المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 415801
يتصفح الموقع حاليا : 238

البحث

البحث

عرض المادة

نظرية الحق الإلهي

في المرحلة السابقة للإسلام كان الملوك يستعبدون الناس لأنفسهم زاعمين أن لهم سلالة عرقية خاصة أسمى من العنصر البشري المشترك، وغلا بعض الطواغيت، فادعى أنه إله أو من نسل الآلهة كما فعل أباطرة الروم، ولم يكن ليدور في خلد أي منهم أن للأمة عليه واجبات وحقوقاً، وأن الكرسي والمنصب تكليف لا تشريف، بل كانوا يرون أن ما تقدمه لهم الأمم من مراسم الخدمة والولاء والخضوع المذل والتضحية بالنفس والنفيس لأجلهم ليس إلا واجباً مقدساً يقومون به تجاه العرش المحروس!

جاء الإسلام فنسف هذه الفكرة من أساسها، ورد العبودية كلها لله وحده، وفرض على الحكام تبعات ومسئوليات تناسب مركزهم في الأمة، فرأى الناس في معظم أنحاء المعمورة الولاة المسلمين يرعون مصالحهم، وينهضون بأعباء المسئولية كاملة في الوقت الذي لا يتميزون فيه عن الأمة بكبير فرق.

ولكن الأقطار التي لم يشملها نور الإسلام - لا سيما في أوروبا الهمجية - ظلت ترزح تحت نير الطغاة وظل الفرد الأوروبي عدة قرون يعبد الهين من البشر: الامبراطور والبابا، الأول يدعي أن له الحق في حكم الناس وفق مشيئته ويخضعهم لهواه، والثاني يبارك خطواته ويلزم الشعب بإطاعته لأن ذلك يأمر به الله وتمليه السماء.

وظلت عروش أوروبا تتوارثها سلالات وعائلات معينة لا يجرؤ أحد أن ينافسهم ولا يستسيغ إنسان أن يسأل لماذا يحكم هؤلاء؟ وبماذا يحكمون؟، فالرعاع كلهم مقتنعون تماماً بأنهم يستمدون حكمهم من الله مباشرة!!

وظهر فلاسفة وباحثون برروا هذا الاستبداد والعبودية وفلسفوها في قوالب متعددة؛ فجاء هوبز ليتملق ملوك عصره مطالباً بأن لهم الحق في سلطة مطلقة يستطيعون بها تنفيذ العقد الموهوم، وكذلك كان جان بودان (1596) وجروتس (1645) من المدافعين عن الحكم المطلق، ويعلل بودان ذلك بأن الحكم غير المطلق معرض للثورات والفتن وصراع الأحزاب، وينكر نظرية العقد المجتمع لأنها تمنح الفرد الشعور بالمشاركة في تكوين الدولة.

أما جروتس فيدافع عن الاستبدادية بذريعة أنها أفضل السبل لتطبيق القانون الطبيعي، وأن الناس إذ قد ارتضوا هذا النوع من الحكم، فليس من حقهم أبداً أن يتراجعوا عنه (1).

وفي القرن التاسع عشر تطورت هذه الفكرات إلى فكرة فلسفية معقدة على يد هيجل (1900)، ومدرسته التالية التي تمثل حلقة وصل بين العقائد المسيحية وبين النظريات الفلسفية المجردة، ولعل أعظم ما حققه أساتذتها هو تحويل الدين إلى فكر ومنطق.

فتحول الله إلى مطلق، والوحي إلى معرفة مطلقة، والمسيح إلى توسط، والشريعة إلى قانون مجرد، أي: أن العقيدة هي الحياة نفسها، والعقائد رموز تفكك إلى حقائق (2).

ويرى هيجل أن التاريخ هو عبارة عن (تطور منطقي قائم على أساس مفهوم التقدم نحو النظام والمعقولية والحرية)، والدولة ليست مصطنعة عن طريق عقد اجتماعي أو غيره، بل هي كائن طبيعي له وجوده المتميز إذ هي تجسيد للحرية التي يرنو إليها التطور التاريخي.


(1) الفكر السياسي قبل الأمير وبعده (ملحق لكتاب الأمير) (254 - 255).
(2) سلسلة تراث الإنسانية (8/ 385).

والتاريخ -في نظره- ظل يتطور وفق قانون: الجدلية حتى بلغ القمة في الدولة البروسية - التي كانت معاصرة لهيجل - ففيها تجسد المطلق والحرية والألوهية!! (1)

وعلى الرغم من النقد العاصف الذي تعرضت له النظرية من قبل أنصار النظريات الأخرى بسبب تقديسها الزائف للاستبداد، فقد كان لها أثر بالغ -لا سيما- في نفوس الألمان الذين ظلوا على استعداد للانقياد لحكومة ديكتاتورية يرون فيها تجسيداً لأعلى مثلهم القومية فكان بسمارك في القرن الماضي وهتلر في القرن العشرين.

واشتق منها ماكس فيبر نظريته في الكاريسما، ومعناها -عنده- القوة الخاصة التي منحتها الطبيعة للقلة المختارة للدلالة على الزعماء الذين يقوم نفوذهم على اعتقاد عام عند الناس بأن روحهم من روح الله مثل يوليوس قيصر ونابليون (2).

وهذه النظرية -رغم أن عداوتها للدين ليست كسابقتها- ألحقت بالدين ضرراً بالغاً بتمسحها به وانتسابها اللفظي إليه وادعاء أن طواغيتها يستمدون سلطتهم من تفويض الله لهم، إذ نجم عن ذلك رد فعل عنيف ضد الدين من قبل من يسمون دعاة الحرية الذين وجدوا في هذه الدعوى فرصة لمهاجمة الأديان متذرعين بأنها تبارك الطغيان وتقدس الدكتاتورية.

والحق الذي لا مرية فيه أن الحكام الذين مارسوا الطغيان متسترين بهذه الدعوى هم أبعد ما يكون عن تنفيذ القانون الإلهي أي الحكم بما أنزل الله، فوق أنهم لا يستطيعون إقامة الدليل على أن الله منحهم الحق في التسلط على الأمم وإذلال الشعوب باسمه.

وواقع التاريخ يؤكد أن العدل الرباني والطغيان البشري نقيضان لا يجتمعان، وأن الذين كانوا يحكمون بما أنزل الله -فعلاً- ويستندون في سلطتهم إلى الوحي الإلهي حقيقة هم أعظم حكام البشرية عدلاً وإنصافاً وأشدهم رحمة وتواضعاً، وأنهم بفضل ذلك قد حققوا في دنيا الواقع ما كان الفلاسفة يحلمون به في الخيال، وهاهي ذي سيرة الأنبياء الذين حكموا بني إسرائيل وسيرة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والخلفاء الراشدين ومن حذا حذوهم تظهر فيها الصورة المشرقة والنموذج الرفيع للحكم الأمثل، وعكس ذلك تماماً كان الحكام الطغاة الذين يتبجحون بنظرية الحق الإلهي، فهم يمثلون أسوأ النماذج للجبروت والاستبداد.

وهكذا كلما كان الحاكم أقرب إلى الحكم بما أنزل الله كان حكمه أقرب إلى النزاهة والاستقامة، وحالت خشية الله بينه وبين أي لون من ألوان الطغيان، وكلما ابتعد عن الحكم بما أنزل الله سقط في مهاوي الظلم؛ وتلطخت صفحة حكمه بصنوف الاستبداد وأنواع الجور.

إذن فليست نظرية الحق الإلهي على حق فيما تضفيه على حكامها من القداسة المصطنعة والعمل حسب تفويض الله وإرادته، وكذلك ليس خصومها على حق في دعوى أن الدين يحبذ الطغيان ويشجع على الاستبداد.

[النظريات الحديثة والمعاصرة]

انتقد المفكرون السياسيون في القرن الماضي والقرن العشرين النظريات السياسية السابقة، وأبدوا اعتراضاتهم المتباينة عليها.

فهل انتقدوها لأنها تعطي حق الحاكمية لغير الله، وتضرب صفحاً عن الدين، وضرورة قيام الحياة كلها على تعاليمه وانبثاق معاييرها وتصوراتها كافة من مبادئه وأحكامه؟.

كلا، لم يحدث ذلك، بل إن احتمال حدوثه في هذه المرحلة التاريخية أبعد منه في المراحل السابقة، أما النظرية الخيالية فيرى هؤلاء أن من العبث أن يضاع الوقت في نقدها، وحسبها أن تكون خيالية بينما يعدون أنفسهم واقعيين.

وأما نظرية الكنيسة القائمة على أساس مملكة الله أو مملكة المسيح كما كانت تسميها، فما أسهل أن تنتقد ويشدد عليها اللوم، فهي نظرية رجعية، لا لأنها مخالفة لحقيقة الدين، بل لأنها -في نظرهم- تقوم على أساس تحكيم الدين.

والدين -أياً كانت صورته- هو العدو اللدود للباحثين العلميين هؤلاء، بعضهم يرى أن الدين عاطفة وجدانية أو رابطة روحية تصل قلب الإنسان في فترات من حياته بالسماء، ولا ينبغي بحال من الأحوال إقحامه فيما لا علاقة له به، وهو واقع الحياة اليومية بالنسبة للفرد فضلاً عن الدولة والمجتمع عامة، وإلا فالدمار والاستبداد!

ويستشهدون بالتاريخ - تاريخ الكنيسة الكاثوليكية - التي كان رجالها أعتى الطغاة وأظلم الجبابرة.

وبعضهم يغلو ويشتط فيقول: إن الدين من أساسه شر محض وداء عضال يجب أن يستأصل ويزال؛ لأنه مخدر للشعوب وعائق عن التطور ووسيلة يتقنع بها المستبدون والمحتكرون لامتصاص ثروات الطبقات الكادحة المنكوبة.

ونظرية الحق الإلهي ينحى عليها باللائمة للعلة نفسها علة استمدادها من الدين؛ وإن كانت نسبتها إليه لا تعدو أن تكون من قبيل التزويق اللفظي.

ولنأخذ هارولد لاسكي وهو كاتب سياسي بارز مثالاً للكتاب المحدثين:

يلخص لاسكي هاتين النظريتين بإيجاز، ثم ينقدهما نقداً علمياً فيقول: "يمكننا أن نسمي نظرة الإنسان السائدة إبان تجربته البدائية بالنظرة اللاهوتية؛ فالقانون ليس سوى مجموعة من القواعد الإلهية التي منحها الإله أو الآلهة لمن يعيشون في ظلها، وبناء على ذلك فهي خليقة بأن تطاع لأن مصدرها الوحي المقدس، والمثل الواضح على ذلك قوانين موسى وشريعة حمورابي ... ".

وتصبح هذه النظرة عند هيجل نظرة كونية عندما ينظر إلى سير التاريخ على أنه فكرة تكشف عن حرية تتزايد على الدوام، وتحقق وجودها خلال تطور الدولة.

 


(1) انظر الفكر السياسي: (281).
(2) انظر الاجتماع لماكيفر وزميله: (295).

هذه النظريات كلها تتفق في خاصية واحدة هي أنها تجعل إبرام العقد خارج سيطرة الإنسان، فجوهر القانون دائماً بعيد عن الإنسان، وعليه أن يجده، ويكمن الصلاح في اتباع الإنسان شريعة لا يد له في وضعها.

ومن الواضح قصور مثل هذه النظريات، فقد أثبتت البحوث التاريخية خطأ كل النظم التي تدعي أنها تعمل في ظل العقوبات اللاهوتية. فالإله الذي أوحى بها يتكلم لغة غامضة لا سحر فيها إلا على من نصبوا أنفسهم أتباعاً له (1).

ومع أن لمناقشة هذه الأفكار -إجمالاً- موضعاً آخر من البحث؛ فإن مثل هذا الكلام لا ينبغي أن نتجاوزه دون تمحيص؛ لا سيما وأنه ليس فلتة من كاتب، وإنما هو اتجاه سائد وظاهرة عامة في الفكر السياسي الغربي.

إن هذا الكلام وما شاكله من مواقف غير علمية يتخذها معظم الباحثين اللادينيين حيال أية قضية من قضايا الدين مما لا يليق بالباحث النزيه الذي يتحرى الدقة والموضوعية فيما يقول.

ويتجلى فيه بوضوح جهالة مزدوجة بحقائق التاريخ وحقائق العلم على حد سواء، أما الجهالة التاريخية فتبدو في تعميم الأحكام، وهو خطأ ندر من ينجو منه من كتاب الجاهلية الغربية الصليبية، إذ يعممون أحكامهم عن الدين والشرائع جاهلين - أو متجاهلين - أن الدين في صورته الإلهية الحقة (الإسلام) لا يصح مطلقاً أن يعبر عنه ضمن الأديان والنحل الأخرى وأن يوصم بما توصم به المسيحية الرسمية التي دانت بها أوروبا ولا بما توصف به شريعة التوراة المحرفة التي يسميها لاسكي قوانين موسى.

إن التاريخ - على العكس مما توهم لاسكي - ليسجل للأمة الإسلامية إبان تطبيقها الكامل لشريعة الله أزهى عصر عرفته البشرية عدالة ورخاء، وأنصع صفحة من صفحاته على الإطلاق، اللهم إلا إذا كانت البحوث التاريخية التي يقصدها لاسكي هي بحوث المتعصبين الغربيين الحاقدين!

وأما الجهالة العلمية فتبرز في دعوى أن القانون الأمثل هو الذي يضعه الإنسان لنفسه، وليس الذي يضعه له الإله.

وهي دعوى ناشئة لا عن الجهل بمقام الألوهية فحسب، بل عن الجهل الفاضح بحقيقة الإنسان وقصور علمه وعجز إدراكه ومحدودية معرفته، حيث أن في طبيعته وتكوينه من صفات النقص ونواحي الضعف ما يجعله أعجز وأجهل من أن يشرع لنفسه.

وهو مهما اكتشف من نواميس الكون وأسرار الوجود فلن يصبح إلهاً بحال من الأحوال كما يتوهم المغرمون بالعلم، وصفة الحاكمية التي تعني حق التشريع من أخص صفات الألوهية وأوجبها.

والإنسان في كل مرحلة من مراحل وجوده خلق ليعبد الله لا ليعبد نفسه؛ بدليل أنه يجد نفسه محكوماً بسنن ونواميس إلهية لا يستطيع - بالغاً ما بلغ - أن يتجاوز نطاقها.

 


(1) مدخل إلى علم السياسة. مقتطفات من (26 - 28).

أما الجانب الإرادي من حياته فإنما أعطاه الله حرية الاختيار فيه ليبتليه أيكفر أم يشكر، وفي ذلك تكريم له ورفع لقدره بين المخلوقات، فإن اتبع فيه شريعة الله حصل له الانسجام مع نفسه ومع الكون كله، وإن اتبع هواه وتمرد على خالقه كان التصادم بينه وبين فطرته والكون، وعاش عيشة ضنكاً في الدنيا، فضلاً عن مصيره المحتوم في الآخرة (1).

وما لنا نذهب بعيداً وهاهو لاسكي نفسه يعيب النظريات السياسية قديمها وحديثها - كما سيأتي قريباً - وينقد الديمقراطية معبودة قومه نقداً لاذعاً، ثم يقف عاجزاً عن الإتيان بنظرية سياسية عادلة لا تحابي فرداً على حساب آخر أو تظلم طبقة لمصلحة أُخرى (2).

وهذا الموقف العاجز يقفه كل الكتاب السياسيين المعاصرين، والإنسان العصري يرى بأم عينه الأزمة الحادة في السياسة الدولية على الرغم من النظريات السياسية التي لا حصر لها.

أما نظرية العقد الاجتماعي فإن محور الدراسات الحديثة هو فكرتها القائلة بأن العلاقة بين الحاكم والمحكوم مصلحية نفعية متبادلة، ولا سند للسلطة الحاكمة سوى ذلك، ولكن العيب الذي أخذ عليها هو تصورها الخيالي للعقد، ذلك العقد الذي لا يستطيع أصحاب النظرية إثباته تاريخياً، فهو عقد وهمي لجأ الكتاب السياسيون الأوائل إلى افتراضه، إما هروباً من المواجهة الصريحة للسلطات الحاكمة آنذاك أو تزلفاً لها - على اختلاف بين أصحابها (3).

أما بعد أن تخلصت الشعوب من عبادة الملوك ورجال الدين، وبلغت درجة لا بأس بها من الوعي السياسي وفي الوقت نفسه تخلص الكتاب من أحلام الرومانتيكية، واتجهوا إلى الواقعية فلم يعد هناك ما يدعو إلى افتراض نظريات لا أساس لها تاريخياً.


(1) تراجع مقدمة كتاب مبادئ الإسلام للمودودي وفصل لا إله إلا الله منهج حياة من معالم في الطريق.
(2) انظر كتاب: مدخل إلى علم السياسة ومقالته في تاريخ العالم، (ج4).
(3) انظر مدخل إلى علم السياسة: (30) وتاريخ النظرية السياسية: (84).

وانطلاقاً من ذلك وجد علم السياسة الحديث بغيته المنشودة في كاتب آخر يتجلى بنظرة عصرية إلى الأمور، وإن كان وجوده التاريخي سابقاً لمشاهير النظريات الأخرى ذلك هو نيقولا ميكيافيللي الذي أطلق عليه لقب أول المحدثين، ويعد كتابه الأمير مصدر الإلهام في العصر الحديث بالنسبة للحكام والمفكرين السياسيين على حد سواء (1).

هذا وقد كان للنظريات اللادينية في القرن التاسع عشر ونظرية التطور بصفة خاصة الإسهام الأكبر في بحث الميكافيلية، وإلباسها اللباس العلمي المبهرج بعد أن كانت من قبل مسبة لأصحابها، ومدعاة للتنفير من معتنقيها.

لقد كانت مملكة المسيح التي يتحدث عنها بابوات الكنيسة الكاثوليكية تشتمل على تنظيمين:

1 - التنظيم الروحي؛ ويمثله رجال الدين؛ ومجال عمله الكنائس والأديرة؛ ووظيفته الوعظ والتوجيه للخلاص من الخطيئة.

2 - التنظيم الزمني؛ وتمثله الدولة ومؤسساتها المدنية والعسكرية، وميدانه شئون الحياة الدنيوية.

وكلا التنظيمين يمارس نشاطه في ظل روح أخلاقية مسيحية مع تفاوت بالالتزام بهذه الروح.


(1) انظر مقدمة كتاب الأمير لكريستيان غاوس.

فمن الوجهة العلمية كان الفصل بين الدين والسياسة موجوداً بالفعل أي أن نوعاً من العلمانية الموضوعية كان يسود الحياة الأوروبية طيلة القرون الوسطى، وذلك أمر طبيعي ما دام الحكم بما أنزل الله غير نافذ في المجتمع.

ولكن أول من تبنى دعوة علمانية ذاتية، ودعا بصراحة إلى استبعاد للدين وعزله عن جانب مهم من جوانب الحياة هو مكيافيللي.

والمكيافيلية باعتبارها منهجاً عملياً للحكم تقوم كما رسمها واضعها في الأمير على ثلاثة أسس متلازمة مستمدة من تصور لاديني صرف هي:

1 - الاعتقاد بأن الإنسان شرير بطبعه، وأن رغبته في الخير مصطنعة يفتعلها لتحقيق غرض نفعي بحت (1)، وما دامت تلك هي طبيعته المتأصلة فلا حرج عليه ولا لوم إذا انساق وراءها.

2 - الفصل التام بين السياسة وبين الدين والأخلاق؛ فقد رسم مكيافيللي للسياسة دائرة خاصة مستقلة بمعاييرها وأحكامها وسلوكها عن دائرة الدين والأخلاق، وفرق مكيافيللي تمام التفريق بين دراسة السياسة ودراسة الشئون الأخلاقية وأكد عدم وجود أي رابط بينهما (2).

صحيح أن مكيافيللي لم ينكر الدين والأخلاق في ذاتهما كما هو الشأن في بعض النظريات المعاصرة، لكنه يجعل الحاكم في حل من التمسك بالضوابط المستمدة منهما، ويقصرها على أفراد الشعب.


(1) انظر الأمير: (144).
(2) الأمير المقدمة: (35).

3 - إن الغاية تبرر الوسيلة، وهذه هي القاعدة العملية التي وضعها مكيافيللي بديلاً عن القواعد الدينية والأخلاقية، ولذلك فإن لها عنده تفسيراً خاصاً.

كان الكتاب السياسيون منذ القدم، ومنهم فلاسفة الاغريق كأفلاطون وأرسطو وغيرهم يبحثون عن الغاية من الدولة والهدف من وجودها (1) فرأى بعضهم أن غايتها هي تحقيق المثل العليا السامية، ولهذا جاء اشتراطهم كون الحاكم فيلسوفاً، بينما ذهب آخرون إلى أنها تنفيذ القانون الإلهي أو القانون الطبيعي كما يسمونه.

ولكن مكيافيللي ذا النزعة العملية ذهب إلى أن الدولة غاية بذاتها، والقبض على زمام الحكم هدف برأسه، ولا داعي للخوض فيما وراء ذلك.

وفى سبيل تحقيق هذه الغاية لا مانع من سلوك أي سبيل يوصل إليها، واستخدام أية وسيلة من شأنها تسهيل ذلك مهما وصفت تلك السبل والوسائل بأنها غير أخلاقية، ومهما تنافت مع الدين ومنهجه في السلوك.

فالمعيار الذي تقاس به صلاحية الوسيلة أو عدمها ليس معياراً موضوعياً؛ بل هو معيار ذاتي شخصي، وللسياسي وحده الحق في الحكم بصحة أي لون من ألوان السلوك أو خطئه وبطلانه.

تلك صورة موجزة للمكيافيلية كما ظهرت في عصر النهضة.

وبسبب نزعتها اللاأخلاقية الظاهرة عورضت بشدة في الأوساط الدينية والفكرية؛ فحرمت الكنيسة قراءة الأمير ونقده المؤلفون بعنف، وظلت كلمة مكيافيللي أشنع وصف يمكن أن يطلق على إنسان متحلل من قيود الدين والخلق، متجرد من الإنسانية والضمير.

وهكذا بقيت زهاء ثلاثة قرون وهي في موضع المقت والازدراء، بينما نمت النظريات التي عُورضت آنفاً.

ولما جاء القرن التاسع عشر قرن الانتفاضة الشاملة على الدين والأخلاق فكرياً وواقعياً ظهرت نظرية التطور العضوي على يد داروين. وكان قانونها وقاعدتها أن الحياة صراع والبقاء للأنسب أي للأقوى بطبيعة الحال.

حينئذ آمن الناس على أساس علمي، بأن الوجود مرتبط بالقوة، وأن الصراع الحتمي على البقاء لا يسمح بالتفريق بين وسيلة وأخرى، فليست العبرة بنوعية الوسيلة، لكنها بضمان النتيجة وتحقيق الغاية التي هي البقاء في ذاته.

المكيافيللية تقول إن الحق هو القوة!

والداروينية تقول: إن الوجود هو القوة.

والداروينية نظرية علمية -إذن- فلتكن المكيافيلية كذلك.

وكانت الظروف تهيئ لمثل هذه المعادلة، فالكنيسة فقدت سلطانها الطاغي، والحياة السياسية والمجتمعة في القارة تموج بالصراعات والحروب الطاحنة والشحناء المدمرة، هذا من ناحية.

ومن ناحية أخرى ارتبطت السياسة - في ذلك القرن - بالاقتصاد ارتباطاً قوياً، فازدادت بعداً عن الدين والمؤثرات الدينية.

والواقع أن السياسة والاقتصاد وكل جوانب الحياة مترابطة ومتلازمة بحيث يصعب فصل كل منها عن الآخر، إلا أن الاقتصاد بصفة خاصة أصبح المحور الرئيسي للسياسة الدولية؛ بسبب الأوضاع التي كانت تعيشها القارة الأوروبية.

ففي هذه الفترة شهدت الحياة الأوروبية انهيار نظام اجتماعي، وقيام نظام آخر محله، لقد انهار الإقطاع وولدت الرأسمالية.

كان النظام الإقطاعي الذي ألمحنا عنه سابقاً يمثل صورة بشعة لإهدار الكرامة الإنسانية والحط من قيمة الإنسان، واستعباده بفظاعة لأناس من بني جنسه تجردوا من المعاني الإنسانية النبيلة.

كان الإنسان في ظل هذا النظام مستعبداً لسلطتين غاشمتين: سلطة السادة الإقطاعيين، وسلطة رجال الدين فالسيد يملك الإقطاعية بمن عليها من الفلاحين، ويسن لها القوانين ويفرض عليها العقوبات كما يشاء -أي: أنه كان يجمع بين السلطتين التشريعية والتنفيذية في آن واحد.

أما رجل الدين فيبارك الاستعباد بحجة أنه نتيجة للخطيئة الأولى، ويشارك السيد في تسخير العبيد لمصلحته الشخصية، إذ أن الكنيسة -كما سبق أن أوضحنا- جزء لا ينفك من النظام الإقطاعي، وفي ظل هذا الواقع المزري انبعث هنالك حركتان لهما أهمية قصوى في التاريخ الأوروبي: الحركة العلمية، والحركة الإصلاحية الدينية، وغير خاف الأثر الإسلامي فيهما وظهرت الطبقة البرجوازية مستندة إلى أقوال لوثر وكالفن، ومستفيدة من ثمار التقدم العلمي التجريبي، وظل دور هذه الطبقة محدوداً حتى بدأ ما يسمى الثورة الصناعية؛ حيث بدأ المصنع يستأثر بما كان للأرض من قيمة ونفوذ، واشتد التنافس بين رجال الصناعة في المدن والملاك الزراعيين في إقطاعيات الأرياف.

وكانت الصناعة آنذاك تحتاج إلى أيد عاملة متوفرة ورخيصة، والعمال بطبيعة الوضع يعيشون في الريف تحت سيطرة السادة الإقطاعيين، فكان لابد من كسر السور المفروض عليهم؛ وإتاحة الفرصة لهم للانفلات من قيود الإقطاعية، لا لمصلحة حريتهم ولكن لمصلحة السادة البرجوازيين.

حينئذ ظهر المذهب الطبيعي أو الفيزيوقراطي الذي كان ينادي بشعار دعه يعمل، دعه يمر، أي: دعه يعمل ما يشاء، ويمر من حيث يشاء، وكان ذلك فتحاً جديداً في الحياة الأوروبية.

فعلى الرغم من أن حرية الإنسان في اختيار سبيل الرزق الحلال، وحقه في الانتقال إلى حيث شاء من أرض الله كانت بالنسبة للإنسان في الشرق الإسلامي أمراً بديهياً كالماء والهواء، فإن الحصول عليها في الغرب الإقطاعي يعد ظفراً بمكسب كبير للغاية.

وكان نجاح الثورة الفرنسية حافزاً قوياً لبقية الشعوب الأوروبية، فاندلعت الثورات المتتابعة، وارتفعت صرخات المفكرين ممن يسمون دعاة الحرية منددين بالمساوئ التي يعج بها المجتمع، والقيود التي يرزح الفرد تحت نيرها.

وبسبب ما عانته الشعوب من ويلات الحروب الطاحنة بين الطوائف الدينية، لا سيما بين الكاثوليك والبروتستانت وبسبب الطغيان الجائر الذي كان رجال الدين يفرضونه على الناس، وبسبب الحقد الصليبي الذي حجب الأوروبيين عن الاهتداء بهدى الله والدخول في دينه الحق؛ بسبب ذلك كانت الحرية التي طولب بها لا دينية، وكان الأساس الذي يراد بناء المجتمع الجديد عليه لادينياً كذلك، واستلهم الباحثون من التراث الفلسفي الإغريقي، ومن كتابات سبينوزا وجون لوك والموسوعيين الفرنسيين فكرة صياغة المجتمع وفق قوالب وتنظيمات علمانية. وفى الظلام تارة وعلانية تارة كانت المنظمات التلمودية تضرم الأحقاد، وتؤجج نار العداوة ضد الدين وتدفع الناس دفعاً إلى الإباحية والإلحاد.

والتقت مشاعر الناس وتعلقت عواطفهم بكلمة سحرية خلابة ترمز لمبدأ جديد جذاب اتفق في المناداة به الطبيعيون والنفعيون والجماعيون والفرديون؛ ذلك هو مبدأ الديموقراطية، ومن الذي لا تخلب الديمقراطية لبّه من الشعوب المضطهدة والعقول المغلولة؟! الشعب هو سيد نفسه، وهو مصدر السلطات، ولا وصاية لأحد عليه.

وللمواطن - أياً كانت عقيدته أو جنسيته حريات وحقوق لم يكن ليحلم بها من قبل؛ حرية العمل، حرية التنقل، حق إبداء الرأي، حرية السلوك، حرية العقيدة، حق التظاهر والاحتجاج ...

 


(1) انظر تاريخ النظرية السياسية: الفصل الثاني الفكر الإغريقي.

وله كذلك ضمانات لم تكن - وهو في ظل الإقطاع -لتدور له في خلد: ضمان الاتهام، ضمان التحقيق، ضمانة المحاكمة، ضمانة التنفيذ (1).

كل الناس بهرتهم هذه الشعارات وأسكرتهم هذه الأحلام، فحاولوا بكل جهدهم نسيان ذلك الماضي الرهيب ونبذه بكل قيمه ومثله، وإن كان من بينها الدين والأخلاق، وتحرقوا مشتاقين إلى مستقبل باهر وضاء، وطغى على الفكر والأدب اتجاه مغرق في التفاؤل واثق ثقة مطلقة في السعادة والتقدم اللذين لا حد لهما.


(1) حول مولد الديمقراطية ومبادئها يراجع جاهلية القرن العشرين فصل في السياسة.

وكان هنالك - بطبيعة الحال - فئة واحدة فقط تدرك النهاية الحقيقية والمغزى العميق للعملية، هذه الفئة هي طبقة الرأسمالية الذين يمثلون الخلاصة المتطورة للطبقة البرجوازية، وغني عن البيان القول بأن الرءوس البارزة في هذه الطبقة هم المرابون اليهود (1).

ولنستمع إلى القصة من رواية باحث سياسي غربي:

يقول كارل بيكر في كتاب: السبيل إلى عالم أفضل: "كان كل رجل أياً كانت المملكة التي يعيش فيها يدين بالولاء والطاعة للكنيسة ورجالها في الأمور الدينية كما كان يدفع للكنيسة مكوساً معينة، فضلاً عن تقاضيه أمام محاكمها التي لها أيضاً اختصاص توقيع العقوبة عليه في جرائم معينة. ولكنه كان يدين في الوقت ذاته بالولاء والطاعة لحكومة بلاده المدنية في المسائل المدنية، فكان يدفع لأمير المقاطعة أو للملك ضرائب أخرى معينة، وكان يتقاضى أمام محاكم الأديرة أو الملك، كما كانت هذه المحاكم توقع عليه العقوبة لارتكابه جرائم معينة، وهكذا كان أمراً مقضياً أن ينشب النزاع بين هاتين السلطتين التي تطالب كل منهما الناس بواجب الولاء لها، ولم يكن تاريخ غرب أوروبا طيلة العصور الوسطى، وفي كل جزء من أجزائه إلا تاريخاً لهذا الكفاح المستمر بين الكنيسة والدولة".

ولقد تم انتقال السلطان والقوة من الكنيسة إلى الدولة خلال المائة عام التي انقضت في حروب أهلية ودولية بسبب المنازعات الدينية، وكانت هذه الحروب كفاحاً وحشياً دامياً لا يلين ولا يهدأ للظفر بالسلطان السياسي.

وهكذا اختفى من أوروبا الغربية مجتمعها المسيحي الموحد، وأصبحت سيادة هذه الدول واستقلالها حقيقة واقعة ... ولقد جاءت المبادئ النظرية بعد ذلك لتؤيد هذه الحقيقة، فقد عرَّف ميكافيللي في


(1) انظر عيوب الديمقراطية كما ستأتي (ص:239) فصاعداً.

كتابه المشهور الأمير الذي نشره قرابة عام 1513 الدولة بأنها قوة سياسية بحتة، كما أعلن فيه أن مهمة الأمراء والحكام أو وظيفتهم الوحيدة هي اكتساب السلطة واستخدامها، وهم في استخدامهم لهذه السلطة لهم أن يحكموا وحدهم على الأغراض والغايات والتي تتحقق عن طريقها، وهم من أجل ذلك غير مقيدين بقواعد الدين والأخلاق.

وفي القرنين الثامن عشر والتاسع عشر ألغت الثورة الديموقراطية الحكم المطلق الذي كان للملوك، وأحلت محله سلطان الحكومة الذي تولته جمعيات نيابية ينتخبها الشعب، وجعلت هذه الثورة الدول على اختلافها أكثر اهتماماً بالأمور الدنيوية، وبالتالي أكثر استقلالاً من ذي قبل، وهكذا حلت إرادة الشعب محل الحق الإلهي.

وكما كان الناس على استعداد لأن يقاتلوا ويموتوا في سبيل الدين والكنيسة، أصبح الرجل على أهبة القتال والموت في سبيل دولته وشعبه (1).

ثم ننتقل مع بيكر إلى الكلام عن الديموقراطية حيث يقول: " الديمقراطية العصرية من حيث الفكرة والواقع إن هي إلا نتيجة لمعارضة قامت في وجه ذلك النظام الذي سار عليه المجتمع والحكومة، وكان سائداً في معظم الدول الأوروبية خلال القرنين (17و18) وقت أن كان يحكم الدول ملوك ادعوا السلطة المطلقة استناداً إلى الحق الإلهي، وقد استندت سلطة هؤلاء الملوك إلى طبقة الأعيان وإلى سلطة الكنيسة الموطدة وكانت غالبية الناس وبخاصة الأجراء والفلاحين تسام الظلم وتستغل، وكان نصيبهم من الحقوق ضئيلاً فلم يتمتعوا بالحرية السياسية أو حرية العبادة أو حرية الكلام أو الصحافة أو حرية العمل".

ولم يكن للمواطنين أي ضمان ضد التعسف بهم أو القبض عليهم وحبسهم وتفتيش مساكنهم، وكانت الثورة الإنجليزية والثورتان الفرنسية والأمريكية موجهة ضد هذا النوع من الدكتاتورية لإحلال الديمقراطية الحرة محلها.

وإن الفكرة الرئيسية التي تنطوي عليها الفلسفة الديمقراطية الحرة التي كانت تتمثل في أن الناس يستطيعون أن يحكموا أنفسهم بصورة أفضل مما لو حكمهم الملوك وطبقة الأشراف ورجال الدين، وكان الكتاب يستعملون هاتين الكلمتين ( Laissez Faire) تعبيراً عن هذه الفكرة أي دع الناس أحراراً في أعمالهم، وكانوا يظنون أن واجب الحكومة ينحصر في حماية الأرواح والممتلكات والمحافظة على النظام وحماية البلاد ضد الاعتداء الخارجي.

وكانت الفكرة العامة تنادي بأنه إذا سعى كل فرد وراء منافعه الذاتية فإن ضرباً من التوفيق بين مصالح الشعب المختلفة سرعان ما يزداد ظهوره أو يقل بصورة آلية، وكان يعبر عن هذه الفكرة بإيجاز في العبارة الآتية: إن المنافع الخاصة تؤدي بدورها إلى تحقيق المنفعة العامة.

وهذه النظرية البسيطة هي نظرية تعمل لمصلحة القوي ضد الضعيف، وفي مجتمعات القرن الثامن عشر التي لم تكُ حياتها قد تعقدت بعد، كانت هذه النظرية تعمل لمصلحة أولئك الأفراد القلائل الذين أتاح لهم الحظ أن يقتنوا ثروة.

ولكن بظهور الآلات ذات القوى المحركة أصبح واضحاً المنافسة الصناعية الحرة لم تؤد إلى النتيجة التي كان يتوقعها الاقتصاديون والفلاسفة السياسيون؛ فقد كانت الأرباح تعود على

 


(1) السبيل إلى عالم أفضل. صفحة (720).

أصحاب الصناعة والآلات وحدهم ونهضت الآلات بأكبر عبء من العمل فامتلأت البلاد بالعمال العاطلين، ووجد أصحاب المصانع الأحرار أن ذلك فرصة لتخفيض الأجور وإطالة ساعات العمل، ووجد العمال أن حريتهم في اختيار مهنهم كانت محدودة بمقياس الحاجة إلى ساعات طويلة في أي عمل، يعرض لهم لقاء أجور تافهة لا تكاد تقيم أودهم، وكانت جموع النساء والأطفال الذين أنهكهم الجوع والضعف يشتغلون في العمل بمعدل 12 ساعة في اليوم داخل حوانيت قذرة وخطرة وغير صحية لقاء أُجَر لا تكاد تقيم أودهم (1).

هكذا جاءت الديمقراطية، وهكذا تبددت الأحلام والأوهام التي نيطت بها، وأسفرت الثورة الصناعية التي واكبت الثورة الديمقراطية عن وجه كالح لا يقل شناعة وفظاعة عن صورة الإقطاع وانقلبت الحرية النسبية التي وصل إليها العمال والفلاحون قيوداً ثقيلة ترهق كواهلهم.

وتعالت الصيحات والصرخات من جديد تعلن رفضها للنظام الطبيعي، الفردي وتطالب بأنظمة جماعية ديمقراطية وظهر بقوة صوت الاشتراكيين الأوائل، ومال إليهم طوائف كثيرة من المثقفين والعمال والفلاحين، وشكلوا جبهة مضادة للرأسماليين العتاة.

وفى معمعة الصراع بين أنصار الديمقراطية الرأسمالية الفردية، ودعاة الديمقراطية الإشتراكية الجماعية ولدت نظرية التطور التي غيرت مجرى الفكر الغربي بأجمعه.


(1) المصدر السابق: (173).

فهذه النظرية بإجهازها على المسيحية الرسمية أفسحت الطريق لإبعاد الدين عامة بصفة نهائية من التأثير في أي منحى من مناحي الحياة، بل مهدت لرفضه رفضاً باتاً حتى في صورته الوجدانية المجردة.

وبواسطة قانون الانتخاب الطبيعي وتنازع البقاء المفضي إلى بقاء الأنسب بعثت الداروينية النزعة المكيافيللية كما أسلفنا، فلقد كان صراع الدول القومية في العصر الحديث الذي يشبه في مظهره صراع أنواع الكائنات الحية مدعاة لتبرير المكيافيللية بل لتبنيها وتطبيقها، ويؤكد ذلك كريستيان غاوس في مقدمته لكتاب الأمير إذ يقول عن الكتاب:

اختاره موسوليني في أيام تلمذته موضوعاً لأطروحته التي قدمها للدكتوراة، وكان هتلر يضع هذا الكتاب على مقربة من سريره، فيقرأ منه في كل ليلة قبل أن ينام، ولا يدهشنا قول ماكس ليرز في مقدمته لكتاب أحاديث أن لينين واستالين أيضاً تتلمذوا على مكيافيللي (1).

وتتجلى الروح المكيافيللية بوضوح في قول إنجلز: "إن الأخلاق التي نؤمن بها هي كل عمل يؤدي إلى انتصار مبادئنا، مهما كان هذا العمل منافياً للأخلاق المعمول بهاً".

وقول لينين: "يجب على المناضل الشيوعي الحق أن يتمرس بشتى ضروب الخداع والغش والتضليل. فالكفاح من أجل الشيوعية يبارك كل وسيلة تحقق الشيوعية" (2).


(1) الأمير: (18 - 19)، المقدمة.
(2) عن اشتراكيتهم وإسلامنا بشير العوف: (36، 37).

أما الرأسمالية فلا تخفي أبداً حقيقتها المكيافيللية، بل إن مايلز كوبلاند صاحب لعبة الأمم ليقرر أنها منهج السياسة الأميركية (1).

وإضافة إلى ذلك قدمت فلسفة التطور لكل من المعسكرين المتصارعين سنداً لكفاحه ضد المعسكر الآخر ومبرراً لجدارته وحده بالبقاء دون غريمه.

فالرأسمالية ترى أنها الحقيقة بالخلود المؤهلة وحدها بمؤهلات الاستمرار والتقدم، ذلك لأنها العنصر القوي في الحياة الحديثة فلها - حسب قانون الانتقاء الطبيعي وتنازع البقاء - الحق في القضاء على العناصر الضعيفة بتصفيتها جسدياً أو إنهاكها اقتصادياً، وهكذا كانت الدول الرأسمالية دولاً استعمارية بالدرجة الأولى (2)، مع ملاحظة أن صورة الاستعمار في العقود الأخيرة تغيرت عنها في القرن الماضي.

وغير خاف أثر فلسفة التطور في الماركسية، فقد استغلت النظرية الداروينية وطبقتها؛ بحيث تتفق مع صراع الطبقات، واتجه نظر الماركسية إلى زاوية أخرى، فهي لا توافق على البقاء للأقوى، لكنها ترى معتمدة على فلسفتها الديالكتية (الجدلية) أن البقاء للأحدث، وذلك ما تقول بها أيضاً فلسفة التطور (3).

وعليه فإن الرأسمالية - في نظرها - أشبه بسلالة منقرضة لا مبرر لبقائها بعد ظهور عنصر أحدث منها وأرقى تطوراً وهو: الماركسية.

ونستطيع أن نستنتج من ذلك أن هناك جامعاً مشتركاً لأنظمة الحكم اللادينية المعاصرة، بالإضافة إلى اتفاقها على طرح الدين ونبذ الأخلاق من دائرة العمل السياسي بالكلية، وهذا الجامع يحتوي على ثلاثة أسس:

1 - مكيافيللية منهجاً عملياً.

2 - فلسفة التطور مبرراً للبقاء والاستمرار.

3 - الديمقراطية بصفتها نظاماً إنسانياً وضعياً يتقنع به كلا المعسكرين.

[نظرة إلى الواقع المعاصر]

إن الواقع السياسي المعاصر الذي تنعكس عليه الصورة الحقيقية للجاهلية الأوروبية ليزخر بالدلائل القاطعة والبراهين القوية ويعج بالمتناقضات الصارخة والظواهر الغربية التي تنذر - مجتمعة بالمصير المشئوم والنهاية المروعة لعالم لا يؤمن بالله ولا يحتكم إلى شريعته.

ونحن المسلمين لا نرى فيما يضطرم به مسرح الأحداث العالمية من مفاسد جمة ومظالم شائنة وإرهاب فظيع وعنف مدمر وكوارث جسيمة إلا نتيجة طبيعية لعبادة غير الله المتمثلة في الحكم بغير ما أنزل الله.

فالنتيجة معروفة لنا سلفاً، وحكمنا عليها أساسي أعمق من مناقشة تفصيلاتها ومعالجة ظواهرها.

غير أنه قد يكون من الضرورى ونحن نعرض الجاهلية المعاصرة -كما هي فكراً وواقعاً- أن نعرض معها الوجه الآخر لها كما يراه بعض مفكريها لكى تكتمل صورة العرض.

هنالك قضية آمن بها المفكرون السياسيون قديماً وحديثاً هي كما جاءت على لسان كريستيان غاوس:"أن الدولة ليست خارج نطاق عالمنا الإنساني، فالشكل المعين لهذه الدولة التي يعيش البشر في ظلها

 


(1) انظر شرحه: الدبلوماسية والميكافيللية/محمد صادق: (341).
(2) انظر: معالم تاريخ الإنسانية: (4).
(3) انظر: كتب غيرت وجه العالم: أصل الأنواع.

ليس من صنع الله ولا من صنع الشيطان أو فرضهما، وهى إلى حد ما من الأشياء التي خلقها الإنسان، ولذا من الواجب أن تكون خاضعة كغيرها من الأمور التي خلقها لإعادة نظره ودراسته" (1). وتلك هي علة العلل في الجاهلية المعاصرة.

يلهث الإنسان منقباً عن ذاته وقيمه وأنظمته وموازينه في حدوده الأرضية دون أن يرفع نظره مرة واحدة إلى السماء، ومن هنا كان حتماً عليه أن يضل ويشقى ويصرخ ويستغيث.

ولقد تعالت صيحات الخطر من الغرب تنتقد وتستنكر وتنذر وتحذر، وسنعرض هنا بعض ما كشفه الكتاب الغربيون من مساوئ الأنظمة السياسية الأوروبية بشقيها الرأسمالي والشيوعى.

أولاً: الديمقراطية الليبرالية.

الناس في الغرب يقبلون الحوار والنقاش حول أي موضوع ما عدا موضوع الديمقراطية، فالديمقراطية بمبادئها - كالحرية والمساواة - وحقوقها وضماناتها - كما أسلفنا - منطقة مقدسة لا ينبغي أن تكون موضع جدال، وما لها لا تكون كذلك وهم لا يعلمون لها بديلاً إلا الديكتاتورية ذلك الشبح الرهيب؟!

ومع ذلك فقد كثرت اعتراضات المفكرين على هذا المبدأ وانتقد من جوانب عديدة، ويتلخص نقد الكتاب الديمقراطيين للديمقراطية في أمور:

1 - ميوعة الاصطلاح، وصعوبة تحديده بدقة علمية يمكن بواسطتها التمييز بين الحقيقة وبين الادعاء المزيف.


(1) الأمير: (45) المقدمة.

يقول صاحب كتاب نظم الحكم الحديثة: "كل محاولة تستهدف تحديد الاستعمال الصحيح لاصطلاح الديمقراطية، من شأنها أن تواجه مزيداً من التعقيدات، وليست البلاد التي تسمى بالديمقراطية تقليداً ... هي التي تظهر المتناقضات والعيوب فحسب؛ بل إن البلاد الشيوعية في العالم والتي تعتنق مفهوماً سياسيا مخالفاً تماماً تدعي بذات التأكيد أنها ديمقراطيات شعبية، وأن انتساب البلاد الأخرى إلى الديمقراطية إنما هو من قبيل الخداع" (1).

ويقول آرنولد توينبى: "أصبح استخدام اصطلاح الديمقراطية مجرد شعار من الدخان، لإخفاء الصراع الحقيقى بين مبدأي الحرية والمساواة" (2).

ويقول رسل عنها: (3) "كانت تعنى حكم الأغلبية مع نصيب قليل غير محدود المعالم من الحرية الشخصية، ثم أصبحت تعني أهداف الحزب السياسي الذي يمثل مصالح الفقراء على أساس أن الفقراء في كل مكان هم الأغلبية، وفي المرحلة التالية أصبحت تمثل أهداف زعماء هذا الحزب، وها هي الآن في أوروبا الشرقية وجزء كبير من آسيا يصبح معناها الحكم المستبد لمن كانوا يوماً ما نصراء للفقراء، والذين أصبحوا يقصرون نصرتهم هذه للفقراء على إيقاع الخراب بالأغنياء، إلا إن كان هؤلاء الأغنياء من الديمقراطيين بالمعنى الجديد".

صحيح أن لفظ الديمقراطية يعني عند إطلاقه حكم الشعب، لكن الآراء تتضارب كثيراً حول كيفية الحكم ونوعية الاقتراع والتمثيل وشروط المقترعين وتحديد الفئات السياسية.

ترى الشيوعية أن الدول الرأسمالية ليست ديمقراطية بالمعنى الصحيح؛ لأن الحكم فيها حقيقة بيد الطبقة الثرية، وأن المصطلح الحقيقى لها هو: دكتاتورية رأس المال.

وفى الوقت نفسه تقول الرأسمالية: إن الدول الشيوعية ليست ديمقراطية لأنه بكل سلطانه ينحصر في قبضة قليلة واحدة من الشعب هي الحزب الشيوعي؛ ولذلك لا تحسب الدول الشيوعية في عداد العالم الحر.

هذا بالإضافة إلى الانقسامات داخل الدول الديمقراطية الليبرالية.

2 - الأحزاب المتشاحنة التي لا تعبر عن إرادة الأمة:

إن الواقع المحسوس لينطق بصراحة بأن النظام الديمقراطي يقضي على وحدة الأمة، ويفتتها إلى تكتلات متناحرة وأحزاب متطاحنة لأسباب لم تكن لتستدعي التكتل والتحزب لولا أن النظام نفسه يشجع على ذلك ويهيئه، ومع خطورة هذا التمزق على الأمة فإنه ينبني عليه أثر خطر بالنسبة لتحقيق مصالح الشعب.

وذلك أن الدول الديمقراطية الغربية يوجد بها نوعان من الأنظمة:

- نظام الحزبين، ونظام الأحزاب المتنافسة، وندع الكلام حول عيوب النظامين كليهما لهارولد لاسكي المشار إليه: "في إنجلترا مثلاً إذا اقتصر الأمر على حزبي المحافظين والعمال، فسوف يضطر كثير من الموظفين لأن يختاروا بين بديلين، ليس بينهم

 


(1) ميشيل ستيورات: (298).
(2) انظر لغة تراث الإنسانية: (ج:3)، (ص:342).
(3) العقل والمادة: (241 - 242).

وبين أحدهما تجاوب كامل خلاق، ولهذا السبب ينهض الادعاء بأن نظام الأحزاب المتعددة الذي يسمى عادة بنظام المجموعة يتلاءم مع انقسام الرأي بصورة أكثر فاعلية.

ولكن بناء على خبرتنا بنظام المجموعة - كما في فرنسا وحكومة ويمار في ألمانيا - يبدو أنه مصحوب دائما بعيبين خطيرين، ويكمن أكثر هذين العيبين أهمية في أن هذا النظام عندما يعمل تكون الطريق الوحيدة التي يتحكم بها في السلطة التشريعية هي تنظيم نوع من الائتلاف بين المجموعات ... ويكون من نتسيجة ذلك أن يستعاض عن تحمل المسئولية بالمناورات وأن تصبح السياسة مجردة من التماسك وسعة الأفق ...

والعيب الثاني الذي يظهر بدرجة ملحوظة في فرنسا هو أن نظام المجموعة يميل إلى تجميع السلطة حول الأشخاص أكثر من تجميعها حول المبادئ" (1).

3 - إيجاد طبقة ثرية مسيطرة دكتاتورية:

هذا العيب الخطر ملازم للأنظمة الديمقراطية الغربية، وهو أجلى عيوبها وأبرزها، وبه تتذرع الشيوعية في هجومها على العالم الليبرالي، كما تستغله الأحزاب اليسارية داخل هذه الدول نفسها.

من الحقائق المقررة عالميا أن المصالح المادية هي الدافع الوحيد والمحرك الرئيسي للعمل السياسي، وكل دول العالم الديمقراطي لا تخفي حقيقة أنها تعمل جاهدة لحماية امتيازاتها، وضمان تفوقها الاقتصادي، وتوفير المجال الحيوي لشعبها، وهذا هو القناع الظاهري الذي تتستر


(1) مدخل إلى علم السياسة (ص:85).

به إمبراطوريات المال في هذه الدول، والتي تتحكم في السياسة الخارجية والداخلية مباشرة أو بطريق الضغط على السلطة الحاكمة.

وفيما يحسب الشعب أنه سيد نفسه ومقرر مصيره، تقوم الطبقة الرأسمالية المحتكرة بسن القوانين لحماية مصالحها، والزج بسياسة الدولة فيما يخدم أغراضها النفعية الخاصة.

يقول لاسكى:

إن الدولة الديمقراطية تبذل الكثير في سبيل تحقيق المساواة بين الموطنين فيما تمنحهم من ضمانات، كما تتجه أوامرها القانونية إلى حماية الملكية القائمة للامتيازات أكثر مما تعمل على توسيع نطاقها، فانقسام المجتمع إلى فقراء وأغنياء يجعل أوامر الدولة القانونية تعمل لصالح الأغنياء ... إذ أن نفوذهم يرغم نواب الدولة وذوي السلطة فيها على أن يكون لرغباتهم الاعتبار الأول.

وتعبر الدولة عن رغبات أولئك الذين يسيطرون على النظام الاقتصادي، فالنظام القانوني بمثابة قناع تختفي وراءه مصلحة اقتصادية مسيطرة لتضمن الاستفادة من النفوذ السياسي، فالدولة أثناء ممارستها لسلطتها لا تعمد إلى تحقيق العدالة العامة أو المنفعة العامة، وإنما تعمل على تحقيق المصلحة للطبقة المسيطرة في المجتمع بأوسع معاني هذه المصلحة.

إن الحرية والمساواة اللتين حصلنا عليهما كانتا أولاً وقبل كل شئ حرية ومساواة لمالك الثروة (1).

والأمثلة الواقعية على ذلك


(1) المصدر السابق (19، 50، 64).

واضحة للعيان، ولعل في الحروب التي خاضتها وتخوضها الولايات المتحدة أصرح دليل على خضوع السياسة الديمقراطية لضغط الطبقة المحتكرة.

فالحرب العالمية الأولى، وكذلك الحرب الثانية، ثم حرب فيتنام كلها دخلتها أمريكا دون أن يكون لها مصلحة مباشرة أو يتعرض أمنها القومي للخطر، وبغض النظر عن دوافعها ونتائجها كان الشعب الأميركي يرفض تدخل حكومته في هذه الحرب، وكانت المظاهرات الصاخبة تنظم باستمرار احتجاجاً على ضياع الأرواح والأموال فيما لا جدوى منه.

لكن الطبقة الرأسمالية التي تملك مصانع السلاح وشركاتها الكبرى التي تتولى تسويقه تكمن مصلحتها في إشعال الحروب واستمرارها، والذي حصل ويحصل دوماً هو تنفيذ رغبة هذه الفئة القليلة مقابل تعطيل رغبات الشعب بكامله.

ولما حاول الرئيس كنيدي تقديم المصلحة القومية وعقد اتفاقية وفاق دولي تخلصت منه هذه الطبقة، فأزهقت روحه بعملية اغتيال غريبة لا تزال أسرارها في طي الكتمان إلى الآن.

وليس هذا فحسب، بل إن إمبراطوريات المال لتملك المنظمات الإرهابية والعصابات المسلحة، إلى جانب عصابات الرقيق الأبيض والرشاوي، بالإضافة إلى سيطرتها على وسائل الإعلام، واستخدامها في الفضائح السياسية والمالية والأخلاقية، وكلها شباك تنصبها للاقتناص بالقوة تارة وبالإغراء تارة أخرى (1).

والحقيقة التي يجب ألا تغرب عن بالنا في هذا الصدد هي أن الطبقة الرأسمالية المسيطرة ليست سوى مجموع المنظمات الربوية الاحتكارية اليهودية التي تخطط للسيطرة على العالم أجمع وفق أوامر التلمود والبروتوكولات.

4 - تزييف وتطويع الرأي العام:

هذا العيب متلازم والعيب الذي قبله؛ فوجود طبقة ثرية مسيطرة يجعل وقوع وسائل الأعلام - المكون الرئيسي للرأي العام - في قبضتها أمراً طبيعياً، كما أن خضوع وسائل الإعلام لفئة معينة تتيح لها القدرة على تقوية مركزها ودعم نفوذها السياسي والمالي عن طريق تكوين الرأي العام أو تضليله، مما يضمن فوز المرشحين الموالين لها ونجاح مخططاتها، يقول ميشيل ستيورات في معرض حديثه عن مشكلات الديمقراطية وعيوبها: "هناك نفوذ الثروة على تكوين الرأي العام، فالديمقراطية تتطلب فرصاً متكافئة لجميع الذين يريدون الاقناع أو التعبير عن الرأي، ولقد حاولت الديمقراطية توفير ذلك بإزالة العقبات القانونية على حرية الكلام والكتابة.

وثمة اتجاه معاصر يتمثل في ملكية فئة قليلة للصحافة، كما وأن النفقات الباهظة لإدارة صحيفة تجعل دخول ملاك جدد لميدان الصحافة أمراً عسيراً، ثم إن المصالح الصناعية والتجارية تؤثر على الإذاعة والتليفزيون، ومن الجائز مع تقدم الدراسات الخاصة بعلم النفس والدعاية والإعلام أن تزيد مقدرة القلة التي تستطيع أن تنفق بسخاء للتحكم في وسائل الإعلام على تكييف عقول الباقين مما ينال من حق الشخص وقدرته على التفكير، وهو الغرض الأساسى للديمقراطية، وهذه المشكلة هي أكثر المشاكل خطورة، لأنها ليست من

 

 


(1) انظر حول هذه الفقرة: حكومة العالم الخفية، جاهلية القرن العشرين: (126).

مخلفات الماضي وإنما هي قوة بلوتوقراطية (سيطرة رأس المال) جديدة ظهرت حديثاً" (1).

ويركز لاسكى اهتمامه على الصحافة ودورها في تزييف الرأي العام، فيقول: إن جمع الأخبار ونشرها عمل لا يراعى فيه العرض الموضوعي للوقائع، فالأخبار سرعان ما تصبح دعاية عندما تتمكن مادتها من التأثير في السياسة، كما يميل مضمون الأخبار في المجتمع المتفاوت إلى فائدة من بيدهم مقاليد السلطة الاقتصادية.

ومعظم الأفراد يعتمدون على الصحف في استقاء معلوماتهم، وهذه الصحف تعتمد في بقائها على الإعلانات التي تستطيع أن تحصل عليها، كما أن إصدار الصحف عموماً باهظ التكاليف، بحيث لا يستطيع أن يؤسسها إلا الأغنياء فقط.

ونظراً لأنها تعتمد على المعلن فيتحتم عليها غالباً أن تنشر تلك الأخبار والتعليقات التي ترضي أولئك.

وبذلك تكون النتيجة تحيزاً واضحاً في نقل الأخبار للحوادث الصحيحة التي قد تقلق الطبقة الغنية أو تحرجها (2).

5 - الفتور في تجاوب المواطنين مع العملية الانتخابية:

تدعي الديمقراطية أنها حكم الشعب، وأن النواب وأعضاء الحكومة إنما يختارون وفقاً لإرادة الشعب وأنهم تبعاً لذلك يمثلون الشعب تمثيلاً صادقاً.

ولكن هذه الدعوى تناهضها أمور عدة منها:

الدول التي تقصر حق الانتخاب على فئة معينة لأسباب عنصرية


(1) نظم الحكم الحديثة: (333).
(2) مدخل إلى علم السياسة: (109 - 110).

أو جنسية أو طائفية لا يمكن أن تعد نسبتها إلى الديمقراطية صادقة، كما يرى ستيورات ويمثل لذلك بسويسرا التي لم تعط للنساء حق الانتخاب، وبالدول التي لا يخطى الملونون أو الطوائف الدينية فيها بذلك كبعض الولايات المتحدة وإيرلندة.

بالنسبة للدول التي لا تضع مثل هذه الحواجز، بل تحفز المواطنين بكل وسائل الإعلام على الإدلاء بأصواتهم، يلاحظ بوضوح عزوف نسبة ليست قليلة من الشعب عن الاشتراك في العملية الانتخابية، وتكون النتيجة أن الذي يفوز في الانتخابات، حزبا أو فرداً - يفوز لأنه حصل لا على أصوات أغلبية الشعب، بل على أصوات أغلبية المشتركين فعلاً في الاقتراع.

فإذا أضفنا الرافضين للانتخابات إلى الذين دخلوها معارضين، فسنجد غالباً أن الأغلبية الفائزة في الانتخابات ليست سوى أقلية بالنسبة لمجموع الشعب.

وبذلك لا يصح بحال القول بأن الحكومة تمثل الشعب تمثيلاً كاملاً أو صادقاً، وهذا العيب تعترف به الدول الديمقراطية نفسها، وليس من دولة تستطيع نفيه، وإنما تتباهى فيما بينها بانخفاض نسبة الرافضين وتحقيق أرقام قياسية في عدد المشتركين.

وعلى سبيل المثال يذكر مؤلفو كتاب نظام الحكم والسياسة في الولايات المتحدة أنه لم تزد نسبة الناخبين عن (66%) من عدد الأشخاص الذين بلغوا سن الانتخاب، وفي بعض الأحيان أقل من (55%)، وفي سنة (1956) (60.5%) فقط (1).

6 - القضاء على الميزات الفردية:

على الرغم من أن الديمقراطية - في جوهرها - نظام فردي، كان وجوده أصلاً بمثابة رد فعل لإهدار الحقوق الفردية في ظل النظام الإقطاعي، فإن الفرد الممتاز في الديمقراطية مهضوم الحق بالنسبة لمشاركته في صياغة القرارات التي تتخذها الحكومة.

هذا العيب لفت نظر بعض النقاد إلى آفة تعانى منها الديمقراطية، ومنهم أليكسيس كاريل، فالدكتور كاريل يعجب كيف رضيت البشرية أن ترزح تحت نير نظام يقضي على المميزات الفردية، ولا يقيم للصفوة الممتازة أي وزن في التأثير على سير الأحداث، عدا ما يتمتع به سائر الناس، ويقول:

هناك غلطة أخرى تعزى إلى اضطراب الآراء فيما يتعلق بالإنسان والفرد، وتلك هي المساواة الديمقراطية. إن هذا المذهب يتهاوى الآن تحت ضربات تجارب الشعوب، ومن ثم فإنه ليس من الضرورى التمسك بزيفه، إلا أن نجاح الديمقراطية قد جعل عمرها يطول إلى أن يدعو للدهشة، فكيف استطاعت الإنسانية أن تقبل مثل هذا المذهب لمثل هذه السنوات الطويلة؟!

إن مذهب الديمقراطية لا يحفل بتكوين أجسامنا وشعورنا، إنه لا يصلح للتطبيق على المادة الصلبة وهى الفرد.

صحيح أن الناس متساوون، ولكن الأفراد ليسوا متساوين، فتساوي حقوقهم وهم من الأوهام، ومن ثم لا يجب أن يتساوى ضعيف العقل مع الرجل العبقري أمام القانون ... ومن خطل الرأي أن يعطوا (أي: الأغبياء) قوة الانتخاب نفسها التي تعطى للأفراد مكتملي النمو، كذلك فإن الجنسين لا يتساويان، فإهمال انعدام المساواة أمر خطير جداً، لقد ساهم مبدأ الديمقراطية في انهيار الحضارة بمعارضة نمو الشخص الممتاز ... ولما كان من المستحيل الارتفاع بالطبقات الدنيا، فقد كانت الوسيلة الوحيدة

 


(1) هارولد زينك وزميلاه: (119).

لتحقيق المساواة الديمقراطية بين الناس هي الانخفاض بالجميع إلى المستوى الأدنى، وهكذا اختفت الشخصية (1).

ويؤيد رأيه هذا ما يقع فعلاً في الدول الديمقراطية عند الاقتراع على قضية اقتصادية مثلاً، حيث يكون نصيب عالم الاقتصاد الضليع صوتاً واحداً فقط، وهو ما يحصل عليه الفرد المتوسط أو الجاهل، وغالباً ماتكون النتيجة في غير صالح الأفراد الممتازين بسبب انسياق عامة الشعب وراء عواطفهم وخضوهم للتضليل الدعائي.

7 - تعارض المصلحة الذاتية للفرد والجماعة:

هذا العيب يلقي ضوءاً على المحك الذي يظهر حقيقة أي نظام أرضي بشري، فالديمقراطية تدعى أنها النظام الأمثل لتحقيق المصلحة الفردية والجماعية بإتاحتها الفرصة للحصول عليها بطريقة قانونية.

لكن المشكلة تكمن في تعارض مصلحة الفرد ذاته - وكذلك الجماعة - بين اتخاذ هذا القرار أو ضده، إذ هو لا يستطيع التوفيق بين مطالبه الخاصة، كما أنه لا يستطيع التيقن من كون نتيجة القرار ستحقق هذه المطالب أو تنفيها.

ولنأخذ مسألة رفع الأجور مثلاً لذلك:

تطالب نقابات العمال دائماً برفع الأجور - لكي تكسب أصواتهم - وهي إذ تطالب بذلك تعلم يقيناً أن رفعها يحقق للعمال مصلحة من جهة، لكنه يفوتها من جهة أخرى؛ لأنه يكون مصحوباً بارتفاع الأسعار.

ومن ناحية أخرى يقول بيكر في سياق نقده لأسلوب التمثيل:

إن الناس جميعاً لهم مصالح كثيرة متعددة، حيث لا يمكن لجانب


(1) الإنسان ذلك المجهول (306 - 307).

منها أن ينمو ويطرد إلا بسن تشريع يحقق هذا الغرض، ولكن هذا التشريع يسن على حساب الآخرين، فالزراع والعمال مثلاً هم المنتجون والمستهلكون في وقت معاً، فهم كمنتجين يتطلعون إلى أسعار أعلى من تلك التي يبيعون بها منتجاتهم، ولكنهم كمستهلكين يتطلعون إلى أسعار أقل من تلك التي يشترون بها حاجياتهم (1).

هذه بعض العيوب التي لاحظها بعض الكتاب الديمقراطيون على الديمقراطية في المبدأ والتطبيق، وقد حاول كاتبان فرنسيان صياغتها في عبارات موجزة فكان مما استنتجاه:

1 - الصراعات الدائمة بين الأحزاب المنقسمة على بعضها.

2 - الحكومات التي لم يتجاوز متوسط بقائها في الحكم طيلة نصف قرن ثمانية أشهر.

3 - المنافسات الحمقاء بين المواطنين.

4 - عدم وجود سياسة متجانسة لمدى طويل.

5 - البطء الشديد في تقدم مستوى حياة الجماهير، سياسة الإسكان، عدم كفاية التربية المدنية والاقتصادية والاجتماعية (2)

وملاحظة هذه المساوئ هي التي دفعت بالكاتب الإنجليزى أ. د لندساس إلى القول: "إن هناك دائماً هوةً رهيبة بين النظريات الرفيعة عن الديمقراطية


(1) السبيل إلى عالم أفضل: (102).
(2) بوسكه، فاتييه: الإنسان في المجتمع المعاصر: (160) (الترقيم مضاف).

التي نقرأ عنها في كتب النظريات السياسية، وبين وقائع السياسة الفعلية" (1).

ومع أن كل هذه الانتقادات لم تنفذ إلى لب المشكلة وأساسها المتمثل في الحكم بغير ما أنزل الله وعبادة الأهواء والشهوات من دونه؛ فإنها ترشد إلى فداحة الخطب وشناعة الغلطة التي وقع فيها المجتمع الغربي بتنكره للحق وتمرده على الله استكباراً وغروراً.

ونحن -إن شاء الله- سنناقش الموضوع من أساسه العميق في الباب الخامس.

ثانياً: النظام الشيوعي:

إذا كانت الرأسمالية ومعها الأفكار الديمقراطية قد ولدت لتكون رد فعل لمساوئ الإقطاع، فإن أقرب تفسير للشيوعية هو أنها رد فعل لمساوئ الرأسمالية.

ومع أن الشيوعية تعتقد أنها اكتشفت القانون العلمي لحركة التاريخ والحياة، وهو مبدأ الديالكتيك - الجدلية - وآمنت به إيماناً مطلقاً فإن تصورها للدولة لا يتفق مع هذا القانون، وأشبه شئ بدولة المستقبل كما حلم بها فلاسفة الشيوعية هي نظرية يوتوبيا الخيالية، فالنظرية الشيوعية تؤمن بحتمية اضمحلال جهاز الدولة عندما تبلغ البشرية مرحلة أكثر تطبيقاً وتشبعاً بالأفكار الشيوعية، ومعنى ذلك أنه سيأتى اليوم الذي يتوقف فيه الصراع بين المتناقضات إلى الأبد، وهو ما لا يقره قانون الجدلية!


(1) الإنسان والعلاقات البشرية.

أما الدولة الشيوعية المعاصرة فهي وإن كانت مؤقتة - مرحلة ضرورية، وتتمثل فيها النظرية الشيوعية الملائمة لطبيعتها المرحلية.

وترى الدولة الشيوعية أنها دولة ديمقراطية شعبية، حسب التعريف الخاص الذي يقدمه الشيوعيون للديمقراطية وهو أنها شكل سياسي لمجتمع اشتراكي قائم على الملكية العامة لوسائل الإنتاج مخطط ومتحرر من الاستغلال (1).

وتؤمن الشيوعية بمبدأ سيادة الطبقة العاملة -أو ما تسميه دكتاتورية البروليتاريا - مقابل دكتاتورية الرأسماليين في الديمقراطية الليبرالية.

وتتميز الدولة الشيوعية بالتزامها المطلق بالنظرية كعقيدة شمولية تشمل التصور العام، وتقدم الحلول والتفسيرات لكل نشاطات الحياة، ومجالتها العامة؛ وذلك يربطها جميعاً بالعامل الوحيد المؤثر في الحياة، وهو العامل الاقتصادي، وبصفة خاصة ملكية وسائل الإنتاج.

ومن هنا ينبغى النظر إلى الدولة الشيوعية على أنها وجه اقتصادي يشمل السلطة التشريعية والجهاز التنفيذي، وتقع سلطته المطلقة في يد الحزب الشيوعي والحزب الشيوعي، يعتبر نفسه تجسيداً لإرادة العمال والفلاحين، وهو بهذه الصفة أصدق طريق للتعبير عن إرادة الشعب، والجهاز الرسمي للدولة يشمل أجهزة معقدة لتنفيذ إرادة السيادة كما يعبر عنها الحزب الشيوعي.

ويعتقد الحزب أنه هو الشعب على الحقيقة، ولهذا فله السلطة الكاملة الشاملة في وضع السياسات الداخلية والخارجية، وتقرير صحة


(1) تاريخ البشرية (6/ 2، 2: 247) اليونسكو.

النظريات، والتوجيه للاستراتيجية السياسية، وقيادة كل جهاز في الدولة والإشراف عليه (1).

يقول أحد الكتاب الشيوعيين: (إن وضع قيادة البلاد في يد مثل هذه القوة المنظمة الهادفة -وهى الحزب الشيوعي- يطبع المجتمع كله بطابع موحد، وهذا ينجح في مقاومة محاولات التدخل من الخارج ويحل مشكلات كبرى بروح المثل الشيوعي، (2) تلك هي ملامح الديمقراطية الشعبية التي يهتف لها زعماء الشيوعية وكتابها، ويبالغون في إطرائها وتمجيدها ... !

فما رصيد هذه الديمقراطية الفريدة من الحق والعدل؟ وما هي إيجابيتها ومنجزاتها؟ وما مقدار سلامتها من عيوب نظيرتها ديمقراطية الرأسماليين)؟

إن الواقع المشاهد الذي لا يحتاج إلى دليل خارجي هو أن أنظمة الحكم الشيوعية الديمقراطية الشعبية! هي أبشع أنواع الأنظمة الاستبدادية " الدكتاتوريات" في التاريخ، وأن الدول الشيوعية المعاصرة هي في الواقع أشبه شئ بمعتقلات فسيحة زبانيتها أعضاء الحزب الشيوعي، ونزلاؤها الشعب بكامله، وما الستار الحديدي الذي ضربته هذه الدول لإخفاء تلك الحقيقة إلا واحداً من الأدلة الفاضحة عليها، وهذا ليس حكماً نصدره من عند أنفسنا، ولا هو برأي نقلناه عن كتاب مناهضين للشيوعية، ولكنه شيء من وصف زعماء سياسيين وصل بعضهم إلى مرتبة نائب رئيس دولة شيوعية، والآخرون كانوا في مرتبة عضو بالحزب الشيوعي للمستويين القطري والدولي.

كما أن الحقيقة أظهرها مفكرون بارزون في الغرب، دفعتهم


(1) المصدر السابق: (237).
(2) من تعقيب كتبه بوفين المصدر السابق (354).

مساوئ المجتمع الديمقراطي الرأسمالي إلى اعتناق الشيوعية، والدفاع المتحمس عنها، فلما انجلت لهم الحقيقة المرة ارتدوا عنها إلى غير بديل.

فمثلاً: ميلوفان دجيلاس النائب السابق لرئيس يوغسلافيا يقسم المراحل التي مر بها الحكم الشيوعي إلى ثلاث:

1 - حكم ثوري فردي ديكتاتوري: لينين.

2 - حكم عقائدي فردي إرهابي: استالين.

3 - حكم سياسى (غير عقائدي) جماعي بيروقراطي: خروتشوف فصاعداً.

ويقول عن الانتخابات الشيوعية: إنها سباق يعدو فيه حصان واحد، ويقول عن الأحزاب الشيوعية: "لقد أكدت هذه الطقبة الجديدة أنها أكثر تسلطاً في الحكم من أية طبقة أخرى ظهرت على مسرح التاريخ، كما أثبتت في الوقت نفسه أنها تحمل أعظم الأوهام، وأنها تكرس أعتى أساليب الظلم في مجتمع طبقي جديد" (1).

ويقارن بين القوانين المعلنة وغير المعلنة قائلاً: "إن كافة المواطنين يدركون أن الحكومة هي في أيدي اللجان الحزبية، وتحت رقابة البوليس السري، وبالرغم من أن دور الحزب الشيوعي في الشئون الإدارية غير معلن، فإن سلطته مكرسة في كافة المؤسسات والمنظمات والقطاعات. كما أنه في الوقت نفسه ليس هناك أي قانون يعطي البوليس السري الحق في رقابة المواطنين، ومع ذلك فإنه يتمتع بمطلق الصلاحيات، ومع أنه ليس هناك أي نص قانوني يقضى بضرورة إشراف البوليس السري واللجان الحزبية على


(1) الطبقة الجديدة (74 - 75، 131، 54) على التوالي.

السلك القضائي إلا أن هاتين القوتين الغاشمتين تقومان بالإشراف والهيمنة الفعلية على ذلك السلك" (1).

أما آرثر كوستلر - العضو السابق في الحزب الشيوعي والكاتب الروائي البارز - فيقول: "إن الكومنترن يتاجر في العناوين والشعارات، كما يتاجر مروجو الخمور الممنوعة في أنواعها الزائفة المقلدة، وكلما كان العميل أقرب إلى السذاجة سهل عليه أن يصبح ضحية لأنواع الخمور الفكرية التي تباع تحت عناوين السلام والديمقراطية والتقدم وما شئت من هذه الأسماء" (2).

ويتحدث أندريه جيد بعد رجوعه عن الشيوعية قائلاً: "إن الناس في روسيا الآن يطلب منهم الموافقة والمصادقة على كل ما تفعله الحكومة، أما أقل معارضة أو نقد فإنها تعرض صاحبها لأقسى العقوبات، بالإضافة إلى إخماد هذه المعارضة وطمسها، إن أحسن الناس سجلاً في هذا السلم الاجتماعى الجديد من أسفله إلى أعلاه هم أكثرهم ذلة وعبودية، أما أولئك الذين تبرز منهم أية ناحية استقلالية فإنهم يحصدون أو ينفون، ولن نلبث حتى نرى أن هذا الجنس الباسل الذي استحق عن جدارة كل حبنا وإعجابنا لم يبق منه إلا النفعيون والجلادون والضحايا، لقد أصبح العامل الصغير صاحب الرأي الحر كالحيوان المطارد يلقى الجوع والتحطيم ثم الهلاك، إننى أسائل نفسي: هل هناك دولة أخرى في العالم - بما في ذلك ألمانيا في عهد هتلر - قد كان العقل فيها والروح أقل حرية وأكثر ذلة واستعباداً أو جبناً أو خوفاً منها في الاتحاد السوفيتي؟ " (3).


(1) المصدر السابق: (100).
(2) الصنم الذي هوى: (90).
(3) المصدر السابق: (228).

ويصف لويس فيشر - الذي عانى التجربة نفسها مع الشيوعية - المسخ الفكري هناك بقوله: "ضاعت كل مقاييس الحكم الثابتة، ولم يعد يدرى ماذا يعتنق، وماذا يرفض، وقد لا يأتي المساء حتى يعلن على ملائكة هذا الصباح أنهم شياطين، إن التشويش العقلي الذي ينتج عن هذا أفضى إلى النفاق وإلى التقبل الآلي والتلقائي لكل وحي جديد قد يأتي من سماء الكرملين، فهنا على الأقل يجد الإنسان الحد الأدنى من السلامة والأمن لنفسه" (1).

وكان من المخدوعين بالديمقراطية الشيوعية برتراند رسل الذي اكتشف الحقيقة، فكتب مناقضاً لهذه الدعوى: "إن الطبقة العاملة في روسيا في سنة 1917 كانت أقلية ضئيلة بين السكان، وكانت الأغلبية الساحقة من الفلاحين، فتقرر عندئذٍ أن يكون الحزب البلشفي هو ذلك الجزء من الطبقة العاملة الذي يتمتع بالوعي الطبقي، وأن لجنة صغيرة من زعمائه هم الذين يعدون الجزء الواعي طبقياً بين الحزب البلشفي، وهكذا صارت دكتاتورية العمال دكتاتورية اللجنة الصغيرة، ثم انتهى الأمر بأن أصبحت دكتاتورية رجل واحد هو استالين، وإذ زعم أنه الوحيد ذو الوعي الطبقي بين طبقة العمال أخذ يحكم بإعدام الملايين من الفلاحين جوعاً، ويحكم على ملايين غيرهم بالسخرة في معسكرات الاعتقال" (2).

ولعل خير ما نختم به موضوع الواقع المعاصر للأنظمة العالمية التي تحكم بغير ما أنزل الله هو العبارة اليائسة التي قالها لويس فيشر: "بعض الناس يقض مضاجعهم ما يقترفه العالم الرأسمالي من جرائم وآثام، فيظلون عمياً لا يرون جرائم البلشفية وإفلاسها، وكثير منهم يستغلون نقائض العالم الغربي ليصرفوا الانتباه عن فظائع موسكو البشعة، أما أنا فأقول: لعن الله كليهماً".

 


(1) المصدر السابق: (262 - 263).
(2) العقل والمادة: (302).

  • الثلاثاء AM 05:05
    2022-07-12
  • 5333
Powered by: GateGold