المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 412294
يتصفح الموقع حاليا : 294

البحث

البحث

عرض المادة

الطعن في أحاديث وجوب إقامة الحدود والعفو فيها

الطعن في أحاديث وجوب إقامة الحدود والعفو فيها(*)

مضمون الشبهة:

يدعي بعض المتوهمين أن هناك اضطرابا فيما روي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- في مسألة إقامة الحدود والعفو فيها.

ويستدلون على ذلك بأنه قد ورد عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- أحاديث تدل على أنه كان يحث على العفو في الحدود ما لم تبلغ هذه الحدود السلطان أو من ينوب عنه؛ فإذا بلغ الحد إليه فقد وجب؛ ولا تصح فيه الشفاعة أو العفو.

من هذه الأحاديث قوله صلى الله عليه وسلم: «تعافوا الحدود فيما بينكم، فما بلغني من حد فقد وجب». وكذلك ما قاله - صلى الله عليه وسلم- لصفوان بن أمية - رضي الله عنه- يوم أراد العفو عن سارق ردائه: «... فهلا كان هذا قبل أن تأتيني به».

ويزعمون أن تلك الأحاديث تتعارض مع ما جاء به القرآن من وجوب إقامة الحدود في آيات كثيرة، منها قوله تعالى: )والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله( (المائدة: ٣٨) فالحديثان السابقان يسقطان ما جاء به القرآن من حدود كحد السرقة وغيره.

كما أن تلك الأحاديث تتعارض مع ما روي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- من عفوه عن عبد الله بن أبي بن سلول في حادثة الإفك وعدم إقامة الحد عليه.

بالإضافة إلى تعارض هذه الأحاديث - التي تحث على العفو في الحد ما لم يبلغ السلطان - مع قول النبي صلى الله عليه وسلم: «ادرءوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم، فإن كان له مخرج فخلوا سبيله؛ فإن الإمام أن يخطئ في العفو خير له من أن يخطئ في العقوبة»، فالأحاديث الأخرى تدل على أن الحد إذا وجب يقام دون النظر لأي اعتبار آخر.

وجوه إبطال الشبهة:

1) إن الله -سبحانه وتعالى- قد حد حدودا على العباد، وأوجب إقامتها على الوالي أو من ينوب عنه، والقرآن والسنة والإجماع والعقل مجمعون على فرضية إقامة الحدود؛ زجرا للعباد وتقويما لهم.

2) لقد جاء إجماع علماء الأمة على وجوب العمل بمبدأ درء الحدود بالشبهات؛ لما روي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- من أحاديث غاية في الصحة تؤكد العمل بهذا المبدأ؛ تضييقا لدائرة الحدود لشدتها، فبقاء المؤمن مع الشبهة خير من عقابه وذهابه معها.

3) إن الراجح أن حد القذف حق مشترك بين الله -سبحانه وتعالى- وعباده، ولا يستوفى إلا بمطالبة المقذوف، أو ثبوته على القاذف بإقراره أو اعترافه أو بوجود بينة، والصحيح أن السيدة عائشة - رضي الله عنها - لم تطالب عبد الله بن أبي بن سلول بالحد، كما أنه لم يعترف أو يقر، ولم يشهد عليه أحد، فانتفى بذلك وجوب إقامة الحد، ثم إن الحدود تطهير وكفارة لمرتكبيها، وهذا منافق وعده الله العذاب العظيم - فكفاه ذلك عن الحد.

التفصيل:

أولا. إن إقامة الحدود فرض على الوالي أو من ينوب عنه؛ زجرا للعباد وصيانة للمجتمع، ونصوص القرآن والسنة متواترة في وجوب إقامتها:

الحدود لغة جمع حد، وهو المنع، ومنه سمي كل من البواب والسجان حدادا، لمنع الأول الناس من الدخول، والثاني من الخروج، وسمي المعرف للماهية حدا؛ لمنعه من الدخول والخروج، وحدود الله محارمه، لقوله سبحانه وتعالى: )تلك حدود الله فلا تقربوها( (البقرة: ١٨٧).

والحد في الاصطلاح: عقوبة مقدرة وجبت حقا لله سبحانه وتعالى، وعرفه الشافعية والحنابلة بأنه: عقوبة مقدرة على ذنب وجبت حقا لله تعالى كما في الزنا، أو اجتمع فيها حق الله وحق العبد كالقذف فليس منه التعزير لعدم تقديره، ولا القصاص؛ لأنه حق خالص للآدمي([1]).

وإقامة الحدود فرض على ولي الأمر، ودليل ذلك الكتاب والسنة والإجماع؛ فمن الكتاب قوله سبحانه وتعالى: )تلك حدود الله فلا تقربوها(.

وقوله -سبحانه وتعالى- في حد الزنا: )الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر( (النور).

وقوله -سبحانه وتعالى- في حد القذف: )والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا( (النور: ٤).

وأما السنة فمن ذلك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تعافوا الحدود فيما بينكم، فما بلغني من حد فقد وجب»([2]).

وكذلك ما جاء عن ابن عمر مرفوعا: «من حالت شفاعته دون حد من حدود الله فقد ضاد الله» ([3]).

وقوله - صلى الله عليه وسلم- لأسامة بن زيد عندما جاءه يطلب الشفاعة للمرأة المخزومية التي سرقت: «أتشفع في حد من حدود الله...» ([4]).

وكذلك ورد عنه صلى الله عليه وسلم: «أقيموا حدود الله في القريب والبعيد، ولا تأخذكم في الله لومة لائم»([5]).

وكذلك أمره - صلى الله عليه وسلم- برجم ماعز فيما رواه أبو هريرة - رضي الله عنه- قال: «أتى رجل من المسلمين رسول الله - صلى الله عليه وسلم- وهو في المسجد فناداه، فقال: يا رسول الله إني زنيت، فأعرض عنه، فتنحى تلقاء وجهه، فقال له: يا رسول الله إني زنيت، فأعرض عنه حتى ثنى ذلك عليه أربع مرات، فلما شهد على نفسه أربع شهادات، دعاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم- فقال: أبك جنون؟ قال: لا، قال: فهل أحصنت؟ قال: نعم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اذهبوا به فارجموه»([6]).

وهكذا تسير السنة في الاتجاه نفسه الذي سار فيه القرآن، وتقف من الحدود نفس الموقف الذي وقفه القرآن، ولا غرو في هذا وهما المتلازمان في تقرير الأحكام تلازما ينفي عنهما أن تتهاون السنة في إقامة ما أوجب القرآن إقامته على نحو ما زعموا.

ثم إن الحكمة من هذه الحدود أو العقوبات هو زجر الناس وردعهم عن اقتراف تلك الجرائم، وصيانة المجتمع من الفساد، والتطهر من الذنوب، قال ابن القيم: "من حكمة الله -سبحانه وتعالى- ورحمته أن شرع العقوبات في الجنايات الواقعة بين الناس، بعضهم على بعض في النفوس والأبدان والأعراض والأموال كالقتل والجراح والقذف والسرقة، فأحكم -سبحانه وتعالى- وجوه الزجر الرادعة عن هذه الجنايات غاية الإحكام، وشرعها على أكمل الوجوه المتضمنة لمصلحة الردع والزجر، مع عدم المجاوزة لما يستحقه الجاني من الردع؛ فلم يشرع في الكذب قطع اللسان ولا القتل، ولا في الزنا الخصاء، ولا في السرقة إعدام النفس، وإنما شرع لهم في ذلك ما هو موجب أسمائه وصفاته من حكمته ورحمته، ولطفه وإحسانه وعدله، لتزول النوائب وتنقطع الأطماع عن التظالم والعدوان، ويقتنع كل إنسان بما آتاه مالكه وخالقه، فلا يطمع في استلاب غير حقه" ([7]).

ثانيا. لا تعارض بين أحاديث درء الحدود بالشبهات وآيات القرآن في وجوب إقامة الحدود:

أن ما يتوهمه بعض الناس من أن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تعافوا الحدود فيما بينكم، فما بلغني من حد فقد وجب»([8]). يعارض ما جاء به القرآن من وجوب إقامة الحدود، فهذا زعم باطل وتوهم خاطئ؛ لأن ما جاء به الحديث يدل على أنه متى وصل الحد النبي - صلى الله عليه وسلم- فقد وجب تنفيذه؛ وذلك لأنه عرف أنه ثبت عنده هذا الحد فلم يمكنه تعطيله، بل تتحتم إقامته، هكذا أخبر صلى الله عليه وسلم، أما قبل أن يرفع إليه فإن أهل الحقوق إذا تصالحوا وأسقطوا حقهم لم يلزمه شيء"([9]).

فكما أن إقامة الحدود فرض على السلطان، فالستر على المسلم مطلوب شرعا؛ لأن إظهار جرمه وإفشاه يضر بالمجتمع من ناحية، ويغرس الحقد والضغينة في نفس مرتكب الجريمة من ناحية أخرى، والستر قد يوقظ ضميره، ويجعله يعود إلى رشده، ولذلك استحب الفقهاء عدم الإدلاء بالشهادة ابتداء إذا كانت متعلقة بحد من حدود الله تعالى، كالزنا والسرقة؛ لأن الستر أمر مندوب إليه.

وعلى ذلك فالشفاعة في حد السرقة قبل أن يصل الأمر إلى الإمام أمر جائز، بل مندوب إليه؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم- في الحديث: «تعافوا الحدود فيما بينكم، فما بلغني من حد فقد وجب». إلا أن يكون المشفوع فيه صاحب شر وأذى للمسلمين، فإذا كان كذلك لم يشفع فيها، وصرح الحنفية بأن الأولى الستر على الجاني، إلا إذا كان متهتكا.

أما إذا رفع أمر السارق إلى الإمام فلا تجوز الشفاعة فيه باتفاق؛ لأن الحد أصبح برفعه إلى الإمام حقا من حقوق الله فلا يجوز فيه شفاعة([10]).

والدليل على ذلك غضبه - صلى الله عليه وسلم- حين شفع أسامة بن زيد في المخزومية التي سرقت، وقال له: «أتشفع في حد من حدود الله؟»([11])

ويؤيد هذا ما روي عن صفوان بن أمية قال: «كنت نائما في المسجد على خميصة لي ثمن ثلاثين درهما، فجاء رجل فاختلسها مني، فأخذ الرجل فأتي به النبي صلى الله عليه وسلم، فأمر به ليقطع، قال: فأتيته فقلت أتقطعه من أجل ثلاثين درهما؟ أنا أبيعه وأنسئه ثمنها قال: فهلا كان هذا قبل أن تأتيني به»([12]).

أي: لماذا لم تسقط الحد عنه قبل أن تأتيني به؟ ولماذا لم تعف عنه قبل أن ترفعه إلي؟ أما بعد أن رفعته إلي وعرفت أنا أنه سارق فلا بد من قطع يده؛ وذلك لأنه اتصف بالسرقة.

قال النووي: "أجمع العلماء على تحريم الشفاعة في الحد بعد بلوغه إلى الإمام، وعلى أنه يحرم التشفيع فيه، فأما قبل بلوغه إلى الإمام فقد أجاز الشفاعة فيه أكثر العلماء، إذ لم يكن المشفوع فيه صاحب شر وأذى للناس، فإن كان لم يشفع فيه"([13])؛ فلا يجوز للمسروق منه - مثلا - العفو عن السارق بعد بلوغ الأمر للإمام.

كما أن هناك قاعدة في التشريع الإسلامي تقول بوجوب درء الحدود بالشبهات، وجمهور العلماء على العمل بها، لما ورد عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- من أحاديث غاية في الصحة تؤيد الأخذ بهذا المبدأ منها: ما روي «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- أتي بلص فاعترف ولم يوجد معه متاع، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما إخالك سرقت"، قال: بلى مرتين أو ثلاثا، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اقطعوه، ثم جيئوا به. فقطعوه..» ([14]).

فالنبي - صلى الله عليه وسلم- لا يأمر بإقامة حد السرقة على المعترف بها على الفور؛ ولكنه يتحرى الحادثة ويستقصيها؛ إذ إنه من الممكن أن يكون هذا المعترف ذاهبا بسكر أو جنون أو أكره على الاعتراف؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم- لم ير معه متاعا، فدل ذلك على حثه - صلى الله عليه وسلم- على درء الحدود بالشبهات.

وكذلك ما روي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- في قصة ماعز، فقد رده مرارا حتى الرابعة، وسأل صلى الله عليه وسلم: «أبه جنون؟ فأخبر أنه ليس بمجنون، فقال: أشرب خمرا؟، فقام رجل فاستنكهه فلم يجد منه ريح خمر؛ فقال رسول الله: أزنيت؟ فقال: نعم: فأمر به فرجم»([15]).

وكذلك ما ورد في حديث المرأة الغامدية التي اعترفت بالفجور أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: «يا رسول الله، إني قد زنيت فطهرني، وإنه ردها، فلما كان الغد، قالت: يا رسول الله! لم تردني؟ لعلك أن تردني كما رددت ماعزا فوالله إني لحبلى»([16]).

وروي عنه - صلى الله عليه وسلم- أنه قال لماعز: «لعلك قبلت أو غمزت أو نظرت؟ قال: لا يا رسول الله، قال: أنكتها؟ - لا يكني - قال: فعند ذلك أمر برجمه»([17]).

فكل ذلك منه - صلى الله عليه وسلم- ليؤكد أنه لا إقامة لحد مع وجود شبهة، وإن لم يكن ذلك فلا معنى لتمهل رسول الله - صلى الله عليه وسلم- وبحثه في القضية بالرغم من اعتراف المرتكب، ولما كان لسؤاله - صلى الله عليه وسلم- للسارق ولماعز أي وجه، وهو المعصوم من العبث.

وكذلك استدل الجمهور بالعقل على تأكيد مبدأ درء الحدود بالشبهات، فقال العز بن عبد السلام: "إنما غلب درء الحدود مع تحقق الشبهة؛ لأن المصلحة العظمى في استبقاء الإنسان لعبادة الديان، والحدود أسباب محظورة، فلا تثبت إلا عند كمال المفسدة وتمحصها"([18]).

وفي الحديث عن أنس بن مالك - رضي الله عنه- قال: «كنت عند النبي - صلى الله عليه وسلم-، فجاءه رجل فقال: يا رسول الله! إني أصبت حدا فأقمه علي، قال: ولم يسأله عنه، قال: وحضرت الصلاة فصلى مع النبي - صلى الله عليه وسلم-، فلما قضى النبي - صلى الله عليه وسلم- الصلاة قام إليه الرجل، فقال: يا رسول الله إني أصبت حدا فأقم في كتاب الله، قال: أليس قد صليت معنا؟ قال: نعم. قال: فإن الله قد غفر لك ذنبك، أو قال: حدك»([19]).

يقول ابن حجر: "وقد اختلف العلماء في هذا الحكم، فظاهر ترجمة البخاري حمله على من أقر بحد ولم يفسره فإنه لا يجب على الإمام أن يقيمه عليه إذا تاب، وحمله الخطابي على أنه يجوز أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم- اطلع بالوحي على أن الله قد غفر له لكونها واقعة عين، وإلا لكان يستفسره عن الحد ويقيمه عليه، وقال أيضا في هذا الحديث: إنه لا يكشف عن الحدود بل يدفع مهما أمكن، وهذا الرجل لم يفصح بأمر يلزمه به إقامة الحد عليه فلعله أصاب صغيرة ظنها كبيرة توجب الحد فلم يكشفه النبي - صلى الله عليه وسلم- عن ذلك؛ لأن موجب الحد لا يثبت بالاحتمال، وإنما لم يستفسره إما لأن ذلك قد يدخل في التجسس المنهي عنه، وإما إيثارا للستر، ورأى أن في تعرضه لإقامة الحد عليه ندما ورجوعا، وقد استحب العلماء تلقين من أقر بموجب الحد بالرجوع عنه، إما بالتعريض وإما بأوضح منه ليدرأ عنه الحد.

وقد تمسك بظاهره صاحب الهدي، فقال: للناس في حديث أنس بن مالك - يعني المذكور قبل - ثلاثة مسالك: أحدها أن الحد لا يجب إلا بعد تعيينه والإصرار عليه من المقر به، والثاني أن ذلك يختص بالرجل المذكور في القصة، والثالث أن الحد يسقط بالتوبة، قال: وهذا أصح المسالك، وقواه بأن الحسنة التي جاء بها من اعترافه طوعا بخشية الله وحده تقاوم السيئة التي عملها؛ لأن حكمة الحدود الردع عن العود، وصنيعه ذلك دال على ارتداعه فناسب رفع الحد عنه لذلك والله أعلم([20]).

كما يتبين أيضا من مجموع ما روي عن الصحابة وأثر في قضائهم أن الشبهة دارئة للحد إذا وجدت، ويدل عليه قول عمر رضي الله عنه: لأن أعطل الحدود بالشبهات أحب إلي من أن أقيمها بالشبهات"([21]).

أما ما أورده الطاعنون من روايات زعموا تعارضها مع صريح القرآن وصحيح السنة النبوية - فتلك الروايات كلها ضعيفة كما بين ذلك علماء الحديث ونقاده، ومن ثم فلا ترقى لتعارض حديثا صحيحا أو نصا قرآنيا، ثم إن الأحاديث تتفق وما جاءت به السنة الصحيحة والقرآن الكريم، وتلك الروايات هي:

  1. حديث: «ادرءوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم، فإن كان له مخرج فخلوا سبيله؛ فإن الإمام إن يخطئ في العفو خير من أن يخطئ في العقوبة»([22]).
  2. حديث: «ادفعوا الحدود ما وجدتم له مدفعا»([23]).

وبعد أن ثبت ضعف تلك الروايات؛ فلا مجال للقول بتعارضها مع ما صح من السنة، أو مع نصوص القرآن الكريم الآمرة بوجوب إقامة الحدود، لأنه لا يعارض حديث صحيح بحديث ضعيف، هذا مع العلم بأن معنى هذه الأحاديث الضعيفة صحيح لا يعارض الأحاديث الصحيحة والقرآن في مسألة درء الحدود بالشبهات كما بينا.

ثالثا. لا تعارض بين أحاديث وجوب إقامة الحدود، وعدم إقامة النبي - صلى الله عليه وسلم- الحد على عبد الله بن أبي بن سلول:

قد فصل العلماء القول في هذه الحادثة، وأرجعوا عدم إقامة النبي - صلى الله عليه وسلم- الحد على ابن أبي بن سلول إلى الأسباب الآتية:

  1. إن الحدود تخفيف عن أهلها وكفارة لذنوبهم، وتطهير لهم ليعودوا إلى ما كانوا عليه قبل ارتكاب ما يوجب الحد من الإيمان والصلاح، لذلك أقام النبي - صلى الله عليه وسلم- الحد على مسطح بن أثاثة، وحسان بن ثابت، وحمنة بنت جحش، وهؤلاء من المؤمنين الصادقين تطهيرا لهم وتكفيرا عن ذنبهم، وترك عبد الله بن أبي، لأنه ليس أهلا لذاك.
  2. إن حد القذف حق مشترك بين الآدمي وربه سبحانه وتعالى، ولا يستوفى إلا بمطالبة الآدمي، والسيدة عائشة - رضي الله عنها - لم تطالب به عبد الله بن أبي بن سلول؛ فينتفي بذلك وجوب إقامة الحد عليه.
  3. وقيل: إن الله تعالى وصفه بالكبر والنفاق، وتوعده عظيم العذاب، قال تعالى: )والذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم (11)( (النور)؛ فيكفيه ذلك عن الحد.
  4. وقيل: إن عبد الله بن أبي كان يستوشي الحديث، ويجمعه ويحكيه، ويخرجه في قوالب من لا ينسب إليه، والحد لا يثبت إلا بإقرار أو بينة، وهو لم يقر بالقذف، ولم يشهد به عليه أحد، وإنما كان يذكره بين أصحابه فلم يشهدوا عليه، ولم يكن يذكره بين المؤمنين.
  5. وقيل: إن النبي - صلى الله عليه وسلم- ترك حده لمصلحة هي أعظم من إقامته، كما ترك قتله مع ظهور نفاقه وتكلمه، بما يوجب قتله مرارا - وهي تأليف قومه، وعدم تنفيرهم من الإسلام، فإنه كان مطاعا فيهم، رئيسا عليهم، فلم تؤمن إثارة الفتنة في حده ([24]).

ولا يظن من قوله - صلى الله عليه وسلم- بالعفو في الحدود قبل أن تصل للإمام، وعدم جواز العفو فيها بعد رفعها للإمام أن العبد أكرم من الله حيث عفا عن أخيه حال كان من حقه العفو، والله تعالى لم يعف عنه حين أصبح الحق له سبحانه؛ لأن هذا فهم قاصر، وقياس خاطئ، فلله المثل الأعلى في العفو والرحمة وفي كل ما اتصف به سبحانه من صفات الكمال، وفات هؤلاء أن الحد بعد ما رفع للإمام أصبح معلوما ومذاعا، فلو عفا الإمام لتجرأ الخلق على حدود الله، وقد قال سبحانه وتعالى: )تلك حدود الله فلا تقربوها( (البقرة: ١٨٧)، كما أن العفو في هذه الحالة يبطل الغاية من إقامة الحدود، وهي المحافظة على المجتمع المسلم من الخبائث والجرائم، ثم إن رفع الحد للإمام قد جعل الحق حقين: للآدمي حق، ولله - سبحانه وتعالى- حق، ولا يجوز للآدمي العفو في هذه الحالة، للأسباب التي ذكرناها. فليست المسألة كما زعموا، وإلا فكيف تكون الصنعة أكرم أو أفضل من الصانع؟

وخلاصة القول في هذا: أنه لا تعارض بين ما قررته الأحاديث النبوية وعدم إقامة الحد على عبد الله بن أبي بن سلول.

الخلاصة:

  • لقدأنزلاللهالحدودتطهيراوكفارةلمرتكبيها،ليعودواإلىماكانواعليهقبلالحدمنتقوى،وللحفاظعلىالمجتمعالمسلممنالفسادوانتشارالرذيلة.
  • إناللهأوجب على السلطان أو من ينوب عنه إقامة الحدود ما دامت قد رفعت إليه، ولا يجوز العفو فيها - حينئذ - لأنها أصبحت حقا لله تعالى.
  • لاتعارضبينماصحمنأحاديثإقامةالحدود،والأحاديثالتيتدعوإلىالعفوودرءالحدودبالشبهات؛وذلكلأنمجالالعفوقبلوصولالحدللإمام، أما بعد رفعه إليه فقد وجبت إقامته.
  • إنالأحاديثالتيزعمالطاعنونأنهاتعارضصريحالقرآنوصحيحالسنةالنبوية - أحاديثضعيفةأثبتعلماءالحديثعدمصلاحيتهاللاحتجاج،ولايعارضحديثصحيحبحديثضعيف.
  • إنحدالقذفحقمشتركبينالآدميوربهسبحانه وتعالى، ولا يستوفى إلا بمطالبة المقذوف.
  • لميقمالنبي - صلىاللهعليهوسلم- الحدعلىعبداللهبنأبي؛لأنالسيدةعائشةلمتطالببه،ولميثبتعليهالحدبالإقرارأوالبينة،ومنثمانتفىوجوبإقامةالحد.
  • وقيلإنالنبي - صلىاللهعليهوسلم- تركحدهلمصلحة أكبر منه، وهي تأليف قلوب قومه، وتجنبا لفتنة متوقعة، والحد تطهير له وهذا منافق وعده الله العذاب العظيم فكفاه ذلك عن الحد.
  • ومنثملايصحالقولبتعارضفعلالنبي - صلىاللهعليهوسلم- فيعدمحدهابنسلول،معأحاديثوجوبإقامةالحدودأوالقرآنالكريم، كما لا يصح القياس على هذه الواقعة، لأن الأصل حسن الظن بالمسلم، أما هذا فمنافق معلوم النفاق.

 

(*) مختلف الحديث وأثره في أحكام الحدود والعقوبات، د. طارق بن محمد الطواري، دار ابن حزم، بيروت، ط1، 1428هـ/ 2007م. أحاديث حد السرقة في ضوء أصول التحديث رواية ودراية، د. سعد المرصفي، مؤسسة الريان، بيروت، ط1، 1416هـ / 1995م.

[1]. الموسوعة الفقهية، وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية ـ الكويت، 1410هـ/ 1989م، (17/ 129).

[2]. صحيح: أخرجه أبو داود في سننه (بشرح عون المعبود)، كتاب: الحدود، باب: يعفى عن الحدود ما لم تبلغ السلطان، (12/ 26، 27)، رقم (4366). وصححه الألباني في صحيح وضعيف سنن أبي داود برقم (4376).

[3]. صحيح: أخرجه أبو داود في سننه (بشرح عون المعبود)، كتاب: القضاء، باب: في الرجل يعين على خصومه من غير أن يعلم أمرها، (10/ 4)، رقم (3592). وصححه الألباني في صحيح وضعيف سنن أبي داود برقم (3597).

[4]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: أحاديث الأنبياء، باب: رقم (54)، (6/ 593)، رقم (3475).

[5]. حسن: أخرجه ابن ماجه في سننه، كتاب: الحدود، باب: إقامة الحدود، (2/ 848)، رقم (2540). وحسنه الألباني في صحيح وضعيف سنن ابن ماجه برقم (2540).

[6]. صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: الحدود، باب: من اعترف على نفسه بالزنا، (6/ 2634)، رقم (4341).

[7]. أعلام الموقعين عن رب العالمين، ابن قيم الجوزية، تحقيق: د. طه عبد الرءوف سعد، دار الجيل، بيروت، د. ت، (2/ 114).

[8]. صحيح: أخرجه أبو داود في سننه (بشرح عون المعبود)، كتاب: الحدود، باب: يعفى عن الحدود ما لم تبلغ السلطان، (12/ 26، 27)، رقم (4366). وصححه الألباني في صحيح وضعيف سنن أبي داود برقم (4376).

[9]. شرح عمدة الأحكام، ابن جبرين، دروس صوتية قام بتفريغها موقع الشبكة الإسلامية، (69/ 10).

[10]. أحاديث حد السرقة في ضوء أصول التحديث رواية ودراية، د. سعد المرصفي، مؤسسة الريان، بيروت، ط1، 1416هـ/ 1995م، ص100، 101.

[11]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: الحدود، باب: كراهة الشفاعة في الحد إذا رفع إلى السلطان، (12/ 89)، رقم (6788). صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: الحدود، باب: قطع السارق الشريف وغيره، والنهي عن الشفاعة في الحدود، (6/ 2627)، رقم(4331).

[12]. صحيح: أخرجه أبو داود في سننه (بشرح عون المعبود)، كتاب: الحدود، باب: في من سرق من حرز، (12/ 41)، رقم (4383). وصححه الألباني في صحيح وضعيف سنن أبي داود برقم (4394).

[13]. شرح صحيح مسلم، النووي، تحقيق: عادل عبد الموجود وعلي معوض، مكتبة نزار مصطفى الباز، مكة المكرمة، ط2، 1422هـ/ 2001م، (6/ 2629).

[14]. صحيح لغيره: أخرجه أحمد في مسنده، باقي مسند الأنصار، حديث أبي أمية رضي الله عنه، رقم (22561)، وقال عنه شعيب الأرنؤوط في تعليقه على المسند: صحيح لغيره.

[15]. صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: الحدود، باب: من اعترف على نفسه بالزنا، (6/ 2636)، رقم (4351).

[16]. صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: الحدود، باب: من اعترف على نفسه، (6/ 2637)، رقم (4352).

[17]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: الحدود، باب: هل يقول الإمام للمقر: لعلك لمست أو غمزت؟، (12/ 138)، رقم (6824).

[18]. قواعد الأحكام في مصالح الأنام، العز بن عبد السلام، دار المعارف، بيروت، د. ت، (2/ 127).

[19]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: الحدود، باب: إذا أقر بالحد ولم يبين هل للإمام أن يستر عليه؟ (12/ 136، 137)، رقم (6823).

[20]. فتح الباري بشرح صحيح البخاري، ابن حجر العسقلاني، تحقيق: محب الدين الخطيب وآخرين، دار الريان للتراث، القاهرة، ط1، 1407هـ/ 1987م، (12/ 137، 138)

[21]. أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه، كتاب: الحدود، باب: في درء الحدود بالشبهات، (6/ 514)، رقم (1).

[22]. ضعيف: أخرجه الترمذي في سننه (بشرح تحفة الأحوذي)، كتاب: الحدود، باب: ما جاء في درء الحدود، (4/ 572)، رقم (1444). وضعفه الألباني في صحيح وضعيف سنن الترمذي برقم (1424).

[23]. ضعيف: أخرجه ابن ماجه في سننه، كتاب: الحدود، باب: الستر على المؤمن ودفع الحدود بالشبهات، (2/ 850)، رقم (2545). وضعفه الألباني في صحيح وضعيف سنن ابن ماجه برقم(2545).

[24]. زاد المعاد في هدي خير العباد، ابن قيم الجوزية، تحقيق: شعيب الأرنؤوط وعبد القادر الأرنؤوط، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط7، 1405هـ/ 1985م، (3/ 263، 264).

 

  • الاثنين AM 12:41
    2020-10-19
  • 1487
Powered by: GateGold