المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 412627
يتصفح الموقع حاليا : 312

البحث

البحث

عرض المادة

الهاجــــــس الأمـــــــني وعقليـــة الحصــــار

الهاجــــــس الأمـــــــني وعقليـــة الحصــــار
Israeli Feeling of Insecurity and Siege Mentality
«الهاجس الأمني» و«عقلية الحصار» عبارتان تردان في الخطاب السياسي العربي لوصف إحدى جوانب الوجدان الإسرائيلي، وهو الانشغال المرضي بقضية الأمن. وقد وُصف هذا الانشغال بأنه «مرضي» لأنه لا يتناسب بأية حال مع عناصر التهديد الموضوعية (فالشعب الفلسطيني شعب موضوع تحت حكم عسكري قاس، وموازين القوى العسكرية بين الدولة الصهيونية والدول العربية في صالح إسرائيل. كما أن أكبر قوة عسكرية في العالم، الولايات المتحدة، تقف بكل صرامة وراء الدولة الصهيونية).


وفي محاولة تفسير هذا الوضع، يذهب بعض الدارسين إلى أن تجربة الإبادة النازية قد تركت أثراً عميقاً في الوجدان اليهودي والإسرائيلي بحيث تَجذَّر الخوف من الإبادة في الوجدان وأصبح شيئاً من قبيل العقدة التاريخية أو العقد النفسية الجماعية المتجذرة في العقل الجمعي اليهودي رغم زوال العناصر الموضوعية. وقد يكون لهذا التفسير بعض المصداقية، وبخاصة أن الصهاينة والإعلام الغربي قد حوَّلوا الإبادة النازية ليهود الغرب إلى ما يشبه الأيقونة التي لا علاقة لها بالزمان أو المكان وجعلوها مركز ما يُسمَّى «التاريخ اليهودي». ويرى البعض أن عقلية الحصار هي بعض بقايا ورواسب الوجود في الجيتو اليهودي في أوربا، وأن يهود أوربا (وبخاصة شرق أوربا) عاشوا عبر تاريخهم لا سيادة لهم ولا يشاركون في أية سلطة، معرضين دائماً لهجوم الأغيار عليهم.

وبسبب هذا الهاجس الأمني وعقلية الحصار تؤكد إسرائيل دائماً أنها قلعة مسلحة لا يمكن اختراقها، قوة لا تقهر، قادرة على الدفاع عن نفسها وعلى البطش بأعدائها، ولكنها مع هذا مهددة طيلة الوقت بالفناء (ومن هنا أسطورة ماسادا وشمشون).

ونحن نرى أن كل هذه الأسباب قد تفسر حدة الهاجس الأمني وعقلية الحصار ولكنها لا تفسر سبب وجوده وتجذره. ونحن نذهب إلى أن الهاجس الأمني قد يكون حالة مرضية ولكنه في نهاية الأمر ثمرة إدراك عميق وواقعي (واع أو غير واع) من جانب المستوطنين الصهاينة لواقعهم.

لقد أدرك هؤلاء المستوطنون أن الأرض التي يسيرون عليها ويدَّعون ملكيتها منذ آلاف السنين هي في واقع الأمر ليست أرضهم وليست أرضاً بلا شعب كما كان الزعم، وأن أهلها لم يستسلموا كما كان متوقعاً منهم، ولم تتم إبادتهم كما كان المفروض أن يحدث. بل إنهم يقاومون وينتفضون ويتزايدون في العدد والكفاءات ولم يكفوا عن المطالبة بشكل صريح بالضفة والقطاع، وبشكل خفي بكل فلسطين وبحق العودة لها. وقرارات هيئة الأمم المتحدة الخاصة بحق العودة لا تزال سارية المفعول. ولم تُقبل إسرائيل عضواً في المنظمة الدولية إلا بعد تعهدها بتنفيذ هذه القرارات. ويساندهم في هذا كل الشعب العربي. ومسألة العجز العسكري العربي والتفوق العسكري الإسرائيلي ليسا مسألة أزلية، وقد أثبتت حرب 1973 ثم المقاومة في لبنان، وبعدها الانتفاضة أن العرب قادرون على أن يعيدوا تنظيم أنفسهم ويهاجموا المستعمر ويلحقوا به خسائر فادحة.

ثمة إحساس عميق بأن العربي الغائب لم يغب، وهو إحساس في جوهره صادق، فالكيان الصهيوني مُحاصَر بالفعل ومهدد دائماً، والعرب في واقع الأمر لا يمكن "الثقة بهم"، لأن الجماهير العربية لن تقبل حالة الظلم باعتبارها حالة نهائية رغم توقيع معاهدات السلام الكثيرة! وأقصى ما يطمح إليه المستوطنون الصهاينة هدنة مؤقتة تنتهي عادةً بمواجهات عسكرية. فالصراع مع الكيان الصهيوني صراع شامل على الوجود، لأن وجود الشعب الفلسطيني لا يهدد حدود الدولة الصهيونية أو سيطرتها على أجزاء من الأرض الفلسطينية، وإنما يهدد وجودها كله. كل هذا يعمق إحساس المستوطنين الصهاينة بأن دولتهم كيان مشتول، فُرض فرضاً على المنطقة بقوة السلاح، وهم أول من يعرف أن ما أُسِّس بالسيف يمكن أن يسقط به. ومما يعمق مخاوفهم إحجام يهود العالم عن الهجرة والتكلفة المتزايدة للتكنولوجيا العسكرية. كل هذا يولِّد الهاجس الأمني المرضي وعقلية الحصار المرضية وهي حالة لا علاج لها داخل الإطار الصهيوني.

والهاجس الأمني وعقلية الحصار يحددان كثيراً من جوانب السلوك الإسرائيلي، فبسبب هذا الهاجس لابد من زيادة القوة العسكرية والدعم الاقتصادي والتفوق التكنولوجي والمزيد من السيطرة على الأراضي. وبسبب حجة الأمن يطالب الإسرائيليون بالاحتفاظ بالضفة الغربية وقطاع غزة وإنكار حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره. وباسم هذا الهاجس الأمني يحق للإسرائيليين اللجوء للإغلاق الأمني للقرى الفلسطينية وحصارها وتجويعها. وفي أية مفاوضات مع العرب يطرح الإسرائيليون دوماً بند الأمن والأخطار التي تتهددهم وضرورة وجود محطات إنذار مبكر ومناطق فصل. وعندما تعقد أية اتفاقية مع العرب يصر الإسرائيليون على ضرورة امتحانهم للتأكد من نيتهم خوفاً من الخديعة دون أن يكون من حق الفلسطيني أو العربي أن يفعل المثل. في هذا الإطار يتم التمييز بين المستوطنات السياسية التي يمكن التخلي عنها والمستوطنات الأمنية التي يجب الاحتفاظ بها (وبالتالي بقسم كبير من أراضي الضفة والقطاع). وتمت عملية غزو لبنان باسم «السلام من أجل الجليل». وتنعقد المفاوضات مع سوريا بسبب أمن إسرائيل. بل إن الدولة الصهيونية بسبب الهاجس الأمني تسمح وبشكل قانوني بدرجة من الإجبار والضغط البدنيين للحصول على معلومات من الفلسطينيين (أما ممارسة الإجبار والضغط البدنيين بشكل غير قانوني فهذا أمر مفروغ منه).

والهاجس الأمني يقف أيضاً عقبة كأداء في المجال الاقتصادي إذ يضع الإسرائيليون الاعتبارات الأمنية قبل اعتبارات الجدوى الاقتصادية ومن ثم فهو يعوق عمليات الخصخصة التي تتطلب جواً منفتحاً يسمح بتدفُّق رؤوس الأموال والخبرات والعمالة والسلع. بل إنه يمكننا القول بأن الهاجس الأمني يشكل عائقاً ضخماً في مجال التطبيع، إذ أن الإسرائيليين حينما تتدفق عليهم العمالة العربية والبضائع تبدأ مخاوفهم الأمنية في التهيج فيخضعون كل شيء للاعتبارات الأمنية بما يحول دون تدفق العمالة والبضائع.

  • الثلاثاء AM 11:34
    2021-05-18
  • 1183
Powered by: GateGold