المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 413538
يتصفح الموقع حاليا : 241

البحث

البحث

عرض المادة

أزمة الصهيونية الإثنية العلمانية وتصاعـد الديباجات الدينية

أزمة الصهيونية الإثنية العلمانية وتصاعـد الديباجات الدينية
Crisis of Ethnic Secular Zionism and the Escalation of Religious Apologetics
رغم تزايد معدلات العلمنة في المجتمع الإسرائيلي ورغم اهتزاز الوضع الراهن إلا أنه لوحظ تَصاعُد الديباجات الدينية في إسرائيل. ولتفسير هذه الظاهرة يمكن أن نشير إلى ما قاله هارولد فيش أستاذ الأدب الإنجليزي، أحد أهم منظري الصهيوني الإثنية الدينية الجديدة الذي هاجر إلى إسرائيل عام 1958، حيث درس في جامعة بار إيلان وأسَّس معهد اليهودية والفكر الحديث.


1 ـ يرى هارولد فيش أن من أهم التحولات التي طرأت على المجتمع الإسرائيلي تآكل المؤسسات المختلفة التي يُقال لها «اشتراكية» والتي كانت تهيمن على الحياة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية في إسرائيل. فالكيبوتسات نفسها انكمش حجمها بالنسبة إلى الاقتصاد القومي وتحولت عن الزراعة إلى الصناعة واستخدمت العمالة العربية، وتحوَّل أعضاء الكيبوتس أنفسهم إلى ما يشبه المديرين ورجال الأعمال. كما أن الطبيعة الاستعمارية للدولة الصهيونية، وتحالفها مع الإمبريالية الغربية وجنوب أفريقيا، زادا وضـوحاً وذيوعاً. وقد أدَّى هذا إلى تآكل الديباجة الاشتراكية، إذ أصبحت فارغة من المعنى يتمسك بها الإشكناز وأولادهم وهم يتمتعون بمستويات معيشية عالية داخل الكيبوتسات الاشتراكية التي يتم تمويلها من الولايات المتحدة والتي كانت تصدِّر منتجاتها إلى جنوب أفريقيا!

2 ـ مما زاد عملية التآكل، وصول يهود البلاد العربية الذين لم تحقق لهم الصهيونية العمالية مستوى معيشياً مرتفعاً بقدر ما سلبتهم هويتهم الحضارية ودفعت بهم إلى أدنى درجات السلم الاجتماعي (فوق العرب مباشرةً!).
3 ـ ثم جاء اليهود السوفييت الهاربون من النظام الاشتراكي، الباحثون عن النعيم الاستهلاكي، الذين لم يكونوا على أدنى استعداد لأن يمضوا في اللعبة الصهيونية الاشتراكية.

4 ـ كان المعسكر العمالي اللاديني هو المعسكر المهيمن على المشروع الصهيوني منذ العشرينيات، إذ كانت مؤسساته القوية الضخمة (الهستدروت والكيبوتس) هي المهيمنة. ولكن هزيمة 1973 أفقدته كثيراً من شرعيته، وأصبح بإمكان معسكر الليكود (الصهيونية ذات الديباجة اليمينية) أن يطرح نفسه كبديل. ثم نجح بالفعل في الوصول إلى الحكم عام 1977. ورغم أن زعماء الليكود هم أنفسهم لا دينيون، إلا أنهم زادوا جرعة الاعتذاريات الدينية الصهيونية حتى يمكنهم اجتذاب اليهود السفارد واليهود العرب الذين لا يزال الدين يلعب دوراً كبيراً في حياتهم.

5 ـ أصبح المجتمع الصهيوني مجتمعاً متسيباً من الناحية الأخلاقية ويعود هذا بغير شك إلى أنه مجتمع مستوطنين مهاجرين. ومثل هذه المجتمعات تتسم بالتفكك والتسيب الخلقي لأسباب كثيرة ليس هنا مجال حصرها. ولعل اعتماد المجتمع الإسرائيلي على السياحة (وفي تصوري أن السائح باعتباره شخصاً مُقتلَعاً باحثاً عن المتعة العابرة لقاء أجر، عنصر مدمر من الناحية الأخلاقية والاجتماعية) ساهم هو الآخر في زيادة التفكك والتسيب. ثم كان للسياسات الاقتصادية التي تبناها الليكود في أوائل الثمانينيات (كجزء من حملته الانتخابية) والتي تشبه من بعض الوجوه سياسات الانفتاح في مصر ـ بتشجيعه الاستيراد الاستهلاكي ـ أعمق الأثر في زيادة حدة السعار الاستهلاكي وما يصاحبه من توجهات اجتماعية ضارة. مهما كان السبب فالمحصلة النهائية هي أن المجتمع الإسرائيلي ـ كما يقول أمنون روبنشتاين في كتابه العودة للحلم الصهيوني ـ أصبح من أكثر المجتمعات انحلالاً في العالم، ولا يوجد أيُّ نوع من أنواع الانحرافات الجنسية إلا ويُمارَس فيه.

6 ـ لا يمكن فصل الصهيونية عن التوسع وضم الأراضي، وبعد عام 1967 تم ضم أراض شاسعة كان على الصهاينة استعمارها. وقد تمت حركة الاستعمار الاستيطاني في الضفة الغربية تحت رايات الديباجة الدينية. فمعظم المستوطنين في الضفة الغربية من المتدينيين لأن العلمانيين فقدوا الرغبة في الدفاع عن المُثُل الصهيونية العلمانية، وقد اسبغ هذا الكثير من الشرعية على المؤسسة الدينية.

7 ـ استخدام الاعتذاريات الصهيونية العلمانية (الصهيونية كحركة تحرُّر وطني للشعب اليهودي ـ الصهيونية كحركة بَعْث اشتراكي) أصبح أمراً صعباً جداً مع تزايد قمع الشعب الفلسطيني، ولذا لم يكن هناك مفر من استخدام اعتذاريات دينية مغلقة.

8 ـ وأخيراً هناك أزمة الأيديولوجية الصهيونية العامة، فيجب ألا نسقط من اعتبارنا الأزمة العامة التي تعيشها المجتمعات العلمانية في الغرب، فهي مجتمعات اكتشفت إفلاس مبدأ اللذة والمنفعة (التي تستند لها فلسفة الحكم في هذه الدول) وظهر ما يُطلَق عليه أزمة المعنى، فالفرد في مجابهة العزلة والشيخوخة والمشاكل الشخصية والموت لا يقنع بالتفسير النفعي أو ما شابه من تفسيرات مادية أخرى. ويبحث عن إجابات أكثر عمقاً وإنسانية للأسئلة التي تطرحها عليه تجربته الشخصية والحياتية في هذا الكون.

كل هذا أدَّى إلى إفلاس الصهيونية الإثنية العلمانية وحسب تصوُّر هارولد فيش، فإن الموقف يتلخص في هذه الكلمات: "ثمة أزمة روحية مركبة تؤثر في المجتمع الإسرائيلي العلماني، فكثيرون من أتباع جوردون يبحثون عن الوظائف... كما أن هناك بين أبناء الرواد الاشتراكيين قدر متزايد من التقليد الرخيص لحضارة الغرب، والعدمية في الأدب والفنون، والتلاعب بالمال العام من أجل الربح الخاص. وبين أبناء اليهود الأتقياء، الذين أتوا من الأحياء اليهودية في الدار البيضاء ومراكش، قدر متزايد من جرائم العنف وإدمان المخدرات. فعندما وصلوا (وهم أطفال) في بداية الخمسينيات، حرمهم المجتمع العلماني من حقهم الطبيعي الروحي وأعطاهم بضائع رخيصة في المقابل".

لكل هذا، بدأت المؤسسة الدينية الصهيونية تطرح نفسها كبديل وتبدي استعدادها للإمساك بزمام القيادة، ولم تَعُد تقنع بدور الشريك الضعيف، وعلى كلٍّ، إذا كانت إسرائيل دولة يهودية حقاً كما تدَّعي، فمَن أحق بالحديث باسمها وإدارتها من المتدينين الصهاينة الذين يرفعون لواء الدين القومي والقومية الدينية ويُعرِّفون اليهودي تعريفاً يحل مشكلة المعنى بالنسبة له ويسوِّغ وجوده في فلسطين في خط النار داخل الحروب المتكررة. فالشعب المختار ـ حسب تفسيرهم ـ شعب كُتبت عليه مجابهة الأغيار، ولا يمكن أن يقنع بالحياة الرخوة اللينة (التي يبشر بها اللادينيون(.

صهينة العناصر الدينية الأرثوذكسية بعـد عام 1967
Zionization of the Orthodox Elements after 1967
بعد احتلال ما تبقى من فلسطين في حرب يونيه 1967، طرأ تحوُّل على مواقف معظم الأحزاب الدينية الصهيونية وغير الصهيونية من اعتبار هذه الحرب معجزة وإشارة ربانية إلى اعتبارها بداية الخلاص، وفي الأوساط الدينية غير الصهيونيةانطلق الصوت الجديد من الولايات المتحدة، موطن زعيم حركة حبد، الحاخام شنيرسون. ويتلخص الموقف الجديد بالقول بأنه صحيح أن دولة إسرائيل بوصفها كياناً صهيونياً تعبير عن الكفر والتمرد على إرادة الله، ولذلك فهي بالتأكيد ليست تعبيراً عن الخلاص، لكن، ومن ناحية أخرى، فإن أرض إسرائيل بسيادة يهودية تنطوي على مغاز ذات أهمية. ولذلك تدعو هذه الحركة إلى عدم التنازل عن أيٍّ من الأراضي التي احتُلت عام 1967، وذلك من منطلق أحكام الشريعة الدينية.


لقد تأثر هذا الموقف منذ البداية بما سمي «المعجزات والإشارات السماوية» التي تجلت بالانتصارات في الحروب المختلفة، وخصوصاً حرب 1948 وحرب 1967. وقد اعتمد قسم من هذا التيار، في تأكيده عدم قدسية إسرائيل، على الفارق بين دولة إسرائيل وأرض إسرائيل، وعلى ذلك الجزء بالذات الذي لا يمثل مكاناً مهماً في التقاليد الدينية اليهودية. لكن، بعد احتلال عام 1967، زال الفارق عملياً، وأصبح هناك تطابق بين أرض إسرائيل وهي مفهوم ديني وبين دولة إسرائيل وهي مفهوم سياسي علماني،وزاد اقتراب اتباع هذا التيار تدريجياً من الأوساط اليمينية في إسرائيل، أو لوبي أرض إسرائيل كما تُسمِّي هذه الأوساط نفسها. ومع أن هذا التيار ما زال غير صهيوني بالمعنى التقليدي، إلا أن تحوُّل أرض إسرائيل إلى قيمة دينية في نظره، جعله يقترب كثيراً من مواقف جوش إيمونيم.

أما التيار الثاني القديم الجديد، فهو التيار الذي تمثله المدارس الدينية الليتوانية بزعامة الحاخام إليعازر مناحم شاخ، وهو الآن شخصية متميزة في عالم المتدينين اليهود. وقد ساهم الحاخام شاخ بعد انشقاقه عن مجلس كبار التوراة، السلطة الروحية لأجودات إسرائيل، في إقامة حزبين هما: حركة شاس التي قاسمه زعامتها الروحية الحاخام الشرقي عوفاديا يوسف، وحركة ديجل هتوراه (علم التوراة) التي لا ينافسه أحد في زعامتها حتى اليوم.
ينظر الحاخام شاخ إلى دولة إسرائيل نظرة برجماتية مغالية في برجماتيتها، لأنه ينزع عنها أية قيمة مقدسة؛ فلا هي بداية الخلاص كما تعتقد جوش إيمونيم، ولا هي مقدمة لبداية الخلاص إذا أحسن استخدامها، كما تدَّعي أوساط من أجودات إسرائيل، وليست أرض إسرائيل مقدسة بحد ذاتها. ويعتقد الحاخام شاخ بقدوم الماشيَّح، أي أن هناك جانباً مشيحانياً في تدينه. إلا أنه لا يرى أي عنصر مشيحاني في الواقع، فالواقع التاريخي يتطور بموجب منطقه الداخلي. والتوراة حافظت على الشعب اليهودي آلاف السنين، فهل نستبد بها شيئاً آخر، وبماذا؟ التوراة هي التي تحافظ على شعب إسرائيل، لا الدولة.

ينقسم العالم، في نظر الحاخام شاخ، إلى يهود وغير يهود (الأمم). والمقولة التلمودية والتوراتية: "عليك ألا تعجل النهاية وألا تتمرد ضد الأمم" تحمل، لدى هذا التيار، معاني محددة. فالتمرد ضد الأمم لا يعني أن على اليهود البقاء في منفاهم الجغرافي وألا يقيموا دولة يهودية، بل يعني أن تتعامل إسرائيل بحذر مع الدول العظمى ومع العرب، وعليها أن تكون مستعدة لتقديم تنازلات من أجل السلام، وهذا موقف يتبناه بشكل أكثر حدة الحاخام عوفاديا يوسف الذي يدعو إلى تفضيل "سلامة اليهود على سلامة أرض إسرائيل". لكن، ومن ناحية أخرى، فإن الحاخام شاخ يطرح أمام الصهيونية تحدياً جديداً هو وطنية يهودية تنظر إلى غير اليهود بريبة وحذر. فالصهيونية تحاول تحويل اليهود إلى أمة كباقي الأمم، لكنهم ليسو كذلك، فالأمم تترقب الفرصة للانقضاض على اليهود: "من البديهي أن يكره عيسو يعقوب" (مقولة من المدراش). وعلى اليهود أن يفوتوا الفرصة على غير اليهود؛ عليهم إذن أن يتصرفوا بحكمة وحذر وأن يتقنوا إجراء الحلول الوسط.

أزمــة الصهـيونيـة الإثنيـة الدينيـة
Crisis of Ethnic Religious Zionism
يرى دعاة الصهيونية الإثنية العلمانية أن أزمة المجتمع الصهيوني ليست كامنة فيه وإنما في وجود هذه الكتلة البشرية اليهودية المتمسكة بالعقائد الدينية الجامدة والآخذة في التكاثر. وهم يرون أن عصر النظام العالمي الجديد (وما بعد الحداثة) يتيح فرصة ذهبية أمام الدولة الصهيونية لتعقد تحالفات مع أعضاء النخب الحاكمة ضد الأصوليات الدينية، إسلامية كانت أم يهودية.


وهذا المنطق ينطوي على خلل أساسي، فالدعوة لإسرائيل الكبرى ـ على سبيل المثال ـ ليست مقصورة على المتدينين الجامدين، وإنما تضم عدداً كبيراً من الملاحدة، أو اليهود الإثنيين كما يسمون أنفسهم. وإيريل شارون ونتنياهو قد يرتدون غطاء الرأس اليهودي ولكنهم لا يؤمنون بالإله ولا يقيمون أبسط الشعائر اليهودية. وحينما يفعلون ذلك فإنهم يفعلونه من قبيل التمسك بالفلكلور. وحروب إسرائيل ومشروعها الاستيطاني تمت تحت ألوية الصهيونية الإثنية العلمانية، المتطرفة في علمانيتها.

  • الثلاثاء AM 11:50
    2021-05-18
  • 1118
Powered by: GateGold