المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 409038
يتصفح الموقع حاليا : 224

البحث

البحث

عرض المادة

معاني القرآن للفراء

د. محمد عبدالمنعم خريبة

 

معاني القرآن للفراء[*]

فهذا هو الفراء ت 207هـ يؤلف كتابه "معاني القرآن" فيشرح فيه آيات الكتاب شرحا بسط فيه الكلام في التراكيب وتأويل العبارات، وتحدث فيه عن التقديم والتأخير، والايجاز والاطناب، والمعاني التي تخرج إليها بعض الأدوات كأداة الاستفهام، كما أشار إلى بعض الصور البيانية من مثل: التشبيه، والكناية، والاستعارة، وتحدث عن المجاز العقلي - وان لم يسمه بهذا الاسم - عند تفسيره لقوله تعالى: ﴿ فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ ﴾ [البقرة : 16] بقوله: وربما قال القائل: كيف تربح التجارة وانما يربح الرجل التاجر؟ وذلك من كلام العرب: ربح بيعك وخسر بيعك - فحسن القول بذلك، لأن الربح والخسران انما يكونان في التجارة - فعلم معناه - ومثله من كلام العرب: (هذا ليل نائم) ومثله من كتاب الله عز وجل: "فاذا عزم الأمر" وانما العزيمة للرجال - ولا يجوز الضمير إلا في مثل هذا، فلو قال قائل: (قد خسر عبدك) لم يجز ذلك - أن كنت تريد أن تجعل العبد تجارة يربح فيه أو يوضع، لأنه قد يكون العبد تاجرا فيربح أو يوضع فلا يعلم معناه: (إذا ربح هو من معناه إذا كان متجوزا فيه) فلو قال قائل: (قد ربحت دراهمك ودنانيرك، وخسر بزك ورقيقك) كان جائزا لدلالة بعضه على بعض [1].

 

 

 

"مجاز القرآن" لأبي عبيدة:

 

ويؤلف أبو عبيدة معمر بن المثني ت 208هـ كتابه "مجاز القرآن" وظاهر عنوانه أنه صنفه في "المجاز" بالمعنى البلاغي الاصطلاحي - وحقيقة الأمر: (أن كلمة المجاز عنده تعني الدلالة الدقيقة لصيغ التعبير القرآني المختلفة) يقول ابن تيمية. (أول من عرف أنه تكلم بلفظ المجاز أبو عبيدة معمر بن المثنى في كتابه، ولكن لم يعن بالمجاز ما هو قسيم الحقيقة، وغنما عنى بمجاز الآية ما يعبر به عن الآية) [2] أي تفسيرها وتأويلها - من مثل قوله: قال الله جل ثناؤه: ﴿ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ ﴾ [القيامة : 17] مجازه: تأليف بعض إلى بعض، ثم قال: ﴿ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ﴾ [القيامة : 18] مجازه: فاذا ألفنا منه شيئا فضممناه إليك، فخذ به، واعمل به، وضمه إليك - ومما يلاحظ أنه اختار الآيات التي تصور طرقا مختلفة في الصياغة والدلالة متمثلا بما يشبهها من أشعار العرب وأساليبهم، وأداه هذا الاختيار إلى أن يتحدث عما في الآيات: من استعارة وتشبيه وكناية وتقديم وتأخير وحذف وتكرار واضمار - وتوسع في تصوير الخصائص التعبيرية: كالدلالة بلفظ الخصوص على معنى العموم، وبلفظ العموم على معنى الخصوص، وكمخاطبة الواحد مخاطبة الجميع، ومخاطبة الجميع مخاطبة الواحد..

 

 

 

ويحدثنا أبو عبيدة عن السبب الذي حدا به إلى تأليف هذا الكتاب، فيبين أن جهل الناس بأساليب لغتهم ربما دفعهم إلى الطعن أو الشك والوهم في تاب العربية المعجز، فألف كتابه ردا للشبه ببيان أن القرآن جار على أساليب العربية وفنونها في الكلام - يقول أبو عبيدة: أن الفضل بن الربيع استقدمه إلى بغداد سنة ثمان وثمانين ومائة، فلقى عنده أحد كتاب الوزير وجلسائه وهو (ابراهيم ابن أسماعيل الكاتب) وسأله ابراهيم عن وقل الله عز وجل:  قائل: انما يقع الوعد والايعاد بما عرف مثله، وهذا لم يعرف - يقول أبو عبيدة: فقلت: انما كلم الله تعالى العرب على قدر كلامهم.

 

أما سمعت قول امرئ القيس:

 

أيقتلني والمشرفي مضاجعي

ومسنونة زرق كأنياب أغوال

 

 

وهم لم يروا الغول قط، ولكن لما كان أمر الغول يهولهم أوعدوا به - فاستحسن الفضل ذلك، واستحسنه السائل - وعزمت من ذلك اليوم أن أضع كتابا في القرآن في مثل هذا واشباهه، وما يحتاج إليه من علمه، فلما رجعت إلى البصرة عملت كتابي هذا الذي سميته "مجاز القرآن" [3].

 

 

 

وبهذا الكتاب وضع أبو عبيدة اللبة الأولى في صرح الدراسات البلاغية للقرآن - وكان خطوة على الطريق لفهم الاعجاز القرآني. يقول أبو عبيدة: (ففي القرآن ما في الكلام العربي من الغريب والمعاني ... ومن المحتمل من مجاز ما اختصر، ومجاز ما حذف، ومجاز ما كف عن خبره، ومجاز ما جاء لفظه لفظ الواحد ووقع على الجميع - ومجاز ما جاء لفظه لفظ الجميع ووقع معناه على الاثنين...) [4].

 

 

 

وابو عبيدة في كتابه يبحث في أسلوب القرآن بعرضه على أساليب العربي، وتقرير أنه نمط منه - يقول: ومن مجاز ما يحول فعل الفاعل إلى المفعول - قول الله تعالى: ﴿ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ ﴾ [القصص : 76] أي - مفاتح خزائنه، ومجازه: ما أن العصبة ذوي القوة لتنوء بمفاتح نعمه - ويقال في الكلام: أنها لتنوء بها عجيزتها، وانما هي تنوء بعجيزتها، كما ينوء البعير بحمله، والعرب تقول مثل هذا - قال الشاعر:

 

فديت بنفسه نفسي ومالي

ولا آلوك إلا ما أطيق

 

 

والمعنى: فديت بنفسي وبمالي نفسه - وقال:

 

وتركب خيل لا هوادة بينها

وتشقى الرماح الضياطرة الحمر والخيل

والخيل هنا الرجال

وانما تشقى الضياطرة بالرماح [5].

 

 

وإذا كان للنحويين واللغويين دورهم في المنافحة عن الإسلام والذود في كتابه بدرس خصائص أسلوبه ونظمه، فان الدور الأكبر في ذلك هو ما قام به علماء الكلام، ولاسيما المعتزلة - والمعتزلة في الواقع من أمثال: واصل بن عطاء، والنظام، والجاحظ وثمامة بن أشرس - هم المجلون السابقون بين طوائف المتكلمين في هذا الميدان، إذ نصبوا أنفسهم للدفاع عن الإسلام أمام خصومه من أصحاب الملل، ولذا نراهم يأخذون أنفسهم بثقافة عربية أصيلة مضيفين إليها ألوانا من الثقافة الأجنبية - وخاصة - الفلسفة وما يتصل بها من المنطق - حتى ليقول الجاحظ: لا يكون المتكلم جامعا لأقطار الكلام متمكنا في الصناعة يصلح للرياسة، حتى يكون الذي يحسن من كلام الدين في وزن الذي يحسن من كلام الفلسفة، والعالم عندنا هو الذي يجمعهما [6].

 

 

 

وأفادت المعتزلة من الفلسفة أن نظمت عقولهم تنظيما منطقيا دقيقا، وان جعلتهم يحسنون استنباط الآراء وخصائص الأشياء - كما جعلتهم يقتدرون على ايراد الحجج والبراهين، وتشعيب المعاني وتفريعها - حتى ليقول بشر بن المعتمر: (أنهم فوق أكثر الخطباء وأبلغ من كثير من البلغاء) [7].

 

 

 

ولذلك فقد كان للمعتزلة فضل السبق على معاصريهم في بحث مسائل البلاغة من الوجهة النظرية والتعليمية، ومن ثم لم يكن من المصادفة أن يلقانا أقدم تعريف دقيق لها عند عمرو بن عبيد المعتزلي ت 144هـ فقد عرفها بأنها (تخير اللفظ في حسن الافهام) [8].

 

 

 

وبهذه المعرفة الدقيقة بأسرار البيان العربي تصدى المعتزلة لأعداء الإسلام والطاعنين في كتابه - يردون شبههم، ويزيفون دعاويهم.

 

 

 

الجاحظ ت 255هـ:

 

ومن طالع كتاب "الحيوان" للجاحظ رأى كيف عرض فيه لتأويل بعض آي الذكر الحكيم رادا على مطاعن الملاحدة، وما كانوا يثيرون من شبهات حولها، بسبب جهلهم بوجوه التعبير الأدبي في العربية، ودلالات صوره البلاغية [9].

 

 

 

وكيف زيف مزاعمهم ازاء بعض آيات الكتاب مبينا نقص معرفتهم بتصاريف اللغة وضروب استعمالها.

 

 

 

وقد توقف الجاحظ مرارا في كتابه الحيوان - وخاصة - في جزءيه الرابع والخامس - ليكشف عن الدلالات الدقيقة للآيات مشيرا في ثنايا ذلك لما فيها من استعارة أو تمثيل أو تشبيه - ومن طريف تصويره للاستعارة وهي عنده من باب المجاز - تعليقه على الآية الكريمة: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا ﴾ [النساء : 10] بقوله: أنها من باب المجاز والتشبيه على شاكلة "أكالون للسحت" وقد يقال لهم ذلك وان شربوا بتلك الأموال الأنبذة، ولبسوا الحلل، وركبوا الدواب، ولم ينفقوا منها درهما واحدا في سبيل الأكل - وقد قال الله عز وجل في تمام الآية: ﴿ إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا ﴾ وهذا مجاز آخر ... ثم يمضي فيقرن بالآية الكريمة بعض آيات أخرى من التنزيل، وبعض أشعار العرب التي تجري مجراها في الاستعارة - ويعقب بقوله: فهذا كله مختلف وهو كله مجاز [10].

 

 

 

ولهذا يطلب الجاحظ إلى كل من يريد الوقوف على معاني الكتاب والسنة وقوفا دقيقا أن يفقه أسرار العربية، ودلالات ألفاظها وصيغها فقها حسنا، ومن قوله في ذلك: للعرب أمثال واشتقاقات وأبنية، وموضع كلام يدل عندهم على معانيهم وارادتهم، ولتلك الألفاظ مواضع أخر، ولها حينئذ دلالات أخر - فمن لم يعرفها جهل تأويل الكتاب والسنة والشاهد والمثل [11].

 

 

 

ونراه يتنبه في دقة إلى مواقع الألفاظ في الذكر الحكيم - وكيف أن الكلمة المرادفة لأخرى، لا يصح أن تستخدم مكانها، بل أن صيغة لكلمة ينبغي ألا تتغير وأن تظل على صورتها من الأفراد أو الجمع، وأيضا فان الكلمات كأفراد الأسرة الواحدة، أو على الأقل - منها ما تقوم بينها واشجة الرحم - يقول: وقد يستخف الناس ألفاظ ويستعملونها وغيرها أحق بذلك منها، ألا ترى أن الله تبارك وتعالى أم يذكر في القرآن "الجوع" إلا في موضع العقاب، أو في مضوع الفقر المقع والعجز الظاهر، والناس لا يذكرون السعب ويذكرون الجوع في حال القدرة والسلامة. وكذلك ذكر "المطر" لأنك لا تجد القرآن يلفظ به إلا في موضع الانتقام، والعامة وأكثر الخاصة لا يفصلون بين ذكر المطر وبين ذكر الغيث - ولفظ القرآن الذي عليه نزل أنه إذ ذكر "الأبصار" لم يقل "الأسماع"، وإذا ذكر سبع سموات لم "الأرضين" - ألا تراه لا يجمع "أرضين"، ولا السمع أسماعا - والجاري على أفواه العامة غير ذلك لا يتفقدون من الألفاظ ما هو أحق بالذكر وأولى بالاستعمال ... وفي القرآن معان لا تكاد تفترق مثل: الصلاة والزكاة، والجوع والخوف، والجنة والنار، والرغبة والرهبة، والمهاجرين والأنصار، والجن والانس [12].

 

 

 

وأداه احساسه العميق بجودة اللفظ القرآني وحسنه، وبهائه ودقة تأليفه وكمال تركيبه وجمال نظمه وحسن صوغه، حتى جاءت ألفاظ القرآن على ماهي عليه - غاية في سهولة المخرج، وكثرة الماء. وصحة الطبع، وروعة السبك - إلى أن يصيح في معاصريه بسر الاعجاز القرآني قائلا: (في كتابنا المنزل الذي يلدنا على أنه صدق نظمه البديع الذي لا يقدر على مثله العباد) [13].

 

 

 

وألف في ذلك كتابه "نظم القرآن" الذي سقط من يد الزمن .. ويحدثنا الجاحظ عن كتابه مبينا أنه كتبه "للفتح بن خاقان" تلبية لرغبة صدرت منه، ولكن "الفتح" لم يهش له إذ كان يود أن يدور حديث الجاحظ عن خلق القرآن وهي المسألة الشاغلة للأذهان في عصره - فنأى الجاحظ جانبا عما يود صاحبه إذ قصر حديثه في نظم القرآن على أسلوبه، مفصلا وجوه اعجازه ودقائق بيانه .. يقول: فكتبت لك كتابا أجهدت فيه نفسي. وبلغت منه أقصى ما يمكن مثلي في الاحتجاج للقرآن والرد على كل طعان. فلم أدع فيه مسألة لرافضي ولا لحديثي، ولا حشوي، ولا لكافر مباد، ولا لمنافق مقموع، ولا لأصحاب النظام ولمن نجم بعد النظام ممن يزعم أن القرآن حق وليس تأليفه بحجة، وأنه تنزيل وليس ببرهان ودلالة، فلما ظننت أني بلغت أقصى محبتك، وأتيت على معنى صفتك، أتاني كتابك يذكر أنك لم ترد الاحتجاج لنظم القرآن، وإنما أردت الاحتجاج لخلق القرآن - وكانت مسألتك مبهمة ... فكتبت لك أشق الكتابين وأثقلهما وأغمضهما معنى وأطولهما طولا [14].

 

 

 

وفي هذا الكتاب يقول الخياط المعتزلي، ومن قرأ كتاب "عمرو الجاحظ" في الرد على المشبهة، وكتابه في الأخبار واثبات النبوات، وكتابه في "نظم القرآن" علم أن له في الإسلام غناء عظيما لم يكن الله عز وجل ليضيعه عليه، ولا يعرف كتاب في الاحتجاج لنظم القرآن وعجيب تأليفه وأنه حجة لمحمد - صلى الله عليه وسلم - على نبوته غير كتاب الجاحظ [15].

 

 

 

ويبدو أن الزمخشري أفاد منه حين ألف تفسيره - كما يفهم من مقدمة كتابه "الكشافط وللجاحظ كتاب آخر - ضاع فيما فقد من كتب التراث - قصره على البحث في الأسلوب القرآني وبيان خصائصه التعبيرية - إذ يقول: ولي كتاب جمعت فيه آيا من القرآن لتعرف بها فضل ما بين الايجاز والحذف، وبين الزوائد والفضول - والاستعارات - فاذا قرأتها رأيت فضلها في الايجاز والجمع للمعاني الكثيرة بالألفاظ القليلة - على الذي كتبته لك في باب الايجاز وترك الفضول فمنها قوله تعالى حين وصف خمر الجنة: ﴿ لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنْزِفُونَ ﴾ [الواقعة : 19] - وهاتان الكلمتان قد جمعتا جميع عيوب خمر أهل الدنيا - وقوله عز وجل حين ذكر فاكهة أهل الجنة: ﴿ لَا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ ﴾ [الواقعة : 33] جمع بهاتين الكلمتين جميع تلك المعاني [16].

 

 

 

بهذه الدراسات المتفرقة القائمة على استشفاف أسرار القرآن البيانية، والكشف عن دقائقه وخفاياه، وتسجيل ما يوحى به نظمه من روعة وجمال، ودقة وكمال - فجر الجاحظ ينابيع القول في الاعجاز القرآني مؤكدا أن اعجاز القرآن في نظمه وأسلوبه العجيب المباين لأساليب العرب في الشعر والنثر، وما يطوى فيه من سجع [17].

 

 

 

الرماني ت 384هـ:

 

وظلت الينابيع تتفجر فألف "أبو الحسن علي بن عيسى الرماني المعتزلي" رسالته "النكت في أعجاز القرآن" ... وهو يستهل الرسالة برد هذه النكت إلى سبع جهات قائلا: وجوه اعجاز القرآن تظهر من سبع جهات: ترك المعارضة مع توافر الدواعي وشدة الحاجة، والتحدي للكافة، والصرفة، والبلاغة، والأخبار الصادقة عن الأمور المستقبلة، ونقض العادة، وقياسه بكل معجزة.

 

 

 

والبلاغة في رأيه على ثلاث طبقات:

 

عليا، ووسطى، ودنيا - والعليا: هي بلاغة القرآن - والوسطى والدنيا بلاغة البلغاء حسب تفاوتهم في البلاغة - وحد البلاغة بأنها: ايصال المعنى إلى القلب في حسن صورة من اللفظ: فأعلاها طبقة في الحسن بلاغة القرآن - وأعلى طبقات البلاغة معجز للعرب والعجم كأعجاز الشعر للمفحم، فهذا معجز للمفحم خاصة، كما أن ذاك معجز للكافة.

 

 

 

ويقول: أن البلاغة على عشرة أقسام هي: الايجاز، والتشبيه، والاستعارة، والتلاؤم، والفواصل، والتجانس، والتصريف والتضمين، والمبالغة، وحسن البيان. ويفصل الرماني الحديث في كل قسم من هذه الأقسام - مبتدئا بتعريفه ثم مصورا شعبه ممثلا لها بآي الذكر الحكيم.

 

 

 

ففي حديثه عن التشبيه يعرفه بأنه: (العقد على أن أحد الشيئين يسد مسد الآخر في حس أو عقل) وبذلك قسم التشبيه إلى حسى وعقلي - وسمى الأول "تشبيه حقيقة" والثاني "تشبيه بلاغة" وعرض بالتفصيل للتشبيه العقلي وطبقاته في الحسن - وقال: أنه يأتي على وجوه: منها اخراج مالا تقع عليه الحاسة إلى ما تقع عليه كتشبيه أعمال الكفار بالسراب في الآية الكريمة: ﴿ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا ﴾ [النور : 39] ومنها: اخراج مالا تجر به عادة إلى ما جرت به عادة - كتشبيه ارتفاع الجبل بارتفاع الظلة في الآية الكريمة: ﴿ وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ ﴾ [الأعراف : 171] ومنها: اخراج مالا يعلم بالبديهة إلى ما يعلم بالبديهة مثل قوله تعالى: ﴿ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ ﴾ [الحديد : 21].

 

 

 

ومنها اخراج مالا قوة له في الصفة إلى ماله قوة في الصفة مثل قوله تعالى: ﴿ خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ ﴾ [الرحمن: 14] وقد فضل هذا التشبيه على تشبيه الحقيقة الحسي الخالص وخاصة إذا قرب جدا إذ يصبح تشبيه الشيء بنفسه، وحسن التشبيه انما هو في تقريبه بين بعيدين.

 

 

 

وعلى هذا النحو سار الرماني في شرحه لبقية الأقسام، وبذلك وضع يدنا على رأيه في وجه الاعجاز ثم بين لنا فيم هذه البلاغة من القرآن.

 

 

 

وأخذ الرمان بعد ذلك في الحديث عن وجوه الاعجاز الستة الأخرى التي ذكرها في فاتحة الرسالة [18].

 

 

 

وكتب أحمد بن محمد الخطابي البسني ت 388هـ - رسالة في بيان اعجاز القرآن -

 

 

 

وقد رد في فاتحتها على من يقولون بفكرة الصرفة، وأن اعجاز القرآن انما يرجع إلى أن الله صرف العرب عن معارضته، كما أنه رد على من يقولون بأن اعجاز القرآن يرجع إلى ما تضمنه من الأخبار الصادقة عن الأمور المستقبلة.

 

 

 

وقال: أنه انما يرجع إلى بلاغته، وأخذ في وصفها مقررا أن أساليب الكلام الجيد منها البليغ الرصين، ومنها الفصيح السهل، ومنها الجائز الطلق، وبلاغة قرآن تجمع بين هذه الأساليب جمعا لا يتاح للبشر مثله، ويقول: أن أجناس الكلام مختلفة، ومراتبها في نسب البيان متفاوتة: فمنها البليغ الرصين الجزل، ومنها الفصيح القريب السهل، ومنها الجائز الطلق المرسل، وهذه أقسام الكلام الفاضل المحمود .... فالقسم الأول أعلى طبقات الكلام وأرفعه، والقسم الثاني أوسطه وأقصده، والقسم الثالث أدناه وأقربه، فحازت بلاغات القرآن من كل قسم من هذه الأقسام حصة، وأخذت من كل نوع من أنواعها بشعبة فانتظم لها بامتزاج هذه الأوصاف نمط من الكلام يجمع صفتي الفخامة والعذوبة، وهما على الانفراد في نعوتهما كالمتضادين، لأن العذوبة نتاج السهولة، والمتانة والجزالة تعالجان نوعا من الوعورة فكان اجتماع الأمرين في نظمه مع نبو كل واحد منهما عن الاخر فضيلة خص بها القرآن.

 

 

 

ثم يتحدث عن السر الذي يكمن وراء الاعجاز القرآني فيقول: وانما تعذر على البشر الاتيان بمثله لأمور منها: أن علمهم لا يحيط بجميع أسماء اللغة العربية وأوضاعها التي هي ظروف المعاني، ولا تدرك أفهامهم جميع معاني الأشياء المحمولة على تلك الألفاظ، ولا تكمل معرفتهم باستيفاء جميع وجوه النظوم التي بها يكون ائتلافها وارتباط بعضها ببعض فيتواصلوا باختيار الأفضل من الأحسن من وجوهها إلى أن يأتوا بكلام مثله، وانما يقوم الكلام بهذه الأشياء الثلاثة: لفظ حامل، ومعنى به قائم ورباط لهما ناظم. وإذا تأملت القرآن وجدت هذه الأمور منه في غاية الشرف والفضيلة حتى لا ترى شيئا من الألفاظ أفصح، ولا أجزل، ولا أعذب من ألفاظه، ولا ترى نظما أحسن تأليفا وأشد تلاؤما وتشكالا من نظمه، وأما المعاني فلا خفاء على ذي عقل أنها هي التي تشهد لها العقول بالتقدم في ابوابها، والترقي إلى أعلى درجات الفضل في نعوتها وصفاتها إلى أن يقول: (واعلم أن القرآن انما صار معجزا لأنه جاء بأفصح الألفاظ في أحسن نظوم التأليف مضمنا أصح المعاني) [19].

 

 

 

والخطابي بهذا يشير إلى النظم القرآني باعتباره أصلا من أصول الاعجاز.

 

 

 

وإذا كان الجاحظ قد سبق إلى القول بأن اعجاز القرآن في نظمه فان الخطابي قد وضع أيدينا على معنى النظم بتحديده وتعريفه إذ يقول: أما رسوم النظم فالحاجة إلى الثقافة والحذق فيها أكثر لأنها لحام الألفاظ وزمام المعاني، وبه تنتظم أجزاء الكلام ويلتئم بعضه ببعض فتقوم له صورة في النفس يتشكل بها البيان [20].

 

 

 

وللخطابي رأي آخر استوحاه من التأثير الوجداني للقرآن إذ يقول: (قلت في اعجاز القرآن وجها آخر ذهب عنه الناس فلا يكاد يعرفه إلا الشاذ من آحادهم، وذلك صنيعه بالقلوب وتأثيره في النفوس، فانك لا تسمع كلاما غير القرآن منظوما أو منثورا إذا قرع السمع خلص له القلب من اللذة والحلاوة في حال ومن الروعة والمهابة في اخرى ما يخلص من القرآن إليه، تستبشر به النفوس، وتنشرح له الصدور حتى إذا أخذت حظها منه عادت مرتاعة قد عراها من الوجيب والقلق، وتغشاها من الخوف والفرق ما تقشعر منه الجلود، وتنزعج له القلوب) [21].

 

 

 

البافلاني ت 403هـ:

 

وأسهم المتكلمون من أهل السنة بدورهم في هذا المضمار، فألف القاضي: أبو بكر محمد بن الطيب الباقلاني ت 403هـ كتابه "اعجاز القرآن".

 

 

 

وقد استهله بالتعرض لمطاعن الملاحدة على أسلوب الذكر الحكيم مبينا أن الحاجة إلى الحديث في اعجاز القرآن أمس من الحاجة إلى المباحث اللغوية والنحوية، ومشيرا إلى أن الجاحظ قد صنف في نظم القرآن كتابا لم يزد فيه على ما قاله المتكلمون قبله ولم يكشف عما يلتبس في أكثر هذا المعنى، ويصرح بأنه سيضيف إلى من سبقوه ما يجب وصفه من طرق البلاغة وسبل البراعة ويمضي في الكتاب فيجعل أول فصل فيه لبيان أن القرآن معجزة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وهي معجزة تقوم على بلاغته، ويستشهد لذلك بآي الذكر الحكيم.

 

 

 

ويفتتح فصلا ثانيا يتم به الفصل الأول وما ساق فيه من حجج على اعجاز القرآن، وفي تضاعيف ذلك يرد ردا عنيفا على من عللوا لإعجاز القرآن بالصرفة: أي صرف العرب عن معارضته، لأن مقتضى ذلك أن المعارضة ممكنة، وانما منع منها الصرفة، وبذلك يسقط أن يكون القرآن معجزا في نفسه وبلاغته، وواضح أنه انما يرد هنا على المعتزلة من أمثال النظام صاحب الفكرة، والرماني الذي عد الصرفة م وجوه الاعجاز القرآني.

 

 

 

ويفتتح فصلا لبيان وجوه الاعجاز القرآني في رأيه ورأى الأشاعرة من أصحابه ويردها إلى ثلاثة - : أحدها: الاخبار عن الغيوب، وذلك مما لا يقدر عليه البشر ولا سبيل لهم إليه - الوجه الثاني: ما فيه من القصص الديني وسير الأنبياء مما روته الكتب السماوية مع أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان أميا لا يقرأ ولا يكتب - الوجه الثالث: بلاغته - ويجعل هنا نظريته في اعجاز القرآن البلاغي، فيقول: أنه بديع النظم، عجيب التأليف، متناه في البلاغة إلى الحد الذي يعلم عجز الخلق عنه.

 

 

 

وهو يتأثر في الشطر الأول من نظريته بفكرة الجاحظ التي ذهب فيها إلى أن مرجع الاعجاز في القرآن إلى نظمه وأسلوبه العجيب المباين لأساليب العرب في الشعر والنثر وما يطوى فيه من سجع [22].

 

 

 

أما في الشطر الثاني من نظريته فيتأثر بفكرة الرماني التي ذهب فيها إلى أن القرآن يرتفع إلى أعلى طبقة من طبقات البلاغة.

 

 

 

ويحاول الباقلاني تفسير نظريته فيتحدث عن نظم القرآن ويقول: أنه مخالف للمألوف من كلام العرب وله أسلوب يتميز به يباين أساليبهم في الكلام الموزون والمنثور بضريبة من السجع والترسل وهو أسلوب فريد تطرد فيه البلاغة اطرادا يشمل جميع آياته دون أي تفاوت. ويقرر أن الذكر الحكيم لا تتفاوت آية ولا تتباين بخلاف كلام الفصحاء فانه يتفاوت ويتخالف من موضع إلى موضوع، ويقول: أن القرآن يخرج في بلاغة صوغه عن طوق الانس والجن، كما يقولك أنه يتفوق على كلام البشر في ايجازه واطنابه، وصوره البيانية والتعبيرية، ومن تمام ذلك فيه دقة وضعه الأسماء والألفاظ لمعانيه التي لم تكن متداولة بين العرب ولا مألوفة لهم، ومما يكشف عن روعته أن الكلمة منه إذا ذكرت في تضاعيف كلام تتألق بين جاراتها تألقا.

 

 

 

ويقول: أن القرآن وضع حروفا في مطالع بعض السور، تبلغ عدتها أربعة عشر، وهي بذلك نصف حروف المعجم - وكأنه يشير بذلك إلى أن كلامه منتظم من نفس الحروف التي يستخدمونها ومع ذلك عجزوا عجزا تاما عن معارضته.

 

 

 

وينوه بخلوه من اللفظ الوحشي المستكره، والغريب المستنكر، والصنعة المتكلفة.

 

 

 

والباقلاني يبحث في كتابه وجوه البديع، ليرى هل يمكن تعليل الاعجاز القرآني بها أو لا يمكن؟ فيتحدث عن الاستعارة، والارداف، والمماثلة، ويذكر المطابقة، والجناس، والموازنة، ويذكر المساواة على أنها ضرب من البديع، ويتحدث عن الاشارة والمبالغة، والغلو والايغال، والتوشيح، وصحة التقسيم، وصحة التفسير، والتتميم، والترصيع.

 

 

 

وذكر من البديع الكناية والتعريض، وتحدث عن العكس والتبديل، وذكر الالتفات والتذييل والاستطراد، وذكر من ضروب البديع التكرار، وتأكيد المدح بما يشبه الذم وسماه الاستثناء.

 

 

 

ويعقب الباقلاني على ما ذكره من ضروب البديع بقوله: (وقد قدر مقدرون أنه يمكن استفادة اعجاز القرآن من هذه الأبواب البتي نقلناها، وأن ذلك مما يمكن الاستدلال به عليه، وليس كذلك عندنا لأن هذه الوجوه إذا وقع التنبيه عليها أمكن التوصل إليها بالتدرب والتعود والتصنع لها، وذلك كالشعر الذي إذا عرف الإنسان طريقه صح منه التعمل له، وأمكنه نظمه، والوجوه التي نقول أن اعجاز القرآن يمكن أن يعلم منها فليس مما يقدر البشر على التصنع له، والتوصل إليه بحال ... ثم يقول: أنه لا سبيل إلى معرفة اعجاز القرآن من البديع الذي ادعوه في الشعر ووصفوه فيه، وذلك أن هذا الفن ليس فيه ما يخرق العادة ويخرج عن العرف، بل يمكن استدراكه بالتعلم، والتدرب به، والتصنع له... فأما شأو نظم القرآن فليس له مثال يحتذى عليه، ولا أمام يقتدى به، ولا يصح وقوع مثله اتفاقا .. ولكن قد يمكن أن يقال في البديع الذي حكيناه وأضفناه إليهم أن ذلك باب من أبواب البراعة وجنس من أجناس البلاغة، وأنه لا ينفك القرآن عن فن من فنون بلاغاتهم ولا وجه من وجوه فصاحاتهم) [23].

 

 

 

ثم يتحدث عن كيفية الوقوف على اعجاز القرآن ويقول: أنه لا يقف عليه إلا من عرف معرفة بينة وجوه البلاغة العربية، ووقف على طرقها ومذاهبها، وتكونت له فيها ملكة يقيس بها الجودة والرداءة في الكلام بحيث يميز بين نمط شاعر وشاعر، ونمط كاتب وكاتب، وبحيث يعرف مراتب الكلام في الفصاحة، ويدرك ما يخرج عن الوسع، ويتجاوز حدود القدرة، وكأنه يرد المسألة إلى الذوق، وحسن تدربه على تمييز أصناف الكلام ومراتبه.

 

 

 

وقد حاول الباقلاني تجليه رأيه عمليا فعقد المقارنات بين القرآن وبليغ الكلام شعرا ونثرا إذ ساق طائفة من خطب الرسول - صلى الله عليه وسلم - ورسائله، ومن خطب صحابته وغيرهم، ليلمس القارئ فرق ما بين ذلك كله وبين القرآن، ودرس معلقة امرئ القيس وبين ما فيها من عوار ومن تكلف ومن حشو وخلل وتطويل ووحشى من الألفاظ وغريب، وكيف تفاوتت أبياتها بين الجودة والرداءة، والسلاسة والغرابة، وتحدث عن جمال نظم القرآن وكيف أنه وزع على كل آياته بقسطاس سواء مها القصص وغير القصص، بينما يتفاوت كلام البلغاء من الشعراء حتى في القصيدة الواحدة.

 

 

 

ثم عقد فصلا لوصف وجوه من البلاغة - وفيه يلخص الوجوه العشرة للبلاغة التي صورها الرماني في رسالته "النكت في اعجاز القرآن" وتحس هنا بأننا ازاء أشعري يريد أن ينقض ما قاله معتزلي كبير - ذلك أن الرماني كان يرى - كما أسلفنا - أن من وجوه اعجاز القرآن البلاغة ومضى يفصل وجوهها التي بها يعلل الاعجاز، وكأن الباقلاني رأى في هذه الوجوه ما رآه في وجوه البديع التي رفض أن تكون من البراهين على اعجاز القرآن، إذ يقول: أن من الناس من يريد أن يأخذ اعجاز القرآن من وجوه البلاغة التي ذكرنا أنها تسمى البديع في أول الكتاب مما مضت أمثلته في الشعر، ومن الناس من زعم أنه يأخذ ذلك من هذه الوجوه التي عددناها في هذا الفصل، واعلم أن الذي بيناه قبل هذ وذهبنا إليه هو السديد.

 

 

 

وهو أن هذه الأمور تنقسم: فمنها ما يمكن الوقوع عليه والتعمل له، ويدرك بالتعلم فما كان كذلك فلا سبيل إلى معرفة اعجاز القرآن به، وأما مالا سبل إليه بالتعلم والتعمل من البلاغات فذلك هو الذي يدل على اعجازه [24].

 

 

 

ويقول أن بلاغة القرآن لا تقع بوجه من الوجوه التي عددها الرماني، بل هي تقع به مقترنة في نسقه المحكم، بحيث لا يقال: أن التشبيه معجز أو التجانس معجز، انما يقال: انهما معجزان بنظمهما وصوغهما الذي يسمو إلى الطبقة العليا من طبقات البلاغة.

 

 

 

(فأما الآية التي فيها ذكر التشبيه فان ادعى اعجازها لألفاظها ونظمها وتأليفها، فاني لا أدفع ذلك وأصححه، ولكن لا أدعي اعجازها لموضع التشبيه) [25].

 

 

 

وبهذا هاجم الباقلاني في قوة نظرية اعجاز القرآن عن طريق تصوير ما فيه من وجوه البديع أو البلاغة، إلا أن يلاحظ في ذاك كله النظم وروعة التأليف، فالمدار قبل كل شيء على الصياغة والنظم، إلا أنه لم يستطع أن يصور شيئا من أسرار النظم بل ظلت الفكرة عنده غامضة من ذلك أنه إذا عمد إلى تبين أسرار الجمال في آيات الكتاب المجيد أعطانا صورة منفعل بالجمال يصف احساسه وعجزه عن وضع اليد على منابع الجمال القرآني يقول: فأما منهج القرآن ونظمه وتأليفه ورصفه فان العقول تتيه في جهته، وتحار في بحره، وتصل دون وصفه وهو أدق من السحر، وأخول من البحر، وأعجب من الشعر [26].

 

 

 

ويتبين لنا ذلك من تعليقه على الآيات:﴿ وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ * يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ * وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ﴾ [غافر : 18 - 20] إذ يقول: (كل كلمة من ذلك على ما قد وصفتها من أنه إذا رآها الإنسان في رسالة كانت عينها، أوفى خطبة كانت وجهها، أو قصيدة كانت غرة غرتها، وبيت قصيدتها، كالياقوتة التي تكون فريدة العقد، وعين القلادة ودرة الشذر، إذا وقع بين الكلام وشحه، وإذا ضمن في نظام زينه، وإذا اعترض في خطاب تميز عنه وبان بحسنه منه) [27].

 

 

 

اعجاز القرآن للقاضي عبد الجبار ت 415هـ:

 

ولئن عجز البلاقلاني عن تصوير أسرار النظم وبيانه بما يوضح المنهج لإدراك الاعجاز القرآني من جهته، فلقد استطاع القاضي عبد الجبار بما أوتي من فطنة وذكاء أن ينفذ إلى أسراره وان يحلله تحليلا رائعا، مبينا الأسس التي يقوم عليها بناؤه.

 

 

 

ففي الجزء السادس عشر من كتابه "المغنى في أبواب التوحيد والعدل".

 

 

 

وهو الجزء الخاص بأعجاز القرآن ... بحث القاضي مسألة الإعجاز القرآني بحثا متشعبا، وتحدث عن كل ما يتصل بالقرآن، ونبوة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وفصل القول في الإعجاز ودلالة القرآن على نبوة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وكيف أن يقع في المرتبة العليا من البلاغة.

 

 

 

وفي هذا المبحث عرض القاضي رأيه في العلة التي بها يتفاضل الكلام في فصاحته مبينا أن مرجع الفصاحة التي يفسر بها الاعجاز القرآني والتي يتفاضل فيها البلغاء، لا يعود إلى اللفظ أو إلى المعنى أو الصور البيانية، وانما يعود إلى الأسلوب والأداء والصياغة النحوية للتعبير وفي ذلك يقول: (اعلم أن الفصاحة لا تظهر في أفراد الكلام، وإنما تظهر في الكلام بالضم على طريقة مخصوصة ولابد مع الضم من أن يكون لكل كلمة صفة، وقد يجوز في هذه الصفة أن تكون بالمواضعة التي تتناول الضم، وقد تكون بالإعراب الذي له مدخل فيه، وقد تكون بالموقع، وليس لهذه الأقسام الثلاثة رابع، لأنه أما أن تعتبر فيه الكلمة، أو حركاتها، أو موقعها - ولابد من هذا الاعتبار في كل كلمة ثم لابد من اعتبار مثله في الكلمات إذا انضم بعضها إلى بعض، لأنه قد يكون لها عند الانضمام صفة، وكذلك لكيفية اعرابها وحركاتها وموقعها، فعلى هذا الوجه الذي ذكرناه انما تظهر مزية الفصاحة بهذه الوجوه دون ما عداها، فان قال قائل: فقد قلتم أن في جملة ما يدخل في الفصاحة حسن المعنى فهلا اعتبرتموه؟ قيل له: أن المعاني وان كان لابد منها فلا تظهر فيها المزية ... ولذلك نجد المعبرين عن المعنى الواحد يكون أحدهما أفصح من الآخر والمعنى متفق ... على أنا نعلم أن المعنى لا يقع فيها تزايد، فإذن يجب أن يكون الذي يعتبر التزايد عنده الألفاظ التي يعبر بها عنها، فاذا صحت هذه الجملة فالذي تظهر به المزية ليس إلا الابدال - أي الاختيار - الذي به تختص الكلمات، أو التقدم أو التأخر الذي يختص الموقع، أو الحركات التي تختص الاعراب فبذلك تقع المباينة بين الكلام) [28].

 

 

 

فالكلام لا يعد فصيحا عند عبد الجبار حتى يلاحظ في الكمات صفاتها المختلفة: كملاحظة ابدالها ونظائرها، وملاحظة حركاتها في الاعراب، مع ملاحظة موقعها في التقديم والتأخير، وبين أنه ليس المراد من حركات الاعراب حركاتها الظاهرة وانما المراد هو النظام النحوي للكلمات.

 

 

 

والكلمة من حيث هي كلمة مفردة لا شأن لها في الفصاحة، لأنها قد تكون في موضع أحسن منها في موضع آخر، وانما الشأن في انتظام الكلمات في التعبير.

 

 

 

يقول عبد الجبار: ولا يمتع في اللفظة الواحدة أن تكون إذا استعملت في معنى أن تكون أفصح منها إذا استعملت في غيره، وكذلك فيها إذا تغيرت حركاتها وكذلك القول في جملة من الكلام .... وهذا يبين المعتبر في المزية ليس بنية اللفظ وان المعتبر فيها ما ذكرناه من الوجوه، فأما حسن النغم وعذوبة القول فمما يزيد الكلام حسنا على السمع، لا أنه يوجد فضلا في الفصاحة ...ولا فصل فيما ذكرناه بين الحقيقة والمجاز، بل ربما كان المجاز أدخل في الفصاحة لأنه كالاستدلال في اللغة ... وكذلك فلا معتبر بقصر الكلام وطوله وبسطه وايجازه، لأن كل ضرب من ذلك ربما يكون أدخل في الفصاحة في بعض المواضع من صاحبه [29].

 

 

 

فالعبرة في الفصاحة التي بها يتفاضل الكلام ويتفاوت انما هي في مواقعه وكيفية ايراده، وطريقة أدائه، وما يجري فيه من نسب وعلاقات نحوية - وليس ذلك إلا النظم.

 

 

 

عبد القاهر الجرجاني ت 471هـ:

 

وكان هذا التفسير قبسا من نور استضاء به امام البلاغة عبد القاهر ابن عبد الرحمن الجرجاني في وضعه لنظرية النظم التي جعلها محور كتابه "دلائل الاعجاز" فبين معالمها، ورسم حدودها، وأعلى منارها بنقاشه الرائع وتحليله الدقيق.

 

 

 

والجرجاني يبحث قضية النظم كظاهرة أوسع هي طريقة نظم البيان عامة، ليرى كيف يمكن تعليل الاعجاز القرآني بنظمه، فيتحدث عن نظم الكلام، وخضوع هذا النظم لقواعد مقررة اقتضاها وضع اللغة، وجرى عليها المتعاملون بها على حسب ما تواضعوا عليه وتعارفوا، مثل وجود المسند إليه والمسند كي تتم الجملة، ويصبح الكلام مفيدا، ومثل تقدم الفعل، وسبق حرف الجر للمجرور وهكذا مما يعرفه ويلتزمه أصحاب اللغة والمتعاملون بها، واذ يقرر الجرجاني هذ الحقيقة من أمر اللغة يعقب على ذلك متسائلا:

 

إذا كان ذلك كذلك فما جوابنا لخصم يقول لنا:

 

إذا كانت هذه الأمور وهذه الوجوه من التعلق التي هي محصول النظم موجودة على حقائقها وعلى الصحة، وكما ينبغي في منثور كلام العرب ومنظومه، ورأيناهم قد استعملوها وتصرفوا فيها، وكملوا بمعرفتها، وكنت حقائق لا تتبدل ولا يختلف بها الحال، إذ لا يكون للاسم بكونه خبرا لمبتدأ، أو صفة لموصوف، أو حالا لذي حال، أو فاعلا أو مفعولا لفعل في كلام حقيقة هي خلاف حقيقته في كلام آخر.

 

 

 

فما الذي تجدد بالقرآن من عظيم المزية، وباهر الفضل، والعجيب من الرصف حتى أعجز الخلق قاطبة، وحتى قهر من البلغاء والفصحاء القوى والقدر، وقيد الخواطر والفكر حتى خرست الشقاشق، وعدم نطق الناطق، وحتى لم يحر لسان، ولم يبن بيان، ولم يساعد امكان، ولم ينقدح لأحد منهم زند، ولم يمض له حد، وحتى أسال عليهم الوادي عجزا، وأخذ منافذ القول عليهم أخذا؟" [30].

 

 

 

ويجيب عبد القاهر بقوله: أعجزتهم مزايا ظهرت لهم في نظمه، وخصائص صادفوها في سياق لفظه، وبدائع راعتهم من مبادئ آية ومقاطعها، ومجارى ألفاظه ومواقعها، وفي مضرب كل مثلن ومساق كل خبر، وصرة كل عظة، وتنبيه واعلام، وترغيب وترهيب ومع كل حجة وبرهان، وصفة وبيان ... وبهرهم أن تأملوه سورة سورة، وعشرا عشرا، وآية آية، فلم يجدوا في الجميع كلمة ينبو بها مكانها، أو لفظة ينكرها شأنها، أو يرى أن غيرها أصلح هناك أو أشبه أو أحرى وأخلق، بل وجدوا اتساقا بهر العقول، وأعجز الجمهور، ونظاما والتئاما، واتقانا واحكاما، لم يدع في نفس بليغ منهم ولو حك بيافوخه السماء موضع طمع، حتى خرست الألسن أن تدعى وتقول، وخلدت القروم فلم تملك أن تصول" [31].

 

 

 

ويبسط عبد القاهر رأيه في الاعجاز البلاغي مبينا: أن اعجاز القرآن لا يعود إلى الألفاظ من حيث هي ألفاظ مجردة ومستدلا على ذلك بقوله: أن هذا الوصف - الاعجاز - ينبغي أن يكون وصفا قد تجدد بالقرآن، وأمرا لم يوجد في غيره، ولم يعرف قبل نزوله، وإذا كان كذلك فقد وجب أن يعلم انه لا يجوز أن يكون في الكلم المفردة، - التي هي أوضاع اللغة - قد حدث في حذاقة حروفها وأصواتها أوصاف لم تكن لتكون تلك الأوصاف فيها قبل نزول القرآن، وتكون قد اختصت في أنفسها بهيئات وصفات يسمعها السامعون عليها إذا كانت متلوة في القرآن، ولا يجدون لها تلك الهيئات والصفات خارج القرآن، ولا يجوز أن تكون في معاني الكلم المفردة التي هي لها بوضع اللغة، لأنه يؤدي إلى أن يكون قد تجدد في معنى الحمد والرب ومعنى العالمين والملك واليوم والدين وهكذا وصف لم يكن قبل نزول القرآن، وهذا ما لو كان ههنا شيء أبعد من المحال وأشفع لكان اياه" [32].

 

 

 

فالألفاظ المفردة سواء من حيث أصواتها أو من حيث معانيها لا تدخل في اعجاز القرآن البلاغي، لأن ذلك يؤدي إلى أن الألفاظ معجزة بأوضاعها اللغوية، وما يطوى فيها من أصواتها وزنة حركاتها وسكناتها، ولو صح ذلك لبطل اعجاز القرآن، وان هذا الاعجاز شيء تجدد بنزوله بعد أن كان معدوما، وحدث بعد أن كان مفقودا.

 

 

 

فالكلمة المفردة من حيث هي كلمة لا وزن لها في فصاحة أو في بلاغة يقول: وهل تجد أحدا يقول هذه الكلمة فصيحة إلا وهي يعتبر مكانها من النظم، وحسن ملاءمة معناها لمعاني جاراتها، وفضل مؤانستها لأخواتها. ويشرح رأيه في ذلك ثم يقول: قد اتضح اذن اتضاحًا لا يدع للشك مجالا، أن الألفاظ لا تتفاضل من حيث هي ألفاظ مجردة، ولا من حيث هي كلم مفردة، وأن الألفاظ تثبت لها الفضيلة وخلافها في ملاءمة معنى اللفظة لمعنى التي تليها، أو ما أشبه ذلك مما لا تعلق له بصريح اللفظ، ومما يشهد لذلك، أنك ترى الكلمة تروقك وتؤنسك في موضع ثم تراها بعينها تثقل عليك وتوحشك في موضع آخر" [33].

 

 

 

والأوصاف التي يوصف بها اللفظ تخبر عن أنفسها انها ليست له كقولهم: انه حلى المعنى، وأنه كالوشى عليه، وانه قد أكسب المعنى دلا وشكلا، وأنه رشيق أنيق، وأنه متمكن، وأنه على قدر المعنى لا فاضل ولا مقصر، إلى أشباه ذلك مما لا يشك أنه لا يكون وصفا له من حيث هو لفظ وصدى صوت" [34].

 

 

 

ومعنى ذلك أن هذه الصفات ليست صفات للألفاظ في أنفسها وانما هي صفات عارضة لها في التأليف والصياغة بسبب دقائق بلاغية لم تكن لها قبل سياقها الذي أخذته في صور نظمها. ويستدل عبد القاهر على أن الفصاحة لا ترجع إلى الألفاظ في ذاتها استدلالا منطقيا.

 

 

 

فيقول: لا تخلو الفصاحة من أن تكون صفة في اللفظ محسوسة تدرك بالسمع، أو تكون صفة فيه معقولة تعرف بالقلب، فمحال أن تكون صفة محسوسة، لأنه لو كانت كذلك لكان ينبغي أن يستوي السامعون للفظ الفصيح في العلم بكونه فصيحا، وإذا بطل أن تكون محسوسة وجب الحكم ضرورة بأنها صفة معقولة، وإذا وجب الحكم بكونها صفة معقولة، فانا لا نعرف للفظ صفة يكون طريق معرفتها العقل دون الحس إلا دلالته على معناه، وإذا كان كذلك لزم مه العلم بان وصفنا للفظ بالفصاحة وصف له من جهة معناه لا من جهة نفسه" [35].

 

 

 

وعبد القاهر لا يريد بالمعنى هنا مدلول اللفظ، وانما يريد المعنى الاضافي المستفاد من التركيب والناشئ عن الصياغة، أما دلالات الألفاظ فمثلها مثل الألفاظ نفسها لا تدخل في خصائص الكلام التي يعول عليها في الاعجاز.

 

 

 

يقول: اعلم أن الداء الدوي والذي أعيا أمره في هذا الباب غلظ من قدم الشعر بمعناه وأقل الاحتفال باللفظ، وجعل لا يعطيه من المزية أن هو أعطى إلا ما فضل عن المعنى، يقول ما في اللفظ لولا المعنى، وهل الكلام إلا بمعناه، فأنت تراه لا يقدم شعرا حتى يكون قد أودع حكمة وأدبا، واشتمل على تشبيه غريب ومعنى نادر، فان مال إلى اللفظ شيئا، ورأى أن ينحله بعض الفضيلة لم يعرف غير الاستعارة .... ثم يقول: واعلم أنك لست تنظر في كتاب صنف شأن البلاغة وكلام جاء عن القدماء إلا وجدته يدل على فساد هذا المذهب، ورأيتهم يتشددون في انكاره وعيبه والعيب به، وإذا نظرت في تب الجاحظ وجدته يبلغ في ذلك كل مبلغ، ويتشدد غاية التشدد، وقد انتهى في ذلك إلى أن جعل العلم بالمعاني مشتركا، وسوى فيه بين الخاصة والعامة - يقول: المعاني مطروحة في الطريق يعرفها العجمي والعربي والقروي والبدوي، وانما الشأن في اقامة الوزن، وتخير اللفظ، وسهولة المخرج، وصحة الطبع، وكثرة الماء، وجودة السبك، وانما الشعر صياغة وضرب من التصوير" [36].

 

 

 

وعبد القاهر بذلك ينكر أن يكون للمعاني مزية في البلاغة، كما أنكر ذلك بالقياس إلى الألفاظ من حيث هي ألفاظ مجردة، والمعول عليه في البلاغة انما هو النظم والأسلوب والصياغة.

 

 

 

ويذهب عبد القاهر إلى أن الصور البيانية من الكناية والاستعارة والتمثيل ليست أصلا في الاعجاز، لأنها تجري في آيات معدودة، ولأنها من صفات الفظ لا من صفات النظم.

 

 

 

يقول: اعلم أن الكلام الفصيح ينقسم قسمين: قسم تعزى المزية والحسن فيه إلى اللفظ، وقسم يعزي ذلك فيه إلى النظم، فالقسم الأول: الكناية والاستعارة والتمثيل الكائن على حد الاستعارة وكل ما كان فيه على الجملة مجاز واتساع وعدول باللفظ عن الظاهر" [37].

 

 

 

واذ يحد يحدد الجرجاني اعجاز القرآن بنظمه وتأليفه (*) فانه يتساءل قائلا: فان قيلك قولك إلا النظم يقتضي اخراج ما في القرآن من الاستعارة وضروب المجاز من جملة ما هو به معجز وذلك مالا مساغ له، قيل: ليس الأمر كما ظننت بل ذلك يقتضي دخول الاستعارة ونظائرها فيما هو به معجز، وذلك لأن هذه المعاني التي هي الاستعارة والكناية والتمثيل وسائر ضروب المجاز من بعدها من مقتضيات النظم وعنها يحدث وبها يكون، لأنه لا يتصور أن يدخل شيء منها في الكلم وهي أفراد لم يتوخ فيما بينها حكم من أحكام النحو" [38].

 

 

 

وعبد القاهر يتفق في ذلك مع الباقلاني إذ يقول: فأما الآية التي فيها ذكر التشبيه فان ادعى اعجازها لألفاظها ونظمها، فاني لا أدفع ذلك، وأصححه، ولكن لا أدعي اعجازها لموضع التشبيه" [39].

 

 

 

كما أن عذوبة الألفاظ وسلاستها لا تدخل في اثبات الاعجاز القرآني.

 

 

 

يقول: واعلم انا لا نأبى أن تكون حذافة الحروف وسلامتها مما يثقل على اللسان داخلا فيما يوجب الفضيلة، وأن تكون مما يؤكد أمر الاعجاز، وانما الذي ننكره ونفيل رأي من يذهب إليه، أن يجعله معجزا به وحده ويجعله الأصل والعمدة" [40].

 

 

 

وانما الأصل والعمدة في معرفة اعجاز القرآن هو ما استمل عليه نظمه من خصائص تطرد في جميع آياته وراء جمال اللفظ والمعنى.

 

 

 

ومدار أمر النظم على معاني النحو وعلى الوجوه والفروق التي من شأنها أن تكون فيه [41].

 

 

 

بهذا يعرف بعد القاهر النظم فيقول: أنه تعليق الكلام بعضها ببعض، وجعل بعضها بسبب من بعض، والكلام ثلاث: اسم وفعل وحرف، وللتعليق فيما بينها طرق معلومة، وهو لا يعدو ثلاثة أقسام: تعلق اسم باسم، وتعلق اسم بفعل، وتعلق حرف بهما، فالاسم يتعلق بالاسم بأن يكون خبرا عنه أو حالا منه أو تابعا له صفة أو تأكيدًا أو عطف بيان أو بدلا أو عطفا بحرف أو بأن يكون الأول مضافا إلى الثاني، أو بأن يكون الأول يعمل في الثاني عمل الفعل ويكون الثاني في حكم الفاعل له أو المفعول ... إلى أن يقول: ومختصر كل الأمر أنه لا يكون كلام من جزء واحد وأنه لابد من مسند ومسند إليه".

 

 

 

وكأن عبد القاهر يفسر ما قاله عبد الجبار آنفا في الوجه الذي تظهر به مزية الفصاحة: إذ يقول: اعلم أن الفصاحة لا تظهر في أفراد الكلام، وانما تظهر في الكلام بالضم على طريقة مخصوصة، ولابد مع الضم من أن يكون لكل كلمة صفة، وقد يجوز في هذه الصفة أن تكون بالمواضعة التي تتناول الضم، وقد تكون بالإعراب الذي له مدخل فيه، وقد تكون بالموقع، وليس لهذه الأقسام الثلاثة رابع، لأنه أما أن تعتبر فيه الكلمة أو حركاتها أو موقعها ولابد من هذا الاعتبار في كل كلمة، ثم لابد من اعتبار مثله في الكلمات إذا انضم بعضها إلى بعض، لأنه قد يكون لها عند الانضمام صفة، وكذلك لكيفية اعرابها وحركاتها وموضعها. فعلى هذا الوجه الذي ذكرناه انما تظهر مزية الفصاحة بهذه الوجوه دون ما عداها" [42].

 

 

 

ويشرح عبد القاهر قضية النظم فيفصل القول فيها بقوله: اعلم أن ليس النظم إلا أن تضع كلامك الوضع الذي يقتضيه علم النحو، وتعمل على قوانينه وأصوله، وتعرف مناهجه التي نهجت فلا تزيغ عنها، وتحفظ الرسوم التي رسمت لك فلا تخل بشيء منها، وذلك أنا لا نعلم شيئا يبتغيه الناظم بنظمه غير أن ينظر في وجوه كل باب وفروقه، فينظر في الخبر إلى الوجوه التي تراها في قولك: زيد منطلق، وزيد ينطلق، وينطلق زيد، ومنطلق زيد، وزيد المنطلق، والمنطلق زيد، وزيد هو المنطلق، وزيد هو منطلق.

 

 

 

وفي الشرط والجزاء إلى الوجوه التي تراها في قولك: أن تخرج أخرج، وان خرجت خرجت، وان تخرج فأنا خارج، وأنا خراج أن خرجت، وأنا أن خرجت خارج، وفي الحال إلى الوجوه التي تراها في قولك: جاءني زيد مسرعا، وجاءني وهو يسرع، وجاءني يسرع، وجاءني وهو مسرع، وجاءني قد أسرع، وجاءني يسرع، وجاءني وهو مسرع، وجاءني قد أسرع، وجاءني وقد اسرع، فيعرف لكل من ذلك موضعه، ويجئ به حيث ينبغي له. وينظر في الحروف التي تشترك في معنى، ثم ينفرد كل واحد منها بخصوصية في ذلك المعنى، فيضع كلا من ذلك في خاص معناه، نحو أن يجئ بما في نفي الحال، وبلا إذا أراد نفي الاستقبال، وبان فيما يترجح بين أن يكون أو لا يكون، وباذا ففيما علم أنه كائن.

 

 

 

وينظر في الجمل التي تسرد، فيعرف موضع الفصل فيها من موضع الوصل، ثم يعرف فيما حقه الوصل موضع الواو من موضع الفاء، وموضع الفاء من موضع ثم، وموضع أم من موضع أو، وموضع لكن من موضع بل، ويتصرف في التعريف والتنكير، والتقديم والتأخير في الكلام كله، وفي الحذف والتكرار، والاضمار والاظهار، فيضع كلا من ذلك في مكانه، ويستعمله على الصحة وعلى ما ينبغي له" [43].

 

 

 

ثم يقول: هذا هو السبيل، فلست بواجد شيئا يرجع صوابه أن كان صوابا، وخطؤه أن كان خطأ إلى النظم، ويدخل تحت هذا الاسم إلا وهو معنى من معاني الحو، قد أصيب به موضعه ووضع في حقه، أو عومل بخلال هذه المعاملة، فأزيل عن موضعه واستعمل في غير ما ينبغي له، فلا ترى كلاما قد وصف بصحة نظم أو فساده، أو وصف بمزية وفضل فيه إلا وأنت تجد مرجع تلك الصحة وذلك الفساد وتلك المزية وذلك الفضل إلى معاني النحو ووجدته يدخل في أصل من أصوله، ويتصل بباب من أبوابه" [44].

 

 

 

وبهذا وضع عبد القاهر أسس نظريته في المعاني الاضافية مفسرا (النظم) بأنه الخواص التركيبية للعبارات، أو هو صور الأداء النحوية للكلام، ومؤكدا أن التفسير الصحيح للإعجاز ينبغي أن يطلب في علاقات الكلام النحوية.

 

 

 

وعلاقات الكلام النحوية وان كان أمرا مقررا يلتزمه أصحاب اللغة والمتعاملون بها إلا أن وجوه نظمها ليس لها غاية تقف عندها، ونهاية لا تجد لها ازديادا بعدها، وبهذا يتأكد الاعجاز ويتقرر إذ خرج القرآن في طريقة نظمه وصوغه عن طوق البشر.

 

 

 

يقول عبد القاهر: واذ قد عرفت أن مدار أمر النظم على - معاني النحو وعلى الوجوه والفروق التي من شأنها أن تكون فيه، فاعلم أن الفروق والوجوه كثيرة ليس لها غاية تقف عندها ونهاية لا تجد لها ازديادا بعدها، ثم اعلم أن ليست المزية بواجبة لها في أنفسها ومن حيث هي على الاطلاق، ولكن تعرض بسبب المعاني والأغراض التي يوضع لها الكلام، ثم بحسب موقع بعضها من بعض، واستعمال بعضها مع بعض - تفسير هذا أنه ليس إذا راقك التنكير في "سؤدد" من قوله: تنقل في خلقي سؤدد" وفي "دهر" من قوله: فلو أذنبا "دهر" فانه يجب أن يروقك أبدا وفي كل شيء ... ثم يقول: وانما سبيل هذه المعاني سبيل الأصباغ التي تعمل منها الصور والنقوش فكما أنك ترى الرجل قد تهدي في الأصباغ التي عمل منها الصورة والنقش في ثوبه الذي نسج إلى ضرب من التخير والتدبر في أنفس الأصباغ وفي مواقعها ومقاديرها وكيفية مزجه لها، وترتيبه اياها إلى مالم يهتد إليه صاحبه، فجاء نقشه من أجل ذلك أعجب وصورته أغرب، كذلك حال الشاعر والشاعر في توخيمها معاني النحو ووجوهه التي علمت انها محصول النظم" [45].

 

 

 

ومع ايمان عبد القاهر بأن العقل يستطيع أن يصل إلى ادراك خفايا البلاغة ودقائقها في الصياغات المختلفة عن طريق العلاقات النحوية في التعبيرات، إلا أنه يرى أن الذوق ضروري لتمييز أصناف الكلام ومراتبه، ولمعرفة اعجاز القرآن وبلاغته.

 

 

 

يقول: اعلم أنه لا يصادف القول في هذا الباب موقعا من السامع ولا يجد لديه قبولا حتى يكون من أهل الذوق والمعرفة، وحتى يكون ممن تحدثه نفسه بأن لما يومئ إليه من الحسن واللطف أصلا، وحتى يختلف الحال عليه عند تأمل الكلام، فيجد الأريحية تارة، ويعرى منها أخرى، وإذا عجبته تعجب، وإذا نبهته لموضع المزية انتبه، فأما من كان الحالان والوجهان عنده أبدا على سواء، وكان لا يتفقد من أمر النظم إلا الصحة المطلقة والا اعرابا ظاهرا، فما أقل ما يجدي الكلام معه، وليكن من هذه صفته عندك بمنزلة من عدم الاحساس بوزن الشعر والذوق الذي يقيمه به، والطبع الذي يميز صحيحه من مكسوره، ومزاحفه من سالمه، وما خرج من البحر مما لا يخرج منه، في أنك لا تتصدى له، ولا تتكلف تعريفه، لعلمك أنه قد عدم الأداة التي بها يعرف" [46].

 

 

 

والتدرب بممارسة الأساليب الأدبية ونقدها، والبصر بخصائصها ومواطن الجمال أو القبح فيها، والملكة الأدبية، والقريحة النفاذة هي الأسس التي تقوم عليها معرفة أسرار النظم ودقائقه، ومن فقد شيئا من ذلك أعياه الفهم والادراك، وأعياك أن تنبهه لشيء من ذلك وتعرفه به، لأنه فقد الأسباب التي بها يعرف ويتنبه ويدرك ويفهم.

 

 

 

يقول عبد القاهر: انهم يروننا ندعي المزية والحسن لنظم كلام من غير أن يكون فيه من معاني النحو شيء يتصور أن يتفاضل الناس في العلم به، ويروننا لا نستطيع أن نضع اليد من معاني النحو ووجوهه على شيء نزعم أن من شأن هذا أن يوجب المزية لكل كلام يكون فيها، بل يروننا ندعي المزية لكل ما ندعيها له من معاني النحو ووجوهه وفروقه في موضع دون موضع، وفي كلام دون كلام، وفي الأقل دون الأكثر، وفي الواحد من الألف، فاذا رأوا الأمر كذلك دخلتهم الشبهة وقالوا: كيف يصير المعروف مجهولا، ومن أين يتصور أن يكون للشيء في كلام مزية عليه في كلام آخر بعد أن تكون حقيقته فيهما حقيقة واحدة؟

 

 

 

فاذا رأوا التنكير يكون فيما لا يحصى من المواضع، ثم لا يقتضي فضلا، ولا يوجب مزية أتهمونا في دعوانا ما ادعيناه لتنكير الحياة في قوله تعالى: ﴿ وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ ﴾ [البقرة : 179] من أن له حسنا ومزية وأن فيه بلاغة عجيبة، وظنوه وهما منا وتخيلا، ولسنا نستطيع في كشف الشبهة في هذا عنهم وتصوير الذي هو الحق عندهم ما استطعنا في نفس النظم، لأنا ملكنا في ذلك أن نطرهم إلى أن يعلموا صحة ما نقول، وليس الأمر في هذا كذلك، فليس الداء فيه بالهين ولا هو بحيث إذا رمت العلاج منه وجدت الامكان فيه مع كل أحد مسعفا ولاسعي منجحا، لأن المزايا التي تحتاج أن تعلمهم مكانها، وتصور لهم شأنها، أمور خفية، ومعان روحانية، انت لا تستطيع أن تنبه السامع لها، وتحدث له علما بها، حتى يكون مهيئا  لإدراكها، وتكون فيه طبيعة قابلة لها، ويكون له ذوق وقريحة، يجد لهما في نفسه احساسا بأن من شأن هذه الوجوه والفروق أن تعرض فيها المزية على الجملة، وممن إذا تصفح الكلام، وتدبر الشعر، فرق بين موقع شيء منها وشيء" [47].

 

 

 

وفي ثنايا الدلائل تحدث عبد القاهر حديث الخبير الحاذق عن نظريته في المعاني الاضافية: فبدأ بالتقديم والتأخير، ثم ثنى بالحذف، وتحدث عن أحوال الاسناد، ثم انتقل إلى الوصل والفصل بين الجمل، واشار إلى أضرب الخبر، وفصل القول في صور القصر، وتحث في مواضع من كتابه عن الصور البيانية من المجاز والاستعارة والكناية، ليؤكد أن جمالها لا يرجع إلى مدلولاتها وانما يرجع إلى المعاني الاضافية التي يلاحظها الحاذق البصير في تراكيب العبارات وصياغتها، وخصائص نظمها، وصور نسقها وسياقها.

 

 

 

وبهذا استطاع عبد القاهر أن يفسر نظرية النظم تفسيرا ردها فيه إلى المعاني الاضافية التي تلتمس في ترتيب الكلام، وهي معان ترجع إلى الاسناد وخصائصه المختلفة في المسند إليه والمسند، وفي متعلقات الفعل، وفي اضرب الخبر، وفي الوصل والفصل بين الجمل، وفي القصر، وفي الايجاز والاطناب، وهي المباحث التي ألف منها علماء البلاغة من بعد علم المعاني، وان سماها عبد القاهر في مقدمة كتابة "علم البيان" إذ يقول: أنك لا ترى علما هو أرسخ أصلا، وأبسق فرعا، وأحلى جنى، وأعذب وردا، وأكرم نتاجا، وأنور سراجا من علم البيان" [48].

 

 

 

جهود الزمخشري

في بيان الاعجاز البلاغي للقرآن

وهكذا تتابعت الدراسات البلاغية حول اعجاز القرآن، كل يحاول جهده، ويبذل وسعه، ويستنبئ ذوقه، تبهره الآية أو الآيات من كتاب الله عز وجل، فيعض لها بالدرس والتحليل، ليجلو ما فيها من جمال بلاغي، ويصور ما اشتملت عليه من اعجاز بياني.

 

 

 

آيات متفرقات تعرض في ثنايا الدراسات كشاهد على قاعدة مستنبطة، أو كمثال لرأي مستحدث، ولكن أحدا لم يحاول دراسة القرآن دراسة أدبية متكاملة يصور بها اعجازه، ويكشف أسراره البيانية، يبرز دقائق آيه ومراميها، ويستشف أسرارها في التعبير والأداء، وظلت الأجيال تنتظر من ينهض بهذا العمل الجليل حتى أنجم في مساء المعرفة نجم من نجومها.

 

 

 

ذلكم: هو الامام العلامة أبو القاسم محمود بن عمر الزمخشري ت 538هـ، وكأنما أعدته الأقدار لتلك المهمة الكبرى إذ استطاع أن يقدم في "كشافه" صورة رائعة لتفسير القرآن تفسيرا يكشف عن حقائق التنزيل ودقائقه، وغوامض أسراره ولطائفه، وأن يبرز من محاسن نكته وفقره، وغرائب تأليفه ونظمه، ما أدهش العقول، وحير الألباب.

 

 

 

تفسيرا بذ فيه الأوائل، وأعيى الأواخر، بما قدمه من تحليل رائع دقيق لآيات الكتاب آية آية، وكلمة كلمة، وحرفا حرفا، وبما طالعنا به من نظرات ثاقبه تكشف عن تآلف الآيات وتأخيها في فسقها المعجز البديع، حتى جاء كتابه فريدا في بابه، يشهد لصاحبه بالبراعة والابداع، صبغة من عكف على تدبر البيان القرآني، فاجتلى من باهر أسراره البيانية أسرارا تدق وتشف.

 

 

 

وطبعي أن ينهل الزمخشري من دراسات السابقين، ونظراتهم في الاعجاز، وتأملاتهم في القرآن، وان يطلع على ما كتبه علماء هذا الفن، لاسيما كتابات عبد القاهر الجرجاني التي قرأها فاستوعبها، ودرسها فوعاها، ولكنه يضيف إلى آراء من سبقوه ألوانا جديدة تدل على تعمقه وبعد غوره، ونفاذ بصيرته في تصوير الدلالات البلاغية للعبارات وخواصها في مفرداتها وتراكيبها، وآثاره في مباحث علمي المعاني والبيان تدل على حس دقيق، وذهن نافذ حصيف، وذوق مرهف أصيل، يعرف مواقع الكلام وتأثيره، وتفسيره البياني غني بنظرات نفسية، وذوقية جمالية رائعة.

 

 

 

وبحسبنا أن نشير هنا إلى ما أورده ابن خلدون عند حديثه عن علم البيان مصورا جهود الزمخشري في تأسيس تفسيره على قواعد هذا العلم، ومشيدا بدوره في تجليه الاعجاز البلاغي للقرآن إذ يقول: واعلم أن ثمرة هذا الفن انما هي في فهم الاعجاز من القرآن، لأن اعجازه في وفاء الدلالة منه بجميع مقتضيات الأحوال منطوقة ومفهومة، وهي أعلى مراتب الكلام، مع الكمال فيما يختص بالألفاظ في انتقائها وجودة رصفها وتركيبها. وهذا هو الاعجاز الذي تقصر الأفهام عن ادراكه، وانما يدرك بعض الشيء منه من كان له ذوق بمخالطة اللسان العربي وحصول ملكته، فيدرك من اعجازه على قدر ذوقه ... وأحوج ما يكون إلى هذا الفن المفسرون. وأكثر تفاسير المتقدمين غفل عنه حتى ظهر جار الله الزمخشري ووضع كتابه في التفسير وتتبع آي القرآن بأحكام هذا الفن بما يبدي البعض من اعجازه، فانفرد بهذا الفضل على جميع التفاسير، لولا أنه يؤيد عقائد أهل البدع عند اقتباسها من القرآن بوجوه البلاغة، ولأجل هذا يتحاماه كثير من أهل السنة مع وفور بضاعته من البلاغة.

 

 

 

وابن خلدون يرى ضرورة النظر في هذا الكتاب لمعرفة وجه الاعجاز إذ يقول: فمن أحكم عقائد السنة وشارك في هذا الفن بعض المشاركة حتى يقتدر على الرد عليه من جنس كلامه، أو يعلم أنه بدعة فيعرض عنها ولا تضر في معتقده، فأنه يتعين عليه النظر في هذا الكتاب للظفر بشيء من الاعجاز" [49].

 

 

 

وبين أن الزمخشري يرى إعجاز القرآن من جهتين: من جهة نظمه الذي أعجز الخلق قاطبة وفي ذلك يقول: النظم ... هو أم اعجاز القرآن، والقانون الذي وقع عليه التحدي، ومراعاته أهم ما يجب على المفسر" [50] وفي تفسيره لقوله تعالى ﴿ وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ ﴾ [البقرة : 23] يقول: معناه فأتوا بسورة مما هو على صفته في البيان الغريب وعلو الطبقة في حسن النظم" [51].

 

 

 

ومقدمة تفسيره حافلة بالإشادة ببلاغة القرآن واعجازه وعجز العرب عن معارضته.

 

 

 

استمع إليه إذ يقول: الحمد لله الذي أنزل القرآن كلاما مؤلفا منظما ... معجزا باقيا دون كل معجز على وجه كل زمان، دائرا من بين سائر الكتب على كل لسان في كل مكان. أفحم به من طولب بمعارضته من العرب العرباء، وأبكم به من تحدى به من مصاقع الخطيب الممتاز الخطباء، فلم يتصد للإتيان بما يوازيه أو يدانيه واحد من فصحائهم ولم ينهض لمقدار أقصر سورة منه ناهض من بلغائهم، على انهم كانوا أكثر من حصى البطحاء، وأوفر عددا من رمال الدهناء، ولم ينبض منهم عرق العصبية مع اشتهارهم بالإفراط في المضادة والمضارة، والقائهم الشراشر على المعازة والمعارة، ولقائهم دون المناضلة عن أحسابهم الخطط، وركوبهم في ما يرومونه الشطط أن أتاهم أحد بمعجزة أتوه بمفاخر وان رماهم بمأثرة رموه بمآثر، وقد جرد لهم الحجة أولا والسيف آخرا، فلم يعارضوا إلا السيف وحده على أن السيف القاضب مخراق لاعب أن لم تمض الحجة حده، فما أعرضوا عن معارضة الحجة إلا لعلمهم أن البحر قد زخر فطم على الكواكب، وان الشمس قد أشرقت فطمست نور الكواكب".

 

 

 

وبهذا يخالف الزمخشري النظام ومن تابعه من المعتزلة في القول بالصرفة وان اعجاز القرآن من جهة صرف الدواعي عن المعارضة ومنع العرب عن الاهتمام به جبرا وتعجيزا حتى لو خلاهم لكانوا قادرين على أن يأتوا بسورة م مثله بلاغة وفصاحة ونظما" [52] إذ يقول عند تفسيره لقوله تعالى: ﴿ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا ... ﴾ [الأنفال : 31] نفاجة - تكبر - منهم وصلف تحت الراعدة - السحابة - وهذا مثل يضرب للرجل يتوعد ثم لا يقوم به - فانهم لم يتوانوا في مشيئتهم لو ساعدتهم الاستطاعة، والا فما منعهم أن كانوا مستطيعين أن يشاؤوا غلبة من تحداهم وقرعهم بالعجز حتى يفوزوا بالقدح المعلي دونه مع فرط أنفتهم واستنكافهم أن يغلبوا في باب البيان خاصة، وان يماتنهم أحد فيتعللوا بامتناع المشيئة، ومع ما علم وظهر ظهور الشمس من حرصهم على يقهروا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتهالكهم على أن يغمزوه" [53].

 

 

 

وفي تفسير قوله تعالى: ﴿ أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ ﴾ [التوبة : 13] يقول: أي وهم الذين كنت منهم البداءة بالمقاتلة، لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جاءهم أولا بالكتاب المنير وتحداهم به فعدلوا عن المعارضة لعجزهم عنها إلى القتال فهم البادئون بالقتال" [54].

 

 

 

الوجه الثاني من وجوه اعجازه: ما فيه من الاخبار بالغيوب التي لا يعلمها إلا الله.

 

 

 

وفي ذلك يقول في تفسيره لقوله تعالى: ﴿ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ ﴾ [يونس : 38 - 39] - أم يقولون افتراه - بل أيقولون أختلقه، قل أن كان الأمر كما تزعمون فأتوا أننتم على وجه الافتراء بسورة مثله فأنتم مثلي في العربية والفصاحة. ومعنى ﴿ بِسُورَةٍ مِثْلِهِ ﴾ أي شبيهة به في البلاغة وحسن النظم. وفي قوله تعالى: ﴿ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ ﴾ جاء بكلمة التوقع ليؤذن انهم علموا بعد علو شأنه واعجازه لما كرر عليهم التحدي ورازوا قواهم في المعارضة، واستيقنوا عجزهم عن مثله، فكذبوا به بغيا وحسدا، ويجوز أن يكون معنى ولما يأتهم تأويله - ولم يأتهم بعد تأويل ما فيه من الاخبار بالغيوب - أي - عاقبته حتى يتبين لهم أهو كذب أم صدق - يعني أنه كتاب معجز من جهتين: من جهة اعجاز نظمه، ومن جهة ما فيه من الاخبار بالغيوب، فتسرعوا إلى التكذيب به قبل أن ينظروا في نظمه وبلوغه حد الاعجاز، وقبل أن يخبروا اخباره بالمغيبات وصدقه وكذبه" [55].

 

 

 

والتفسير هو بيان الوجه البلاغي المعجز من كل تركيب قرآني، واحتمالات المعاني تتفاوت قوة وضعفا حسبما تتلاقى من السر البلاغي المتمثل في التركيب أو تتجافى عنه. وانما يستطيع ذلك من كان له حس مرهف وعقل ثاقب وبصيرة نافذة ومعرفة تامة بعلمي المعاني والبيان.

 

 

 

يوقل الزمخشري وكأنما يريد نفسه:

 

أن أملأ العلوم بما يغمر القرائح، وأنهضها بما يبهر الألباب القوارح من غرائب نكت يلطف مسلكها ومستودعات أسرار يدق سلكها، علم التفسير الذي لا يتم لتعاطيه واجالة النظر فيه كل ذي علم كما ذكر الجاحظ في كتاب "نظم القرآن" فالقيه وان برز على الأقران في علم الفتوى والأحكام، والمتكلم وان بز أهل في صناعة الكلام، وحافظ القصص والأخبار وان كان من ابن القرية أحفظ، والواعظ وان كان من الحسن البصري أوعظ، والنحوي وان كان أنحى من سيبويه، واللغوي وان علك اللغات بقوة لحييه. لا يتصدى منهم أحد لسلوك تلك الطرائق، ولا يغوص على شيء من تلك الحقائق إلا رجل قد برع في علمين مختصين بالقرآن وهما علم المعاني وعلم البيان، وتمهل في ارتيادهما آونة، وتعب في التنقير عنهما أزمنة، وبعثته على تتبع مظانهما همة في معرفة لطائف حجة الله، وحرص على استيضاح معجزة رسول الله، بعد أن يكون آخذا من سائر العلوم بحظ، جامعا بين أمرين تحقيق وحفظ، كثير المطالعات، طويل المراجعات، قد رجع زمانا ورجع إليه، ورد ورد عليه، فارسا في علم الإعراب، مقدما في حملة الكتاب، وكان مع ذلك مسترسل الطبيعة منقادها، مشتعل القريحة وقادها، يقظان النفس دراكا للمحة وان لطف شأنها، منتبها على الرمزة وان خفى مكانها، لاكزا جاسيا ولا غليظا جافيا، متصرفا ذا دراية بأساليب النظم والنثر، مرتاضا غير ريض بتلقيح بنات الفكر، قد علم كيف يرتب الكلام ويؤلف وكيف ينظم ويرصفن طالما دفع إلى مضايقه ووقع في مداحضه ومزالقه" [56].

 

 

 

وكان الزمخشري هذا الرجل، فكشافه تصوير رائع لبلاغة القرآن المعجزة. وجدير بالذكر أن الزمخشري هو أول من ميز بين علمي المعاني واليان، فجعل لكل منهم مباحثه الخاصة وميدانه المستقل.

 

 

 

وفيما يلي محاولة لاستعراض جوانب عمله في تطبيق قواعد هذين العلمين على آيات الكتاب الكريم استجلاء لوجوه اعجازه، وسنرى كيف حلل المفردات والتراكيب فأبرز حسنها وجلى جمالها حتى كاد ألا يترك أداة دون الوقوف عندها يبين خصائصا ويكشف دقائقها.

 

 

 

أنظر إليه في تحليله لأداة النداء من قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [البقرة : 21] إذ يقول و "يا" حرف وضع في أصله لنداء البعيد، صوت يهتف به الرجل بمن يناديه، وأما نداء القريب فله أي والهمزة - ثم استعمل في مناداة من سها وغفل وان قرب تنزيلا له منزلة من بعد، فاذا نودي به القريب المفاطن فذلك للتأكيد المؤذن بأن الخطاب الذي يتلوه معنى به جدا فان قلت: فما بال الداعي يقول في جؤاره: يا رب، ويا الله وهو أقرب إليه من حبل الوريد وأسمع به وأبصر؟ قلت: هو استقصار منه لنفسه، واستبعاد لها من مظان الزلفى وما يقر به إلى رضوان الله ومنازل المقربين هضما لنفسه واقرارا عليها بالتفريط في جنب الله، مع فرط التهالك على استجابة دعوته والاذن لندائه وابتهاله و "أي" وصلة إلى نداء ما فيه الألف واللام ... وهو اسم مبهم مفتقر إلى ما يوضحه ويزيل ابهامه فلابد أن يردفه اسم جنس أو ما يجري مجراه يتصف به حتى يتضح المقصود بالنداء، فالذي يعمل فيه حرف النداء هو "أي"، والاسم التابع له صفته، كقولك: يا زيد الظريف، إلا أن "أيا" لا يستقل بنفسه استقلال زيد فلم ينفك من الصفة.

 

 

 

وفي هذا التدرج من الابهام إلى التوضيح ضرب من التأكيد والتشديد. وكلمة التنبيه المقحمة بين الصفة وموصوفها لفائدتين: معاضدة حرف النداء ومكانفته بتأكيد معناه ووقوعها عوضا مما يستحقه أي من الاضافة - فان قلت: لم كثر في كتاب الله تعالى النداء على هذه الطريقة مالم يكثر في غيره؟

 

 

 

قلت: لاستقلاله بأوجه من التأكيد وأسباب من المبالغة، لأن كل ما نادى الله له عباده من أوامره ونواهيه، وعظاته وزواجره ووعده ووعيده، واقتصاص أخبار الأمم الدارجة عليهم وغير ذلك مما أنطق به كتابه - أمرو عظام وخطوب جسام، ومعان عليهم أن يتيقظوا لها، ويميلوا بقلوبهم وبصائرهم إليها، وهم عنها غافلون فاقتضت الحال أن ينادوا بالآكد الأبلغ".

 

 

[*] الفراء - هو أبو زكريا يحيى بن زياد بن عبد الله بن منظور الديلمي - وفي أنساب السمعاني: لقب بالفراء، لأنه كان يفري الكلام - ولد بالكوفة سنة 144هـ - وكان زعيم الكوفيين بعد الكسائي - وفي تاريخ بغداد: وكان يقال: النحو الفراء، والفراء أمير المؤمنين في النحو ت 207هـ وفي الأنساب 209هـ.

 

[1] معانى القرآن للفراء ص 14 - وقد استفاد الزمخشري كثيرا من تحليلات الفراء - انظر على سبيل المثال - حديث الزمخشري عن المجاز العقلي - وما ذكره في هذه الآية فيما يلي من هذا الباب.

 

[2] الإيمان لابن تيمية ص 35.

 

[3] معجم الأدباء - 19/ 158، 159.

 

[4] مجاز القرآن - 1/ 18.

 

[5] مجاز القرآن - 2/ 110.

 

[6] الحيوان للجاحظ - 2/ 134.

 

[7] البيان والتبيين - 1/ 139.

 

[8] البيان والتبيين - 1/ 114.

 

[9] انظر د الجاحظ على من طعن في التشبيه برءوس الشياطين من قوله تعالى: طلعها كأنه رءوس الشياطين - الحيوان - 6/ 211: 213.

 

[10] الحيوان - 5/ 25 : 28

 

[11] الحيوان - 1/ 153.

 

[12] الحيوان - 4/ 90.

 

[13] الحيوان - 4/ 90.

 

[14] رسائل الجاحظ ص 148.

 

[15] الانتصار للخياط ص 154.

 

[16] الحيوان - 3/ 86.

 

[17] البيان والتبيين - 1/ 383.

 

[18] ثلاث رسائل في اعجاز القرآن - انظر ص 67 وما بعدها.

 

[19] ثلاث رسائل في اعجاز القرآن ص 34.

 

[20] نفس المرجع ص 33.

 

[21] المرجع السابق ص 64.

 

[22] البيان والتبيين - 1/ 383.

 

[23] الاعجاز على هامش الاتقان للسيوطي من ص 143 - 151.

 

[24] المرجع السابق - 2/ 169.

 

[25] المرجع السابق - 2/ 171.

 

[26] المرجع السابق - 2/ 48 - 49.

 

[27] المرجع السابق 2/ 74 - 75.

 

[28] المغنى 16/ 199.

 

[29] المغني 16/ 200 - 201.

 

[30] دلائل الاعجاز ص 5.

 

[31] المرجع السابق ص 32.

 

[32] نفس المرجع ص 271.

 

[33] نفس المرجع ص 38 - 39.

 

[34] نفس المرجع ص 255 - 256.

 

[35] نفس المرجع ص 284.

 

[36] نفس المرجع من 177 - 180 * نفس المرجع ص 301.

 

[37] نفس المرجع ص 300.

 

[38] نفس المرجع ص 301.

 

[39] اعجاز القرآن على هامش الاتقان للسيوطي جـ 2/ 171.

 

[40] دلائل الاعجاز ص 364.

 

[41] نفس المرجع ص 69.

 

[42] المغنى في أبواب التوحيد والعدل 16/ 199.

 

[43] دلائل الاعجاز ص 63.

 

[44] نفس المرجع ص 65.

 

[45] نفس المرجع ص 69 - 70.

 

[46] نفس المرجع ص 206.

 

[47] دلائل الاعجاز ص 419 - 420.

 

[48] المرجع السابق ص 4.

 

[49] مقدمة ابن خلدون ص 490.

 

[50] الكشاف 3/ 49.

 

[51] الكشاف 1/ 74 الآية 23 من سورة البقرة.

 

[52] الملل والنحل 1/ 58.

 

[53] الكشاف 2/ 169 الآية 31 من سورة الانفال.

 

[54] الكشاف 2/ 197.

 

[55] الكشاف 2/ 273.

 

[56] مقدمة الكشاف.

  • الاثنين AM 03:41
    2021-03-29
  • 2342
Powered by: GateGold