المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 412434
يتصفح الموقع حاليا : 382

البحث

البحث

عرض المادة

ما حقيقة الصوم وما حكمته؟

الصيام عبادة مستغربة أو منكورة في جو الحضارة المادية التي تسود العالم. إنها حضارة تؤمن بالجسد ولا تؤمن بالروح، وتؤمن بالحياة العاجلة ولا تكترث باليوم الآخر! ومن ثم فهي تكره عبادة تقييد الشهوات ولو إلى حين، وتؤدب هذا البدن المدلل وتلزمه مثلاً أعلى..

 

إن الأفراد والجماعات في العالم المعاصر تسعى لا غير لتكثير الدخل.. ورفع مستوى المعيشة ولا يعنيها أن تجعل من ذلك وسيلة لحياة أزكى!..

 

ونسارع إلى تبرئة الدين من حب الفقر، وخصومة الجسم، فالغني سر العافية والجسم القوي نعم العون على أداء الواجب والنهوض بالأعباء، وإنما نتساءل: هل يتعامل الناس مع أجسامهم على أسلوب معقول يحترم الحقائق وحدها؟

 

يقول علماء التغذية: إن للطعام وظيفتين: الأولى إمداد الجسم بالحرارة التي تعينه على الحركة والتقلب على ظهر الأرض، والأخرى تجديد ما يستهلك من خلاياه وإقداره على النمو في مراحل الطفولة والشباب.

 

حسناً، هل نأكل لسد هاتين الحاجتين وحسب؟ إن أولئك العلماء يقولون: يحتاج الجسم إلى مقدار كذا من "السعر الحراري" كي يعيش..

 

الطعام وقود لابد منه للآلة البشرية، والفرق بين الآلات المصنوعة والإنسان الحي واضح... فخزان السيارة مصنوع من الصلب ليسع مقداراً معيناً من النفط يستحيل أن يزيد عليه، أما المعدة فمصنوعة من نسيج قابل للامتداد والانتفاخ يسع أضعاف ما يحتاج المرء إليه!..

 

وخزان السيارة يمدها بالوقود إلى آخر قطرة فيه، إلى أن يجيء مدد آخر..

 

أما المعدة فهي تسد الحاجو ثم يتحول الزائد إلى شحوم تبطن الجوف، وتضاعف الوزن، وذاك ما تعجزه السيارة عنه، إنها لا تقدر على أخذ "فائض" ولو افترضنا فإنها لا تقدر على تحويله إلى لدائن تضاف إلى الهيكل النحيف فيكبر أو إلى الإطارات الأربعة فتسمن!!..

 

الإنسان كائن عجيب، يتطلع أبداً إلى أكثر مما يكفي، وقد يقاتل من أجل هذه الزيادة الضارة، ولا يرى حرجاً أن تكون بدانة في جسمه، فذاك عنده أفضل من أن تكون نماء في جسد طفل فقير، أو وقوداً في جسد عامل يجب أن يتحرك ويعرق!!

 

كان لي صديق يكثر من التدخين، نظرت له يوماً في أسف، ثم سمعني وأنا أدعو الله له أن يعافيه من هذا البلاء، فقال رحمه الله فقد أدركته الوفاة (اللهم لا تستجب ولا تحرمني من لذة "السيجارة")..

 

ولم أكن أعرف أن للتدخين عند أصحابه هذه اللذة، فسكت وقد عقدت لساني دهشة.

 

إن الإنسان هو المخلوق الوحيد الذي يعرف ما يضره، ويقبل عليه برغبة.. إنها الرغبة القاتلة!!..

 

على أن النفس التي تشتهي ما يؤذي يمكن أن تتأدب وتقف عند حدود معقولة، كما قال الشاعر قديماً:

              والنفس راغبة إذا رغبتها          وإذا ترد إلى قليل تقنع

 

وهنا يجيء أدب الصيام! إنه يرد النفس إلى القليل الكافي، ويصدها عن الكثير المؤذي!...

 

ذاك يوم نصوم حقا، ولا يكون الامتناع المؤقت وسيلة إلى التهام مقادير أكبر كما يفعل سواد الناس!!..

 

لعل أهم ثمرات الصوم إيتاء القدرة على الحياة مع الحرمان في صورة ما...

كنت أرمق النبي صلى الله عليه وسلم وهو يسأل أهل بيته في الصباح: "أثم ما يفطر به؟" فيقال: لا! فينوي الصيام، ويستقبل يومه كأن شيئاً لم يحدث..

 

ويذهب فليقى الوفد ببشاشة ويبت في القضايا، وليس في صفاء نفسه غيمة واحدة! وينتظر بثقة تامة رزق ربه دونما ريبة، ولسان حاله {فَإِنَّ مَعَ ٱلْعُسْرِ يُسْرًا إِنَّ مَعَ ٱلْعُسْرِ يُسْرًا} [الشرح: 5-6].

 

قلت: لو جاءني فطوري دون شاي لسخطت!! ولرفضت إمضاء ورقة على مكتبي، بل كتابة مقال!!.

 

إنها لعظمة نفسية جديرة بالإكبار أن يواجه المرء الباساء والضراء مكتمل الرشد، باسم الثغر، والأفراد والجماعات تقدر على ذلك لو – شاءت!.

 

وأعتقد أن أسباب غلب العرب في الفتوح الأولى قلة الشهوات التي يخضعون لها، أو قلة العادات التي تعجز عن العمل إن لم تتوافر.

 

يضع الواحد منهم تمرات في جيبه وينطلق إلى الميدان، أما جنود فارس والروم فإن العربات المشحونة بالأطعمة كانت وراءهم، وإلا توقفوا..

 

وقد اعتمد غاندي على هذا السلاح عندما حارب "بريطانيا" العظمى.. كان الإنتاج البريطاني يعتمد على الاستهلاك الهندي.. وقرر غاندي أن ينتصر بتدريب قومه على الاستغناء، نلبس الخيش ولا نلبس منسوجات "مانشيستر" نأكل الطعام بدون ملح مادامت الدولة تحتكره، نركب أرجلنا ولا نركب سياراتهم..

 

وقاد حركة المقاطعة رجل نصف عار جائع، ينتقل بين المدن والقرى مكتفياً بكوب من اللبن..

 

واستجابت الجماهير الكثيفة للرجل الزاهد، وشرعت تسير وراءه فإذا الإنتاج الإنكليزي يتوقف، والمصانع تتعطل، وألوف مؤلفة من العمال الإنجليز يشكون البطالة..

واضطرت الحكومة إلى أن تطلب من "غاندي" المجيء إلى لندن كي يتفاوض معها، أو يملي شروطه عليها!!..

 

وحياة أحمد شوقي وهو ذاهب إلى لندن بقصيدته التي يقول فيها محذراً من ألاعيب الساسة..

              وقــل هاتــوا أفــاعيكم              أتــى "الحــاوي" مــن الهنــد..

 

إن الإنسان الذي يملك شهواته قوة خطيرة، والشعب الذي يملك شهواته قوة أخطر، فهل نعقل؟؟..

في صيام غاندي وأثر سياسته على إنجلترا، وظفره باستقلال الهند يقول الشاعر القروى سليم خوري:

              لقـد صام هنـدي فـجـوع دولة...

                                  وما ضار علجا صـوم مليـون مـسلم

              تجشم عـن أوطانـه صـوم عامــد

                                 مجشم أوطان العـدا صـوم مرغم!

              وخلي بلاد الظالمين بلاده

                                 تضيق بجيش العاطلين العرموم

              وألقى على "مانشيستر" ظل رهبة

                                 تضج بأشباح الشقاء المخيم

              أهاب بآلات الحديد فعطلت

                                 مصانع كانت جنة المتنعم

              وشل دواليب الرخاء بصرخة

                                 أدارت دواليب القضاء المحتم

              كساها نسيج العنكبوت وكم كست

                                 جسوم البرايا بالقشيب المنمنم

              تهدمها أسرار نفس عجيبة

                                 تجول بذلك الهيكل المتهدم

              فيالك من عار، لديه تصاغرت

                                 جبابر أبدان وعقل ودرهم!!

              وراحت ملوك المال تشكو ببابه

                                 من الظلم، يا للظالم المتظلم!!

 

وفي عيد الفطر يقول رشيد سليم خوري أيضاً:

    أكرم هذا العيد تكريم شاعر                 يتيــه بــآيــات النبي المعظــم

    ولكن أصبــو إلى عيـد أمة                  محررة الأعناق من رق أعجم

 

أحفظ للشيخ الكبير "محمد الخضر حسين" شيخ الأزهر الأسبق كلمة عظيمة: "لست أنا الذي يهدد، إن كوبا من اللبن يكفيني أربعاً وعشرين ساعة"!..

 

ومن قبله قال الشيخ عبدالمجيد سليم وقد حذروه من غضب جهات عالية: "أيمنعني ذاك من التردد بين بيتي والمسجد؟ قالوا: لا.. قال: لا خطر إذن! ليس هناك ما يخاف"..

 

من أركان العظمة أن يجعل الرجل مأربه من الدنيا في أضيق نطاق مستطاع.. إنه يعني عدوه بذلك الاستعفاف أو الاستغناء.

 

وذلك نهج الشرف الذي خطه على بن أبي طالب عندما قال: "استغن عمن شئت تكن نظيره، واحتج إلى من شئت تكن أسيره" وما يستقيم على هذا النهج إلا امرؤ يحسن الصيام.

 

أعجبتني هذه الوصيى لأبي عثمان النوري لابنه، وأثبتها الجاحظ، وليس لي في كتابتها إلا فضل النقل.. "يابني كل ما يليك، واعلم أنه إذا كان في الطعام لقمة كريمة أو شيء مستطرف فإنما ذلك للشيخ المعظم أو الصبي المدلل، ولست واحداً منهما.

 

يا بني عود نفسك مجاهدة الهوى والشهوة، ولا تنهش نهش السباع، ولا تخضم خضم البغال، ولا تلقم لقم الجمال، الله جعلك إنساناً فلا تجعل نفسك بهيمة، واعلم أن الشبع داعية البشم، والبشم داعية السقم، والسقم داعية الموت.

 

ومن مات هذه الميتة فقد مات ميتة لئيمة، لأنه قاتل نفسه، وقائل نفسه ألأم من قاتل غيره..

 

يا بني والله ما أدى حق الركوع والسجود ممتليء قط! ولا خشع لله ذو بطنة، والصوم مصحة، والوجبات عيش الصالحين.

 

يا بني قد بلغت تسعين عاماً ما نقص لي سن ولا انتشر لي عصب، ولا عرفت ذنين أنف، ولا سيلان عين، ولا سلس بول، وما لذلك علة إلا التخفيف من الزاد..

 

فإن كنت تحب الحياة فهذه سبيل الحياة، وإن كنت تحب الموت فتلك سبيل الموت، ولا أبعد الله غيرك"..

 

هذه وصية رجل لا يعرف عبادة الجسد التي تهاون فيها أبناء هذا العصر، والتي جاء فيها قوله تعالى: {ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ ٱلْأَمَلُ ۖ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} [الحجر:3]

وقوله: {وَٱلَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ ٱلْأَنْعَٰمُ وَٱلنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ} [محمد:12].

 

وتحتاج الناس بين الحين والحين أزمات حادة تقشعر منها البلاد، ويجف الزرع والضرع، ما عساهم يفعلون؟ إنهم يصبرون مرغمين أو يصومون كارهين وملء أفئدتهم السخط والضيق.. وشريعة الصوم شيء فوق هذا، إنها حرمان الواجد، ابتغاء ما عند الله. إنها تحمل للمرء منه مندوحة – لو شاء – ولكنه يخرس صياح بطنه، ويرجئ إجابة رغبته، مدخراً صبره عند ربه، كيما يلقاه راحة ورضا في يوم عصيب.. {ذَٰلِكَ يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ ٱلنَّاسُ وَذَٰلِكَ يَوْمٌ مَّشْهُودٌ} [هود:103].

 

وربط التعب بأجر الآخرة هو ما عناه النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: "مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ"!.

 

إن كلمتي "إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا" تعنيان جهداً لا يستعجل أجره، ولا يطلب اليوم ثمنه، لأن باذله قرر حين بذله أن يجعله ضمن مدخراته عند ربه.. نازلاً عند قوله: {ذَٰلِكَ ٱلْيَوْمُ ٱلْحَقُّ ۖ  فَمَن شَآءَ ٱتَّخَذَ إِلَىٰ رَبِّهِۦ مَـَٔابًا} [النبأ: 39].

 

وسوف يجد الصائم مفطرين لا يعرفون لرمضان حرمة ولا لصيامه حكمة، إذا اشتهوا طعاماً أكلوا، وإذا شاقهم شراب أكرعوا.. ماذا يجدون يوم اللقاء؟..

 

إنهم يجدون أصحاب المدخرات في أفق آخر، مفعم بالنعمة والمتاع، ويحدثنا القرآن الكريم عمن أضاعوا مستقبلهم فيقول: {وَنَادَىٰٓ أَصْحَٰبُ ٱلنَّارِ أَصْحَٰبَ ٱلْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ ٱلْمَآءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ ٱللَّهُ ۚ  قَالُوٓا إِنَّ ٱللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى ٱلْكَٰفِرِينَ ٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ ٱلْحَيَوٰةُ ٱلدُّنْيَا} [الأعراف: 50-51].

 

إن الصيام عبادة مضادة لتيار الحياة الآن، لأن الفلسفات المادية المسيطرة في الشرق والغرب، تعرف الأرض ولا تعرف السماء، تعرف الجسم ولا تعرف الروح، تعرف الدنيا ولا تعرف الآخرة..

 

ليكن للقوم ما أرادوا، ذلك مبلغهم من العلم!.. بيد أننا نحن المسلمين يجب أن نعرف ربنا، وأن نلزم صراطه، وأن نصوم له، وأن ندخر عنده!

 

على أن هناك حقيقة مؤسفة هي أن الصوام قلة وإن امتنع عن الطعام كثيرون!..

 

  • الخميس AM 10:39
    2022-03-24
  • 1267
Powered by: GateGold