المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 413158
يتصفح الموقع حاليا : 285

البحث

البحث

عرض المادة

ما حاجة الإنسان إلى الإيمان باليوم الآخر؟ وما أثر إنكاره على السلوك الإنساني؟

إذ طال الكلام عن الدار الآخر فلا يأمن أحد! فإن توارث الذهول عنها أمات الشعور بها، حتى قال الحسن البصري عن الموت – وهو اول مراحلها – ما رأيت حقاً أشبه بباطل من الموت...!

 

وكل حقيقة يجب أن نعترف بها خصوصاً عندما تتصل هذه الحقيقة بمستقبلنا، وعندما يكون الشاطيء عميقاً، ثم تترك غرا لا يحسن السباحة ينزل فيه، فإنك قاتله!!

 

قد نستغني عن بعض الحقائق وإن كان الجهل بها عيباً، مادامت لا تمسنا، أما إذا ارتبط كياننا المادي والأدبي بشيء ثم غفلنا عنه فهنا الطامة..!!

 

إنني أتخيل فجيعة الجاحد عندما يحس فجأة أنه مكتمل الحواس أمام غيب تحول إلى شهادة! أمام أمر كان يهزأ منه فإذا هو جدار يصدع دماغه! لقد وقف وجهاً لوجه أمام ما كان ينكره بقوة {وَجَآءَ رَبُّكَ وَٱلْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا وَجِاىٓءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ ۚ يَوْمَئِذٍۢ يَتَذَكَّرُ ٱلْإِنسَٰنُ وَأَنَّىٰ لَهُ ٱلذِّكْرَىٰ يَقُولُ يَٰلَيْتَنِى قَدَّمْتُ لِحَيَاتِى} [الفجر: 22-24].

 

ليت! وهل ينفع شيء ليت؟ إنه أضاع ماضيه في الحياة الأولى سدى، وها هو ذا يحصد ما زرع! ما فكر قط في هذا اليوم ولا أعد له عدة، ومع التأوه والندامة يقول: ياليتني قدمت لحياتي، وهيهات.

 

وهناك شخص آخر، كان في دنيا الناس يذكر الله ويغالب النسيان، ويستعد لمواجهة عاصفة فهو يترك فراشه منطلقاً إلى المسجد، يغمض عينيه عن المفاتن المبذولة، يستعف عن المحرمات وإن كثرت حولها المغريات.

 

إنه – يوم الحساب – يتلقى نبأ نجاحه فيصبح جذلان – مسمعاً كل إنسان {هَآؤُمُ ٱقْرَءُوا كِتَٰبِيَهْ إِنِّى ظَنَنتُ أَنِّى مُلَٰقٍ حِسَابِيَهْ فَهُوَ فِى عِيشَةٍۢ رَّاضِيَةٍۢ  فِى جَنَّةٍ عَالِيَةٍۢ قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ كُلُوا وَٱشْرَبُوا هَنِيٓـًٔۢا بِمَآ أَسْلَفْتُمْ فِى ٱلْأَيَّامِ ٱلْخَالِيَةِ} [الحاقة:19-24].

 

إنها فرصة العمر، بل فرصة الخلود! شتان بين مصير ومصير!

 

وأثر الإيمان باليوم الآخر عميق في التربية النفسية والاجتماعية، إنه يتحمل حيناً ليظفر بالراحة بعد حين! كما قيل لأعرابي: تصوم في هذا اليوم الحار؟ قال: أصومه ليوم أحر منه!

 

وتعليل النفس بالآمال عون على الرضا بالمتاعب، وحبسها على ما تكره لتنال ما تحب! وكما قال الشاعر:

              مني أن تكن حقاً تكن أسعد المنى

                                 وإلا فقد عشنا بها زمناً رغدا!!

 

وهذا الاستثناء بالنسبة إلى الآخرة مرفوض، فإن الدار الآخرة أحق وأثبت من الدار الأولى، على نحو ما ذكر العارفون: الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا، ومن هنا صح وصفها بما يدل على زيادة الحس في قوله تعالى {وَإِنَّ ٱلدَّارَ ٱلْآخِرَةَ لَهِىَ ٱلْحَيَوَانُ ۚ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [العنكبوت: 64]. والحيوان كالفيضان مصدر على سعة المعنى.

 

وقد كثرت في القرآن الكريم المواطن التي تذكر فيها الآخرة لتصحيح السلوك في هذه الدنيا أو تزكيته وترقيته، فعندما ضاقت زوجات النبي صلى الله عليه وسلم بمعيشته الخشنة قيل لهن: الأمر على غير ما ألفتن قديماً، لقد جئتن من بيوت حافلة بالسعة والمتاع إلى بين لا سرف فيه ولا ترف!

 

إنه بيت الكفاح والخشونة! بيت التلاوة والتهجد! لابد لرب هذا البيت أن يكون قدوة للمضطهدين والمحاصرين، ومن صودرت ثرواتهم وفقدوا طمأنينتهم لنصرة الإسلام!

 

من طلب متعة الحياة فلا مكان له هنا، ومن رنا إلى الآخرة وسعى لها سعيها فلبيق موطناً نفسه على حياة ناشفة! {يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِىُّ قُل لِّأَزْوَٰجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ ٱلْحَيَوٰةَ ٱلدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا وَإِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ وَٱلدَّارَ ٱلْآخِرَةَ فَإِنَّ ٱللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَٰتِ مِنكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 28-29].

 

وجمهور الناس قد يحس غصه وهو يرى المرتشين والمفسدين أو الملحدين المجرمين يمرحون في طول البلاد وعرضها، عليهم شارة النعمة وأمارة القوة.

 

وقد يكون ذلك مبعث فتنة لأهل التقى والعفاف، لكن الله سبحانه يمحو ذلك محواً عندما يقول: {لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ ٱلَّذِينَ كَفَرُوا فِى ٱلْبِلَٰدِ مَتَٰعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَٰهُمْ جَهَنَّمُ ۚ وَبِئْسَ ٱلْمِهَادُ لَٰكِنِ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّٰتٌ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا ٱلْأَنْهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَا نُزُلًا مِّنْ عِندِ ٱللَّهِۗ  وَمَا عِندَ ٱللَّهِ خَيْرٌ لِّلْأَبْرَارِ} [آل عمران: 196-198].

 

ومن مشاهد القيامة مشهد يتكرر في القرآن كثيراً ليحارب ظاهرة مؤذية تسود الأمة العربية والإسلامية من زمان غير قريب حكام الجور الذين يتهافت حولهم الأتباع ليؤازروهم على ظلمهم، ويشاركون في منافعهم الحرام.

 

إن التبعة في الفساد والإفساد مقسمة على الفريقين قسمة عادلة، لأن هؤلاء يوحون وأولئك ينقذون، الرءوس والأذناب شركاء في اقتراف الجرائم، وفتنة المستضعفين وإثارة الفتن، ومن هنا جمعهم مصير واحد.

 

وتدبر قوله تعالى يصف هذا المصير، ويذكر ما يقع فيه من حوار! {هَٰذَا ۚ وَإِنَّ لِلطَّٰغِينَ لَشَرَّ مَـَٔابٍۢ  جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ ٱلْمِهَادُ هَٰذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ وَءَاخَرُ مِن شَكْلِهِۦٓ أَزْوَٰجٌ هَٰذَا فَوْجٌ مُّقْتَحِمٌ مَّعَكُمْ ۖ  لَا مَرْحَبًۢا بِهِمْ ۚ  إِنَّهُمْ صَالُوا ٱلنَّارِ قَالُوا بَلْ أَنتُمْ لَا مَرْحَبًۢا بِكُمْ ۖ  أَنتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا ۖ  فَبِئْسَ ٱلْقَرَارُ قَالُوا رَبَّنَا مَن قَدَّمَ لَنَا هَٰذَا فَزِدْهُ عَذَابًا ضِعْفًا فِى ٱلنَّارِ} [ص: 55-61] إن الكبراء عندما يرون الأذناب يلحقون بهم في دار الجحيم تسوؤهم اللقيا، ويصيحون مستنكرين مرآهم! لطالما هشوا لهم في الدنيا وسارعوا إلى لقائهم، أما اليوم فإن الفريقين يتبادلان السخط، والتشاؤم وعدم الترحيب.!!

 

ويتذكر الفريقان أنهم كانوا يتفقون على إهانة المؤمنين، ونعتهم بأقبح النعوت، ويتظاهرون على اضطهادهم وأذاهم!، أين هم الآن؟.

 

وقالوا: {وَقَالُوا مَا لَنَا لَا نَرَىٰ رِجَالًا كُنَّا نَعُدُّهُم مِّنَ ٱلْأَشْرَارِ أَتَّخَذْنَٰهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ ٱلْأَبْصَٰرُ إِنَّ ذَٰلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ ٱلنَّارِ} [ص: 62-64].

 

تسجيل هذا المنظر الذي سيقع حتماً، والتعجيل بعرضه الآن، فيه طمأنة لجمهور المؤمنين الذي أرهقه الاستضعاف والاستهزاء! أما الكافرون فإنهم لا يعونه ولا يصدقونه!

 

ومنظر آخر جدير بالتأمل، يقوم بعض أهل الجنة بسياحة قصيرة يستكشفون فيها مصاير من كانوا يعرفونهم قديماً من أهل الضلال والكفران! {قَالَ قَآئِلٌ مِّنْهُمْ إِنِّى كَانَ لِى قَرِينٌ يَقُولُ أَءِنَّكَ لَمِنَ ٱلْمُصَدِّقِينَ أَءِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَٰمًا أَءِنَّا لَمَدِينُونَ} [الصافات:51-53].

 

هذا القرين يظن المؤمنين رجعين يصدقون الخرافات، ويتبعون الترهات، فهو يقول لصاحبه: أتصدق أننا بعد فنائنا نبعث ونجزى؟

 

ويشرف الرجل المؤمن على قرينه القديم ليراه وسط أهوال {قَالَ هَلْ أَنتُم مُّطَّلِعُونَ فَٱطَّلَعَ فَرَءَاهُ فِى سَوَآءِ ٱلْجَحِيمِ قَالَ تَٱللَّهِ إِن كِدتَّ لَتُرْدِينِ وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّى لَكُنتُ مِنَ ٱلْمُحْضَرِينَ} [الصافات: 54-57]

 

وعبارة إن كدت لتردين، تشعر المؤمنين في يوم الناس هذا بضرورة الثبات على الحق، لأن التهوين فيه طريق السقوط والضياع، كما تشعرهم بقية الكلام بفضل الله عليهم، إذ شرح صدورهم لهذا واستدامهم عليه!

 

 

وفي دنيانا الحاضرة، ينفر المنافقون من أهل الإخلاص واليقين، ويهجرون مجالسهم، ويبعدون عنهم إذا جمعتهم المصادفات في طريق، ذلك لأن قلوبهم مع الكفر وأحزابه، ما يأنسون إلا بهم.. بيد أن الحال تتغير تغيراً عميقاً في الدار الآخرة {يَوْمَ يَقُولُ ٱلْمُنَٰفِقُونَ وَٱلْمُنَٰفِقَٰتُ لِلَّذِينَ ءَامَنُوا ٱنظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ قِيلَ ٱرْجِعُوا وَرَآءَكُمْ فَٱلْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍۢ لَّهُۥ بَابٌۢ بَاطِنُهُۥ فِيهِ ٱلرَّحْمَةُ وَظَٰهِرُهُۥ مِن قِبَلِهِ ٱلْعَذَابُ} [الحديد:13].

 

إن القرآن الكريم يربي الناس بيوم الحساب حين يذكره وحين يكرره، ويعالج عللهم بما يسوق من صوره!

 

إنه يذكره لإصلاح الدنيا لا لهدمها، ولتعليق الهمم بالأبقى والأجدى لا بالسراب الخادع.

 

أما الماديون الذين يزحمون الآن مشارق الأرض ومغاربها، فما يعرفون إلا هذا الشراب، وما يعولون إلا على أيامهم فوقه وما يرمقون السماء بنظرة رجاء، وما يعطفهم على ربهم ولاء ولا عرفان.

 

مررت يوماً بأحد شوارع القاهرة، فرأين عربة قد نفق الحمار الذي يجرها، وتجاوزت صاحبها الحزين على ضحيته، ونظرت إلى الدابة الميتة عند أقدامه وقلت في نفسي: انتهى أمرها، إن كثيراً من القادة والساسة لا يرقون بحياتهم فوق هذا المستوى الحيواني، يظنون أمرهم انتهى عندما ينفقون كهذه الدابة، ألا ما أحقر الكفر، وأسوأ تصوره للوجود!

 

  • الخميس AM 09:10
    2022-03-24
  • 981
Powered by: GateGold