المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 412306
يتصفح الموقع حاليا : 246

البحث

البحث

عرض المادة

الكيبوتـس: الأزمـــة والعزلـة

الكيبوتـس: الأزمـــة والعزلـة
Kibbutz: Crisis and Isolation
تناولنا في المدخل السابق تلك التطورات والتناقضات التي تفاعلت داخل الكيبوتس وأدَّت إلى تحول بعض سماته البنيوية. ولكن ثمة عوامل أخرى تخص علاقة الكيبوتس ككل مع المجتمع الاستيطاني في فلسطين المحتلة أدَّت إلى أزمته وعزلته.


1 ـ قيام الدولة الصهيونية:

من المعروف أن عدد الكيبوتسات لم يزد كثيراً بعد عام 1948، بل انخفض عدد سكان الكيبوتسات بالنسبة لعدد السكان في الكيان الاستيطاني من 7.1% عام 1947 إلى 3.7% عام 1962، وقد زاد عدد سكان الكيبوتسات قليلاً بعد ذلك التاريخ، ولكن مع هذا لا يمكن القول بأن الكيبوتس استعاد ما كان له من جاذبية وبريق. ويقال إنه بانتهاء مرحلة الاستيطان الأولى (حتى عام 1948) انتهى دور الكيبوتس وتحوَّل إلى مؤسسة لا تتمتع بمركزيتها السابقة، وأصبح دورها مقتصراً على أعضائها وحسب. كما يقال إن أعضاء الكيبوتس لم يعودوا رواد الاستيطان وطليعة التجمع الاستيطاني، كما كانوا من قبل، وإنما هم عاملون بالصناعة ومديرو أعمال صناعية ومستهلكون مترفون.

إن الكيبوتس باختصار ـ حسب هذا الرأي ـ لم يعد سوى مجرد جيب خاص، مغلق على نفسه، ولم يعد يعبِّر عن الآمال الصهيونية. فالكيبوتس قبل عام 1948 كان أداة الاستيطان والاستيعاب الكبرى، ثم حلت الدولة الصهيونية محل الكيبوتس في أداء كلتا الوظيفتين بعد عام 1948. فالاستيلاء على الأرض العربية تقوم به المؤسسة الصهيونية الحاكمة من حكومة وشرطة ومخابرات وأجهزة قمعية أخرى، وبخاصة الجيش الذي أوكلت إليه مهمة القتال وقمع أية محاولات عربية لاسترداد الأرض (وإن كانت عملية الاستيطان قد ظلت تابعة للوكالة اليهودية، قبل إنشاء الدولة وبعده، فهي التي تقوم بتمويلها، ولكن الذي اختلف هو أدوات التنفيذ، إذ حل محل الإرهاب الكيبوتسي الإرهاب الحكومي، الذي يشكل الكيبوتس جزءاً منه وحسب).

وهذا القول ينطبق على استيعاب المهاجرين، إذ أصبحت هناك أجهزة حكومية خاصة أوكلت لها هذه المهمة. وقد أثبت الكيبوتس بالذات عدم كفاءته في المهمة الاستيعابية، حيث إنه مؤسسة متماسكة لها قيمها الخاصة وإحساسها بمكانها ومكانتها، بينما كان المتوقع منها كمؤسسة استيعابية أن تفتح ذراعيها لكل المستوطنين الجدد بغض النظر عن انتمائهم العقائدي أو العرْقي، وهو الأمر الذي رفضه المهيمنون على الكيبوتس باعتبار أنه سيفقده تماسكه وشخصيته المستقلة والفريدة، ومكانته الخاصة.

ولعل من أهم العوامل التي أدَّت إلى تآكُل مكانة الكيبوتس وصول الليكود برئاسة بيجن ومن بعده شامير إلى السلطة عام 1977. فمن المعروف أن الكيبوتس كان تابعاً دائماً للصهيونية العمالية التي يمثلها المعراخ العمالي الذي حكم الكيان الصهيوني منذ تأسيسه حتى عام 1977. وعندما كانت الأحزاب العمالية في الحكم وكانت معظم قياداتها مثل بن جوريون وبيريس ورابين من أبناء الكيبوتس، كانت الكيبوتسات تتمتع برعاية الدولة ومعوناتها وتسهيلات أخرى عديدة، وهو أمر لم يستمر بطبيعة الحال مع صعود الليكود إلى الحكم.

2 ـ الأزمة الاقتصادية:

الكيبوتس يعتمد في تمويله على المؤسسة الصهيونية، فهو ليس استثماراً اقتصادياً، ومع هذا يُلاحَظ ارتباك أحواله المالية )وإن كان يجب ألا نفصل ذلك عن الوضع الاقتصادي المتردي بشكل عام في الكيان الصهيوني(. ويبدو أن الكيبوتسات، شأنها شأن كثير من المؤسسات والأفراد في المجتمع الصهيوني، قد دخلت حلبة المضاربات (وأعمال الجيتو الهامشية الطفيلية). فقد تراكمت على مر السنين أرباح الكيبوتسات، ولكن بدلاً من إعادة استثمارها في الاقتصاد بشكل إنتاجي، راح أعضاء النخبة الاشتراكية في إسرائيل يبحثون عن الأرباح السريعة والثروة الفورية عن طريق المضاربات وشراء السندات، حتى أصبح هذا النوع من الاستثمار يشمل ثلث دخل الكيبوتسات (وهكذا ينتقل الكيبوتس من الزراعة إلى الصناعة ومن الصناعة إلى سوق الأوراق المالية ـ والطفيلية والهامشية).

3 ـ عزلة الكيبوتس البنيوية والثقافية:

من المشاكل الرئيسية التي يواجهها الكيبوتس في الوقت الحالي ازدياد عزلته وانفصـاله عن المجتمع الصهيوني، وهو ما يزيد تآكُل مكانته. والكيبوتس بحكم تكوينه خلية مغلقة، يتبع نمط حياة مستقلة يختلف عن نمط الحياة المحيط به في عديد من الوجوه، رغم أنه يبلور تقاليد هذا المجتمع ويخدم أهدافه. والكيبوتس في هذا يشبه طبقة المماليك الذين كانوا ينشئون في خلايا اجتماعية مغلقة، يتعلمون ويتدربون على حمل السلاح في عزلة عن المجتمع، رغم أنهم الطبقة المحاربة الأساسية وربما الوحيدة فيه. ويمكن القول بأن اتجاه الكيبوتس التدريجي نحو الصناعة قد يؤدي به، في نهاية الأمر، إلى الامتزاج بالمجتمع الصهيوني، ولكن يبدو أن حركة الكيبوتسات شيَّدت مؤسستها الصناعية المستقلة التي تقوم بتمويل المشروعات الصناعية الكيبوتسية وتسهيل التعامل بين القطاعات الصناعية الموجودة في كل كيبوتس، ولذا نجد أن القطاع الصناعي في الكيبوتس منغلق على نفسه، منفصل اقتصادياً عن بقية البيئة، شأنه في هذا شأن الكيبوتس نفسه.

وانفصال الكيبوتس ثقافياً أمر واضح للجميع، ويقال إنه أصبح يشكل الآن ثقافة مستقلة داخل إسرائيل، فأطفال الكيبوتس يذهبون إلى مدارس خاصة بهم منذ الطفولة إلى أن يبلغوا الثامنة عشرة من العمر، وحتى بعد أن يذهبوا إلى الجامعة ويتخرجوا فيها، فهم يحتفظون بانفصالهم وتميزهم. وكما بيَّنا في مدخل سابق يتبع أعضاء الكيبوتس نمط حياة مترفاً يختلف عن نمط حياة بقية أعضاء المجتمع الصهيوني، الأمر الذي يعمق من عزلته الحياتية والثقافية. إن الكيبوتس كخلية صهيونية طليعية تحوَّل إلى تشكيل ثقافي طبقي قَبَلي (أو عائلي) مستقل، ومن هنا ازدادت عزلته وتآكلت مكانته.

4 ـ انحسار الأيديولوجية الصهيونية وأثرها على الكيبوتس:

ولكن لعل العنصر الأساسي المؤثر في الكيبوتس وهو العنصر الذي بدأ يغيِّر توجهه وأهدافه بعمق، هو انحسار الأيديولوجية الصهيونية تدريجياً، التي بدأت تتحول من كونها دليلاً للعمل لأعضاء التجمع الصهيوني إلى محط سخريتهم. وقد أشرنا في مدخل سابق إلى أن الشحنة العقائدية الأولى التي دفعت الصهاينة إلى الاستيطان في فلسطين في ظروف صعبة جداً، كانت تخفي قدراً كبيراً من العلاقات التقليدية وقرابة الدم ـ أو ما يمكن تسميته أيضاً «الانغلاق الجيتوي»، وأن الحديث عن الأممية والأخوة الإنسانية كانت من قبيل الديباجات التسويغية. ومهما كان الأمر، فإن هذه الديباجة التي كانت تجعل الصهيوني مقاتلاً شرساً قد استُنفدت أو فترت إلى حدٍّ كبير، ولم يَعُد الدافع العقائدي واضحاً، ولم تَعُد الديباجة الاشتراكية الصهيونية هي المهيمنة أو حتى الغالبة على هذا المجتمع الصهيوني الصغير أو على المجتمع الصهيوني الكبير، كما لم تَعُد محل جاذبية حقيقية بالنسبة لأعضاء الجماعات اليهودية في العالم.

وتتضح أزمة الصهيونية وانحسارها أكثر ما تتضح في عملية الاستيطان. فالحركة الصهيونية أصبحت غير قادرة على العثور على «يهود» لتوطينهم في المستوطنات الجديدة. ولذلك فبرغم كل الادعاءات الرنانة والبرامج الضخمة التي تهدف إلى توطين الألوف، يظل كثير من المستوطنات بدون مستوطنين (بل إن مستوطنات شمال النقب هي الأخرى مهددة بفقدان مستوطنيها). والكيبوتس ليس استثناء من القاعدة، ففي أواخر السبعينيات بلغت نسبة الذين يتركون الكيبوتس 50% من مجموع الرجال البالغين ومعظمهم من الأعمار بين 20 ـ 30، وهي أهم أعمار بالنسبة للكيبوتس. ومنذ الستينيات أصبحت الزيادة في الكيبوتس مرهونة بالتكاثر الطبيعي هناك ومدى بقاء أعضاء الكيبوتس في مستوطنتهم، فيصل معدل الأولاد في عائلة الكيبوتس اليوم إلى ثلاثة أولاد. وحتى يضمن أي مجتمع لنفسه التجدد الطبيعي للسكان فإن المطلوب أن يبلغ عدد أولاد العائلة في هذا المجتمع ما بين 2 ـ 3 أولاد. ولكن عندما تصل نسبة من يغادرون الكيبوتسات إلى 50% فإن تَجدُّد السكان هناك يحتاج على الأقل إلى ما بين 4 ـ 5 أولاد للعائلة الواحدة. ويؤدي هذا الوضع إلى زيادة اليأس بين أعضاء الكيبوتس، وهو ما يؤدي بدوره إلى زيادة ترك الكيبوتس ومغادرته ـ أي أن الأزمة الديموجرافية التي تهدد المشروع الصهيوني الاستيطاني قد وجدت طريقها إلى الكيبوتس.

ويظهر انحسار الصهيونية أيضاً في تغيير دوافع الاستيطان وديباجاته، فبدلاً من الحديث عن بناء الوطن القومي وتطبيع الشخصية اليهودية والذوبان في الشعب اليهودي، تقوم الوكالة اليهودية بمحاولة جذب للمستوطنين عن طريق التوجه لدوافعهم المادية النفعية، فتدفع آلاف الدولارات لبناء مستوطنات مريحة مترفة، مكيفة الهواء، فيها مستشفيات ورياض أطفال، ويقوم الجيش الصهيوني بحراستها، وتمهد لها الطرق الخاصة بعيداً عن مراكز تجمُّع العرب. ويقال إن الاستيطان يمثل الآن أكبر أسباب استنزاف الخزانة الإسرائيلية (ذلك "الصنبور الذي لا يُغلَق" على حد قول أحد المعلقين السياسيين في إسرائيل). في مثل هذا الجو يصبح الكيبوتس غريباً، وشيئاً مرفوضاً لأن المُستوطَن الصهيوني الجديد ذا التوجه المادي النفعي لا يحترم كثيراً قيم الكيبوتس التقشفية المملوكية، وهو ما يؤدي إلى مزيد من تآكل مكانة الكيبوتس.

ولكن، لا يمكن عزل الخلية عن الجسم الأكبر، ولذا وجدت هذه القيم النفعية الفردية طريقها إلى الكيبوتس. ومن أهم المشاكل التي يواجهها الكيبوتس في الوقت الحاضر انسحاب كثير من أعضاء الكيبوتسات للعمل خارجها نتيجة ضعف الإيمان بالمبادئ والقيم الصهيونية التي تأسست عليها الكيبوتسات. والسبب الرئيسي لترك الكيبوتس الذي يذكره معظم المغادرين هو "أن الموازنة الشخصية لم تَعُد كافية لتمويل النفقات اليومية"، أي أن النموذج الفردي النفعي الذي تصوَّر مؤسسو الكيبوتس أنهم بإمكانهم القضاء عليه آخذ في تأكيد نفسه.

ويجب ألا ننظر إلى مظاهر التحول المختلفة، التي طرأت على الكيبوتس، الواحد بمعزل عن الآخر، فتآكل مكانة الكيبوتس وعزلته لا تمكن رؤيتها بمعزل عن زيادة الترف داخله أو عن تَحوُّله من التضامن الاشتراكي إلى التضامن العرْقي. ولا تمكن رؤية العنصر الأخير بمعزل عن انتشار الرؤية النفعية الفردية في المجتمع الصهيوني وداخل الخلية الكيبوتسية وانحسار الأيديولوجية الصهيونية عنهما، فهذه جميعاً ليست سوى جوانب مختلفة تعبِّر عن الظاهرة نفسها.

5 ـ اليهود الدينيون والكيبوتس:

لابد أن نشير ابتداءً إلى أن ثمة تياراً إلحادياً شرساً وقوياً داخل الحركة الصهيونية يحارب كل الأديان وضمن ذلك الديانة اليهودية نفسها. وأن الحركة الكيبوتسية التي وُلدت في أحضان الصهيونية العمالية، كانت إلحادية التوجه منذ بدايتها ترفض اليهودية قلباً وقالباً. ولا يزال هذا هو الحال في معظم الكيبوتسات. وقد كتب أحد الإسرائيليين المؤمنين باليهودية خطاباً لجريدة الجيروساليم بوست يستنكر فيه أن المتطوعين اليهود الذين أتوا من الخارج محرَّم عليهم ممارسة شعائرهم الدينية داخل الكيبوتسات، وأن مدارس الكيبوتس تعلِّم الأطفال أن ارتداء التيفلين (شال الصلاة عند اليهود) عادة من مخلفات العصور الوسطى.

وقد رد عليه أحد أعضاء الكيبوتسات في العدد نفسه وأخبره أن الكيبوتسات مؤسسة علمانية، وأن المتطوعين الذين يأتون للكيبوتسات عليهم ألا يتوقعوا من المزارع الجماعية أن تغيِّر أسلوب حياتها، وأن تقدم له خدمات تعليمية تتصل بعقائد وعادات (أي الدين اليهودي) تقع خارج نطاق طريق الحياة التي يقبلها أعضاء الكيبوتس.

إن الحركة الصهيونية كانت ولا تزال في أساسها حركة علمانية شاملة ومع ذلك أخذ الاتجاه الصهيوني الديني في التعاظم، وبخاصة منذ عام 1967. وقد عبَّر هذا عن نفسه على شكل تزايد الديباجات الدينية في الكيان الصهيوني. ولكن الأهم من هذا هو أن الحركة الاستيطانية التوسعية لم تَعُد حكراً على الصهيونية العمالية، بل على العكس أصبحت الجماعات شبه الدينية مثل جوش أيمونيم وحركة إسرائيل الكبرى، هي وحدها المطالبة بالاستمرار في الاستيطان. ولذا أصبحت العمود الفقري والقوة المحركة للحركة الاستيطانية ككل، ومعظم المستوطنات التي أُنشئت في الضفة الغربية مستوطنات صهيونية دينية، تؤمن بضرورة تبني الأشكال الدينية اليهودية (دون مضمونها الخلقي أو الروحي(.

6 ـ اليهود الشرقيون والكيبوتس:

ومما يزيد عزلة الكيبوتـس أنه بالدرجة الأولى مؤسـسة إشكنازية، والحركة الصهيونية قد بدأت أساساً كحركة إشكنازية تتوجه إلى يهود الغرب، ولم تحاول قط قبل 1948، أن تهجِّر يهود البلاد العربية من السفارد الشرقيين. بل إن آرثر روبين عالم الاجتماع الصهيوني، قال إن اليهودي ـ حسب تصوُّره ـ هو الإشكنازي فحسب، أما السفارد فهم ليسوا يهوداً على الإطلاق، أو على الأقل لا نصيب لهم في المشروع الصهيوني.

ولذلك حينما أُعلن قيام الدولة الصهيونية عام 1948 لم تكن دولة يهودية وإنما إشكنازية بالتحديد، ولكن مع هجرة اليهود العرب والسفارد من البلاد العربية مثل العراق واليمن ومصر والمغرب، تحوَّل التركيب السكاني في الدولة الصهيونية وأصبحت غالبية سكانها من الشرقيين. ولكن الكيبوتس مع هذا احتفظ بتركيبه الحضاري الإشكنازي. ورغم أنه مؤسسة استيطانية واستيعابية، إلا أنه لم يضم في صفوفه سوى يهود إشكناز ولم يستوعب سوى القادمين من الغرب. وإن حدث أن انضم بعض الشرقيين إلى عضوية أحد الكيبوتسات فإنهم عادةً ما يعانون من العزلة والتفرقة العنصرية. ولعل أكبر دليل على مدى عزلة الكيبوتس عن المجتمع الصهيوني ككل أن 50% من اليهود الشرقيين ممن استُطلع رأيهم، أشاروا إلى أنهم لم يروا في حياتهم أحد الكيبوتسات.

ولعل الأمر لو توقَّف عند الجهل بالكيبوتس لأصبح بالإمكان تنظيم حملة إعلامية للتوعية، ولكن من الواضح أنه أصبح مكروهاً لا من الإسرائيليين العاديين وحسب وإنما من أعضاء تجمُّع المعراخ أيضاً، أي من اليمين واليسار. أما بالنسبة لليسار فأعضاؤه يرون الكيبوتس مؤسسة "نخبوية" تتكون من "أرستقراطية ملاك الأراضي" و"رأسماليين اجتماعيين"، بل ومستغلين للطبقة العاملة. أما بالنسبة للكراهية من اليمين، سواء من أثرياء الإشكناز أم فقراء السفارد والعرب اليهود، فهي شاملة. وفي محاولة تفسير هذه الظاهرة يُقال إن الرأي الشائع في بيسان (المدينة التي دُرس موقف سكانها من الكيبوتس) هو أن الكيبوتسات استولت على خير الأراضي في فلسطين المحتلة، وأنها تحصل على القروض والتسهيلات الائتمانية. وأن هذا لا يترك الكثير للمدينة. بل إن سكان المدينة ككل يرون أن وجود الكيبوتس يعوقها عن أيِّ تطوُّر أو توسُّع، لأن الأرض المجاورة للمدينة، مجالها الحيوي إن صح التعبير، تابعة للكيبوتس. ويشكو أثرياء المدينة بالذات من أن وجود الكيبوتس جعلهم غير قادرين على شراء منازل (فيللات) خارج نطاق المدينة.

أما الفقراء فيرون أن الكيبوتس يتمتع بمستوى معيشي راق (حمامات سباحة ـ تليفزيونات ملونة ـ طمأنينة مالية) ولذا فهم يطلقون على الكيبوتس اصطلاح «إسرائيل الجميلة» أي (إسرائيل الثرية). ويشير سكان بيسان إلى أن فرص العمل في الكيبوتس في الوظائف المهمة مغلقة دونهم، ولا يوجد سوى العمالة اليدوية الرخيصة، ومعظم سـكان بيسـان من المغرب. وقد سـافر الأثرياء والمتعلمون منهم إلى فرنسا، ولم يهاجر إلى إسرائيل سوى الفقراء ومن لم يحصلوا على قدر عال من التعليم. ولذا، فإن علاقة الكيبوتس بالمدينة هي علاقة السيد بالخدم. وفي الوقت الذي يعاني فيه سكان المدينة من البطالة يتمتع سكان الكيبوتس بالعمالة الكاملة. ويعبِّر سكان المدينة عن سخطهم على مدارس الكيبوتس الممتازة الموصدة دون أبنائهم ويرون أن نظام التعليم الكيبوتسي المستقل لا يسهم إلا في تعميق الهوة بين أبناء «الشعب الواحد».

وإذا كانت العلاقة بين مدينة بيسان والكيبوتس المجاور لها علاقة نمطية متكررة فيمكننا القول بأن حركة الكيبوتسات تمر بأزمة حقيقية، وأن معمل تفريخ المزارعين/المقاتلين لم يَعُد يلعب دوره السابق في الكيان الصهيوني. وبدأت تظهر أجيال جديدة من أبناء الكيبوتسات ينضمون إلى حركات الاحتجاج داخل المجتمع الصهيوني ويتعاطون المخدرات بشراهة ويرفضون التطوع للخدمة العسكرية، الأمر الذي يشكل أزمة حقيقية بالنسبة للتجمُّع الصهيوني.

7ـ رفض الخدمة العسكرية:

لوحظ في الآونة الأخيرة أن ثمة تغيرات عميقة قد طرأت على موقف أعضاء الكيبوتسات من الخدمة العسكرية ومن موقفهم العسكري تجاه الدولة الصهيونية. وفي محاولة تفسير هذا الوضع يشير بعض المحللين إلى أزمة الكيبوتس وعوامل الصراع داخله. فالكيبوتس كما قلنا مؤسسة عسكرية/زراعية تتسم بالجماعية والتقشف وتهدف إلى تفريخ الجنود الصهاينة. ولذلك حينما تبدأ المرأة داخل الكيبوتسات المطالبة باستعادة دورها كأم وكزوجة، وحينما تطالب بإرجاع الأسرة كمؤسسة فإنها بذلك تمثل تحدياً للتوجه العسكري العام للكيبوتس الذي يحاول عزل الفرد عن العلاقات الأسرية حتى يصبح محارباً كاملاً.

والشيء نفسه ينطبق على زحف مظاهر الترف على الكيبوتس من أجهزة تليفزيون ملونة إلى رحلات للخارج، فالترف هو الآخر يصيب الروح العسكرية بالتراخي، كما أن تحوُّل الكيبوتس من الزراعة إلى الصناعة يعني تحوُّله إلى مؤسسة صناعية تعتمد على العمل الأجير، بحيث يتحول عضو الكيبوتس من فلاح يمارس العمل اليدوي ويزداد خشونة واعتماداً على النفس إلى مدير أعمال يأنف من العمل اليدوي ويغرق في الأعمال الذهنية! والأيديولوجية الصهيونية نفسها ـ كما أسلفنا ـ آخذة في التآكل، وبدأ يحل محلها أيديولوجية فردية، حيث يضع المواطن الصهيوني مصلحته فوق مصلحة الوطن.

وقد انعكس كل هذا على سلوك أعضاء الكيبوتس نحو أبناء المجتمع الذي يعيشون فيه، إذ يُلاحَظ زيادة الفردية بينهم والرغبة في التعبير عن الذات، وخصوصاً أن الكيبوتس يعاني من العزلة في مجتمع معظم توجهاته الآن استهلاكية ترفية. ولذا فعضو الكيبوتس الذي يؤثر مصلحته الشخصية على مصلحة المجتمع ككل إنما يبيِّن أنه ابن المجتمع، مجتمع الكيبوتس الصغير والمجتمع الصهيوني الكبير. ويربط بعض المراقبين بين هذه الاتجاهات الفردية وبين زيادة هجرة أعضاء الكيبوتس من إسرائيل.

وفي مجال تفسير ظاهرة العزوف عن الخدمة العسكرية يمكن القول بأن الجيل الجديد لم يَعُد مشغولاً بمشكلة "أمن" إسرائيل انشغال الأجيال السابقة، وخصوصاً أنه أصبح يرى المجتمع الصهيوني بنفسه وقد تحوَّل إلى مجتمع توسعي بشكل صريح له مطامح استعمارية واضحة. إن أكذوبة «جيش الدفاع الإسرائيلي» (الاسم الرسمي للجيش الصهيوني) لم يَعُد من الممكن تقبلها، فهذا الجيش الدفاعي يصول ويجول في لبنان ويرسل قذائفه لضرب المفاعل الذري في العراق، ويتحدث رؤساؤه عن أمن إسرائيل الذي يمتد من باكستان إلى المغرب وعن إعادة رسم حدود العالم العربي بما يتفق والمخطط الصهيوني ويقوم أبناؤه بكسر عظام المنتفضين.

كما أن هذا المواطن الإسرائيل عضو الكيبوتس، قرأ الكثير من الحقائق عن الإرهاب الصهيوني، ورأي بنفسه على شاشة التليفزيون ومن خلال وسائل الإعلام الأخرى، المذابح الصهيونية في صبرا وشاتيلا وقانا، وهي مذابح يصعب وصفها بأنها دفاعية.

كما أن المجتمع الصهيوني بادعاءاته الديموقراطية عن نفسه يسمح بإدارة كثير من المناقشات العلنية عن الحرب وأسبابها، وهو أمر يولِّد شكوكاً عديدة في نفس المستوطن الصهيوني.

وأخيراً لا يمكن أن ننسى عاملاً أساسياً وهو أن هذا المستوطن الصهيوني في حالة حرب دائمة مع العرب منذ عام 1882، العام الذي وطئت فيه أقدام أجداده من المستوطنين أرض فلسطين، وهي حرب لم يخمد لها أوار، بل ازدادت اشتعالاً، رغم أنه وقَّع عدة «معاهدات سلام».

لكل هذا نجد أن ثمة تصدعات في جدار الكيبوتسات العسكري الصـارم، وأنها لم تَعُـد معمل تفـريخ الجندي الصهيوني كما كانت من قبل.

هذا الإطار يفسر موقف كثير من أعضاء الكيبوتسات الذين يرفضون الذهاب إلى القتال، بل يرفضون المؤسسة العسكرية الصهيونية برمتها، وينضمون إلى حركات الرفض. وهم يتحدثون عن دعاة الحرب باعتبارهم «الكولونيلات» (وهي كلمة لها إيحاءات سلبية، إذ تشير إلى الدكتاتوريات العسكرية في أمريكا اللاتينية أو إلى حكومة الضباط في اليونان في منتصف السبعينيات، الذين يعتنقون العسكرية والغزو).

وقد أفصح بعض أعضاء الكيبوتس عن مخاوفهم من "أن يموتوا دونما هدف" في لبنان "فهي ليست حربنا، إذ فرضها علينا بيجن وشارون فرضاً". وهذا الموقف الرافض يعبِّر عن نفسه من خلال أغنية شائعة في الكيبوتسات الآن تقول: اشرب وصاحب النساء... فغداً سوف تذهب هباءً.

وحتى لا نتصور أن أعضاء الكيبوتسات جميعاً قد أصبحوا فجأة من الرافضين، أو أنهم ينادون بالعدالة والانسحاب من فلسطين، يجب أن نُذكِّر أنفسنا ببعض الحقائق وهي أن 20% من كل الضباط الجدد في الجيش الإسرائيلي هم من أعضاء الكيبوتس، وأن 83% من شباب الكيبوتس ينضمون للوحدات الخاصة. فالكيبوتسات لا تزال مؤسسة عسكرية صهيونية تحمل لواء الاستيطان والاغتصاب. ولكن بسبب أهميتها وحيويتها ومركزيتها فإن أي تغيُّر قد يطرأ عليها (حتى ولو كان صغيراً) وأية أزمة تواجهها (مهما كانت أبعادها) تُعَدُّ أمراً بالغ الخطورة والأهمية.

  • الثلاثاء AM 10:15
    2021-05-18
  • 1401
Powered by: GateGold