المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 411806
يتصفح الموقع حاليا : 250

البحث

البحث

عرض المادة

الدولة الصهيونية الوظيفية: التعاقدية والنفع والحياد

الدولة الصهيونية الوظيفية: التعاقدية والنفع والحياد
The Functional Zionist State: Contractualization, Utilitiy, and Neutrality
تتسم الدولة الصهيونية الوظيفية بكل سمات الجماعة الوظيفية، وأول هذه الصفات هي التعاقدية والنفع والحياد.


1 ـ الوظيفة القتالية والعائد الإستراتيجي:

من أهم وظائف الدولة الصهيونية الوظيفية أنها تقوم بالأعمال المشينة التي لا تستطيع الدول الغربية الاضطلاع بها نظراً لكونها دولاً "ليبرالية" و"ديموقراطية" تود الحفاظ على صورتها المشرقة أمام الرأي العام العالمي وأمام جماهيرها بقدر المستطاع فتكل إلى الدولة الصهيونية مثل هذه الأعمال. ومن هذه الوظائف تزويد دول أمريكا اللاتينية العسكرية بالسلاح، والتعاون مع جنوب أفريقيا في كثير من المجالات، ومنها السلاح النووي، والقيام ببعض أعمال المخابرات والتجسس، والسماح للولايات المتحدة بإنشاء إذاعة فيها موجَّهة للاتحاد السوفيتي (سابقاً). كما تقوم الدولة الصهيونية بتوفير الجو الملائم والتسهيلات اللازمة للترفيه عن الجنود الأمريكيين. ويبدو أن الدولة الصهيونية الآن أصبحت مصدراً لكثير من المرتزقة في العالم، كما يبدو أنها بدأت في تصدير البغـايا لبـلدان غربية مثل هولندا (أمستردام) وألمانيا (فرانكفورت)

وكانت أهم وظائف الدولة الصهيونية على الإطلاق، حتى عهد قريب، هو الوظيفة القتالية (لا التجارية أو المالية) فعائد الدولة الوظيفية الأساسي عائد إسـتراتيجي، والسـلعة أو الخدمة الأسـاسية الشـاملة التي تنتجها هي القتـال: القتال مقابل المـال، أي أنهـا وظيفة مملوكية بالدرجـة الأولى. وفيما عدا ذلك، فإنها ديباجات اعتذارية وتفاصيل فرعية.

وقد تنبَّه أصدقاء الصهيونية وأعداؤها على السواء إلى طبيعة هذه العلاقة وطبيعة هذه الوظيفة منذ البداية، فتم الدفاع عن المشروع الصهيوني والترويج له من هذا المنظور، كما تم الهجوم عليه وشجبه من هذا المنطلق. فعلى سبيل المثال، صرح ماكس نوردو، في خطاب له في لندن (في 16 يونيه 1920) بأنه يرى أن الدولة الصهيونية ستكون بلداً تحت وصاية بريطانيا العظمى وأن اليهود سيقفون حراساً على طول الطريق الذي تحفّ به المخاطر ويمتد عبر الشرقين الأدنى والأوسط حتى حدود الهند. وكان حاييم وايزمان كثير الإلحاح في تأكيد أهمية الجيب الاستيطاني الصهيوني الإستراتيجية (لا الاقتصادية)، فهذا الجيب سيشكل، حسب رأيه، «بلجيكا آسيوية»، أي خط دفاع أول لإنجلترا ولا سيما فيما يتعلق بقناة السويس. وفي خطاب كتبه إسرائيل زانجويل (في 3 أكتوبر 1914) بيَّن أن من البدهي أن إنجلترا في حاجة إلى فلسطين لحماية مصالحها.

وأما حنه أرنت، فقد أكدت أن الصهيونية بطرحها نفسها «حركة قومية» باعت نفسها منذ البداية للقيام بالوظيفة القتالية الاستيطانية، فشعار الدولة اليهودية كان يعني في واقع الأمر أن اليهود ينوون التستر وراء القومية وأنهم سيقدمون أنفسهم باعتبار أنهم «مجال نفوذ» إستراتيجي لأية قوة كبرى تدفع الثمن.

وقد عرض ناحوم جولدمان القضية بشكل دقيق جداً عام 1947 في خطاب له ألقاه في مونتريال بكندا قال فيه: "إن الدولة الصهيونية سوف تُؤسَّس في فلسطين، لا لاعتبارات دينية أو اقتصادية بل لأن فلسطين هي ملتقى الطرق بين أوربا وآسيا وأفريقيا، ولأنها مركز القوة السياسية العالمية الحقيقي والمركز العسكري الإستراتيجي للسيطرة على العالم". ومعنى هذا أن الدولة الصهيونية لن تنتج سلعاً بعينها ولن تُقدِّم فرصاً للاستثمار أو سوقاً لتصريف السلع ولن تكون مصدراً للمواد الخام والمحاصيل الزراعية، وإنما سيتم تأسيسها لأنها ستقدم شيئاً مختلفاً ومغايراً وثميناً: دوراً إسـتراتيجياً يؤمِّن سـيطرة الغـرب على العالم، وهو دور سيكون له دون شك مردود اقـتصادي، ولكنه غير مباشر.

ولا تختلف المنظمة الاشتراكية الإسرائيلية ماتزبن، أي البوصلة، في وصفها وضع إسرائيل عن وصف جولدمان أو حنه أرنت، حيث ترى المنظمة، في تحليل لها صدر في الستينيات، أن الدور الذي تضطلع به الدولة الصهيونية لم يطرأ عليه أي تغيير، فهي لا تزال تشكل قاعدة لقوة عسكرية يمكن الاعتماد عليها، قوة موجهة ضد العرب لخدمة المصالح الإمبريالية الإستراتيجية. وقد بيَّن ب. سبير (في علْ همشمار بتاريخ 29 أبريل 1986) أن إسرائيل قد جعلت جيشها "الذراع المستقبلية المحتملة للولايات المتحدة"، فهي خدمة حربية كامنة جاهزة على أهبة الاستعداد لتأدية الخدمات في أي وقت.

2 ـ الجدوى الاقتصادية للدولة الوظيفية:

من المعروف أن على أعضاء الجماعة الوظيفية القيام بوظيفة ما هي في جوهرها استغلال الجماهير لصالح النخبة الحاكمة. فتقوم الجماعة بتحصيل الضرائب من الجماهير أو امتصاص فائض القيمة منها من خلال الإقراض بالربا أو التخصص في بيع سلع معينة (مثل الملح والخمور) يحتكرها الحاكم لحسابه. وكان أعضاء الجماعة الوظيفية يحققون بذلك أرباحاً عالية، ولكنهم بعد ذلك كان عليهم دفع ضرائب باهظة للحاكم. ولذا، فقد كانت معظم الأرباح تصب مرة أخرى في خزائنه، أي أن أعضاء الجماعة الوظيفية اليهودية كانوا في واقع الأمر من أهم مصادر الربح للنخب الحاكمة في الغرب في العصور الوسطى.

والدولة الوظيفية الصهيونية لا تقوم، مثل الجماعة الوظيفية اليهودية، بتحصيل الضرائب مباشرةً، ولكنها مع هذا تُحقِّق ريعاً عالياً للدولة الراعية لأنها تقوم بضرب تلك النظم القومية العربية التي تحاول رفع سعر المواد الخام أو حتى التحكم في بيعها وفي أسعارها أو التي تختط طريقاً تنموياً أو تتبنى سياسة داخلية وخارجية تهدد المصالح الغربية بالخطر. أما الضريبة التي يدفعها أعضاء الدولة الوظيفية الصهيونية، فهي حالة الحرب الدائمة التي يعيشونها بسبب الدور الذي يضطلعون به.

ومهما يكن الأمر، فقد أدرك الصهاينة هذه الوظيفة، كما أدركوا أنهم كلما زاد ما يحققونه من ربح لراعيهم من خلال أدائهم مهام وظيفتهم زادت فرص استمرار الدعم وفرص البقاء. ومن هنا كان تأكيدهم المستمر وإلحاحهم الدائم على الجدوى الاقتصادية للوظيفة التي يؤديها التجمُّع الصهيوني وعلى مقدار النفع الذي سيعود على الراعي والمموِّل (الإمبريالي)، تماماً مثلما يفعل أي شخص رشيد مع أية سلعة تُباع وتُشتَرى. وبالفعل، نجد أنه، في وقت كان فيه المشروع الصهيوني لا يزال في إطار النظرية والأُمنية، كان الزعماء الصهاينة يؤكدون، الواحد تلو الآخر، أن تمويل مثل هذا المشروع الاستيطاني الصهيوني مسألة مربحة للدولة التي ستستثمر فيه. وقد أدرك هرتزل ـ بمكره ودهائه ـ أن ثورة الفلاحين المصريين ستجعل مصر مكلفة جداً كقاعدة عسكرية بالنسبة لإنجلترا، ولذا فقد أشار إلى أن المشروع الصهيوني، بتكاليفه الزهيدة، شيء مغر. واستخدم وايزمان الصورة المجازية التجارية التعاقدية نفسها حين كتب لتشرشل قائلاً: "إن السياسة الصهيونية في فلسطين ليست على الإطلاق تبديداً للموارد، وإنما هي التأمين الضروري الذي نعطيه لك بسعر أرخص من أن يحلم به أي فرد آخر". وأفاض وايزمان في شرح وجهة نظره، مبيناً أن الاستعمار البريطاني، بتأييده المنظمة الصهيونية، قد وضع ثقته في مجموعة مستعدة لتَحمُّل قدر كبير من المسئولية المادية عن الاستعمار. وإذا تبيَّن أن تكاليف الحامية البريطانية ستكون مرتفعة، عندئذ يمكن تنظيم وتسليح المستعمرين اليهود. ثم يتساءل وايزمان بشيء من الخطابية وبكثير من التوتر: "هل تمت أية عملية استعمارية أخرى تحت ظروف مواتية أكثر من هذه: أن تجد الحكومة البريطانية أمامها منظمة لها دخل كبير ولديها استعداد لأن تضطلع بجزء من مسئولياتها التي تكلفها الكثير؟". إن الصوت هنا صوت بائع متجول يجيد الإعلان عن السلعة، حتى لو كانت كيانه ووجوده.

ولا يختلف صوت يعقوب ميريدور وزير التخطيط والتنسيق الاقتصادي (1982 ـ 1984) كثيراً، ففي حديث له لإذاعة الجيش الأمريكي ركَّز على مدى رخص وانخفاض ثمن إسرائيل كقاعدة للمصالح الأمريكية. وقد بيَّن الوزير الإسرائيلي أن إسرائيل تحل محل عشرة من حاملات الطائرات، وقدَّم الوزير الإسرائيلي كشف حساب بسيط جاء فيه أن تكلفة بناء الحاملات العشر هذه تبلغ 50 بليون دولار. ثم أضاف الوزير، وهو الخبير بالأمور الاقتصادية، أنه لو دفعت الولايات المتحدة فائدة قدرها 10% على تكاليف تشييد هذه الحاملات (وقد كان الوزير متسامحاً مع الولايات المتحدة فلم يذكر تكلفة الجنود الذين ستحملهم حاملات الطائرات أو الحرج السياسي الذي سيسببه وجود مثل هذه القوات)، لو دفعت الولايات المتحدة مثل هذه الفائدة لبلغت خمسة بلايين دولار. وحيث إن المعـونة الأمريكية لا تصل بأيـة حال إلى هذا القدر، فقد اختتم ميريدور حديثه بملحوظة فكاهية ولكنها في الوقت نفسه بالغة الدلالة، إذ قال: "أين إذن بقية المبلغ؟". ويبدو أن هذا هو الخط الإعلامي الإسرائيلي في مواجهة الأمريكيين، ففي العام نفسه بيَّن أريل شارون أن الخدمات التي تقدمها إسرائيل للولايات المتحدة تفوق في قيمتها ما تقدمه الولايات المتحدة من معونات لإسرائيل. ثم قال بشكل شبه جديّ ما قاله ميريدور بشكل فكاهي: "إن الولايات المتحدة لا تزال مدينة لنا بسبعين مليـاراً من الدولارات".

وتَرد الفكرة نفسها، كما يرد كشف حساب مماثل، في مقال لشلومو ماعوز المحرر الاقتصادي للجيروساليم بوست بعنوان «صفقة إستراتيجية» حين أشار إلى أن الإسرائيليين يعرفون جيداً أن مساعدة الولايات المتحدة للدولة الصهيونية هي في جوهرها مساعدة لخدمة مصالح الولايات المتحدة الإستراتيجية. فالولايات المتحدة تدفع سنوياً 130 بليون دولار لقواتها في حلف شمال الأطلنطي و40 بليوناً للوفاء بالتزاماتها في المحيط الهادي. وبالتالي، فإن مساعداتها العسكرية والمدنية لإسرائيل صغيرة بشكل مضحك، إذا ما قُورنت بالمبالغ الآنفة الذكر، وخصوصاً إذا ما تم النظر إلى مثل هذه المساعدات باعتبارها استثماراً لحماية مصالح أمريكا في المنطقة.

هذا هو المفهوم الغربي لإسرائيل. فالمدافعون عنها في الولايات المتحدة لا يلجأون أبداً إلى الحديث عن المغانم الاقتصادية الثانوية أو المغارم الاقتصادية التافهة وإنما يشيرون دائماً إلى الحليف الذي يمكن التعويل عليه والمغانم الإستراتيجية الأساسية الشاملة الهائلة. وقد عبَّرت مجلة الإيكونومست (في 20 يوليه 1985) عن موقف هؤلاء بقولها: إذا كان بإمكان أمريكا أن تدفع 30 بليون دولار كل عام ضمن تكاليف حلف الأطلنطي (لتحقيق أهداف إستراتيجية)، فإن من المؤكد أن إسرائيل، وهي المخفر الأمامي والقاعدة المحتملة، تستحق مبلغاً تافهاً (نحو 4 بلايين دولار آنذاك).

وقد لخص سبير كل الموضوعات والصور المجازية السابقة فقال إن الزعماء الإسرائيليين مضطرون دائماً لأن يذكِّروا القيادة الأمريكية في واشنطن بمقدار تكلفة وجود الجيش الأمريكي في غرب أوربا بالمقارنة بتلك الهبات الممنوحة لإسرائيل. وقد بيَّن سبير أن الجيش الإسرائيلي ليس خدمة حربية كامنة وحسب، وإنما هو أيضاً خدمة رخيصة، بل إنها أرخص من أي خيار عسكري آخر محتمل لأمريكا في المنطقة. وحسبما جاء في مقاله، يوافق البنتاجون على هذا الرأي، ولذا لا يبدي خبراؤه أي تأفف إزاء الحساب الذي يقدمه الإسرائيليون، حتى أن هناك من يرى أنه رخيص نسبياً، الأمر الذي يدل على أن نبوءات الزعماء الصهاينة وحساباتهم، بشأن الجيب الصهيوني الوظيفي، كانت تتسم بالدقة، وأن السلعة الصهيونية مربحة ولا شك، وأن العقد النفعي الذي وُقِّع بين الحضارة الغربية والمنظمة الصهيونية بشأن يهود العالم لا يزال نافذاً حتى الآن وأن عائده لا يزال مرتفعاً.

3 ـ التعاقدية بين رؤية الذات ورؤية الآخر:

إن ارتباط الإنسان بوطنه ارتباط قد تُفسَّر بعض جوانبه على أُسس اقتصادية، ولكن لا يمكن ردُّه برمته إلى الدوافع الاقتصادية وحسب، فهو ارتباط لا يمكن تفسيره إلا على أُسس أكثر تركيباً. ولكن عضو الجماعة الوظيفية إنسان اقتصادي بالدرجة الأولى حبيس تجربته التي حولته إلى أداة اقتصادية، ولذا فهو يدرك الجنس البشري من خلال تجربته، ويُسقط دوافعه على دوافع الآخرين، ولذا فهو يفشل تماماً في إدراك عمق الرابطة بين الإنسان ووطنه. ولذا، نجد أن الفكر الصهيوني يدور في نطاق رؤية تعاقدية وظيفية نفعية ضيقة سواء في رؤيته لليهود أو في رؤيته للآخر، إذ أن الصهاينة يرون أن العالم بأسره إن هو إلا سوق تُباع فيها الأشياء وتُشتَرى، وضمن ذلك ما يُسمَّى «الوطن القومي». ويبدو أنه في المراحل الأولى للحركة الصهيونية ساد تصوُّر بين المفكرين الصهاينة مفاده أن الحصول على هذا الوطن يمكن أن يتم من خلال عملية تجارية رشيدة من خلال المقايضة والمساومة والسعر المغري. وكان هرتزل يتصور أن الحركة الصهيونية، مُمثّلة الشعب اليهودي، ستقوم بشراء العريش أو أوغندا، أو حائط المبكى وفلسطين من أصحابها. فالأرض هنا ليست وطناً وإنما عقار، وعلاقة الإنسان بها ليست علاقة انتماء وكيان وإنما هي علاقة نفعية تعاقدية تشبه علاقة الجماعة الوظيفية بالمجتمع المضيف. وحينما نشر هرتزل كتابه دولة اليهود، اتهمه بعض اليهود بأنه تقاضى مبلغاً ضخماً من شركة أراض بريطانية كانت تود القيام بأعمال تجارية في فلسطين فتم تفسير الحلم القومي على أنه مشـروع تجـاري. وعلـَّق هو على هذا الاتهـام بقوله: "إن اليهـود لا يصـدقون أن أي شـخص يمكن أن يتصرف مدفوعـاً باقتنـاع أخلاقي". وكان هرتزل يتصوَّر، في واقع الأمر، أن العالم حانوت أو سوق كبيرة، فحينما ذهب لمقابلة جوزيف تشامبرلين (وزير المستعمرات البريطاني) ليطلب منه قطعة أرض ليقيم عليها وطناً، كان يتخيل أن الإمبراطورية الإنجليزية مثل دكان كبير للعاديات التي لا يعرف مالكها عدد السلع فيها على وجه الدقة، وتخيل هرتزل نفسه زبوناً يطلب سلعة اسمها «مكان تجمُّع الشعب اليهودي» ويحاول مع صاحب الدكان أن يبحث له عن مثل هذا المكان/السلعة في بضاعته.

ولكن هرتزل كان ينوي المتاجرة في عدة بلاد حتى يكسب إحداها في نهاية الأمر ومجاناً (فالطفيلية إحدى سمات الجماعة الوظيفية في آخر مراحل تطورها). وعلى سبيل المثال، حاول هرتزل أن يحصل على امتياز شركة أراض في موزمبيق من الحكومة البرتغالية دون أن يدفع فلساً واحداً، وذلك بأن يَعد بسداد الديون ويدفع ضريبة فيما بعد. ثم يوضح هرتزل للقارئ نواياه: "على أني أريد موزمبيق هذه للمتاجرة عليها فقط وآخذ بدلاً منها جزيرة سيناء مع مياه النيل صيفاً وشتاءً، وربما قبرص أيضاً دون ثمن"، فالمسألة كلها تَبادُل وتَعاقُد وعلاقات موضوعية رشيدة.

ويؤمن هرتزل بأن الدولة اليهودية نفسها سلعة مربحة ناجحة، فهو يوضح أن الجمعية اليهودية ستعمل مع السلطات الموجودة في الأرض، وتحت إشراف القوى الأوربية: "وإذا وافقوا على الخطة فإن هذه السلطات ستستفيد بالمقابل، وسندفع قسطاً من دَينها العام ونتبنى إقامة مشاريع نحن أيضاً في حاجة إليها، كما سنقوم بأشياء أخرى كثيرة. ستكون فكرة خَلْق دولة يهودية مفيدة للأراضي المجاورة، لأن استثمار قطعة أرض ضيقة يرفع قيمة المناطق التي تجاورها".

والرؤية الصهيونية التعاقدية التي تضع لكل شيء سعراً مهما سمت مرتبته، تفترض أن فلسطين (هي الأخرى) سلعة، بل سلعة غير رائجة لا يود أحد شراءها سوى المعتوهين من اليهود. ويُقِّدر هرتزل أن ثمن فلسطين الحقيقي، هو مليونان من الجنيهات فقط (حيث إن العائد السنوي منها عام 1896 كان ـ حسب تصوُّره وحساباته الحقيقية أو الوهمية ـ حوالي 80 ألف جنيه). ولعله أخذ في الاعتبار سعر الفائدة والتمويل. وقد وافق كثير من الصهاينة على هذا الثمن الواقعي أو التجاري. إلا أن السمسار السياسي يعرف أن الثمن التجاري يختلف عما يجب أن يُدفَع حين يحين وقت البيع والشراء، وهو لهذا السبب يرفع السعر إلى عشرين مليون جنيه تركي دفعة واحدة، يُدفَع منها مليونان لتركيا والباقي لدائنيها.

بل إن هرتزل على ما يبدو كان يحاول الحصول على فلسطين بالمجان مثل أي سمسار غشاش من أعضاء الجماعات الوظيفية المالية الذين تفوقوا في الغـش التجـاري. فقد ذهب إلى السـلطان عبد الحمـيد خاوي الوفاض، ودوَّن في مذكراته أنه لو عُرضت عليه فلسطين الغالية نظير سعر مخفض لشعر بالحرج، لأنه لا يحمل معه كل المبلغ. إن كل ما يريده من السلطان هو وعد ببيع فلسطين له، وهذا الوعد سيكون له بمنزلة السلة التي يستخدمها المتسولون لجمع التبرعات. وإن لم ينجح التسول، فإن هرتزل لن تُعجزه الحيلة، فهو يقرر أن يقبل الصفقة على أن يطلب بعض الامتيازات من تركيا (مثل احتكار الكهرباء) حتى يتسنى له الدفع بيسر.

إن هذا التصوُّر التجاري التعاقدي للوطن القومي اليهودي ليس مقصوراً بأية حال على هرتزل، فموسى هس يؤكد أنه لا توجد أية قوة أوربية تفكر في مَنْع اليهود من شراء أرض أجدادهم ثانيةً. وهو يتصوَّر أن تركيا سترد لهم وطنهم نظير حفنة من الذهب. وتصوُّر ليلينبلوم لفكرة شراء الوطن ليس مغايراً لفكرة هس: "على رجالنا الأغنياء أن يبدأوا بشراء العقارات في تلك الأرض، ولو ببعض ما يملكون من ثروة، وما دام هؤلاء لا يرغبون في تَرْك أراضيهم التي يسكنونها الآن، فليشتر كل منهم قطعة أرض في أرض إسرائيل ببعض من مالهم حيث تُعطَى هذه الأراضي لمن يستغلها على أساس اتفاقية بشأن العائد (أو الربح) مع الشاري". ويرى بنسكر هو الآخر أن حل المسألة اليهودية يتلخص في تأسيس شركة مساهمة لشراء قطعة أرض تتسع لعدة ملايين من اليهود يسكنون فيها مع مرور الزمن. وهذا التصور التجاري لكل أراضي آسيا وأفريقيا لم يكن أمراً غريباً على العقل الغربي الاستعماري في القرن التاسع عشر الذي كان يرى العالم بأسره حيزاً للاستغلال وأرضاً تُوظَّف بطريقة مربحة (من خلال شركات ذات براءة في معظم الأحيان).

ولا يزال التصوُّر الوظيفي التجاري التعاقدي قائماً حتى الآن، فحينما يتحدث وايزمان عن فائدة الدولة الصهيونية للإمبريالية، ويقدم حساب التكاليف، وحينما تقدِّم الحركة الصهيونية الحوافز المادية والرشاوى ليهود المنفى ليهاجروا إلى أرض فلسطين (وكأن الوطن ملكية عقارية)، وحينما يحاولون شراء حائط المبكى، وحينما يعرضون تعويض الفلسطينيين عن وطنهم وتقديم المساعدة المالية لهم شريطة أن يتنازلوا عن حق العودة، فإنهم يؤكدون أن هذه الرؤية التجارية التعاقدية السطحية لا تزال لها قوتها في بعض الأوساط الصهيونية. ويمكن القول بأن الصهيونية النفعية تعبير آخر عن هذا الاتجاه.

  • الاثنين AM 12:08
    2021-05-17
  • 853
Powered by: GateGold