ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ
شٌبهات وردود
المكتبة المرئية
خَــيْـرُ جَــلـيـسٌ
المتواجدون الآن
حرس الحدود
مجتمع المبدعين
البحث
عرض المادة
إِبطَالُ دَعوَى الصُّوفِيَّةِ أَنَّ الخَضِرَ حَيٌّ
* قال العلَّامةُ القرآني محمد الأمين الشنقيطي -رحمه اللَّه - تَعَالَى-:
"اعلم أن العلماء اختلفوا في الْخَضِرِ: هل هو حي إلى الآن، أو هو غير حي، بل ممن مات فيما مضى من الزمان؟ فذهب كثير من أهل العلم إلى أنه حي، وأنه شَرِبَ من عين تُسَمَّى عين الحياة، وممن نصر القول بحياته القرطبي في "تفسيره"، والنووي في "شرح مسلم" وغيره، وابن الصلاح، والنقَّاش، وغيرهم (1)، قال ابن عطية: وأطنب النَّقَّاش في هذا المعنى، يعني حياة الخَضِرِ وبقائه إلى يوم القيامة، وذكر في كتابه أشياء كثيرة عن علي بن أبي طالب وغيره، وكلها لا تقوم على ساق. انتهى بواسطة نقل القرطبي في "تفسيره" (2).
وحكايات الصالحين عن الْخَضِرِ أكثر من أن تُحصر، ودعواهم أنه يحج هو وإلياس كل سنة، ويروون عنهما بعض الأدعية؛ كل ذلك معروف، ومستند القائلين بذلك ضعيف جدًّا؛ لأن غالبه حكاياتٌ عن بعض من يُظَنُّ به الصلاح، ومناماتٌ، وأحاديثُ مرفوعةٌ عن أنس وغيره، وكلها ضعيف لا تقوم به حجة.
(1) ومن القائلين بموت الخضر -عليه السلام- البخاري، وإبراهيم الحربي، وأبو الحسين بن المنادي، وأبو الفرج بن الجوزي، وابن حزم الظاهري، ومحمد بن أبي الفضل المرسي، وعلي بن موسى الرضا، وحكى القاضي أبو يعلى موته عن بعض أصحاب أحمد، وجزم بموته أيضًا أبو بكر بن العربي، وأبو يعلى بن الفراء، وأبو طاهر العبادي، وابن قيم الجوزية، وأبو الفضل بن ناصر، وأبو بكر محمد بن الحسن النقاش، وغيرهم، وانظر: "إرشاد الساري" (5/ 384)، و"المنار المنيف" ص (72).
والأئمة الكبار الذين ذهبوا إلى استمرار حياته لم يتعدوا ذلك -حاشهم- إلى تبني الآراء الصوفية الضالة في الخضر، وإنما استثمر الصوفية قصة الخضر لتوكيد أو لتأسيس ضلالاتهم وغلوهم، بما ينسجم مع مشربهم وأذواقهم ومفهوم الوَلاية عندهم، كما تقدم ص (235، 236).
(2) "الجامع لأحكام القرآن" (11/ 41).
ومن أقواها عند القائلين به -آثار التعزية حين تُوفيِّ النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، وقد ذكر ابن عبد البر في "تمهيده" عن علي -رضي اللَّه عنه- قال: لما تُوُفيِّ النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَسُجِّيَ بثوبٍ، هَتَفَ هاتف من ناحية البيت يسمعون صوته، ولا يرون شخصه: "السلام عليكم ورحمة اللَّه وبركاته، السلام عليكم أهلَ البيت {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [آل عمران: 185]، إنَّ في اللَّه خَلَفًا من كل هالك، وعِوَضًا من كل تالف، وعزاءً من كل مصيبة، فباللَّه فثقوا، وإياه فارجوا؛ فإن الْمُصَابَ من حُرِمَ الثواب"، فكانوا يُرَوْنَ أنه الْخَضِرُ -عليه السلام- يعني أصحاب النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-. انتهى بواسطة نقل القرطبي في "تفسيره" (1).
قال مُقَيِّدُهُ -عفا اللَّه عنه-: والاستدلال على حياة الْخَضِرِ بآثار التعزية -كهذا الأثر الذي ذكرنا آنفًا- مَرْدُودٌ من وجهين:
الأوَّل: أنه لم يثبت ذلك بسند صحيح، قال ابن كثير في "تفسيره": وحكى النووي، وغيره في بقاء الْخَضِرِ إلى الآن، ثم إلى يوم القيامة قولين، ومال هو وابن الصلاح إلى بقائه، وذكروا في ذلك حكاياتٍ عن السلف وغيرهم، وجاء ذكره في بعض الأحاديث، ولا يصح شيء من ذلك، وأشهرها حديث التعزية، وإسناده ضعيف. اهـ منه.
الثَّانِي: أنه على فرض أن حديث التعزية صحيح، لا يلزم من ذلك عقلًا، ولا شرعًا، ولا عرفًا، أن يكون ذلك المُعزِّي هو الْخَضِرُ؛ بل يجوز أن يكون غيرَ الْخَضِرِ من مؤمني الجن؛ لأن الجن هم الذين قال اللَّه فيهم: {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ} [الأعراف: 27]، ودعوى أن ذلك المعزي هو الْخَضِرُ تحكُّمٌ بلا دليل، وقولهم: "كانوا يُرَوْنَ أنه الْخَضِرُ"، ليس حجةً يجب الرجوع إليها؛ لاحتمال أن يُخْطِئُوا في ظنهم، ولا يدل ذلك على إجماع شرعي معصوم، ولا متمسك لهم في دعواهم أنه الْخَضِرُ كما ترى (2).
(1) "الجامع لأحكام القرآن" (11/ 43، 44).
(2) قال الإمام النووي في "المجموع": "وأما قصة تعزية الخضر -عليه السلام- فرواها الشافعي في (الأُم) بإسناد ضعيف، إلا أنه لم يقل: (الخضر) عليه السلام، بل: (سمعوا قائلًا يقول) ". اهـ. =
قال مُقَيِّدُهُ -عفا اللَّه عنه-: الذي يظهر لي رجحانه بالدليل في هذه المسألة أن الْخَضِرَ ليس بحي، بل تُوُفِّيَ، وذلك لعدة أدلة:
الأوَّل: ظاهر عُمُومِ قَوْلِه -تعَالَى-: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ} [الأنبياء: 34]؛ فقوله "لبشر" نكرة في سياق النفي، فهي تَعُمُّ كل بشر، فيلزم من ذلك نفيُ الخلد عن كل بشبر من قبله، والْخَضِرُ بَشَرٌ من قبله؛ فلو كان شَرِبَ من عين الحياة، وصار حَيًّا خالدًا إلى يوم القيامة، لكان اللَّه قد جعل لذلك البشر الذي هو الْخَضِرُ من قبله الخلد (1).
الثَّانِي: قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "اللَّهُمَّ إنْ تَهْلِكْ هَذ الْعِصَابَةُ مِنْ أَهْلِ الإسْلَامِ لَا تُعْبَدْ فِي الأرْضِ"، فقد روي مسلم في "صحيحه" بسنده إلى ابن عباس -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- قال: حَدَّثَنِي عمر بن الخطَّاب -رضي اللَّه عنه-، قال: لما كان يوم بدر نظر رسول اللَّه -صلى الله عليه وسلم- إلى المشركين، وهم ألف، وأصحابه ثلاثمائة وتسعة عشر رجلًا، فاستقبل النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- القبلة، ثم مَدَّ يَدَيْهِ، فجعل يهتف بِرَبّهِ: "اللَّهُمَّ أنْجِزْ لِي مَا وَعَدْتَني، اللَّهُمَّ إنْ تَهْلِكْ هِذِهِ الْعِصَابَةُ مِنْ أهْلِ الإسْلَامِ لَا تُعْبَدْ فِي الأَرْضِ"، فمازال يهتف بربه مادًّا يديه مستقبلَ القبلة حتى سقط رداؤه عن منكبيه، فأتاه أبو بكرٍ، فأخذ رداءَهُ، فألقاه على منكبيه، ثم التزمه من ورائه، وقال: يا نبي اللَّه، كفاك مناشدتك ربك؛ فإنه سينجز لك ما وعدك، فأنزل اللَّه -عز وجل-: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ} [الأنفال: 9]، فأمده اللَّه بالملائكة ...
= من "المجموع" (5/ 305)، وبمثله قال الحافظ العراقي في "المغني" (4/ 475) بهامش "الإحياء"
(1) انظر: "البداية والنهاية" للحافظ ابن كثير (1/ 334).
الحديث، ومَحَلُّ الشاهد منه قوله -صلى الله عليه وسلم-: "لا تُعبد في الأرض" فِعْلٌ في سياق النفي، فهو بمعنى: لا تقع عبادة لك في الأرض"؛ لأن الفعل ينحل عن مصدر وزمن عند النحويين، وعن مصدر، ونسبة، وزمن، عند كثير من البلاغيين، فالمصدر كامن في مفهومه إجماعًا، فيتسلط عليه النفي، فيؤول إلى النكرة في سياق النفي، وهي من صيغ العموم؛ وإلى كون الفعل- في سياق النفي، والشرط، من صيغ العموم، أشار في "مراقي السعود" بقوله عاطفًا على ما يفيد العموم:
وَنَحْوُ لَا شَرِبْتُ أَوْ إنْ شَرِبَا ... وَاتَّفَقُوا إنْ مَصْدَرٌ قَدْ جُلِبَا
فإذا علمت أن معنى قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إنْ تَهْلِكْ هَذِهِ الْعِصَابَةُ لَا تُعْبَد فِي الأرْضِ"؛ أي لا تقع عبادة لك في الأرض؛ فاعلم أن ذلك النفي يشمل بعمومه وجود الْخَضِرِ حيًّا في الأرض؛ لأنه على تقدير وجوده حيًّا في الأرض، فإن اللَّه يُعْبَدُ في الأرض، ولو على فرض هلاك تلك العصابة من أهل الإسلام؛ لأن الْخَضِرَ ما دام حيًّا، فهو يُعْبَدُ في الأرض.
الثَّالِثُ: إخباره -صلى اللَّه عليه وسلم- بأنه على رأس مِئة سنة من الليلة التي تكلَّمَ فيها بالحديث لم يَبْقَ على وجه الأرض أحد ممن هو عليها تلك الليلة، فلو كان الْخَضِرُ حيًّا في الأرض لما تَأَخَّرَ بعد المائة المذكورة، روي مسلم بسنده إلى عبد اللَّه بن عمر -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- قال: صَلَّى بنا رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ذات ليلة صلاة العشاء في آخر حياته؛ فلما سَلَّمَ قام، فقال: "أرأَيْتَكُمْ لَيْلَتَكُمْ هَذِهِ، فَإِنَ عَلَى رأسِ مِئَةِ سَنَة مِنْهَا لَا يَبْقَى مِمَّنْ هُوَ عَلَى ظَهْرِهَا أحَد"، قال ابن عمر: فَوَهَلَ (1) الناس في مقالة رسول اللَّه -صلى الله عليه وسلم- تلك، فيما يتحدثون من هذه الأحاديث عن ماِئَةِ سنة، وإنما قال رسول اللَّه -صلى الئَه عليه وسلم-: "لَا يَبْقَى مِمَّنْ هُوَ الْيَوْمَ عَلَى ظَهْرِ الأرْضِ أحَدٌ"، يريد بذلك أن يَنْخَرِم ذلك القرن (2).
(1) فَوَهَلَ: الوَهَل: الفزع، وَهِلْتُ أَهِلُ وَهَلًا: إذا فجأك أمر لم تعرفه، فارتعت له، وَوهل يَهِل إلى الشيء وَهْلًا: إذا ذهب وَهْمُه إليه، "جامع الأصول" (10/ 389)، وانظر: "النهاية" (5/ 233).
(2) وحكى الحافظ أبو القاسم السهيلي في كتابه "التعريف والإعلام" عن البخاري، وشيخه أبي بكر بن العربي: أنه أدرك حياة النبي -صلى الله عليه وسلم- ولكن مات بعده، لحديث الصحيحين: =
وروي مسلم في "صحيحه" بسنده إلى ابن جُرَيْج، قال:
أخبرني أبو الزُّبَيْر أنه سمع جابر بن عبد اللَّه -رَضي اللَّه عنهما- يقول: سمعت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول -قبل أن يموت بشهر-: "تسألوني عن الساعة؟ وإنما علمها عند اللَّه، وأقسم باللَّه ما على الأرض من نفس منفوسة اليومَ يأتي عليها مِئَةُ سَنَةٍ وهي حَيَّةٌ يومئذ".
وروي بسنده عن أبي سعيد -رضي اللَّه عنه-، قال: لما رَجَعَ النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- من تَبُوك سألوه عن الساعة، فقال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لَا تَأتِي مِئَةٌ، وَعَلَى الأرْضِ نَفْسٌ مَنْفُوسَةٌ الْيَوْمَ".
ثم روي بسنده عن جابر بن عبد اللَّه، قال: قال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مَا مِنْ نَفْسٍ مَنْفُوسَةٍ تَبْلُغُ مِائَةَ سَنَةٍ"، فقال سالم: تذاكرنا ذلك عنده، إنما هي كل نفس مخلوقة يومئذ.
فهذا الحديث الصحيح الذي رواه عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- ابن عمر، وجابر، وأبو سعيد، فيه تصريح النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- بأنه لا تبقى نفس منفوسة حية على وجه الأرض بعد مائة سنة، فقوله: "نفس منفوسة" ونحوها من الألفاظ في روايات الحديث نَكِرَةٌ في سياق النفي، فهي تَعُمُّ كل نفس مخلوقة على الأرض، ولا شك أن ذلك العموم بمقتضى اللفظ يشمل الخَضِرَ؛ لأنه نفس منفوسة على الأرض.
وروى البخاري في "صحيحه" بسنده أن عبد اللَّه بن عُمَرَ، قال: صلى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- صلاة العشاء في آخر حياته، فَلَمَّا سلَّمَ قام النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- فقال: "أرَأيْتَكُمْ لَيْلَتَكُمْ هِذِه؛ فإنَّ رأسَ مِئَةٍ لَا يَبْقَى مِمَّنْ هُوَ الْيَوْمَ عَلَى ظَهْرِ الأرْضِ أحَدٌ"، فَوَهَلَ الناس في مقالة رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- إلى ما يتحدثون من هذه الأحاديث عن مئة سنة، وإنَّمَا قال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لَا يَبْقَى مِمَّنْ هُوَ الْيَوْمَ عَلَى ظَهْرِ الأرْضِ"، يريد بذلك أنها تخرم ذلك القرن.
الرَّابعُ: أن الْخَضِرَ لو كان حيًّا إلى زمن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- لكان من أتباعه، ولنَصَرَهُ، وقاتل معه؛ لأنه مَبْعُوثٌ إلى جميع الثَّقَلَيْنِ الإنس والجن.
والآياتُ الدَّالَّةُ على عموم رسالته كثيرة جدًّا؛ كقوله تَعَالَى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} [الأعراف: 158]، وقوله: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} [الفرقان: 1]، وقوله -تَعَالَى-: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ} [سبأ: 28]، وُيوَضِّحُ هذا أنه -تَعَالَى- بَيَّنَ في سورة "آل عمران": أنه أخذ على جميع النبيين الميثاقَ الْمُؤكَّدَ أنهم إن جاءهم نبينا -صلى اللَّه عليه وسلم- مُصَدِّقًا لما معهم أن يؤمنوا به وينصروه، وذلك في قوله: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (81) فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [آل عمران: 81 - 82].
وهذه الآية الكريمة -على القول بأن المراد بالرسول فيها نبينا -صلى اللَّه عليه وسلم-، كما قاله ابن العَبَّاس وغيره- فالأمر واضح، وعلى أنها عامَّة؛ فهو -صلى اللَّه عليه وسلم- يدخل في عمومها دخولًا أوليًّا؛ فلو كان الْخَضِرُ حيًّا في زمنه لجاءه ونصره، وقاتل تحت رايته؛ ومِمَّا يوضح أنه لا يدركه نبي إلا اتبعه؛ ما رواه الإمام أحمد وابن أبي شيبة، والْبَزَّارُ من حديث جابر -رضي الله عنه-: أن عمر -رضي اللَّه عنه- أتى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- بكتاب أصابه من بعض أهل الكتاب فقرأه عليه، فغضب، وقال: "لَقَدْ جِئْتُكُمْ بِهَا بَيْضَاءَ نَقِيةً، لَا تَسْألُوهُمْ عَنْ شَئءٍ فَيُخْبِرُوكُمْ بِحَقٍّ فَتُكَذِّبُوا بِهِ أوْ بِبَاطِلٍ فَتُصَدِّقُوا بِهِ، وَالَّذِى نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أن مُوسَى كَانَ حَيًّا ما وَسِعَهُ إلَّا أنْ يَتَّبِعَني". اهـ.
قال ابن حجر في "الفتح": "ورجاله موثوقون، إلا أن في مجالدٍ ضعفًا".
وقال الحافظ ابن كثير -رحمه اللَّه- في "تاريخه" بعد أن ساق آية "آل عمران" المذكورة آنفًا، مُسْتَدِلًّا بها على أن الْخَضِرَ لو كان حَيًّا لجاء النبيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم -ونصره- ما نَصُّهُ: [قال ابن عَبَّاس -رَضي اللَّه عنهما-: "ما بَعَثَ اللَّه نَبِيًّا إلا أخذ عليه الميثاق؛ لئن بُعِثَ محمد -صلى اللَّه عليه وسلم- وهو حي؛ ليؤمِنَنَّ به، وليَنْصُرَنَّهُ، وأمره أن يأخذ على أمته الميثاق لئن بُعِثَ مُحَمَّدٌ وهم أحياء لَيُؤْمِنُنَّ به، وليَنْصُرُنَّهُ"- ذكره البخاري عنه.
فالخضر إن كان نَبِيًّا أَوْ وَليًّا؛ فقد دخل في هذا الميثاق، فلو كان حَيًّا في زمن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- لكان أشرفَ أحواله أن يكون بين يديه، يؤمن بما أنزل اللَّه عليه، وينصره إن وصل أحدٌ من الأعداء إليه؛ لأنه إن كان وليًّا، فالصِّدِّيقُ أفضلُ منه، وإن كان نبيًّا؛ فموسى أفضل منه.
وقال الإمام أحْمَدُ في "مسنده": حَدَّثنَا سُرَيْجُ بن النعمان، حدَّثنا هشيم، أنبأنا مجالد، عن الشعبي، عن جابر بن عبد اللَّه -رضي اللَّه عنهما-: أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: " وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَوْ أنَّ مُوسَى كَانَ حَيًّا مَا وَسِعَة إلَّا أنْ يَتَّبِعَنِي"، وهذا الذي يُقْطَعُ به، ويُعْلَمُ من الدين علمَ الضرورة.
وقد دَلَّتْ عليه هذه الآية الكريمة؛ أن الأنبياء كلهم لو فُرِض أنهم أحياء في زمن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، لكانوا كُلُّهُمْ أتباعًا له، وتحتَ أوامره، وفي عموم شرعه، كما أنه -صلواتُ اللَّه وسلامُه عليه- لما اجتمع بهم ليلةَ الإسراء، رُفِعَ فوقهم كُلِّهِمْ، ولَمَّا هبطوا معه إلى بيت المقدس، وحانتِ الصلاةُ أمَرَهُ جبريلُ عن أمر اللَّه أن يَؤُمَّهُمْ؛ فَصَلَّى بهم في مَحَلِّ وِلايتهم، ودار إقامتهم، فَدَلَّ على أنه الإمَامُ الأعْظَمُ، والرسولُ الخاتَم الْمُبَجَّلُ الْمُقَدَّمُ - صلوات اللَّه وسلامه عليه وعليهم أجمعين-.
= " .. إلى مئة سنة لا يبقى ممن هو على وجه الأرض اليوم أحد"، قال ابن كثير -رحمه الله-: "وفي كون البخاري -رحمه الله- يقول بهذا، وأنه إلى زمان النبي -صلى الله عليه وسلم- نظر". اهـ. من "البداية والنهاية" (1/ 336).
وقد قال -صلى الله عليه وسلم- في حديث صحيح: "رحم الله موسى، لوددنا لو كان صبر حتى يقص علينا من خبرهما"، فلو كان الخضر موجودًا لما حَسُن هذا التمني، ولأحضره بين يديه، وأراه العجائب، وكان أدعى لإيمان الكفرة، لا سيما أهل الكتاب، انظر: "فتح الباري" (6/ 310).
فإذا عُلِمَ هذا -وهو معلوم عند كل مؤمن- عُلِمَ أنه لو كان الْخَضِرُ حيًّا؛ لكان من جملة أُمَّةِ محمد -صلى اللَّه عليه وسلم-، وممن يَقْتَدِي بشرعه، لا يسعه إلا ذلك، هذا عيسى ابن مريم -عليه السلام- إذا نزل في آخر الزمان، يحكم بهذه الشريعة المُطهَّرَةِ، لا يخرجُ منها، ولا يَحِيدُ عنها، وهو أحد أولي العزم الخمسة المرسلين، وخاتَم أنبياء بني إسرائيل، ومعلومٌ أن الْخَضِرَ لم يُنقل -بسند صحيحٍ، ولا حسنٍ تسكنُ النفسُ إليه- أنه اجتمع برسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- في يومٍ واحد، ولم يَشْهَدْ معه قتالًا، في مشهدٍ من المشاهد، وهذا يومُ بدر، يقول الصادق المصدوق فيما دعا به لربه -عز وجل- واستنصره، واستفتحه على من كفره: "اللَّهُمَّ إنْ تَهْلِكْ هَذِهِ الْعِصَابَةُ لَا تُعْبَدْ بَعْدَها فيِ الأرْضِ" (1)، وتلك العصابةُ كان تحتها سادةُ المسلمين يومئذٍ، وسادةُ الملائكة، حتى جبريلُ -عليه السلام- كما قال حسَّانُ بن ثابت -رضي اللَّه عنه- في قصيدة له، في بيت يُقَال: إنَّه أفخرُ بيتٍ قالته العرب:
وَبِبئْرِ بِدْرٍ إذْ يَرُدُّ وُجُوهَهُمْ ... جِبْرِيلُ تَحْتَ لِوَائِنَا وَمُحَمَّدُ
فلو كان الْخَضِرُ حيًّا لكان وقوفُه تحت هذه الراية أشرفَ مقاماته، وأعظمَ غزواته.
قال القاضي أبو يعلى محمد بن الْحُسَين بن الفرَّاء الحنبلي: سُئِل بعض أصحابنا عن الْخَضِر هل مات؟ فقال: نعم، قال: وبلغني مثلُ هذا عن أبي طاهرٍ ابن الغُبارِي، قال: وكان يَحْتَجُّ بأنه لو كان حيًّا، لجاء إلى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- نقله ابن الجوزي في "العُجالة"، فإن قيل: فهلَّا يُقال: إنه كان حاضرًا في هذه المواطن كلِّها، ولكن لم يكن أحدٌ يراه (2)؟
(1) رواه مسلم (1763)، والترمذي (3081)، والإمام أحمد (2/ 30، 32).
(2) دعوى أنه محجوب عن أعين الناس؛ كالملائكة، والجن لا دليل عليها، وهي خلاف الأصل؛ لأن الأصل في بني آدم أن يرى بعضُهم بعضًا.
فالجواب: أن الأصلَ عدمُ هذا الاحتمالِ البعيد، الذي يَلْزَمُ منه تخصيصُ العموماتِ بمجردِ التوهماتِ، ثم ما الحاملُ له على هذا الاختفاء؟ وظهورُه أعظمُ لأجره، وأعلى في مرتبته، وأظهرُ لمعجزته، ثم لو كان بَاقِيًا بعدَه، لكان تبليغُه عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- الأحاديثَ النبوية، والآياتِ القرآنيةَ، وإنكارُه لما وقع من الأحاديثِ المكذوبة، والرواياتِ المقلوبة، والآراءِ البدعية، والأهواءِ العصبية، وقتالُه مع المسلمين في غزواتهم، وشهودُه جُمَعَهِم وجماعاتِهم، ونفعُه إياهم، ودفعه الضررَ عنهم مِمَّن سواهم، وتسديدُه العلماءَ والحُكَّامَ، وتقريره الأدلةَ والأحكام- أفضلَ مما يُقَالُ من كُنونه (1) في الأمصار، وَجَوْبِهِ الفَيافِيَ والأقطار، واجتماعِه بعُبَّادِ لا يُعْرَفُ أحوالُ كثيرٍ منهم، وجعله لهم كالنقيب المُتَرْجِمِ عنهم.
وهذا الذي ذَكَرْناه لا يتوقف أحد فيه بعد التفهم، واللَّه يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم]. انتهى من "البداية والنهاية" (2)، لابن كثير -رحمه اللَّه- تَعَالَى.
فتحصَّلَ أن الأحاديث المرفوعة التي تدل على وجود الْخَضِرِ حيًّا باقيًا لم يثبت منها شيء، وأنه قد دلت الأدلة المذكورة على وفاته، كما قدمنا إيضاحه" (3). اهـ.
وقال القاضي أبو يعلى -رحمه اللَّه-:
"وما أبْعَدَ فَهْمَ من يُثْبِتُ وجود الْخَضِرِ -عليه السلام- وينسى ما في طيِّ إثباته من الإعراض عن هذه الشريعة ... ". ثم قال بعد أن ذكر وُجُوهًا من الأدلة العقلية على عدم حياة الْخَضِرِ:
"الْخَامِسُ: أن القول بحياة الْخَضَرِ قول على اللَّه -تَعَالَى- بغير علم، وهو حرام بنص القرآن.
أمَّا المْقُدِّمَةُ الثَّانِيَةُ: فظاهرة، والأولى؛ فلأن حياته لو كانت ثابتة لدلَّ عليها القرآن أو السنة، أوإجماع الأمة؛ فهذا كتاب اللَّه، فأين فيه حياة الْخَضِرِ؟
وهذه سنة رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، فأين فيها ما يَدُلُّ على ذلك بوجه؟
وهؤلاء علماء الأمة، فمتى أجمعوا على حياته؟
السَّادِسُ: أن غاية ما يُتَمَسَّكُ به في حياته حكايات منقولة، يخبر الرجل بها أنه رأى الْخَضِرَ فَيَا لَلْعجب! هل لِلْخَضِرِ علامَة يعرفه بها من رآه؟ وكثير من زاعمي رؤيته يَغْتَرُّ بقوله: أنا الْخَضِرُ، ومعلوم أنه لا يجوز تصديق قائل ذلك بلا برهان من اللَّه -تَعَالَى- فمِنْ أين للرائي أن المُخْبِرَ له صادق لا يكذب؟
السَّابعُ: أن الْخَضِرَ فَارَقَ موسى بن عمران كليم الرحمن، ولم يصاحبه، وقال: {قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ} [الكهف: 78]، فكيف يرضي لنفسه بمفارقة مثل موسى -عليه السلام-، ثم يجتمع بِجَهَلَةِ العُبَّادِ الخارجين عن الشريعة، الذين لا يحضرون جُمُعَةً، ولا جماعة، ولا مجلسَ علم؟ وكلٌّ منهم يقول: قال لي الْخَضِرُ، جاءني الْخَضِرُ، أوصاني الْخَضِرُ، فيا عَجَبًا له يُفَارِقُ الكليمَ، ويدور على صُحْبَةِ جاهل، لا يصحبه إلا شيطان رجيم، سبحانك هذا بهتان عظيم!
الثَّامِنُ: أن الأمَّة مُجْمِعَةٌ على أن الذي يقول: "أنا الْخَضِرُ" لو قال: سمعت رسول اللَّه يقول كذا وكذا، لم يُلْتَفَتْ إلى قوله، ولم يُحْتَجَّ به في الدين، ولا مخلص للقائل بحياته عن ذلك إلا أن يقول: إنه لم يَأتِ إلى الرسول -عليه الصلاة والسلام-، ولا بايعه، أو يقول: إنه لم يُرْسَلْ إليه، وفي هذا من الكفر ما فيه.
(1) كَنَّ الشيءُ كُنونًا: استتر.
(2) "البداية والنهاية" (2/ 265 - 268)، طبعة دار هجر (1417 هـ - 1997 م).
(3) "أضوء البيان" (4/ 163 - 171) بتصرف.
التَّاسع: أنَّهُ لو كان حيًّا لكان جهاده الكفَّارَ، ورباطه في سبيل اللَّه -تعالى-، ومقامه في الصف ساعة، وحضوره الْجُمُعَةَ والجماعة، وإرشاد جَهَلَةِ الأمة، أفضل بكثير من سياحته بين الوحوش في القفار والفلوات، إلى غير ذلك" (1).
[وقال ابن الجوزي في "عجالة المنتظر في شرح حال الخضر"]
"إن من قال: (إنه موجود قائمًا)، قال ذلك لهواجس ووسواس" (2). اهـ.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه اللَّه - تَعَالَى-:
"والصواب الذي عليه المحققون أنه ميت، وأنه لم يدرك الإسلام، ولو كان موجودًا في زمن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، لوجب عليه أن يُؤْمِنَ به، ويُجَاهِدَ معه؛ كما أوجب اللَّه ذلك عليه، وعلى غيره، ولكان يكون في مكة والمدينة، ولكان يكون حضوره مع الصحابة للجهاد معهم، وإعانتهم على الدين- أولى به من حضوره عند قوم كُفَّارٍ؛ ليُرَقِّعَ لهم سفينتهم، ولم يكن مختفيًا عن خير أمة أُخْرِجَتْ للناس، وهو قد كان بين يدي المشركين، ولم يحتجب عنهم، ثم ليس للمسلمين به وأمثاله حاجة لا في دينهم، ولا في دنياهم؛ فإن دينهم أخذوه عن الرسول النبي الأمي -صلى اللَّه عليه وسلم- الذي عَلَّمَهُمْ الكتاب والحكمة ... وإذا كان الْخَضِرُ حيًّا دائمًا، فكيف لم يذكر النبيُّ ذلك قط؟ ولا أخبر به أمته؟ ولا خلفاؤه الراشدون؟ وقول القائل: "إنه نقيب الأولياء"، فيقالُ له: مَن وَلَّاهُ النِّقابة؟ وأفضل الأولياء أصحاب محمد -صلى اللَّه عليه وسلم-، وليس فيهم الْخَضِرُ، وعامَّةُ ما يُحْكَى في هذا الباب من الحكايات بعضها كَذِبٌ، وبعضها مبني على ظن رجل؛ مثل شخص رأى رجلًا ظن أنه الْخَضِرُ (3)، وقال: إنه الْخَضِرُ، كما أن الرافضة تَرَى شَخْصًا تَظُنُّ أنه الإمام
(1) نقله عنه الألوسي في "روح المعاني" (15/ 320، 321).
(2) حكاه عنه في "كشف الظنون" (2/ 1125).
(3) وعادة ما ينتهي كثير من هذه الحكايات بما يؤكد أنه مجرد ظن وتخمين، كقول بعضهم: "فالتفت لأكلمه، فلم أره، فوقع في نفسي أنه الخضر". اهـ. من "فتح الباري" (6/ 311)، وفي بعضها: "فقلت: ما أشبه أن يكون هذا الخضر، أو بعض الأبدال". اهـ. من "الإصابة" (2/ 132، 133)، وفي بعضها: "ثم غاب الشيخ، فعلمنا أنه الخضر". اهـ. "من مناقب الإمام أحمد" لابن الجوزي ص (144، 145).
الْمُنْتَظَر الْمَعْصُومُ، أو تدعي ذلك، ورُوِيَ عن الإمام أحمد بن حنبل أنه قال -وقد ذُكِرَ له الْخَضِرُ-: "من أحالك على غائبٍ فما أنصفك، وما ألقى هذا على ألسنة الناس إلا الشيطان" (1).
وقال الإمام أبو الحسن بن المنادي -رحمه اللَّه (2) -:
"بحثت عن تعمير الخَضِرِ، وهل هو بَاقٍ، أم لا؛ فإذا أكثرُ الْمُغفَّلِينَ مفترون بأنه بَاقٍ من أجل ما رُوِىَ في ذلك، قال: "والأحاديث المرفوعة في ذلك واهية، والسند إلى أهل الكتاب ساقط؛ لعدم ثقتهم، وخبر مسلمة بن مصقلة كالخرافة، وخبر رياح كالريح، قال: وما عدا ذلك كله من الأخبار كلها واهية الصدور والأعجاز، لا يخلو حالها من أحد أمرين:
إما أن تكون أُدْخِلَتْ على الثقات استغفالًا، أو يكون بعضهم تَعَمَّدَ.
وقد قال اللَّه -تَعَالَى-: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ} [الأنبياء: 34] " اهـ.
وممن قال بموت الخَضِرِ إبراهيم الحربي؛ حيث قال حين سُئِلَ عن بقاء الخَضِرِ إلى الآن: "من أحال على غائب لم ينتصف منه، وما ألقى هذا بين الناس إلا الشيطان" (3).
وقال الإمام أبو الخَطَّابِ بن دحية -رحمه اللَّه-:
"وجميع ما ورد في حياته لا يصح منها شيء باتفاق أهل النقل، وإنما يذكر ذلك من يروي الخبر، ولا يذكر علته؛ إما لكونه لا يعرفها، وإما لوضوحها عند أهل الحديث".
(1) مجموع الفتاوى (27/ 100 - 102)، وانظره: (4/ 337)، وقد جاء في موضع آخر (4/ 338 - 340) ما يفيد القول بحياته، حتى استغرب جامع الفتاوى الفتوى التي تؤيد كونه حيًّا، فقال: "هكذا وجدت هذه الرسالة". اهـ.
فالراجح -والله أعلم- أنه انتهى إلى القول بموته لأنه أيده بأدلة قوية، بجانب أنه ينسجم مع منهجه العلمي المعروف عنه في مثل هذا، وقد قال -رحمه الله- في "منهاج السنة النبوية": "والصواب الذي عليه محققو العلماء أن إلياس والخضر ماتا". اهـ. (1/ 97).
(2) "الزهر النضر في نبأ الخضر"، ضمن "الرسائل المنيرية" (2/ 206، 207).
(3) نقله عنه ابن الجوزي في "الموضوعات" (1/ 199)، والألوسي في "روح المعاني" (15/ 320).
ثم قال: "وأما ما جاء عن المشايخ فهو مما يُتعجب منه؛ كيف يجوز لعاقل أن يَلْقَى شخصًا لا يعرفه، فيقول له: أنا فلان، فيصدقه؟ ".
ثم قال: "وأما حديث التعزية الذي ذكره أبو عُمَرَ، فهو موضوع رواه عبد الله بن مُحَرَّرِ عن يزيد بن الأصم، عن علي -رضي اللَّه عنه-، وابن مُحَرَّرٍ متروك، وهو الذي قال ابن المبارك في حقه كما أخرجه مسلم في "مقدمة صحيحه": (لما رأيته كانت بَعْرَةٌ أحبَّ إليَّ منه)، ففضل رؤية النجاسة على رؤيته" (1).
قال الحافظ: "وكان الإمام أبو الفتح الْقُشَيْرِىُّ يذكر عن شيخ له أنه رأى الخَضِرَ وحَدَّثَهُ، فَقِيلَ له: "من أعلمه أنه الخَضِرُ؟ أم كيف عرف ذلك؟ فسكت" (2).
وقال الإمام المحقق ابن قيم الجوزية -رحمه اللَّه تعالى-:
"والأحاديث التي يُذكَر فيها الخضر وحياتُه كلُّها كذبٌ، ولا يصح في حياته حديث واحد". اهـ (3).
وساق الإمام الحافظ ابن كثير -رحمه الله- الحكايات والروايات التي اسْتَدَلَّ بها القائلون بحياة الخَضِرِ، ثم قال: "وهذه الروايات والحكايات هي عمدة من ذهب إلى حياته إلى اليوم، وكلٌّ من الأحاديث المرفوعة ضعيفة جدًّا، لا يقوم بمثلها حجة في الدين، والحكاياتُ لا يخلو أكثرها عن ضعفٍ في الإسناد، وقُصَارَاهَا أنها صحيحة إلى من ليس بمعصوم؛ من صحابي، أو غيره؛
(1) "الزهر النضر" (2/ 203 - منيرية)، والخبر في "مقدمة صحيح مسلم" (1/ 27)، وانظر: "الإصابة" (2/ 119).
(2) "نفسه" (2/ 234)، وانظر: "البحر المحيط" لأبي حيان (6/ 147).
(3) "المنار المنيف" ص (67).
لأنه يجوز عليه الخطأ، واللَّه أعلم" .. إلى أن قال: "وقد تصدى الشيخ أبو الفرج ابن الجوزي -رحمه الله (1) - في كتابه "عُجَالَةُ المنتظر في شرح حالِ الخَضِرِ"، للأحاديث الواردة في ذلك من المرفوعات، فَبَيَّنَ أنها موضوعات، ومن الآثار عن الصحابة، والتابعين ومَن بعدهم، فَبَيَّنَ ضَعْفَ أسانيدها ببيان أحوالها، وجَهَالَةِ رجالِها، وقد أجاد في ذلك، وأحسن الانتقاد" (2).
وقال الإمام الحافظ ابن حجر العسقلاني -رحمه اللَّه-: "والذي تَمِيلُ إليه النفس من حيث الأدلة القوية خلاف ما يعتقده العوامُّ من استمرار حياته، لكن ربما عرضت شبهة من جهة كثرة الناقلين للأخبار الدالة على استمراره؛ فَيُقَالُ: هب أن أسانيدها واهية؛ إذ كل طريق منها لا يسلم من سبب يقتضي تضعيفها، فماذا يُصْنَعُ في المجموع؛ فإنه على هذه الصورة قد يلتحق بالتواتر المعنوي الذي مَثَّلُوا له بجود حاتم (3)، فمن هنا مع احتمال التأويل في أدلة القائلين بعدم بقائه؛ كآية {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ} [الأنبياء: 34]، وكحديث: "رَأْس مِئَةِ سَنَة" وغير ذلك مما تقدم بيانه.
(1) انظر: "الموضوعات" لابن الجوزي (1/ 193 - 199)، و"الإصابة" (2/ 286 - 335).
(2) "البداية والنهاية" (2/ 263 - 265).
(3) أجاب الحافظ نفسُه على هذا الإيراد بقوله: "ولا يقال: يُستفاد من هذه الأخبار التواتر المعنوي؛ لأن التواتر لا يُشترط ثقةُ رجاله ولا عدالتهم، وإنما العمدة على ورود الخبر بعددٍ يستحيل في العادة تواطؤهم على الكذب، فإن اتفقت ألفاظه فذاك، وإن اختلفت فمهما اجتمعث فيه فهو التواتر المعنوي، وهذه الحكاية تجتمع في أن الخضر حي، لكن يطرق حكايةَ القطع بحياته قولُ بعضهم: إنَّ لكل زمانٍ خَضِرًا، وإنه نقيبُ الأولياء، وكلما مات نقيبٌ أقيم نقيبٌ بعدَه مكانه، ويُسمى الخضر.
وهذا قول تداولته جماعة من الصوفية من غير نكير بينهم، ولا يقطع مع هذا بأن الذي ينقل عنه أنه الخضر هو صاحبُ موسى؛ بل هو خضِر ذلك الزمان، ويؤيده اختلافهم في صفته، فمنهم من يراه شيخًا أو كهلًا أو شابًّا؛ وهو محمول على تغاير المرئي وزمانه، والله أعلم". اهـ. من "الإصابة (2/ 294)، وانظر ص (255).
وأقوى الأدلة على عدم بقائه عدم مجيئه إلى رسول الله -صلى اللَّه عليه وسلم-، وانفراده بالتعمير من بين أهل الأعصار المتقدمة بغير دليل شرعي، والذي لا يُتوقَّفُ فيه: الجزمُ بنبوته" (1).
ورَجَّحَ المفسِّر الشهير الألوسي -رحمه اللَّه- القول بحياة الخضر -عليه السلام-، والعجيب أنه -مع ذلك- قال: "ثم اعلم بعد كل حساب أن الأخبار الصحيحة النبوية والمقدمات الراجحة العقلية تساعد القائلين بوفاته -عليه السلام- أيَّ مساعدة، وتعاضدهم على دعواهم أي معاضدة، ولا مقتضى للعدول عن ظواهر تلك الأخبار إلا مراعاة ظواهر الحكايات المروية -واللَّه- تَعَالَى -أعلمُ بصحتها- عن بعض الصالحين الأخيار، وحسن الظن ببعض السادة الصوفية، فإنهم قالوا بوجوده إلى آخر الزمان على وجه لا يقبل التأويل السابق" (2).
وقال الألوسي -رحمه اللَّه تعالى- في موضع آخر:
"إن غاية ما يُتمسك به في حياته، حكايات منقولة، يخبر الرجل بها أنه رأى الخضر ... ، وكثير من زاعمي رؤيته يغتر بقوله: (أنا الخضر)!!، ومعلوم أنه لا يجوز تصديق قائل ذلك بلا برهان من اللَّه تعالى، فمن أين للرائي أن المخبِر له صادق لا يكذب؟! " (3). اهـ.
وقال العلامَةُ الشيخ بكر أبو زيد -حفظه اللَّه-: "إذا اتَّضَحَ ذلك فاعلم أن القول بوَلاية الخَضِرِ، والقول بأنه ما زال حيًّا، قد جَرَّ هذان القولان من البلايا والمحن، والدعاوى الكاذبة، والتلبيس على العامَّة، بل وعلى الخاصَّة، ما لا يُصَدِّقُهُ عقل، ولا يقبله دين: مِن دعوى فضل الوَلاية والأولياء على النبوة والأنبياء (4)، وان فلانًا لقي الخَضِرَ -عليه السلام- واستلهمه كذا وكذا،
(1) "الزهر النضر"، ضمن "الرسائل المنيرية" (2/ 234).
(2) "روح المعاني" (15/ 328).
(3) "نفس المصدر" (15/ 321).
(4) قال الحافظ -رحمه الله- في "الإصابة" (2/ 288): =
والقول بوَلايته وحياته أبد الدهر هما مُعْتَمَدُ الصوفية في جعل الشريعة لها ظاهر وباطن، وأن علماء الباطن يُنْكِرُونَ على علماء الظاهر ولا عكس، وبه قالوا بحجية الإلهام، وأن الولي أفضل وأعلم من النبي، والدعوى الواسعة للقاء الخَضِرِ، والأخذ عنه، فمنهم من لقي الخَضِرَ يصلي على المذهب الحنفي، وآخرون رأوه يصلي على المذهب الشافعي" (1). اهـ.
وَالسُّؤَالُ الآنَ:
إذا صَدَقَ الذين زعموا لقيا الخَضِرِ، والخَضِرُ ميت على الراجح، فما الجواب عن حكاياتهم؟
قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه اللَّه تعالى-:
"وعامة ما يُحكى في هذا الباب من الحكايات، بعضها كذب، وبعضها مبنيٌّ على ظَنِّ رجلٍ، مثل شخص رأى رجلًا ظن أنه الخضر، وقال: إنه الخضر! كما أن الرافضة ترى شخصًا تظن أنه الإمام المنتظر المعصوم، أو تدعي ذلك" (2). اهـ.
وقال أيضًا شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه اللَّه-:
"إن الذين رأوا من قال: (إني أنا الخضر) هم كثيرون صادقون، والحكايات متواترات (3)؛ لكن أخطئوا في ظنهم أنه الخضر، وإنما كان جنيًّا" (4).
= (وكان بعض أكابر العلماء يقول: "أول عقد يحل من الزندقة اعتقاد كون الخضر نبيًّا؛ لأن الزنادقة
يتذرعون بكونه غير نبي إلى أن الوليَّ أفضلُ من النبي، كما قال قائلهم:
مقام النبوة في برزخ ... فُوَيْقَ الرسولِ ودونَ الولي). اهـ
(1) "التحذير من مختصرات الصابوني في التفسير" ص (65).
(2) "مجموع الفتاوى" (27/ 101، 102).
(3) لكن هذه الحكايات لا تستوفي شروط الخبر المتواتر، إذ لا يتحقق التواتر إلا بأن توجد الكثرة العددية في جميع طبقات السند، الأمر الذي يقدح في وصفها بالتواتر، وهذا الشرط نفسه مما نبطل به دعاوى النصارى في زعمهم تواتر صلب المسيح عليه السلام.
(4) "مجموع الفتاوى" (13/ 93).
وقال أيضًا -رحمه الله-: "كُلُّ من ادعى أنه رأى الخَضِرَ، أو رأى من رأى الخَضِرَ، أو سمع شَخْصًا رأى الخَضِرَ، أو ظن الرائي أنه الخَضِرُ: فكل ذلك لا يجوز إلا على الجهلة الْمُخَرِّفِينَ الذين لا حظَّ لهم من علم، ولا عقل، ولا دين، بل هم من الذين لا يفقهون، ولا يعقلون" (1).
وقال -رحمه اللَّه-: "ومنهم من لا يَظُنُّ أولئك الأشخاص إلا آدميين أو ملائكة؛ فإن كانوا غير معروفين، قال: هؤلاء رجال الغيب، وإن تَسَمَّوْا فقالوا: هذا هو الخَضِرُ، وهذا هو إلياس، وهذا هو أبو بكر وعمر، وهذا هو الشيخ عبد القادر، أو الشيخ عَدِىٌّ، أو الشيخ أحمد الرفاعي، أو غير ذلك، ظن أن الأمر كذلك.
فهنا لم يغلط، لكن غلط عقله؛ حيث لم يعرف أن هذه شياطين تمثلت على صور هؤلاء، وكثير من هؤلاء يظن أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- نفسه، أو غيره من الأنبياء أو الصالحين يأتيه في اليقظة ... والذي له عقل وعلم يعلم أن هذا ليس هو النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-؛ تارة لِمَا يَرَاهُ منهم من مخالفة الشرع؛ مثل أن يأمروه بما يخالف أمر اللَّه ورسوله، وتارة يعلم أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- ما كان يأتي أحدًا من أصحابه بعد موته في اليقظة، ولا كان يخاطبهم من قبره، فكيف يكون هذا لي؟ " (2).
وقال -أيضًا - رحمه اللَّه-: "فمن هؤلاء من يسمع خطابًا، أو يرى من يأمره بقضية، ويكون ذلك الخطاب من الشيطان، ويكون ذلك الذي يخاطبه الشيطان، وهو يحسب أنه من أولياء اللَّه، من رجال الغيب، ورجال الغيب هم الجن، وهو يحسب أنه إنسي، وقد يقول له: أنا الخَضِرُ، أو إلياس، بل أنا محمد، أو إبراهيم الخليل، أو المسيح، أو أبو بكر، أو عمر، أو أنا الشيخ فلان ...
(1) "نفسه" (27/ 458).
(2) "نفسه" (13/ 77، 78).
ويكون ذلك شيطانًا لَبَّس عليه، فهؤلاء يتبعون ظَنًّا لا يُغْنِي من الحق شيئًا، ولو لم يتقدموا بين يدي اللَّه ورسوله، بل اعتصموا بالكتاب والسنة، لتبين لهم أن هذا من الشيطان، وكثير من هؤلاء يتبع ذوقه ووَجْدَه، وما يجده محبوبًا إليه، بغير علم، ولا هدًى، ولا بصيرة، فيكون مُتَّبِعًا لهواه بلا ظن، وخيارهم من يتبع الظن وما تهوى الأنفس" (1). اهـ.
* * *
(1) "نفسه" (13/ 71، 72).
-
الثلاثاء AM 10:21
2022-08-02 - 1128