المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 413694
يتصفح الموقع حاليا : 259

البحث

البحث

عرض المادة

ما هي حدود الكسب الحلال في التجارة؟ وكيف يضع الشارع حدّاًً لأرباح التجار؟

التجارة باب عظيم من أبواب الثراء في الدنيا كما هي ميدان فسيح للنشاط العمراني، وتنقيل الخيرات بين أرجاء الأرض.

 

والعجيب أنها كذلك باب عظيم إلى الثراء في الآخرة ورفعة المكانة عند الله، وحسبنا في ذلك قول الرسول الكريم: "التَّاجِرُ الْأَمِينُ الصَّدُوقُ مع النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ"..

 

وقد وقفت ملياً أمام حديث آخر يشيد بخلق السماحة والرحمة في معاملة التاجر لغيرخ، ويهرني ما ذكر من مثوبة لهذه الخلال، فعن حذيفة وأبي مسعود البدري أنهما سمعا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إِنَّ رَجُلًا كَانَ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ أَتَاهُ الْمَلَكُ لِيَقْبِضَ رُوحَهُ فَقِيلَ لَهُ هَلْ عَمِلْتَ مِنْ خَيْرٍ قَالَ مَا أَعْلَمُ..!  قِيلَ لَهُ: انْظُرْ قَالَ مَا أَعْلَمُ شَيْئًا غَيْرَ أَنِّي كُنْتُ أُبَايِعُ النَّاسَ فِي الدُّنْيَا وَأُجَازِيهِمْ فَأُنْظِرُ الْمُوسِرَ وَأَتَجَاوَزُ عَنْ الْمُعْسِرِ!!.. فَأَدْخَلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ".

 

والمعروف أن قوم النبي عليه الصلاة والسلام كانوا يشتعلون بالتجارة، بل لعلها كانت مصدر رزقهم وعماد معايشهم، وكانت حركاتهم ناشطة بين اليمن والشام، وبين فارس والروم.

 

وقد شارك النبي نفسه في بعض الرحلات التجارية، وعاش صلى الله عليه وسلم من العمل في هذا المجال عمره الأول، وكذلك كان صحبه!

 

ولما كان العرب يمسون ويصبحون في هذا الجو التجاري المشغول بالأرباح والمغامرات فإن لغة الوحي اتجهت إليهم من هذه الزاوية: {هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَىٰ تِجَٰرَةٍۢ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍۢ  تُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦ وَتُجَٰهِدُونَ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ بِأَمْوَٰلِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ} [الصف:10-11].

وفي وصف المنافقين، وعبيد الدنيا، وطلاب المآرب الخاصة يقول سبحانه: {أُولَٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ ٱشْتَرَوُا ٱلضَّلَٰلَةَ بِٱلْهُدَىٰ فَمَا رَبِحَت تِّجَٰرَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} [البقرة: 16].

 

والتجارة على كل حال ينبغي أن تكون شريفة الوسائل، نبيلة المسالك، وفي صيحة تحذير من الغش والخداع والجشع يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ التُّجَّارَ يُبْعَثُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فُجَّارًا إِلَّا مَنْ اتَّقَى اللَّهَ وَبَرَّ وَصَدَقَ"..

 

ومعروف أن التاجر يشتري السلعة بثمن ما ولكنه عندما يضع لها سعراً للبيع، يضيف إلى ثمنها الأصلي نفقات النقل والتخزين، ثم الربح الذي يقيم عليه حياته، وقد يضيف إلى ذلك زيادة ما لضمان غده!..

 

إن التاجر ليس موظفاً حكومياً له أجره الرتيب، وله مدخرات تكفل معاشه بعد ترك الوظيفة، كلا إن الميدان الذي يعمل فيه يقوم على المخاطرة، وبديهي أن يحتال التاجر ليحفظ حاضره ومستقبله جميعا..

 

والناس تعلم ذلك، وترضى به في نطاق الاعتدال، وإن كان هناك من يغالي في تقدير أجره على تعبه أو يغالي في مستوى العيس الذي ينشده!..

 

وفي ربح التجارة يقول الله تعالى: {يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا لَا تَأْكُلُوٓا أَمْوَٰلَكُم بَيْنَكُم بِٱلْبَٰطِلِ إِلَّآ أَن تَكُونَ تِجَٰرَةً عَن تَرَاضٍۢ مِّنكُمْ} [النساء: 29].

 

وللشيخ محمد عبده تفسير غريب لهذه الآية، فهو يقول: إنما استثنى الله التجارة من عموم الأموال التي يجري فيها الأكل بالباطل – أي بدون مقابل – لأن معظم أنواعها يدخل فيه الأكل بالباطل!. فإن تحديد قيمة الشيء وجعل ثمنه على قدره بقسطاس مستقيم غزبز عسير، إن لم يكن محالاً فالمراد من الاستثناء التسامح بما يكون فيه أحد العوضين أكبر من الآخر وما يكون سبب التعارض فيه براعة التاجر في تزيين سلعته، وترويجها بزخرف القول – من غير غش ولا خداع ولا تغرير.. فإن المرء قد يشتري الشيء من غير حاجة ملحة إليه، وقد يشتريه بثمن يعلم أنه أكبر مما يباع به في مكن آخر، ولا يكون لذلك سبب إلا أن البائع أمهر وأقدر، مع بعده عن الغش، ومحافظته على الصدق!..

قال الشيخ: فيكون هذا الكسب من باطل التجارة التي تمت بالتراضي، وهو ما استثنته الآية الكريمة!. والحكمة في إباحته الترغيب في التجارة لشدة الحاجة إليها، وتنبيه الناس إلى استعمال ما أوتوا من ذكاء في اختيار الأشياء، وضبط المعاملات وحفظ أموالهم التي جعلها الله قياماً أن يذهب شيء منها بالباطل..

 

ثم قال: فعلى هذا يكون الاستثناء متصلاً خرج به الربح الكبير الذي يحصل عليه التاجر من غير غش ولا تغرير، بل تم بتراض لم تنخدع فيه إرادة المغبون، ولم لم يبح الشارع مثل هذا لما رغب في التجارة ولا اشتغل بها أحد من أهل الدين.. إلخ.

 

وقد ناقش الدكتور محمد زكي عبد البر هذا الكلام ورفضه، وفسر التراضي بأنه ركن التجارة المباحة، ويعني طيب النفس بالأخذ والإعطاء. فلا يحل مال امريء مسلم إلا بطيب نفس منه. قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَا يَحِلُّ لِلرَّجُلِ أَنْ يَأْخُذَعَصَا أَخِيهِ بِغَيْرِ طِيبِ نَفْسِهِ".

 

قال الدكتور: "لا نذهب إلى ما ذهب إليه الأستاذ الإمام من مشروعية التجارة عن تراض ولو كان بها شيء من الباطل، ترغيباً في التجارة لشدة الحاجة إليها؛ لأن القول بالمشروعية يتنافى مع الباطل ولأن الأمر إذا شرع لا يعد باطلاً، وإذا كان باطلاً يكون مشروعاً...إلخ"..

 

ويبقى بعد ذلك كله السؤال الوارد: أليس لأرباح التجار حد تقف عنده، وتحرم بعده؟ ربما لا نجد نصاً صريحاً في تحديد الربح، والذي نراه أن الظروف الطبيعية تقف بالمكاسب عادة عند حدود الاعتدال!.

 

لكن نفرا من التجار يحاول السيطرة على هذه الظروف والتلاعب بقانون العرض والطلب، ويصل إلى غايته بالاحتكار المتعمد للسلع، حتى يبيعها بأضعاف سعرها..

 

والاحتكار جريمة خلقية واجتماعية، وهو أقصر طريق لأكل أموال الناس بالباطل، وإشباع النهم الفردي من حاجة ذوي الحاجات..

 

ولعل من أدهى العلل التي وفدت بها الحضارة الحديثة حرق بعض المحاصيل الزراعية حتى لا يرخص السعر الذي حدده الباعة..! والكفر، كالجنون، فنون!..

 

بعد ما تبينت ضخامة الأرباح التي تجنيها الشركات المحتكرة فهمت قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لَا يَحْتَكِرُ إِلَّا خَاطِئٌ" وما ورى عنه "يحشر الحاكرون وقتلة الأنفس في درجة: ومن دخل في شيء من سعر المسلمين يغليه عليهم كان حقاً على الله تعالى أن يعذبه في معظم النار يوم القيامة". وكذلك ما جاء عنه عليه الصلاة والسلام من رواية معاذ بن جبل: "بئس العبد المحتكر إن أرخص الله تعالى الأسعار حزن، وإن أغلاها فرح"..

 

وقد رأى الشيوعيون إلغاء التجارة لما رأوه من جشع أغلب التجار! وعينوا من يوزع السلع بعد نقلها من مواطن إنتاجها إلى مواطن استهلاكها!..

 

وهذا الحل لا يجد في تلبية الرغبات العامة، ولا يتجاوب مع الحريات الطبيعية، وهو جزء من خطة في العيش لم تحظ برضا الجمهور، فبقيت في حراسة السلاح!..

 

والذي نراه إبقاء سوق العرض والطلب، وإطلاق المنافسة الحرة بين الأفراد والشركات، وتدخل الدولة بالتسعير الجبري إذا أحست سوء الاستغلال!

 

ويبقى أمر له وزنه الكبير وإن ما رى فيه البعض أعني وازع الدين وقانون الأخلاق!. فإن زكاة النفوس في جو التربية السليمة والحريات المكفولة يمنع أنواعاً من البلاء، ويجعل التجارة في إطار الحديث الشريف: "رَحِمَ اللَّهُ رَجُلًا سَمْحًا إِذَا بَاعَ وَإِذَا اشْتَرَى وَإِذَا اقْتَضَى" ومن لطائف عمر بن الخطاب أنه قال: "لا بيع في سوقنا إلا لمن قد تفقه في الدين"!!..

 

  • الخميس AM 09:46
    2022-03-24
  • 1038
Powered by: GateGold