المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 413517
يتصفح الموقع حاليا : 273

البحث

البحث

عرض المادة

الاعتــــدال والتطـــرف: المنظــــور الصهيـــوني

الاعتــــدال والتطـــرف: المنظــــور الصهيـــوني
Moderation and Extremism: Zionist Perspective
«الاعتدال» من «عدل» أي «سوى بين الشيئين». و«الاعتدال السياسي» هو أن يأخذ المرء موقفاً ينزع نحو المهادنة وتقديم التنازلات في سبيل تحقيق قدر من العدل والسلام. و«التطرف»، على خلاف «الاعتدال»، هـو «تجـاوز حد الاعتدال». وهـو على زنة «تفعُّل» من «طرف». و«الطرف» هو «حافة الشيء». و«التطرف»، في المصطلح السياسي، هو أن يتمسك المرء بموقفه وبالحد الأقصى لا يحيد عنه ولا يقبل تقديم أية تنازلات ولا يتهاون بغض النظر عن الأوضاع والملابسات المحيطة بالموقف. ومصطلحا «الاعتدال» و«التطرف» شائعان في الخطاب السياسي، فيوصف إنسان بأنه «متطرف» وآخر بأنه «معتدل» حسب ما يتخذانه من مواقف. ولكن ما يغيب عن الكثيرين أن التطرف والاعتدال يُقاسان بالنسبة إلى مرجعية ما كامنة، فما هو متطرف من وجهة نظر ما قد يكون اعتدالاً من وجهة نظر أخرى، وكل شيء يعتمد على المرجعية. وما يفوت من يستخدمون مثل هذه المصطلحات أن أسباب الصراع (في المجال السياسي والاقتصادي) ليس لها علاقة كبيرة بما يُسمَّى «العُقد النفسية والتاريخية»، وإنما هي في العادة أسباب بنيوية، لصيقة بالعلاقـات التي توجد في الواقع. وطالما ظلت البنية الشاذة ظل الصراع، أي أن القضية ليس لها علاقة كبيرة، في كثير من الأحوال، مع الحالة النفسية أو مع مدى استعداد أحد أطراف الصراع لإظهار الاعتدال والتسامح. ولذا فنحن نذهب إلى أن مصطلحي «الاعتدال» و«التطرف» ليـس لهما مقدرة تفسيرية عالية في مجال السياسة والاقتصاد.


والأمر لا يختلف كثيراً في الصراع العربي/الصهيوني، فسبب الصراع هو الشذوذ البنيوي للكيان الصهيوني الاستيطاني الإحلالي، الذي تأسس على الظلم، وتم تحقيقه من خلال الإرهاب والقمع، وطالما ظلت البنية الصهيونية الشاذة، ظل الصراع العربي الصهيوني. ومع هذا تم استخدام المصطلحين بطريقة فيها قدر كبير من السـيولة وعدم التحدد. وهذا يعود إلى أن المرجعية الصهيونية والحد الأقصى الصهيوني والمسلمات النهائية (تأسيس الدولة اليهوديةالخالصة، الخالية من العرب) أخفيت تماماً عن الأنظار، وأن شعارات مثل "أرض بلا شعب لشعب بلا أرض" و"إرتس يسرائيل التي تمتد من النيل إلى الفرات" أو "على ضفتي الأردن" و"تجميع المنفيين في إرتس يسرائيل" و"نفي (أي تصفية) الدياسبورا" قد تم إخفائها عن طريق استخدام الخطاب الصهيوني المراوغ، الآلية الصهيونية لإخفاء المرجعية. ولهذا نجد أن ما يوصف بالتطرف يوماً يوصف بالاعتدال يوماً آخر وهكذا، إلى أن اقترب "الاعتدال الصهيوني" من المسلمات الصهيوني النهائية والحد الأقصى الصهيوني. فبعد إعلان وعد بلفور عام 1917 كان الصهاينة الذين يطالبون بإنشاء دولة صهيونية يعدون "متطرفين" لأن الحد الأقصى المعلن آنذاك هو "وطن قومي" وحسب. ولكن هؤلاء المتطرفون أصبحوا معتدلين في الأربعينيات حينما أصبح الشعار الرسمي للحركة الصهيونية هو إنشاء دولة صهيونية وقبول قرار التقسيم والعيش مع العرب في سلام! ومن ثم كان الحديث عن كامل أرض إسرائيل وطرد العرب هو عين التطرف الصهيوني. ولكن بعد أن قضمت إسرائيل أراض تتجاوز حدود الأرض المعطاة لها بمقتضى قرار التقسيم وبعد أن تم طرد العرب، أصبح الاعتدال الصهيوني هو تجاوز قرار التقسيم والقبول بالأمر الواقع والتمسك بحدود 1948 وببقاء الفلسطينيين خارج ديارهم. وبعد حرب 1967 كان التطرف الصهيـوني هو التمسك بكل أو بعض الأراضي المحتلة بعد عام 1967 وبإقامة المستوطنات فيها. وبالتدريج، تغيَّر مثل هذا الموقف الأخير، وأصبح الاعتدال هو قبول الأمر الواقع وتجميد المستوطنات مع الاستمرار في تسمينها (أي توسيعها).

وينطبق الموقف نفسه على العرب بطبيعة الحال، فالمعتدل، من وجهـة النـظر الصهيونية، هو الذي يقبل الموقـف الصهيـوني المعتدل ويتغيَّر بتغيُّره. فالعربي الذي كان يقبل استيطان الصهاينة دون إنشاء دولة كان يُعدُّ (منذ عام 1917 وحتى الأربعينيات) معتدلاً، ولكنه أصبح متطرفاً بعد ذلك التاريخ. ومن كان يقبل إنشاء الدولة اليهودية وقرار التقسيم عام 1948 كان يُعدُّ عربياً معتدلاً، ولكن بعد إنشاء الدولة، أصبح مثل هذا الشخص متطرفاً. وظل الأمر كذلك حتى عام 1967 حين أصبح الاعتدال العربي هو الرضوخ لحدود إسرائيل بعد عام 1967 وأصبح تطبيق قرار 242 أو حتى إنقاص المستوطنات في الضفة الغربية هو عين التطرف العربي. ومما يجدر ملاحظته أن الحفاظ على أمن إسـرائيل هو دائماً الحـجة التي تُسـاق لتحديد مفهومي الاعتدال والتطرف، وأن مواصفات هذا الأمن تحدده الدولة الصهيونية دائماً. ويُلاحَظ، في جميع الأحوال، غياب مفهوم العدل والتآكل التدريجي لمفهوم المقاومة إلى أن أصبح أي شكل من أشكال «المقاومة» شكلاً من أشكال التطرف والإرهاب. وقد تَسلَّل المصطلحان بمرجعيتهما الصهيونية إلى الخطاب السياسي العربي وأصبح يُشار إلى «العمليات الفدائية» بأنها «عمليات انتحارية».

ويمكننا أن نقول إن المرجعية النهائية للعقل الصهيوني هي الصيغة الصهيونية الأساسية الشاملة (دولة وظيفية يقيمها الغرب ويدعمها ويضمن لها البقاء وتقوم هي على خدمة مصالحه وتجنيد يهود العالم وراءها). وهي صيغة استعمارية استيطانية تنفي العرب وتُسقط فكرة العدل تماماً وتستند إلى القوة الذاتية للصهاينة وإلى الدعم الإمبريالي الغربي. هذا هو الأساس وما عدا ذلك تفاصيل وآليات وديباجات. فحدود الدولة وحجم الاستيطان وكثافته كلها آليات وتفاصيل خاضعة للاعتبارات الإستراتيجية الغربية وللملابسات الخاصة المحيطة بالدولة الاستيطانية والعملية الاستيطانية.

ولكن، ورغم وجـود هـذه المرجعية الثابتة للعقــل الصهيوني، فإن موقف الصهاينة على مستوى الممارسة اليومية يتباين بين «الاعتدال» و«التطرف» فهو ليـس موقـفاً واحداً ثابتاً لا يتغيَّر. ولتفسـير هذه الظاهرة، وحتى يمكننا أن نتوصل إلى نموذج تفسيري معقول. فلابد أن نشير ابتداءً إلى أن ثمة انفصالاً بين إدراك الإنسان لواقعه وبين استجابته لهذا الواقع وسلوكه فيه. فاستجابة الفرد لواقعه لا تحددها فقط مكوِّنات هذا الواقع المادية (مثل موازين القوى على سبيل المثال) وإنما يحددها أيضاً مركب هائل من العوامل النفسية والعصبية والتاريخية والثقافية وإدراك الآخر. ولهذا السبب، قد يكون من المفيد أن نرسم مخططاً متكاملاً لطيف الإدراك الصهيوني (الذاتي) في علاقته بموازين القوى (الموضوعية). وقد بيَّنا في مدخل آخر (انظر: «الإدراك الصهيوني للعرب») أن الصهاينة يدركون العرب من خلال أربعة أنماط أساسية: العربي الحقيقي ـ العربي ممثلاً للأغيار ـ العربي الهامشي ـ العربي الغائب. ويمكن أن نرى كيف تساهم القوة في تقويض نمط إدراكي ما أو تدعيمه.

1 ـ في حالة اتجاه موازين القـوى لصـالح العرب وضـد صـالح الصهاينة، فإن هذه الموازين تدعم الإدراك الواقعي عند الصهاينة، إذ يكتشف المستوطنون أن البنية الاستيطانية/الإحلالية لن تحقق لهم الأمن الذي يريدونه ولا الرفاهية التي يبغونها، ومن ثم تظهر على شاشة وجدانهم صورة العربي الحقيقي. وتساهم عملية إعادة صياغة الإدراك في تبديد الأوهام الأيديولوجية. وقد يؤدي هذا، في ظروف معينة، إلى ظهور برنامج سياسي يعكس الواقع، أي أن ميل موازين القوى لصالح العرب يؤدي إلى ترشيد العقل الصهيوني.

2 ـ في حالة اتجـاه موازين القوى لصـالح الصهاينة وضـد صـالح العرب، فإن هذه الموازين ستدعم الإدراك الصهيوني المتحيز. وسيرى المستوطنون أن البنية الاستيطانية/الإحلالية قد حققت لهم الأمن الذي يبغونه ومستوى معيشياً مرتفعاً. وسيساهم ذلك في تحويل الواقع التاريخي إلى شيء هامشي باهت، ويظهر على شاشة وجدانهم صورة العربي الهامشي ثم الغائب، ويتدعـم البرنامج السياسـي الصهيـوني بوصفه مرشـداً للتعامل مع الواقع.

ويمكن أن نفسِّر التطرف والاعتدال الصهيونيين في ضوء الاحتمالين السابقين. فإن ظل العربي الحقيقي ساكناً دون أن يتحدى الرؤية أو موازين القوى، أصبح من الممكن قبوله كشخصية متخلفة هامشية غائبة، ويصبح من الممكن إظهار التسامح تجاهه، بل منحه بعض الحقوق مثل "الحكم الذاتي" (وهنا تكمن المفارقة). أما إذ بدأ العربي الحقيقي في التحرك لتأكيد حقوقه ورفض الهامشية المفروضة عليه وتحدي الرؤية الصهيونية وحاول تغيير موازين القوة لصالحه، فإنه يصبح مصدر خطر حقيقي ويصبح من الضروري ضربه لتهشيمه وتهميشه ويصبح التسامح مرفوضاً.

نحن نعيش في عالم يؤمن بالحواس الخمس وبكل ما يُقاس، ولا يعترف بالحق أو الخير أو العدل. ولتوصيل مثل هذه القيم غير المحسوسة للعدو، لابد من الضغط على حواسه الخمس حتى يعرف أن العربي الحقيقي ليس مجرد صورة باهتة في وجدانه يمكنه تغييبها وإنما هو قوة واقعية يمكن أن تسبب له خسارة فادحة إن هو تجاهلها أو حاول تهميشها وتهشيمها.

ولعل هذا هو القصور الأساسي في محاولات التوصل للسلام حسب الشروط الصهيونية. فقد ظن مهندسو هذه الاتفاقيات أنهم عن طريق رفع رايات السلام والاعتدال والحديث الهادئ على مائدة المفاوضات سيُغيِّرون صورة العربي في وعي العالم ويهدئون روع الصهاينة ويقنعونهم بأنهم معتدلون وراغبون في السلام، وأن هذا سيخلق دينامية تفرض على الحكومة الإسرائيلية أن تصل إلى اتفاق عادل أو شبه عادل. ولكن الذي حدث هو عكس ذلك تماماً. فكلما ازداد الاعتدال العربي زاد التطرف الصهيوني وزاد التمسك بالمستوطنات وبكل شبر من الأرض المحتلة. والعكس بالعكس، فكلما زاد التطرف العربى، أي المقاومة والحوار المسلح، ازداد الصهـاينة رشداً واستعداداً لتَقبُّل فكرة السلام الذي يستند إلى العدل، بدلاً من السلام حسـب الشروط الصهيونية، أي الاستسلام الكامل.

  • الاثنين AM 12:01
    2021-05-17
  • 896
Powered by: GateGold