ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ
شٌبهات وردود
المكتبة المرئية
خَــيْـرُ جَــلـيـسٌ
المتواجدون الآن
حرس الحدود
مجتمع المبدعين
البحث
عرض المادة
ما مكانة العمل والعلم في الإسلام؟ وهل هما قاصران على العمل العبادي والعمل الديني؟
الإسلام هو الوحي النازل على محمد صلى الله عليه وسلم ليوجه به الحياة إلى ربها، ويهدي الناس كافة إلى الصراط المستقيم.. أي إنه حقائق مقررة أولاً ثم أساليب متجددة في البلاغ والعرض، والحماية والدفاع..
لنفرض أن صاحب فلسفة ما اقتنع بأن ما لديه ينفع العالم.. إنه ابتداء يشرح ما عنده ويطبقه في ذات نفسه، ثم ينتقل إلى تفهيم الآخرين بكل وسائل الفهم، ويحتاط ضد المعتدين والمعوقين بكل أسباب المقاومة..
وقد مضى الإسلام على هذا النهج منذ بدأ مسيرته، أو منذ استمع نبيه إلى صوت الوحي: {ٱقْرَأْ بِٱسْمِ رَبِّكَ ٱلَّذِى خَلَقَ خَلَقَ ٱلْإِنسَٰنَ مِنْ عَلَقٍ ٱقْرَأْ وَرَبُّكَ ٱلْأَكْرَمُ ٱلَّذِى عَلَّمَ بِٱلْقَلَمِ عَلَّمَ ٱلْإِنسَٰنَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق: 1-5].
إن العلم هنا من شقين، علم بحقائق الوحي، وعلم بطرق غرسه، وذود الأذى عنه!..
في الفلسفات المادية المعتادة يسير العلمان معاً سيراً لا يتسم بأي تناقض!.. فالشيوعية تسوي بين رجل الإعلام الذي يعرض مبادئها في الصحف المحلية والهيئات الدولية، وبين رجل الفضاء الذي يستكشف الكون، ويستخدم الأقمار الصناعية في الكر والفر والظفر في حرب الكواكب!..
كلا الرجلين يؤدي واجبه نحو مبدئه، وكلا العلمين يعمل للآخر ويعانقه.. إننا نضرب هذا المثل ليعلم السذج من المسلمين أن تالي القرآن الكريم في الإذاعة يعرض نوعاً من المعرفة الدينية، وأن الذي يشرف على توجيه صاروخ في الفضاء كي يدافع عن هذه المعرفة لا يقل مكانة عن القارئ المرتل، وقد يكون – بدق نيته – اولى بالله منه!..
إنه هو الأخر يمثل علماً لابد منه، ما يحيا العلم الأول إلا به، فالإيمان آس والجهاد حارس.
والواقع أن الثقافة الإسلامية منذ نشأتها تشعبت أصولها وفروعها، وتشعب العمل الذي يقوم به المسلمون فرادى وجماعات، وليس في تاريخ هذه الثقافة علم ديني بعيد عن الحياة، وعلم مدني عن الدين، ولم يقع انقسام العلم إلى ديني ومدني إلا في عصور السقوط والاضمحلال..
وبديه أن تكون علوم الشريعة أول مظاهر الحركة العلمية في الإسلامية، فنشأت علوم القرآن والسنة والفقه والأخلاق والتربية، ولا يجرؤ أحد على إنكار ما في القرآن الكريم والسنة المطهرة من خصوبة فكرية، ومنابع غزيرة للفكر والوجدان والسلوك، إنهما مهاد جليل لحضارة إنسانية ذمية رحبة..
ثم صاحب ذلك ميلاد العلوم العربية من نحو وصرف ومعان وبيان وبديع وازدهر والبحث في فلسفة اللغة وأسرار البلاغة وألفت القواميس، وأصبحت الدراسات الأدبية واللغوية جزءاً أصيلاً من عمل المعاهد الدينية..
ونشطت الدراسة الفلسفية – التي تحولت في عصرنا إلى علوم إنسانية – فلم تبق في أرض الله أثارة من معرفة إلا استقدمها العرب، وتوفروا على فهمها وتقويم مسارها..
ومع نضج الفكر الإسلامي ظهرت علوم الكون والحياة مستهدية بمتطق الملاحظة والتجربة – وهو منطق قرآني المنبت – فكانت علوم الرياضة من حساب وجبر، وعلوم الطبيعة والكيمياء، والفلك!..
ويكاد المنصفون من مؤرخي الحضارة يجمعون على أن المسلمين هم أولو الفضل على النهضة الأوربية، وأنهم السبب المباشر في عصر الإحياء..
وقد كان من وراء الإنتصارات العسكرية الإسلامية – إلى ما قبل بضعة قرون – تفوق علمي وصناعي، هو الذي أعان على فتح "القسطنطينية" وحصار "فينا" ووقف الزحف الصليبي.
ويرى المحققون أن الحرب التي نشبت بين العلم والدين في أوربا، قد أشعلتها الكنيسة عن عمد لأنها رأت أن الاتجاه العلمي المبتكر الناشط هو أثر الزحف الإسلامي الناجح، وأن العلماء الباحثين هم – طابور – خامس للجهاد الإسلامي القديم.
بيد أن هذا كله تلاشى مع خمول المسلمين الأخير، وإنطفاء جذوتهم، وانتشار الجهل العام في ربوعهم، وفهم كثير منهم أن العلم لا يتجاوز دراسة الوضوء والصلاة والمواريث! وأن ما وراء ذلك من أدب وفن وكشف وذكاء نوع من الفضول.
وقد دفعوا ثمن ذلك الخطأ سواداً صبغ الوجوه وأخزى النفوس، وجعل بلادهم بين الأطلسي والهادي مسرحاً لاستعمار أناني ظلوم، أكل دينهم ودنياهم على سواء..
ومن الغرائب أن بعض الفتية المشتغلين بالدين لا يزالون صرعى هذا الغلط الفاحش، وأن المنتسبين منهم إلى كليات عملية أو مدنية يصدفون عن الدراسات امكتوبة عليهم ويقولون: ندرس علوم الدين..
ويحكم! وهل يقوم الدين إلا بالعلوم التي فيها تزهدون؟.
وكما لا يقوم إلا بها، فهو ما يحسن فهمه إلا في ضوئها.
من هؤلاء الفتية من أمضى عدة سنوات في كليات الهندسة أو التجارة أو غيرها، ورأي أن يضحي بالسنوات التي قضاها ويلتحق بإحدى الجامعات الإسلامية..
وأقتطف هذه الفقرات من رسالة كتبها لي أحدهم يقول فيها: ".. يؤلمني ألماً شديداً، ويعتصر قلبي حزناً تعدد الأهواء، وإعجاب كل ذي رأي برأيه! وقد دعوت الله أن يلهمني الحق ويهديني الطريق القويم ويوفقني إلى الالتحاق بالجامعة الإسلامية فقد علمت من قراءتي للإمام الشافعي "أن العلم ما كان قا حدثنا، وأخبرنا، وغير ذلك وساوس شياطين! ولذلك فإني أرغب في التعلم الديني المنهجي! والله يوفقك لمساعدتي".
وقد رق قلبي لصاحب الرسالة، وحاولت إلحاقه بكلية الشريعة في دولة قطر، ولكن التعليمات القانونية لم تسمح!..
ولابد من وعي الكلمة المنسوبة للإمام الشافعي – إن صحت – فالمراد منها أن شئون العبادات لا مجال فيها للآراء الشخصية، وإنما تأخذ العبادات من النقول الثابتة عن المعصوم..
وقضايا العبادات قطرة من بحر في سلوك المسلمين وشئونهم العلمية، ولا دخل للروايات في موضوعات العلوم الأخرى..
وقد تأملت في سيرة نفر من خريجي الجامعات الإسلامية فكدت أيأس من جدواها، هذا رجل يحمل حملة شعواء على الأضرحة، قال لي أحد مستمعيه: لكن لا توجد في هذا البلد أضرحة.. قلت: كلام سمعه لا يعرف غيره فأفرغه بيننا..
وفي افتتاح مسجد بباريس، وفي أثناء التقاط صور تذكارية للحفل قام واحد من هؤلاء في حالة تشنج، يذكر أن التصوير الشمسي حرام!..
فقال له أحد الحضور: ذلك رأيك! وما أكثر الفقهاء الذين يخالفونك، إنك توقف سير الدعوة الإسلامية في باريس بهذا التعصب الضيق لرأي ما، فهل تريد التضحية بالدين كله من أجل وجهة نظر لك أو لأناس قاصرين خلفك؟..
قلت في نفسي: ما أتعس حظ الإسلام، إذا كان المتحدثون باسمه لا يعرفون العلم الخادم له أو المبين عنه.. إلا بعض المرويات، وبعض الأفهام..
عندما عرض عفريت من الجن على سليمان أن يأتيه بعرش بلقيس من اليمن إلى فلسطين قبل أن يقوم من مقامه.. {قَالَ ٱلَّذِى عِندَهُۥ عِلْمٌ مِّنَ ٱلْكِتَٰبِ أَنَا۠ ءَاتِيكَ بِهِۦ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ ۚ فَلَمَّا رَءَاهُ مُسْتَقِرًّا عِندَهُۥ قَالَ هَٰذَا مِن فَضْلِ رَبِّى} [النمل: 40]
ما أحوج المسلمين إلى رجال أوتوا علم هذا الكتاب.. أم أن هؤلاء الرجال خشوا سوء الاستقبال عندنا، فحطوا رحالهم في أوربا وأمريكا؟..
ليس للعلم ولا للعمل صورة واحدة صالحة، أو ميدان واحد مقبول.. فإن الله أمر المسلمين أن يفعلوا الخير {وَٱفْعَلُوا ٱلْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الحج: 77] وكلفهم مع فعله أن يدعوا الآخرين إليه {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى ٱلْخَيْرِ} [آل عمران: 104] فهل للخير المطلوب شكل واحد؟ لا يرى إلا في الصلاة والصيام؟..
إن صنوف الشر لا تحصى، وصنوف الخير لا تحصى! وما يحشده البشر لتحصيل الخير أو الشر لا يحصى، وللوسائل حكم الغايات..
والحق أن العمل الصالح – الذي هو صنو الإيمان – هو كل سلوك يترجم عن نية حسنة وغاية شريفة، وقد يكون فلاحة أو صناعة أو إدارة، وقد يكون سفراً أو إقامة، وقد يكون قتالاً أو سلاماً.. إنه مسلك غير محدود لباعث واحد هو حب الخير, وطلب الإصلاح..
{... فَمَنْ ءَامَنَ وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ وَٱلَّذِينَ كَذَّبُوا بِـَٔايَٰتِنَا يَمَسُّهُمُ ٱلْعَذَابُ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} [الأنعام: 48-49].
وقد سمى القرآن الكريم تجويد الصناعات الحربية – لدعم الحق بداهة – سماها عملاً صالحاً، فقال عن نبي الله داود: {.. وَأَلَنَّا لَهُ ٱلْحَدِيدَ أَنِ ٱعْمَلْ سَٰبِغَٰتٍۢ وَقَدِّرْ فِى ٱلسَّرْدِۖ وَٱعْمَلُوا صَٰلِحًا ۖ إِنِّى بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [سبأ: 10-11].
وجعل كل تعب يعانيه المجاهدين، وكل بذل يتكلفونه عملاً صالحاً {ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ وَلَا يَطَـُٔونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ ٱلْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّۢ نَّيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُم بِهِۦ عَمَلٌ صَٰلِحٌ ۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ ٱلْمُحْسِنِينَ} [التوبة: 120].
وما يذكره القرآن الكريم ليس إلا نماذج وأمثلة.. ولقد اعتبر الرسول الصلة الجنسية بين الرجل وامرأته عملاً صالحاً يثاب عليه لأنها حصانة من الإثم، ووقاية من الشرود..
إن كل علم تسمو به الإنسانية، وكل عمل تزكو به هو من صميم الدين، ترجح به الموازين، وترتفع به الدرجات، في الدنيا والآخرة.
-
الخميس AM 10:56
2022-03-24 - 1631