المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 412292
يتصفح الموقع حاليا : 337

البحث

البحث

عرض المادة

الزعم أن أبا بكر وعمر - رضي الله عنهما - اغتصبا الخلافة اغتصابا

                    الزعم أن أبا بكر وعمر - رضي الله عنهما - اغتصبا الخلافة اغتصابا (*)

مضمون الشبهة:

يزعم بعض المغرضين أن أبا بكر وعمر لم يتوليا الخلافة عن استحقاق شرعي؛ وإنما اغتصباها اغتصابا. ويرمون من وراء ذلك إلى إظهار هذه النماذج الفاضلة في صورة هزلية منفرة؛ بغية تجريد المسلمين من المثل الأعلى، والنموذج القدوة.

وجوه إبطال الشبهة:

1) لم يتول أبو بكر وعمر - رضي الله عنهما - الخلافة إلا بطريقة شرعية وعلى أساس من الشورى وإجماع أغلبية الصحابة - رضي الله عنه - ورضاهم، فضلا عما كانا يتمتعان به من مؤهلات القيادة التي جعلتهما الأكثر أهلية بهذا التكليف كل في عهده.

2) ما كان لأي من أبي بكر أو عمر - رضي الله عنهما - أن يحرص على تولي الخلافة فضلا عن أن يغتصباها، وهما اللذان كانا زاهدين فيها يخشيان تبعاتها.

3) إن القول باغتصاب أبي بكر وعمر - رضي الله عنهما - الخلافة؛ يقتضي وجود مغتصب منه كان أهلا لها وأحق بها منهما، وهنا نتساءل من هذا المرشح المزعوم؟! ثم إن القول بامتناع الصحابيين سعد وعلي - رضي الله عنهما - عن المبايعة أو مجرد تأخرهما ليس من الصحة في شيء، والروايات الواردة على لسانهما شاهد على ذلك.

التفصيل:

أولا. نصيب تولية أبي بكر وعمر الخلافة من الشورى والإجماع ومؤهلاتهما القيادية:

وعن طريقة تولي أبي بكر الخلافة يقول د. علي الصلابي: "لما علم الصحابة - رضي الله عنهم - بوفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، اجتمع الأنصار في سقيفة بني ساعدة في اليوم نفسه - وهو يوم الاثنين، الثاني عشر من شهر ربيع الأول من السنة الحادية عشرة للهجرة - وتداولوا الأمر بينهم في اختيار من يلي الخلافة من بعده صلى الله عليه وسلم.

والتف الأنصار حول زعيم الخزرج سعد بن عبادة رضي الله عنه، ولما علم المهاجرون خبر اجتماع الأنصار في سقيفة بني ساعدة قالوا لبعضهم: انطلقوا بنا إلى إخواننا من الأنصار، فإن لهم في هذا الحق نصيبا، قال عمر رضي الله عنه: «فانطلقنا نريدهم، فلما دنونا منهم لقينا منهم رجلان صالحان، فذكرا ما تمالأ عليه القوم. فقالا: أين تريدون يا معشر المهاجرين؟ قلنا: نريد إخواننا هؤلاء من الأنصار، فقالا: لا عليكم أن لا تقربوهم، اقضوا أمركم. فقلت: والله لنأتينهم، فانطلقنا حتى أتيناهم في سقيفة بني ساعدة، فإذا رجل مزمل بين ظهرانيهم، فقلت: من هذا؟ فقالوا: هذا سعد بن عبادة، فقلت: ماله؟ قالوا: يوعك، فلما جلسنا قليلا تشهد خطيبهم فأثنى على الله بما هو أهله، ثم قال: أما بعد فنحن أنصار الله وكتيبة الإسلام، وأنتم - معشر المهاجرين - رهط، وقد دفت دافة من قومكم[1]، فإذا هم يريدون أن يختزلونا من أصلنا وأن يحضنونا من الأمر[2]، فلما سكت أردت أن أتكلم - وكنت قد زورت[3] مقالة أعجبتني أريد أن أقدمها بين يدي أبي بكر - وكنت أداري منه بعض الحد، فلما أردت أن أتكلم قال أبو بكر: على رسلك. فكرهت أن أغضبه، فتكلم أبو بكر، فكان هو أحلم مني وأوقر، والله ما ترك من كلمة أعجبتني في تزويري إلا قال في بديهته مثلها أو أفضل منها حتى سكت، فقال: ما ذكرتم فيكم من خير فأنتم له أهل، ولن يعرف هذا الأمر إلا لهذا الحي من قريش، هم أوسط العرب نسبا ودارا. وقد رضيت لكم أحد هذين الرجلين فبايعوا أيهما شئتم، فأخذ بيدي ويد أبي عبيدة بن الجراح وهو جالس بيننا، فلم أكره مما قال غيرها، والله أن أقدم فتضرب عنقي - لا يقربني ذلك من إثم - أحب إلى من أن أتأمر على قوم فيهم أبو بكر، اللهم إلا أن تسول إلى نفسي عند الموت شيئا لا أجده الآن.

فقال قائل من الأنصار: أنا جذيلها المحكك، وعذيقها المرجب[4]، منا أمير ومنكم أمير يا معشر قريش، فكثر اللغط، وارتفعت الأصوات، حتى فرقت من الاختلاف؛ فقلت: ابسط يدك يا أبا بكر، فبسط يده، فبايعته، وبايعه المهاجرون ثم بايعته الأنصار»[5].

وفي رواية أحمد: «فتكلم أبو بكر - رضي الله عنه - فلم يترك شيئا أنزل في الأنصار ولا ذكره رسول الله - صلى الله عليه والسلام - من شأنهم إلا وذكره، وقال رضي الله عنه: ولقد علمتم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: "لو سلك الناس واديا وسلكت الأنصار واديا؛ سلكت وادي الأنصار"، ولقد علمت يا سعد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال وأنت قاعد: قريش ولاة هذا الأمر، فبر الناس تبع لبرهم، وفاجر الناس تبع لفاجرهم، قال: فقال له سعد: صدقت، نحن الوزراء وأنتم الأمراء»[6] [7].

وقال أبو بكر الباقلاني في معرض ذكره للإجماع على خلافة الصديق رضي الله عنه: وكان - رضي الله عنه - مفروض الطاعة؛ لإجماع المسلمين على طاعته وإمامته وانقيادهم له، حتى قال أمير المؤمنين على - رضي الله عنه - مجيبا لقول أبي بكر - رضي الله عنه - لما قال: أقيلوني فلست بخيركم -: لا نقيلك ولا نستقيلك، قدمك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لديننا، ألا نرضاك لدنيانا - يعني بذلك حين قدمه للإمامة في الصلاة مع حضوره واستنابته في إمارة الحج - فأمرك علينا. وكان - رضي الله عنه - أفضل الأمة، وأرجحهم إيمانا، وأكملهم فهما، وأوفرهم علما [8].

ومثلما كان تولي أبي بكر للخلافة مبنيا على الشورى والإجماع، كان تولي عمر بن الخطاب أيضا؛ يقول د. علي الصلابي: "فلما اشتد المرض بأبي بكر؛ جمع الناس إليه، فقال: إنه قد نزل بي ما قد ترون، ولا أظنني إلا ميتا لما بي، وقد أطلق الله أيمانكم من بيعتي، وحل عنكم عقدتي، ورد عليكم أمركم فأمروا عليكم من أحببتم؛ فإنكم إن أمرتم في حياتي كان أجدر أن لا تختلفوا بعدي. وتشاور الصحابة رضي الله عنهم، وكل يحاول أن يدفع الأمر عن نفسه ويطلبه لأخيه؛ إذ يرى فيه الصلاح والأهلية، لذا رجعوا إليه، فقالوا: رأينا يا خليفة رسول الله رأيك، قال: فأمهلوني حتى أنظر لله ولدينه ولعباده، فدعا أبو بكر عبد الرحمن بن عوف، فقال له: أخبرني عن عمر بن الخطاب، فقال له: ما تسألني عن أمر إلا وأنت أعلم به مني.

فقال أبو بكر: وإن، فقال عبد الرحمن: هو والله أفضل من رأيك فيه، ثم دعا عثمان بن عفان، فقال: أخبرني عن عمر بن الخطاب. فقال: أنت أخبر به، فقال: على ذلك يا أبا عبد الله، فقال عثمان: اللهم علمي به أن سريرته خير من علانيته، وأنه ليس فينا مثله. فقال أبو بكر: يرحمك الله، والله لو تركته ما عدتك. ثم دعا أسيد بن حضير فقال له مثل ذلك، فقال أسيد: اللهم أعلمه الخيرة بعدك، يرضى للرضا، ويسخط للسخط، والذي يسر خير من الذي يعلن، ولن يلي هذا الأمر أحد أقوى عليه منه.

وقد استشار أبو بكر - كذلك - سعيد بن زيد وعددا من الأنصار والمهاجرين، وكلهم تقريبا كانوا على رأي واحد في عمر إلا طلحة بن عبيد الله الذي خاف من شدته؛ فقال لأبي بكر: ما أنت قائل لربك إذا سألك عن استخلافك عمر علينا وقد ترى غلظته؟ فقال أبو بكر: أجلسوني، أبالله تخوفونني؟ خاب من تزود من أمركم بظلم، أقول: اللهم استخلفت عليهم خير أهلك. ثم بين لهم سبب غلظة عمر فقال: ذلك لأنه يراني رقيقا ولو أفضى الأمر إليه لترك كثيرا مما عليه. ثم كتب عهدا مكتوبا يقرأ على الناس في المدينة وفي الأمصار عن طريق أمراء الأجناد.

وكان نص العهد الذي كتبه رضي الله عنه: بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما عهد أبو بكر بن أبي قحافة في آخر عهده بالدنيا خارجا منها، وعند أول عهده بالآخرة داخلا فيها، حيث يؤمن الكافر، ويوقن الفاجر، ويصدق الكاذب، إني لم آل الله ورسوله ودينه ونفسي وإياكم خيرا، وإني قد استخلفت عليكم عمر بن الخطاب، فإن عدل فذلك ظني به وعلمي فيه، وإن بدل فلكل امرئ ما اكتسب، والخير أردت ولا أعلم الغيب: )وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون (227)(

 (الشعراء: 227) [9].

والواقع أن ترشيح أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - لعمر بن الخطاب لم يكن ليأخذ قوته الشرعية، ما لم يستند لرضا الغالبية بعمر، وهذا ما تحقق حين طلب أبو بكر من الناس أن يبحثوا لأنفسهم عن خليفة من بعده، فوضعوا الأمر بين يديه، وقالوا له: رأينا إنما هو رأيك، ثم إن أبا بكر لم يقرر الترشيح إلا بعد أن استشار أعيان الصحابة، فسأل كل واحد على انفراد، ولما ترجح لديه اتفاقهم أعلن ترشيحه لعمر، فكان ترشيح أبي بكر صادرا عن استقراء لآراء الأمة من خلال أعيانها، على أن هذا الترشيح لا يأخذ قوته الشرعية إلا بقبول الأمة به، ذلك أن اختيار الحاكم حق للأمة، والخليفة يتصرف بالوكالة عن الأمة، ولا بد من رضا الطرف الأصيل، ولهذا توجه أبو بكر إلى الأمة: أترضون بمن أستخلف عليكم؟ فإني والله ما آلوت من جهدي الرأي ولا وليت ذا قرابة، وإني قد استخلفت عمر بن الخطاب، فاسمعوا له وأطيعوا، فقالوا: سمعنا وأطعنا. وفي قول أبي بكر: أترضون بمن أستخلف عليكم؟ إشعار بأن الأمر للأمة وأنها صاحبة العلاقة والاختصاص.

نخلص من هذا كله إلى أن عمر - رضي الله عنه - ولي الخلافة باتفاق أهل الحل والعقد وإرادتهم، فهم الذين فوضوا أبا بكر في انتخاب الخليفة، وجعلوه نائبا عنهم في ذلك، فشاور ثم عين الخليفة، ثم عرض هذا التعيين على الناس فأقروه، وأمضوه ووافقوا عليه، وأصحاب الحل والعقد في الأمة هم النواب الطبيعيون عن هذه الأمة؛ ومن ثم لم يكن استخلاف عمر - رضي الله عنه - إلا على أصح أساليب الشورى وأعدلها، وإن كانت الإجراءات المتبعة فيها غير الإجراءات المتبعة في تولية أبي بكر نفسه.

وهكذا تم عقد الخلافة لعمر - رضي الله عنه - بالشورى والاتفاق، ولم يورد التاريخ أي خلاف وقع حول خلافته بعد ذلك، ولا أن أحدا نهض طول عهده لينازعه الأمر؛ بل كان هناك إجماع على خلافته وعلى طاعته في أثناء حكمه، فكان الجميع وحدة واحدة[10].

هذا "وقد نقل إجماع أغلب الصحابة - رضي الله عنهم - ومن بعدهم على خلافة عمر - رضي الله عنه - طائفة من أهل العلم الذين يعتمد عليهم في النقل؛ ومن ذلك ما يأتي:

  • عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: «دخلت على عمر حين طعن. فقلت: أبشر بالجنة يا أمير المؤمنين، أسلمت حين كفر الناس، وجاهدت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين خذله الناس، وقبض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو عنك راض، ولم يختلف في خلافتك اثنان، وقتلت شهيدا. فقال: أعد علي، فأعدت عليه فقال: والله الذي لا إله غيره لو أن لي ما في الأرض من صفراء وبيضاء لافتديت به من هول المطلع»[11].
  • وقال أبو نعيم الأصبهاني (ت430هـ): لما علم الصديق - رضي الله عنه - من فضل عمر - رضي الله عنه - ونصيحته وقوته على ما يقلده، وما كان يعينه عليه في أيامه من المعونة التامة لم يكن يسعه في ذات الله ونصيحته لعباد الله تعالى أن يعدل بهذا الأمر عنه إلى غيره، ولما كان يعلم من شأن الصحابة - رضي الله عنهم - أنهم يعرفون منه ما عرفه، ولا يشكل عليهم شيء من أمره، فوض إليهم ذلك، فرضي المسلمون ذلك وسلموه، ولو خالطهم في أمره ارتياب أو شبهة لأنكروه، ولم يتبعوه كاتباعهم أبا بكر - رضي الله عنه - فيما فرض الله عليه الاجتماع، وأن إمامته وخلافته ثبتت على الوجه الذي ثبت للصديق رضي الله عنه؛ وإنما كان الدليل لهم على الأفضل والأكمل، فتبعوه على ذلك مستسلمين له راضين به.
  • وقال النووي (ت676هـ): أجمعوا على اختيار أبي بكر، وعلى تنفيذ عهده إلى عمر.
  • قال ابن تيمية (ت728هـ): وأما عمر فإن أبا بكر عهد إليه، وبايعه المسلمون بعد موت أبي بكر فصار إماما لما حصلت له القدرة والسلطان بمبايعتهم.

ومن جملة الأقوال سالفة الذكر عن أولئك الأعلام يتضح أن خلافة عمر - رضي الله عنه - تمت بإجماع أغلب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ إذ تلقوا عهد أبي بكر - رضي الله عنه - بالخلافة لعمر بالقبول والتسليم؛ ولم يعارض في ذلك أحد، وكذا أجمعت الفرقة الناجية - أهل السنة والجماعة - على ما أجمع عليه أصحاب رسول الله[12].

هكذا كانت بيعة أبي بكر، واستخلاف عمر، فهل يوصف هذا الذي حدث في الحالتين بأنه اغتصاب، أم أنه أجلى صور الشورى والاختيار الحر الممكن في ذلك الوقت؟!

هذا من جانب، ومن جانب آخر فإن كلا الشيخين كان على أهلية شرعية كاملة لتولي الخلافة، وفضلهما معروف غير منكور عند الكافة، ولقد كان أبو بكر وعمر يتمتعان بكل مؤهلات القيادة، بحيث يصلح كل منهما لتولي أمور المسلمين؛ أما أبو بكر فقد قال لسعد بن عبادة في اجتماع السقيفة: «ولقد علمت يا سعد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال وأنت قاعد: قريش ولاة هذا الأمر، فبر الناس تبع لبرهم، وفاجر الناس تبع لفاجرهم. فقال سعد: صدقت، نحن الوزراء وأنتم الأمراء»[13].

يقول د. الصلابي: "فقد بين الصديق في خطابه أن من مؤهلات القوم الذين يرشحون للخلافة أن يكونوا ممن يدين لهم العرب بالسيادة وتستقر بهم الأمور، حتى لا تحدث الفتن فيما إذا تولى غيرهم، وأبان أن العرب لا يعترفون بالسيادة إلا للمسلمين من قريش؛ لكون النبي - صلى الله عليه وسلم - منهم، ولما استقر في أذهان العرب من تعظيمهم واحترامهم. وبهذه الكلمات النيرة التي قالها الصديق اقتنع الأنصار بأن يكونوا وزراء معينين وجنودا مخلصين، كما كانوا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وبذلك توحد صف المسلمين"[14].

وأما عمر بن الخطاب فقد كان " نصح أبي بكر الأخير للأمة، فقد أبصر الدنيا مقبلة تتهادى، وفي قومه فاقة قديمة يعرفها، فإذا ما أطلوا لها استشرفوا شهواتها، فنكلت بهم واستبدت، وذاك ما حذرهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إياه؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فوالله ما الفقر أخشى عليكم، ولكني أخشى أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها وتهلككم كما أهلكتهم».[15] لقد أبصر أبو بكر الداء فأتى لهم - رضي الله عنهم - بدواء ناجع جبل شاهق، إذا ما رأته الدنيا أيست وولت عنهم مدبرة، إنه الرجل الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: «إيه يا ابن الخطاب، والذي نفسي بيده ما لقيك الشيطان سالكا فجا إلا سلك فجا غير فجك»[16].

إن الأحداث الجسام التي مرت بالأمة ما بدأت إلا بقتل عمر رضي الله عنه، ولعل هذه القواصم وحدها خير شاهد على فراسة أبي بكر، وصدق رؤيته في العهد لعمر بالخلافة؛ فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، قال: «أفرس الناس ثلاثة: العزيز حين قال لامرأته: )أكرمي مثواه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا( (يوسف: ٢١)، والتي قالت: )يا أبت استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين (26)( (القصص)، وأبو بكر حين تفرس في عمر رضي الله عنه»[17] [18].

وحقا كانت خلافته سدا منيعا أمام الفتن، وكان عمر نفسه بابا مغلقا لا يقدر أصحاب الفتن على الدخول إلى المسلمين في حياته، ولا تقدر الفتن أن تطل برأسها في عهده، فعن شقيق بن سلمة قال: «قال حذيفة بن اليمان: كنا عند عمر فقال: أيكم يحفظ حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الفتنة كما قال؟ قال: فقلت: أنا، قال: إنك لجريء، وكيف قال؟ قال: قلت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: "فتنة الرجل في أهله وماله ونفسه وولده وجاره يكفرها الصيام والصلاة والصدقة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر"، فقال عمر: ليس هذا أريد، إنما أريد الفتن التي تموج كموج البحر، قال: فقلت: ما لك ولها يا أمير المؤمنين، إن بينك وبينها بابا مغلقا، قال: أفيكسر الباب أم يفتح؟ قال: قلت: لا، بل يكسر، قال: ذلك أحرى أن لا يغلق أبدا، قال: فقلنا لحذيفة: هل كان عمر يعلم من الباب؟ قال: نعم، كما يعلم أن دون غد الليلة، إني حدثته حديثا ليس بالأغاليط، قال: فهبنا أن نسأل حذيفة من الباب، فقلنا لمسروق: سله، فسأله فقال: عمر»[19].

إن حذيفة قدم العلم لعمر رضي الله عنه، بأن الباب المنيع هو الذي يمنع تدفق الفتن على المسلمين، ويحجزها عنهم، إن هذا سيكسر كسرا، وسيتحطم تحطيما، وهذا معناه أنه لن يغلق بعد هذا حتى قيام الساعة، وهذا ما فهمه عمر، أي أن الفتن ستبقى منتشرة ذائعة بين المسلمين، ولن يتمكنوا من إزالتها أو القضاء عليها، و حذيفة - رضي الله عنه - لا يقرر هذا من عنده، ولا يتوقعه توقعا، فهو لايعلم الغيب وإنما سمع هذا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ووعاه وحفظه كما سمعه، ولهذا يعلق على كلامه لعمر - رضي الله عنه - قائلا: إني حدثته حديثا ليس بالأغاليط - أي: حدثته حديثا صحيحا صادقا، لا أغاليط ولا أكاذيب فيه - لأنني سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم إن عمر - ر ضي الله عنه - يعلم الحقيقة التي أخبره بها حذيفة، فهو يعلم أن خلافته باب منيع يمنع تدفق الفتن على المسلمين، وأن الفتن لن تغزو المسلمين في أثناء خلافته وعهده وحياته[20].

وبهذا يتجلى لنا سداد اختيار أبي بكر وعمر رضي الله عنهما وكمال أهليتهما للخلافة، كل في وقته ومدته؛ فقد كان أبو بكر عاصما للعرب من الانقلاب إذا لم يل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واحد من مسلمي قريش، وكذلك كان عمر عاصما للأمة من الدنيا - وقد أقبلت على المسلمين بعد الفاقة - وحال بينها وبين الفتن القواصم.

ثانيا. لم يكن من أبي بكر وعمر حرص على الخلافة، بل كانا زاهدين فيها يخشيان تبعاتها:

وما كان للراشدين أبي بكر وعمر - رضي الله عنهما - أن يغتصبا الخلافة، أو يطلباها مجرد طلب، وقد نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الحرص على الإمارة، وجعل الحرص عليها بغير مصلحة شرعية تهمة يعاقب عليها بمنعه منها؛ فعن عبد الرحمن بن سمرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا عبد الرحمن بن سمرة، لا تسأل الإمارة، فإن أعطيتها عن مسألة وكلت إليها، وإن أعطيتها عن غير مسألة أعنت عليها»[21].

وعن أبي موسى قال: «دخلت على النبي - صلى الله عليه وسلم - أنا ورجلان من قومي، فقال أحد الرجلين: أمرنا يا رسول الله. وقال الآخر مثله، فقال: إنا لا نولي هذا الأمر من سأله ولا من حرص عليه»[22] [23].

فما كان لأبي بكر وعمر - رضي الله عنهما - أن يحرصا على الخلافة، فضلا عن أن يغتصباها، وقد تربيا في هذه المدرسة المحمدية، وتنشقا من نسيم هذا العصر بما فيه من روح الزهد في أمر الخلافة والمسئولية.

وإن تصرفهما في اجتماع السقيفة لخير دليل على ذلك؛ فبعد أن أتم أبو بكر حديثه في السقيفة قدم عمر وأبا عبيدة للخلافة، ولكن عمر كره ذلك وقال فيما بعد: فلم أكره مما قال غيرها، كان والله أن أقدم فتضرب عنقي لا يقربني ذلك من إثم أحب إلى من أن أتأمر على قوم فيهم أبو بكر.

"ولقد ظهر زهد أبي بكر في الإمارة في خطبته التي اعتذر فيها عن قبول الخلافة؛ حيث قال رضي الله عنه: «والله ما كنت حريصا على الإمارة يوما ولا ليلة قط، ولا كنت فيها راغبا ولا سألتها الله - عزوجل - في سر ولا علانية، ولكني أشفقت من الفتنة، وما لي في الإمارة من راحة، ولكن قلدت أمرا عظيما ما لي به من طاقة ولا يد إلا بتقوية الله عزوجل، ولوددت أن أقوى الناس عليها مكاني اليوم، فقبل الناس من ما قال»[24].

وقد ثبت أنه قال: وددت أني يوم سقيفة بني ساعدة كنت قذفت الأمر في عنق أحد الرجلين - أبي عبيدة أو عمر - فكان أمير المؤمنين وكنت وزيرا. [25] وقد تكررت خطب أبي بكر في الاعتذار عن تولي الخلافة وطلبه بالتنحي عنها.

فقد قال: أيها الناس، هذا أمركم إليكم تولون من أحببتم على ذلك وأكون كأحدكم؛ فأجابه الناس: رضينا بك قسما وحظا وأنت ثاني اثنين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد قام باستبراء نفوس المسلمين من أي معارضة لخلافته واستحلفهم على ذلك فقال: أيها الناس، أذكر الله أيما رجل ندم على بيعتي لما قام على رجليه، فقام علي بن أبي طالب، ومعه السيف، فدنا منه حتى وضع رجلا على عتبة المنبر والأخرى على الحصى وقال: والله لا نقيلك ولا نستقيلك قدمك رسول الله فمن ذا يؤخرك؟!

ولم يكن أبو بكر وحده الزاهد في أمر الخلافة والمسئولية، بل إنها روح العصر، [26] فقد كان الصحابة جميعا هذا الرجل، ومنهم عمر - رضي الله عنه - الذي كان - هو الآخر - زاهدا في الأمر راغبا عنه مشفقا من تبعته، ولهذا بادر يوم السقيفة إلى مبايعة أبي بكر، وكان أول من بايعه، وخطب في الأنصار يومئذ فبين فضل أبي بكر واستحقاقه للخلافة، فشجع الناس على مبايعته، ولو كان في نفسه ميل إلى ولاية الأمر لقبل ترشيح أبي بكر له في ذلك اليوم.

ولا أدل على زهده - رضي الله عنه - في حياته جملة - وبشكل عام - من أنه عاش خلافته كلها في شدة من العيش، وبعد عن الترف، وأخذ لنفسه بالشدة والمحاسبة الدائمة، ولو كان له في الأمر والملك رغبة أو ميل، لتفكه بما يتفكه به الملوك، ولوسع على نفسه معيشتها ما استطاع التوسعة.

ويتجلى لنا هذا الزهد أيضا في موقف عمر - رضي الله عنه - حين علم بنية أبي بكر في استخلافه، لما دخل عليه عمر في أيام مرضه فعرفه أبو بكر بما عزم، فأبى أن يقبل، فتهدده أبو بكر بالسيف، فما كان أمام عمر إلا أن يقبل [27].

ثالثا. ممن اغتصب أبو بكر وعمر الخلافة؟!

ولا يكون اغتصاب الشيء إلا من صاحب الحق فيه وعن غير رضا منه، فمن صاحب الحق في الخلافة بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم بعد أبي بكر حتى تغتصب الخلافة منه؟! ومن هو المرشح الذي رشحه المسلمون للخلافة فاغتصبت منه على يد أبي بكر وعمر؟! ومن ذا الذي لم يرض بخلافة أبي بكر وعمر وقد نقلنا الإجماع على قبول تولي أبي بكر واستخلاف عمر؟!

ربما قيل: سعد بن عبادة، أو علي بن أبي طالب. بيد أن الروايات التاريخية الصحيحة تنفي هذا الزعم وتثبت الاتفاق على خلافة الشيخين، وتؤكد وحدة الأمة الإسلامية واجتماع قياداتها، وهذا ما نستعرض طرفا منه فيما يأتي:

  1. سعد بن عبادة:

وفيما أثير حول موقف سعد بن عبادة من بيعة أبي بكر يقول د. الصلابي: " إن سعد بن عبادة - رضي الله عنه - قد بايع أبا بكر - رضي الله عنه - بالخلافة في أعقاب النقاش الذي دار في سقيفة بني ساعدة؛ إذ إنه نزل عن مقامه الأول في دعوى الإمارة وأذعن للصديق بالخلافة، وكان ابن عمه بشير بن سعد الأنصاري أول من بايع الصديق - رضي الله عنه - من الأنصار في اجتماع السقيفة ولم يثبت النقل الصحيح أية أزمات، لا صغيرة ولا خطيرة، ولم يثبت أي انقسام أو وجود أية فرق لكل منها مرشح يطمع في الخلافة، كما زعم بعض كتاب التاريخ، ولكن الأخوة الإسلامية ظلت كما هي، بل ازدادت توثقا كما يثبت ذلك النقل الصحيح، ولم يثبت النقل الصحيح تآمرا بين أبي بكر وعمر وأبي عبيدة لاحتكار الحكم بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقد كانوا أخشى لله وأتقى من أن يفعلوا ذلك.

وقد حاول بعض المؤرخين من أصحاب الأهواء أن يجعلوا من سعد بن عبادة - رضي الله عنه - منافسا للمهاجرين يسعى للخلافة بشره، ويدبر لها المؤامرات، ويستعمل في الوصول إليها كل أساليب التفرقة بين المسلمين.

ونحن إذا راجعنا تاريخ هذا الرجل وتتبعنا مسلكه، وجدنا مواقفه مع الرسول - صلى الله عليه وسلم - تجعله من الصفوة الأخيار، الذين لم تكن الدنيا أكبر همهم، فهو النقيب في بيعة العقبة الثانية، حتى لجأت قريش إلى تعقبه قرب مكة وربطوا يديه إلى عنقه وأدخلوه مكة أسيرا، حتى أنقذه منهم جبير بن مطعم بن عدي؛ حيث كان يجيرهم في المدينة، وهو ممن شهد بدرا وحظي بمقام أهل بدر ومنزلتهم عند الله، وكان من بيت جود وكرم، وشهد له بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وكان - صلى الله عليه وسلم - يعتمد عليه - بعد الله - وعلى سعد بن معاذ كما في غزوة الخندق؛ عندما استشارهما في إعطاء ثلث ثمار المدينة لعيينة بن حصن الفزاري، فكان رد السعدين يدل على عمق الإيمان وكمال التضحية، فمواقف سعد مشهورة ومعلومة، وهو الصحابي الجليل صاحب الماضي المجيد في خدمة الإسلام والصحبة الصادقة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلا يستقيم عقلا ومنطقا - وهو ما لم يثبت عنه - رضي الله عنه - أنه كان يريد أن يحيي العصبية الجاهلية في مؤتمر السقيفة لكي يحصل في غمار هذه الفرقة على منصب الخلافة.

كما أنه لم يثبت ولم يصح ما ورد في بعض المراجع من أنه - بعد بيعة أبي بكر - كان لا يصلي بصلاتهم ولا يفيض في الحج بإفاضتهم، كأنما انفصل سعد بن عبادة - رضي الله عنه - عن جماعة المسلمين، فهذا باطل ومحض افتراء؛ إذ ثبت من خلال الروايات الصحيحة أن سعدا بايع أبا بكر، فعندما تكلم أبو بكر يوم السقيفة، فذكر فضل الأنصار وقال: «ولقد علمتم أن رسول الله قال: لو سلك الناس واديا أو شعبا لسلكت وادي الأنصار أو شعب الأنصار، ثم ذكر سعد بن عبادة بقول فصل وحجة لا ترد فقال: ولقد علمت يا سعد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال وأنت قاعد: "قريش ولاة هذا الأمر، فبر الناس تبع لبرهم، وفاجرهم تبع لفاجرهم"، فقال سعد: صدقت، نحن الوزراء وأنتم الأمراء».[28] فتتابع القوم على البيعة وبايع سعد، وبهذا تثبت بيعة سعد بن عبادة، وبها يتحقق إجماع الأنصار على بيعة الخليفة أبي بكر، ولا معنى للترويج لرواية باطلة، وإنه لـمحض اتهام وتقول مجاف للواقع مناقض للسير والأحداث أن ينسب لسيد الأنصار العمل على شق عصا المسلمين، والتنكر لكل ما قدمه من نصرة وجهاد وإيثار للمهاجرين، والطعن بإسلامه من خلال ما ينسب إليه من قول: لا أبايعكم حتى أرميكم بما في كنانتي، وأخضب سنان رمحي، وأضرب بسيفي، فكان لا يصلي بصلاتهم ولا يجمع بجماعتهم ولا يقضي بقضائهم ولا يفيض بإفاضتهم، أي في الحج.

إن هذه الرواية التي استغلت للطعن في وحدة المهاجرين والأنصار وصدق أخوتهم ما هي إلا رواية باطلة للأسباب التالية:

  • أن الراوي صاحب هوى، وهو إخباري تالف لا يوثق به، ولا سيما في المسائل الخلافية.
  • قال الذهبي عن هذه الرواية: "وإسنادها كما ترى - أي في غاية الضعف - أما متنها فهو يناقض سيرة سعد بن عبادة وما في عنقه من بيعة على السمع والطاعة، ولـما روي عنه من فضائل"[29].
  1. علي بن أبي طالب:

وفي شأن تأخر علي عن مبايعة الصديق وردت أخبار عدة وكذا تأخر الزبير بن العوام، وجل هذه الأخبار ليست بصحيحة، وقد جاءت روايات صحيحة السند تفيد بأن عليا والزبير - رضي الله عنهما - بايعا الصديق في أول الأمر؛ فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، قال: «لما توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قام خطباء الأنصار... فذكر بيعة السقيفة، ثم قال: ثم انطلقوا فلما قعد أبو بكر على المنبر نظر في وجوه القوم فلم ير عليا، فسأل عنه، فقام أناس من الأنصار، فأتوا به فقال أبو بكر: ابن عم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وختنه، أردت أن تشق عصا المسلمين، فقال: لا تثريب يا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبايعه، ثم لم ير الزبير بن العوام، فسأل عنه حتى جاءوا به، فقال: ابن عمة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحواريه، أردت أن تشق عصا المسلمين، فقال مثل قوله: لا تثريب يا خليفة رسول الله، فبايعاه»[30].

ومما يدل على أهمية هذا الحديث الصحيح المروي عن أبي سعيد الخدري، أن الإمام مسلم بن الحجاج صاحب الجامع الصحيح، الذي هو أصح كتب الحديث بعد صحيح البخاري، ذهب إلى الحافظ محمد بن إسحاق بن خزيمة صاحب صحيح ابن خزيمة، فسأله عن هذا الحديث، فكتب له ابن خزيمة الحديث، وقرأه عليه، فقال مسلم لشيخه ابن خزيمة: هذا الحديث يساوي بدنة،[31] فقال ابن خزيمة: هذا الحديث لا يساوي بدنة فقط، إنه يساوي بدرة مال[32].

وعلق على هذا الحديث ابن كثير فقال: "هذا إسناد صحيح محفوظ، وفيه فائدة جليلة، وهي مبايعة علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - إما في أول يوم أو في اليوم الثاني من الوفاة، لم يفارق الصديق في وقت من الأوقات، ولم ينقطع في صلاة من الصلوات خلفه".[33] وفي رواية حبيب بن أبي ثابت، حيث قال: كان علي بن أبي طالب في بيته، فأتاه رجل، فقال له: قد جلس أبو بكر للبيعة، فخرج على إلى المسجد في قميص له، ما عليه إزار ولا رداء، وهو متعجل، كراهة أن يبطئ عن البيعة، فبايع أبا بكر، ثم جلس، وبعث إلى ردائه فجاؤوه به، فلبسه فوق قميصه. وقد سأل عمرو بن حريث سعيد بن زيد رضي الله عنه، فقال: أشهدت وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم، قال له: متى بويع أبو بكر؟ قال سعيد: يوم مات رسول الله صلى الله عليه وسلم، كره المسلمون أن يبقوا بعض يوم وليسوا في جماعة.

قال: هل خالف أحد أبا بكر؟ قال سعيد: لا، لم يخالف إلا مرتد، أو كاد أن يرتد، وقد أنقذ الله الأنصار، فجمعهم عليه وبايعوه، قال: هل قعد أحد من المهاجرين عن بيعته؟ قال سعيد: لا، لقد تتابع المهاجرون على بيعته[34].

وكان مما قال علي - رضي الله عنه - لابن الكواء وقيس بن عباد - حينما قدم البصرة وسألاه عن مسيره -: "لو كان عندي من النبي - صلى الله عليه وسلم - عهد في ذلك ما تركت أخا بني تيم بن مرة وعمر بن الخطاب يقومان على منبره ولقاتلتهما ولو لم أجد إلا بردي هذا، ولكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يقتل قتلا ولم يمت فجأة، بل مكث في مرضه أياما وليالي يأتيه المؤذن فيؤذنه بالصلاة فيأمر أبا بكر فيصلي بالناس، وهو يرى مكاني، ولقد أرادت امرأة من نسائه - صلى الله عليه وسلم - أن تصرفه عن أبي بكر، فأبى وغضب، وقال:«أنتن صواحب يوسف، مروا أبا بكر فليصل بالناس».[35] فلما قبض الله نبيه ونظرنا في أمورنا، اخترنا لدنيانا من رضيه نبي الله لديننا، وكانت الصلاة أصل الإسلام وهي أعظم الأمور وقوام الدين، فبايعنا أبا بكر، وكان لذلك أهلا، ولم يختلف عليه منا اثنان، ولم يشهد بعضنا على بعض، ولم نقطع منه البراءة، فأديت إلى أبي بكر حقه وعرفت له طاعته وغزوت معه في جنوده، وكنت آخذ إذا أعطاني وأغزو إذا أغزاني وأضرب بين يديه الحدود بسوطي"[36].

وكان مما قال علي - كرم الله وجهه - في خطبته على منبر الكوفة في ثنائه على أبي بكر: فأعطى المسلمون البيعة طائعين، فكنت أول من سبق في ذلك من ولد عبد المطلب.

وجاءت روايات أشارت إلى مبايعة علي لأبي بكر - رضي الله عنه - في أول الأمر وإن لم تصرح بذلك؛ فعن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف أنه قال: إن عبد الرحمن بن عوف كان مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه.. ثم قام أبو بكر فخطب الناس، واعتذر إليهم وقال: والله ما كنت حريصا على الإمارة يوما ولا ليلة قط، ولا كنت فيها راغبا، ولا سألتها الله - عزوجل - في سر ولا علانية، ولكني أشفقت من الفتنة، وما لي في الإمارة من راحة، ولكن قلدت أمرا عظيما ما لي به من طاقة، ولا يد إلا بتقوية الله عزوجل، ولوددت أن أقوى الناس عليها مكاني اليوم. فقبل المهاجرون منه ما قال وما اعتذر به. قال علي والزبير - رضي الله عنهما -: ما غضبنا إلا لأنا قد أخرنا عن المشاورة، وإنا نرى أبا بكر أحق الناس بها بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، إنه لصاحب الغار، وثاني اثنين، وإنا لنعلم بشرفه وكبره، ولقد أمره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالصلاة بالناس وهو حي.

وعن قيس العبدي قال: شهدت خطبة علي يوم النصرة قال: فحمد الله وأثنى عليه وذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - وما عالج من الناس، ثم قبضه الله - عزوجل - إليه، ثم رأى المسلمون أن يستخلفوا أبا بكر - رضي الله عنه - فبايعوا وعاهدوا وسلموا، وبايعت وعاهدت وسلمت، ورضوا ورضيت، وفعل من الخير وجاهد حتى قبضه الله عزوجل، رحمة الله عليه.

إن عليا - رضي الله عنه - لم يفارق الصديق في وقت من الأوقات ولم ينقطع عنه في جماعة من الجماعات وكان يشاركه المشورة، وتدبير أمور المسلمين، ويرى ابن كثير وطائفة من أهل العلم أن عليا جدد بيعته بعد ستة أشهر من البيعة الأولى، أي: بعد وفاة فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجاءت في هذه البيعة روايات صحيحة، ولكن لما وقعت البيعة الثانية اعتقد بعض الرواة أن عليا لم يبايع قبلها، فنفى ذلك، والمثبت مقدم على النافي، فمن علم حجة على من لم يعلم كما يقولون[37].

وقد سبق أن بينا أن خلافة عمر تمت بإجماع أغلب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث تلقوا عهد أبي بكر بالخلافة لعمر بالقبول والتسليم، ولم يعارض في ذلك أحد، بل يذكر أن عليا كان ضمن من استشارهم الصديق فيمن يتولى الخلافة بعده، وكان رأى على أن يتولى الخلافة بعد الصديق الفاروق رضي الله عن الجميع[38].

الخلاصة:

  • تولى أبو بكر أمور المسلمين بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - بناء على موافقة أهل الحل والعقد، وبيعة خاصة، ثم أخرى عامة، وانعقد إجماع أغلب الصحابة على خلافته، ثم ولي عمر الخلافة باتفاق أهل الحل والعقد وإرادتهم، فهم الذين فوضوا أبا بكر في انتخاب الخليفة، فشاور كبار الصحابة، ثم عين الخليفة، ثم عرض هذا التعيين على الناس فأقروه وأمضوه ووافقوا عليه.
  • لقد كان لأبي بكر وعمر - رضي الله عنهما - من مؤهلات القيادة ما يجعلهما صالحين للخلافة، فقد عصمت العرب من الانفلات والتفرق بولاية أبي بكر، وهو من قريش التي تدين لها العرب بالسيادة دون غيرها، وكذلك عصمت الأمة من أحداث جسام وفتن قواصم بتولي عمر بن الخطاب الخلافة، وما كان غيره ليصلح لزمنه صلاحيته هو.
  • ما كان لأبي بكر وعمر أن يحرصا على الخلافة ويسعيا وراء تحمل المسئولية، فضلا عن اغتصاب الخلافة، فكيف يتهمان بعد ذلك باغتصابها، وهما اللذان تربيا في مدرسة الزهد المحمدي؟!!
  • إذا كانت فكرة الاغتصاب في حد ذاتها تقتضي وجود مغتصب منه، حيث يستولي المغتصب على شيء من أشيائه دون وجه حق له فيه وعن غير رضا من صاحبه - إذا كان الأمر كما قلنا فمن ذا الذي كان أولى بالخلافة من أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، ثم تجاهلاه واغتصباها منه؟!!
  • حاول بعض المغرضين أن يجعل من بعض الصحابة منافسا يسعى للخلافة بشره ويدبر لها المؤامرات، بيد أن الروايات التاريخية الصحيحة تنفي هذا الزعم وتثبت الاتفاق على خلافة الصديق والفاروق.
  • إن المطالع لسيرة الصحابيين مناط التشكيك سعد وعلي - رضي الله عنهما - ليدرك أنهما لم يكونا ليشقا عصا الطاعة على الصديق الذي قدمه النبي في أمر الدين، فكيف ينازعوه أمر الدنيا؟!
  • جدد علي - رضي الله عنه - بيعته لأبي بكر بعد ستة أشهر من توليه الخلافة، فظن بعض المسلمين أن هذه البيعة الثانية هي الأولى؛ فقالوا بتأخر بيعة علي له، وليس الأمر كذلك، ومن علم حجة على من لم يعلم.
  • لم يخرج تولي عمر الفاروق الخلافة عن مبدأ الشورى، بل كان خير تجسيد له، وتفاصيل توليه الخلافة خير شاهد على تلك الحقيقة.
  • في الروايات الصحاح بشأن تولي الخليفتين الراشدين دليل على وهن دعوى المغرضين، وفيها غناء عن روايات ضعاف ساقطات متنا وسندا.

 

(*) المستشرقون والإسلام، محمد قطب، مكتبة وهبة، مصر، ط1، 1420هـ/ 1999م.

[1]. أي: عدد قليل منهم.

[2]. أي: يخرجونا من أمر الخلافة.

[3]. زور الكلام: هيأه وأعده.

[4]. أي أنه ممن يستشفى برأيه، ويعتمد عليه.

[5]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب المحاربين من أهل الكفر والردة، باب رجم الحبلى في الزنا إذا أحصنت (6442).

[6]. صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، مسند العشرة المبشرين بالجنة، مسند أبي بكر الصديق رضي الله عنه (18)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (1156).

[7]. أبو بكر الصديق، د. علي الصلابي، دار الإيمان، الإسكندرية، 2002م، ص138، 139. ولمزيد من التفصيل انظر: حقبة من التاريخ، عثمان بن محمد الخميس، مكتبة الإمام البخاري، مصر، ط3، 1427هـ/ 2006م، ص49 وما بعدها.

[8]. أبو بكر الصديق، د. علي الصلابي، دار الإيمان، الإسكندرية، 2002م، ص162.

[9]. عمر بن الخطاب، د. علي الصلابي، دار الإيمان، الإسكندرية، 2002م، ص101، 102 بتصرف.

[10]. عمر بن الخطاب، د. علي الصلابي، دار الإيمان، الإسكندرية، 2002م، ص105، 106.

[11]. أخرجه الحاكم في مسنده، كتاب معرفة الصحابة رضي الله عنهم ، باب مقتل عمر رضي الله عنه (4515).

[12]. عمر بن الخطاب، د. علي الصلابي، دار الإيمان، الإسكندرية، 2002م، ص112: 114 بتصرف.

[13]. صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، مسند العشرة المبشرين بالجنة، مسند أبي بكر الصديق رضي الله عنه (18)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (1156).

[14]. أبو بكر الصديق، د. علي الصلابي، دار الإيمان، الإسكندرية، 2002م، ص141. ولمزيد من التفصيل انظر: موقف الشيعة الاثنى عشرية من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، د. عبد القادر بن محمد عطا صوفي، دار أضواء السلف، الرياض، ط1، 1426هـ/ 2006م، ج2، ص548 وما بعدها.

[15]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب المغازي، باب شهود الملائكة بدرا (3791)، ومسلم في صحيحه، أوائل كتاب الذهد والرقائق (7614).

[16]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الأدب، باب التبسم والضحك (5735)، ومسلم في صحيحه، كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل عمر بن الخطاب رضي الله عنه (7614)، واللفظ للبخاري.

[17]. صحيح: أخرجه الحاكم في مستدركه، كتاب التفسير، باب تفسير سورة يوسف عليه السلام (3320)، وصححه الحاكم وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي.

[18]. عمر بن الخطاب، د. علي الصلابي، دار الإيمان، الإسكندرية، 2002م، ص102، 103.

[19]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب المناقب، باب علامات النبوة في الإسلام (3393)، ومسلم في صحيحه، كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب في الفتنة التي تموج كموج البحر (7450)، واللفظ له.

[20]. عمر بن الخطاب، د. علي الصلابي، دار الإيمان، الإسكندرية، 2002م، ص714، 715 بتصرف.

[21]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الأيمان والنذور (6248)، وفي مواضع أخرى، ومسلم في صحيحه، كتاب الأيمان، باب ندب من حلف يمينا فرأى غيرها خيرا منها (4370).

[22]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الأحكام، باب ما يكره من الحرص على الإمارة (6730).

[23]. الإمامة العظمى، عبد الله بن عمر الدميجي، دار طيبة، الرياض، ط1، 1407هـ/ 1987م، ص264.

[24]. صحيح: أخرجه الحاكم في مستدركه، كتاب معرفة الصحابة رضي الله عنهم (4422)، وصححه الحاكم وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي.

[25]. أخرجه الطبراني في الكبير (1/ 62) برقم (43).

[26]. أبو بكر الصديق، د. علي الصلابي، دار الإيمان، الإسكندرية، 2002م، ص141، 142 بتصرف.

[27]. عمر بن الخطاب، د. علي الصلابي، دار الإيمان، الإسكندرية، 2002م، ص103.

[28]. صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، مسند العشرة المبشرين بالجنة، مسند أبي بكر الصديق رضي الله عنه (18)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (1156).

[29]. أبو بكر الصديق، د. علي الصلابي، دار الإيمان، الإسكندرية، 2002م، ص143: 146.

[30]. صحيح: أخرجه الحاكم في مستدركه، كتاب معرفة الصحابة رضي الله عنهم (4475)، والبيهقي في السنن الكبرى، كتاب قتال أهل البغي، باب الأئمة من قريش (16315)، وصححه الحاكم وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه.

[31]. البدنة: الناقة أو البقرة تنحر بمكة، ولعظمها وضخامتها سميت "بدنة".

[32]. البدرة: الكيس الذي فيه ألف أو عشرة آلاف دينار، والمعنى: أنه كنز ثمين.

[33]. السيرة النبوية، ابن كثير، تحقيق: مصطفى عبد الواحد، دار المعرفة للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، د. ت، ج4، ص495.

[34]. أخرجه ابن جرير الطبري في تاريخه (2/ 447).

[35]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب ما يكره من التعمق والتنازع في العلم (6873)، ومسلم في صحيحه، كتاب الطهارة، باب استخلاف الإمام إذا عرض له عذر من مرض أو سفر (968).

[36]. أخرجه ابن عساكر في تاريخ دمشق (42/ 4442).

[37]. أسمى المطالب في سيرة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، د. علي محمد محمد الصلابي، دار الإيمان، الإسكندرية، 2003م، ص145: 147 بتصرف. ولمزيد من التفصيل ينظر: موقف الشيعة الاثنى عشرية من صحابة رسول الله، د. عبد القادر بن محمد عطا صوفي، دار أضواء السلف، الرياض، ط1، 1426هـ/ 2006م، ج2، ص1094.

[38]. أسمى المطالب في سيرة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، د. علي محمد محمد الصلابي، دار الإيمان، الإسكندرية، 2003م، ص166.

 

  • الخميس PM 11:07
    2020-10-22
  • 1611
Powered by: GateGold