسلم-، وسألته عن الحديث الوارد في سيدنا عيسى -عليه السلام- قلت له: ورد عنك روايتان صحيحتان، واحدة قلت فيها: "يَمْكُثُ بَعْدَ نُزُولهِ أَرْبَعِينَ، وقلت في الأخرى: سَبْعًا، ما الصحيحة منها؟ " قال -صلى اللَّه عليه وسلم-: "رواية السبع" (1).
ومثل هذا ما قاله ابن حجر الهيتمي: "وقد حكي عن بعض الأولياء أنه حضر مجلس فقيه، فروى ذلك الفقيه حديثًًا، فقال له الولي: هذا الحديث باطل، قال: ومن أين لك هذا؟ قال: هذا النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- واقف على رأسك، يقول: إني لم أقل هذا الحديث، وكُشِف للفقيه فرآه" (2).
ومثله ما حكاه الشعراني: أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- زار جلال الدين السيوطي في بيته يقظة لا منامًا، وأنه جعل يقرأ الأحاديث بين يديه -صلى اللَّه عليه وسلم- وهو يسمع.
قال الشعراني: "أخبرني الشيخ سليمان الخضيري قال: بينا أنا جالس في الخضيرية على باب الإمام الشافعي -رضي اللَّه عنه- إِذْ رأيت جماعة عليهم بياض، وعلى رؤوسهم غمامة من نور، يقصدونني من ناحية الجبل، فلما قربوا مني فإذا هو النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه، فقبَّلت يده، فقال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "امض معنا إلى الروضة"، فذهبت مع النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- إلى بيت الشيخ جلال الدين، فخرج إلى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، وقبَّل يده، وسلَّم على أصحابه، ثم أدخله الدار، وجلس بين يديه، فصار الشيخ جلال الدين يسأل النبي -صلى الله عليه وسلم- عن بعض الأحاديث، وهو -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول: هاتِ يا شيخَ السُّنة" (3).
(1) "نفسه" (1/ 55).
(2) "الفتاوى الحديثية" ص (217).
(3) "الطبقات الصغرى" للشعراني ص (28، 29).
[المناقشة]
1 - لو سلمنا جدلًا -وهو محال- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- يُرى يقظة، فالحق أنه لا عمل إلا بالكتاب والسنة، والسنة هي ما أضيف إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- من قول، أو فعل، أو تقرير، أو وصف، وما ادعاه التجانيون من الإخبار عن النبي -صلى الله عليه وسلم- يقظة بعد موته، فليس داخلًا في تعريف السنة، فلا يمكن إن يسمى حديثًا مرفوعًا، ولا موقوفًا، ولا مرسلًا، ولا مضطربًا، ولا شاذًّا.
قال محمد الخضر الشنقيطي: "فإن كانت مرفوعة متصلة الإسناد، كما يقول صاحب المنية:
وَكُلُّ مَا يُرْوَى فَعَنْ خَيْرِ الْوَرَى ... مُتَرْجَم لَفَظُهُ بِالأَمْرِ (1).
فعلى هذا يكون ما قالوه وحيًا مرويًّا عن النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ لقوله -تَعَالَى-: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 3، 4]، ويكون هو صحابيًّا، والناقلون عنه تابعين، أو تكون غير مرفوعة متصلة الإسناد؛ لاستحالة وجود الصحابة في القرن الثاني عشر، فتكون مروية عن النبي -صلى الله عليه وسلم- مباشرة، وهذا غير معقول، اللهم، إلا أن يقولوا: إن شريعتهم لما كانت مخترعة غير داخلة تحت قانون شرعي، وجب أن يُخترعَ لها اصطلاح غير داخل في اصطلاح المُحَدِّثين" (2).
2 - إنه يشترط فيما روي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في حياته صحة السند، وعدالة الرواة، فكيف برؤى لا نشك في بطلانها؛ لمخالفتها للأدلة النقلية والعقلية.
(1) "منية المريد" ص (7).
(2) "مشتهي الخارف الجاني في رد زلقات التجاني الجاني" ص (44، 45).
3 - إن اتصال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- بالناس قد انقطع بوفاته؛ كما دل على ذلك الكتاب والسنَّة، فمن ذلك حديث ابن عباس -رضي اللَّه عنهما- عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "إِنَّكُمْ مَحْشُورُون حُفَاةً عُرَاةً غُرْلًا"، ثم قرأ: {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} [الأنبياء: 104]، وأول من يكسى يوم القيامة إبراهيم، وإن أناسًا من أصحابي يؤخذ بهم ذات الشمال، فأقول: أصحابي أصحابي، فيُقال: إنهم لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم، فأقول كما قال العبد الصالح: {وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ} - إلى قوله {الْحَكِيمُ} " (1) [المائدة: 117، 118].
قال الألوسي: "ومعني الجملتين: أني مادمت فيهم كنت مشاهدًا لأحوالهم؛ فيمكن لي بيانها، فلما توفيتني كنت أنت المشاهد لها لا غيرك، فلا أعلم حالهم، ولا يمكنني بيانها" (2).
ففي الحديث -كما ترى- تصريح بانقطاع الاتصال بين الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- وبين الناس بعد مماته.
وقال ابن القيم: "فالعلم اللدني نوعان: لدني رحماني، ولدني شيطاني، والمِحَكُّ هو الوحي، ولا وحي بعد رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-" (3).
4 - وقد اختلف الأصوليون: هل يجوز للرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- تأخير البيان إلى وقت الحاجة، أو لا يجوز له ذلك؟ أما تأخير البيان إلى ما بعد وفاته -صلى اللَّه عليه وسلم- فلم يقل به عاقل فضلًا عن عالم مُنْصِفٍ يطلب الحق، ويتحرى الحقيقة.
(1) رواه البخاري (6/ 368، 387 - فتح)؛ ومسلم (17/ 194 - نووي)، وراجع التعليق عليه ص (58 - 60).
(2) "روح المعاني" (7/ 69).
(3) "مدارج السالكين" (2/ 261).
5 - وسُئل الشيخ التجاني: "أيُكذَبُ عليك؟ قال: نعم، إذا سمعتم عني شيئًا فزنوه بميزان الشرع، فما وافق فاعملوا به، وما خالف فاتركوه" (1).
قُلْتُ: وقد عرضنا ذلك على الكتاب والسنة، فبان بطلانه وبعده عن الحق؛ فوجب عليهم رده أخذًا بوصية شيخهم، كيف لا، وقد بان لهم الدليل؟ (2).
* * *
(1) "الانتصاف" (1/ الحلقة الثالثة) لمحمد الحافظ التجاني.
(2) انتهى بتصرف من "التجانية: دراسة لأهم عقائد التجانية على ضوء الكتاب والسنة" ص (125 - 149)، للشيخ علي بن محمد الدخيل الله -طبعة دار طيبة- الرياض.
تَنبِيهَاتٌ:
الأوَّلُ: ذكر العلامة محمد حبيب الله الشنقيطي -رحمه الله- اختلاف العلماء في هذه المسألة، ومال إلى خلاف قول الجمهور، إلا أنه قال:
"إذا علمت ما قررناه من إمكان رؤيته -صلى الله عليه وسلم- في اليقظة كرامة لبعض خواص أكابر الأولياء ... ، فاعلم أن فائدة ذلك إنما تعود غالبًا على الرائي فقط، ولا يجوز أن يثبت بها حكم شرعي كائنًا ما كان ندبًا أو غيره من سائر الأحكام الشرعية، كما تعطيه قواعد الشرع المعلومة، وكما صرح به الأئمة؛ كالحافظ ابن حجر وغيره، فقد قال في "فتح الباري" بعد بحث طويل عند قوله -عليه الصلاة والسلام-: "وَلَا يَتَمَثَّلُ الشيْطَانُ بِي" ما نص المراد منه: ومع ذلك فقد صرح الأئمة بأن الأحكام الشرعية لا تثبت بذلك" (1).
وهذا كلام العلماء فيما يدعي النائم أنه أخذه عن النبي -صلى الله عليه وسلم- من أحكام النوم، مع ثبوت رؤيته -صلى اللَّه عليه وسلم- في النوم بالأحاديث الصحيحة، فكيف بما يزعمون أنهم أخذوه عنه -صلى الله عليه وسلم- بعد موته في اليقظة مع أنها مردودة شرعًا وعقلًا كما تم بيانه.
الثَّاني: بحسب قلة علم الرجل يُضِلُّه الشيطان:
قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "والمقصود أن الصحابة -رضوان الله عليهم- لم يطمع الشيطان أن يضلهم كما أضل غيرهم من أهل البدع الذين تأولوا القرآن على غير تأويله، أو جهلوا السنة، أو رأوا وسمعوا أمورًا من الخوارق فِظنوها من جنس آيات الأنبياء والصالحين، وكانت من أفعال الشياطين ... فأهل الهند يرون من يعظمونه من شيوخهم الكفار وغيرهم.
والنصارى يرون من يعظمونه من الأنبياء والحواريين وغيرهم.
(1) "زاد المسلم" (3/ 187).
والضُّلَّال من أهل القِبلة يرون من يعظمونه، إما النبي -صلى الله عليه وسلم- وإما غيره من الأنبياء يقظة، ويخاطبهم ويخاطبونه، وقد يستفتونه ويسألونه عن أحاديث فيجيبهم، ومنهم من يخيل إليه أن الحجرة قد انشقت، وخرج منها النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، وعانقه هو وصاحباه ...
وأعرف ممن وقع له هذا وأشباهه عددًا كثيرًا، وقد حدثني بما وقع له في ذلك، وبما أخبر به غيره من الصادقين من يطول هذا الموضع بذكرهم ... لكنْ كثير من الناس يكذِّب بهذا، وكثير منهم إذا صدَّق به يظن أنه من الآيات الإلهية، وأن الذي رأى ذلك رآه لصلاحه ودينه، ولم يعلم أنه من الشيطان، وأنه بحسب قلة علم الرجل يضله الشيطان" (1).
التنبيه الثَّالثُ: "لو فرضنا جدلًا أن الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- يمكن أن يعود بجسده الشريف أو روحه الطاهر- صلى اللَّه عليه وسلم- ليلقى بعض المسلمين، فإننا نجزم أن لقاءه هذا سيكون لتعزيز شريعته التي بثها في حياته لا لهدمها، فنتصور مثلًا في مثل التجاني أن يقول: (لا تكن أنت وأتباعك عبيدًا للاستعمار الفَرَنْسِيِّ ولا خدمًا للكفار، وقوموا بنصرة الدين، وجاهدوا في سبيل اللَّه).
وأما أن يأتي النبي -صلى الله عليه وسلم- ليقول للتجاني: (أقطعتُكَ الجنة وأتباعك -ولو كانوا مجرمين فاسقين- وكل من رآك دخل الجنة، ولو كان كافرًا، وأمُرْ أتباعك أن يَدْعوك من دون اللَّه، ويشركوا بالله في كل شىء ... ) إلخ كلامه" (2).
الرَّابعُ: يدعي التجانية أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- لم يؤمر بتبليغ كل ما علمه، وأن ما لم يُبَلِّغْهُ في حياته يبلغه بعد وفاته لمن يلقاه من الخواص، قال
(1) "مجموع الفتاوى" (27/ 390 - 392) بتصرف.
(2) "الفكر الصوفي" ص (360).
مؤلف "جوهر المعاني": "وسألته -رضي اللَّه عنه-: هل خَبَرُ سيدِ الوجود بعد موته كحياته سواء؟ فأجاب -رضي اللَّه عنه- بما نصه: الأمر العام الذي كان يأتيه عامًّا للأمة طوي بساط ذلك بموته -صلى اللَّه عليه وسلم-، وبقي الأمر الخاص الذي كان يلقيه للخاص، فإن ذلك في حياته، وبعد مماته دائمًا لا ينقطع" (1).
وقال مؤلف "الجيش الكفيل": "فإذا تقرر هذا علمتَ ضرورة أنه -صلى اللَّه عليه وسلم- لم يؤمر بتبليغ كل ما علمه، كيف وعنده علم الأولين والآخرين" (2). اهـ.
وقال -أيضًا-: "وسئل: هل كان -صلى اللَّه عليه وسلم- عالمًا بفضل صلاة الفاتح لما أغلق؟ فقال: نعم، كان عالمًا به، قالوا: ولِمَ لَم يذكره لأصحابه؟ قال: لعلمه -صلى اللَّه عليه وسلم- بتأخير وقته، وعدم وجود من يظهره اللَّه على يديه في ذلك الوقت" (3). اهـ.
فأين هؤلاء الظالمون المتعدون حدودَ اللَّه من قوله -تَعَالَى-: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} الآية [المائدة: 3]؟ وأين هم من قوله -تَعَالَى-: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} الآية [المائدة: 67]؟ وأين هم من تبري عليٍّ -رضي الله عنه- من أن يكون -صلى اللَّه عليه وسلم- خصهم بشيء من العلم دون الناس، كما في حديث أبي جحيفه؟ (4).
(1) "جوهر المعاني" (1/ 140).
(2) "الجيش الكفيل بأخذ الثأر" ص (110، 111).
(3) "نفسه" ص (110).
(4) رواه البخاري، أرقام: (111)، (1870)، (3172)، وغيرها.
وإذا كان يلزم من كلام أولئك الضالين عدم انقطاع خبر السماء بوفاة رسول اللَّه -صلى الله عليه وسلم- فلماذا قالت أم أيمن للشيخين -رضي اللَّه عنهما-: "ولكن أبكي أن الوحي قد انقطع من السماء"، فهيَّجَتْهما على البكاء، فجعلا يبكيان معها (1)؟
وقد صح أن عمر -رضي اللَّه عنه- قال في بعض الأمور: "ليتني سألتُ رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- عنه".
وأين هؤلاء من قول أم المؤمنين عائشة -رضي اللَّه عنها- لمسروق -رحمه اللَّه-: "من حدثك أن محمدًا -صلى اللَّه عليه وسلم- كتم شيئًا مما أنزل عليه، فقد كذب، واللَّه يقول: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} ... الآية" (2).
وقال الإمام أبو محمد بن حزم -رحمه اللَّه-: " ... واعلموا أن رسول الله -صلى اللَّه عليه وسلم- لم يكتم من الشريعة كلمة فما فوقها، ولا أطلع أخص الناس به من زوجة أو ابنة عم أو ابن عم أو صاحبٍ على شيء من الشريعة كَتَمَهُ عن الأحمر والأسود ورعاة الغنم، ولا كان عنده -عليه السلام- سر ولا رمز ولا باطن غير ما دعا الناس كلَّهم إليه، ولو كتمهم شيئًا لما بلَّغ كما أُمِر، ومن قال هذا: فهو كافر، فإياكم وكلَّ قول لم يبين سبيله، ولا وضح دليله، ولا تعوجوا عما مضى عليه نبيكم -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه -رضي الله عنهم-" (3). اهـ.
* * *
(1) رواه مسلم (16/ 9، 10 - شرح النووي).
(2) رواه البخاري (8/ 275 - فتح)، ومسلم (3/ 8، 9 - شرح النووي).
(3) "الفَصْل" (2/ 116).
-
الثلاثاء PM 12:04
2022-08-02 - 3438