المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 412476
يتصفح الموقع حاليا : 388

البحث

البحث

عرض المادة

الزعم أن السنة لا تعبر عن المرحلة المكية

الزعم أن السنة لا تعبر عن المرحلة المكية(*)

 مضمون الشبهة:

 يزعم بعض الطاعنين أن السنة النبوية لا تعبر عن المرحلة المكية، على الرغم من أنها قدمت للمرحلة المدنية أحاديث لا أهمية لها، وظهرت فيها روح تلك المرحلة. ويتساءلون: كيف نحتج بالسنة، وهي قاصرة على أحاديث المرحلة المدنية، التي لا أهمية لها، المهملة للمرحلة المكية التي هي مهد البعثة والرسالة المحمدية؟! رامين من وراء ذلك إلى إنكار حجية السنة؛ لكونها ـ من وجهة نظرهم - لم تعبر عن مرحلة مهمة من مراحل الدعوة المحمدية.

وجوها إبطال الشبهة:

1) إن المرحلة المكية هي مهد البعثة المحمدية؛ لذا انصرفت لإرساء عقيدة التوحيد، وتهذيب الأخلاق والنفوس، وقد كثرت الأحاديث الصحيحة التي تنطق بهذا الأمر مؤكدة عليه، موردة أخبار وتفاصيل تلك المرحلة كاملة، فكيف يزعمون أن السنة قد خلت من الأحاديث التي تعبر عن تلك الفترة؟!

2) إن السنة النبوية لها أهمية عظيمة سواء في المرحلة المكية، أو في المرحلة المدنية، وقد جاءت معبرة عنهما، وما ادعاه الزاعمون من أن أحاديث المرحلة المدنية تخلو من أي شيء مهم أمر تكذبه الروايات الصحيحة المأثورة عن هذه المرحلة، والتي حفلت بتشريعات كثيرة.

التفصيل:

أولا. لم تغفل كتب السنة أحاديث هذه المرحلة، وإنما تحدثت عنها في أكثر من موضع من دواوين السنة:

إن ما حوته كتب السنة من أحاديث تتناول المرحلة المكية من الدعوة - ليثبت لكل عاقل له نظر بطلان ادعاء ما قيل بشأن هذه الفرية؛ لأن أحاديث هذه المرحلة كثيرة في كتب السنة، وقد اهتمت في المقام الأول بتزكية نفوس المؤمنين، وإعدادهم لمهمة تحمل الدين وتبليغه، فجاءت أحاديث هذه المرحلة تتناول العقائد والدعوة إلى التوحيد، وحسن الخلق، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

حتى ما نزل من القرآن في هذه المرحلة، إنما جاء متحدثا عن ذلك، ومؤكدا له، قال تعالى: )هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين (2)( (الجمعة) فقوله: )ويزكيهم( أي: يدلهم على الأخلاق الحسنة الفاضلة، وينهاهم عن الرذيل والمبتذل من العادات. ومن الأحاديث الصحيحة التي وردت في كتب السنة تتحدث عن هذه المرحلة المكية، وتعضد ما جاءت به الآية الكريمة، ما رواه أحمد في مسنده من حديث أم سلمة، الذي مفاده أن النجاشي سأل الصحابة الذين عنده في الحديث عن الإسلام قائلا: «ما هذا الدين الذي فارقتم فيه قومكم، ولم تدخلوا في ديني، ولا في دين أحد من هذه الأمم؟ فقال جعفر بن أبي طالب: أيها الملك كنا قوما أهل جاهلية نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، يأكل القوي منا الضعيف، فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولا منا، نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه، فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش، وقول الزور، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنة، وأمرنا أن نعبد الله وحده ولا نشرك به شيئا، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام»[1].

وما جاء في صحيح البخاري من حديث أبي سفيان بن حرب يبين طبيعة تلك المرحلة الأولى من الدعوة، وما كانت تعالجه في النفوس من سلوكيات، وما كانت تزرعه من أخلاقيات؛ حيث سأله هرقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال له: «... ماذا يأمركم؟ قلت - أي: أبو سفيان: يقول اعبدوا الله وحده ولا تشركوا به شيئا، واتركوا ما يقول آباؤكم، ويأمرنا بالصلاة والصدق والعفاف والصلة»[2].

ولم تكتف كتب السنة بما سبق ذكره من أخبار عبرت عن المرحلة الأولى (المكية)، وإنما أخبرتنا بما حدث فيها من أخبار نزول الوحي، وما كان من أحوال الدعوة في بدايتها، وما كان من ابتلاء ومحنة عاشها أوائل الداخلين في الإسلام. وقد عبرت الأحاديث عن ذلك.

فعن عائشة رضي الله عنها قالت: «أول ما بدئ به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، ثم حبب إليه الخلاء، وكان يخلو بغار حراء فيتحنث فيه - وهو التعبد - الليالي ذوات العدد، قبل أن ينزع إلى أهله ويتزود لذلك، ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها، حتى جاءه الحق وهو في غار حراء، فجاءه الملك فقال: اقرأ...»[3].

ولم تغفل السنة ما حدث في بدء الوحي، إلى أن جاء الأمر بالدعوة سرا، فعن جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنه - وهو يحدث عن بدء الوحي - أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: «... ثم فتر عني الوحي فترة، فبينا أنا أمشي سمعت صوتا من السماء، فرفعت بصري قبل السماء، فإذا الملك الذي قد جاءني بحراء قاعد على كرسي بين السماء والأرض، فجثثت منه، حتى هويت إلى الأرض، فجئت أهلي فقلت زملوني زملوني، فأنزل الله تعالى: )يا أيها المدثر (1) قم فأنذر (2)( (المدثر) إلى قوله: )والرجز فاهجر (5)( (المدثر)»[4].

وظلت الدعوة في طورها السري، حتى جاء الأمر بالدعوة جهرا، وهذا أيضا لم تغفله السنة، فقد روي عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: "لما أنزلت هذه الآية )وأنذر عشيرتك الأقربين (214)( (الشعراء)، دعا النبي - صلى الله عليه وسلم - قريشا، فاجتمعوا فعم وخص، فقال: «يا بني كعب بن لؤي أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني مرة بن كعب أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني عبد شمس أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني عبد مناف أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني هاشم أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني عبد المطلب أنقذوا أنفسكم من النار، يا فاطمة أنقذي نفسك من النار، فإني لا أملك لكم من الله شيئا، غير أن لكم رحما سأبلها ببلالها [5] »[6].

وبالطبع بعد أن أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالجهر بالدعوة، كان لا بد أن يرسي عقيدة التوحيد - وهي "لا إله إلا الله" - مما جعله يقوم بحملة شعواء على الشرك والوثنية، وعلى الشبهات التي تذرع بها أهل مكة للإصرار على الشرك والوثنية، ودخل عليهم من كل باب، وأتاهم بكل دليل، وأحالهم إلى الحسن، وضرب لهم أبلغ الأمثال، حتى انتهى بهم إلى أن تلك الآلهة لا تستطيع أن تدفع عن نفسها شر عادية الذباب، وقال: )يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب (73)( (الحج).

"ولما عاندوا واحتجوا بما كان عليه آباؤهم، نعى عليهم أن يمتهنوا كرامة الإنسان إلى هذا الحضيض من الذلة للأحجار والأصنام، وسفه أحلامهم وأحلام آباءهم الذين أهملوا النظر في أنفسهم وفي آيات الله في الآفاق، وقبح إليهم الجمود على هذا التقليد الأعمى للآباء والأجداد )أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون (170)( (البقرة)، وناقشهم كذلك في عقائدهم الضالة، التي نجمت عن تلك الوثنية من جحود الإلهيات والنبوات، وإنكار البعث والمسئولية والجزاء"[7].

واتبع النبي - صلى الله عليه وسلم - أساليب شتى في تلك المرحلة لإرساء عقيدة التوحيد، فبين أن الأصل في بني آدم التوحيد، فقال صلى الله عليه وسلم: «كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه، أو ينصرانه، أو يمجسانه»[8].

وبين لهم أن الإشراك بالله من أكبر الكبائر فقال صلى الله عليه وسلم: «ألا أنبئكم بأكبر الكبائر (ثلاثا)؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين...»[9].

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام»[10].

وتأسيسا على ما سبق، فإن تلك المرحلة كانت تستلزم هذه الخطة التي تعتبر منهجا تربويا عميق الأثر في تغير النفسية الجاهلية، وفي تربية المؤمنين تربية إسلامية جديدة.

فالمعروف عن العرب الذين جاءهم أنهم كانوا لا يخضعون لحكومة ويقيمون المعارك لأتفه الأسباب، وكان أحدهم يشهر سيفه، ويرتكب الحماقات لكلمة أو مظنة إهانة، وكانوا يتناحرون في الحق والباطل لمجرد العصبية، فمن أمثالهم التي غير الإسلام مدلولها فيما بعد: «انصر أخاك ظالما أومظلوما»، وهو خلق لا يصلح لدعوة لا تعرف إلا الحق، ومثل هؤلاء الرجال لا يصلحون جنودا لفكرة ونظام وقيادة، ومن ثم كانت هذه الخطة بعيدة الأثر في صياغة نفوس المؤمنين صياغة جديدة لا تمت إلى الجاهلية بسبب، فضلا عن أن الصبر على البلاء، وتحمل المحنة والعفو على الإساءة - مع القدرة على الانتصار - كانت مدرسة لها نصيب كبير في إعداد المؤمنين.

ولا شك أن التزام هذه الخطة كان عسيرا على بعض النفوس، فقد روي أن عبد الرحمن بن عوف وأصحابا له أتوا النبي - صلى الله عليه وسلم - بمكة، فقالوا له: «يا رسول الله، إنا كنا في عز ونحن مشركون، فلما آمنا صرنا أذلة. فقال: إني أمرت بالعفو، فلا تقاتلوا القوم، فلما حوله الله إلى المدينة أمر بالقتال فكفوا، فأنزل الله - عز وجل - قوله: )ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم( إلى قوله تعالى: )فما لكم في المنافقين فئتين والله أركسهم بما كسبوا أتريدون أن تهدوا من أضل الله ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا( (النساء: 77ـ ٨٨)»[11].

كما كان تحمل البلاء والصبر على التعذيب عسيرا على نفوس أخرى، فقد روي عن الخباب بن الأرت، وكان ممن يعذبون بالكي بالنار أنه قال: «أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو متوسد بردة وهو في ظل الكعبة - وقد لقينا من المشركين شدة - فقلت: يا رسول الله، ألا تدعو الله لنا؟ فقعد وهو محمر وجهه فقال: لقد كان من قبلكم ليمشط بمشاط الحديد ما دون عظامه من لحم أو عصب، ما يصرفه ذلك عن دينه، ويوضع الميشار[12] على مفرق رأسه فيشق باثنين، ما يصرفه ذلك عن دينه، وليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت ما يخاف إلا الله»[13][14].

وعلى هذا سار النبي - صلى الله عليه وسلم - في تربية المسلمين في مكة؛ لأن الأخلاق الرفيعة جزء من العقيدة الصحيحة، وقد ربى صحابته على مكارم الأخلاق بأساليب متنوعة، وكان يقرأ عليهم ما ينزل من قرآن، فإذا سمعوه وتدبروا عملوا بتوجيهاته، والمتدبر للقرآن المكي يجده مليئا بالحث على مكارم الأخلاق، وعلى تنقية الروح وتصفيتها من كل ما يعيق سيرها إلى الله تعالى ورسوله، فالرسول - صلى الله عليه وسلم - هو القدوة الكاملة، قال تعالى: )وإنك لعلى خلق عظيم (4)( (القلم).

وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يربي أصحابه - رضي الله عنهم - على حسن الخلق، ويحثهم عليه، فعن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «ما من شيء يوضع في الميزان أثقل من حسن الخلق، وإن صاحب حسن الخلق ليبلغ به درجة صاحب الصوم والصلاة»[15].

وسئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن أكثر ما يدخل الناس الجنة؟ فقال: «تقوى الله وحسن الخلق، وسئل عن أكثر ما يدخل الناس النار؟ فقال: الفم والفرج»[16].

وقد بين - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه: «إن من أحبكم إلي، وأقربكم مني مجلسا يوم القيامة أحاسنكم أخلاقا، وإن من أبغضكم إلي وأبعدكم مني يوم القيامة الثرثارون، والمتشدقون، والمتفيهقون، قالوا: يا رسول الله، قد علمنا الثرثارين والمتشدقين، فما المتفيهقون؟ قال: المتكبرون»[17].

وهكذا نجد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يرسي العقيدة، ويهذب الأخلاق في تلك المرحلة، وليس هذا فحسب، فقد ذكرت أيضا ما لقيه النبي - صلى الله عليه وسلم - من إيذاء وتعذيب، وما لقيته دعوته من اضطهاد في محاولات شتى للقضاء على تلك الدعوة، فقد روى البخاري عن عروة بن الزبير، قال: سألت ابن عمرو بن العاص: أخبرني بأشد شيء صنعه المشركون بالنبي - صلى الله عليه وسلم - قال: بينا النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي في حجر الكعبة، إذ أقبل عقبة بن أبي معيط، فوضع ثوبه في عنقه، فخنقه خنقا شديدا، فأقبل أبو بكر حتى أخذ بمنكبه ودفعه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: )أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله( (غافر: ٢٨)[18].

بالإضافة إلى ما سبق فإن السنة النبوية قد أخبرتنا عن معجزة الإسراء والمعراج، والتي فرضت الصلاة فيها، وكانت في المرحلة المكية، فقد روى أنس بن مالك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «أوتيت بالبراق وهو دابة أبيض طويل فوق الحمار ودون البغل، يضع حافره عند منتهى طرفه، قال: فركبته حتى أتيت بيت المقدس...» [19]

وقد فرضت الصلاة في تلك الليلة المباركة كما روى البخاري في صحيحه عن أنس بن مالك، قال كان أبو ذر يحدث أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «... ففرض الله على أمتي خمسين صلاة، فرجعت بذلك حتى مررت على موسى، فقال: ما فرض الله لك على أمتك؟ قلت: فرض خمسين صلاة، قال: فارجع إلى ربك، فإن أمتك لا تطيق ذلك. فراجعني فوضع شطرها، فرجعت إلى موسى، قلت: وضع شطرها، فقال: راجع ربك، فإن أمتك لا تطيق. فراجعت، فوضع شطرها، فرجعت إليه فقال: ارجع إلى ربك فإن أمتك لا تطيق ذلك، فراجعته فقال: هي خمس وهي خمسون، لا يبدل القول لدي...»[20].

ومن هذه الأحاديث التي ذكرناها وغيرها كثير جدا لم يتسع المقام لذكرها يتبين أن السنة النبوية قد عبرت بصدق عن المرحلة المكية، التي هي مهد الرسالة، فأخبرتنا عن كل ما حدث ابتداء من نزول الوحي على النبي - صلى الله عليه وسلم - ومرورا بالدعوة سرا وجهرا، والتعذيب والاضطهادات التي لقيها المسلمون، والحرب التي لقيتها الدعوة في تلك المرحلة، وغيرها من الأحداث المكية، كما أن تلك المرحلة تستلزم هذا المنهج الذي سلكه النبي - صلى الله عليه وسلم - لتغيير الحياة الجاهلية إلى الحياة الإسلامية، فقد ظل ثلاثة عشر عاما في مكة، كانت مهمته الأساسية فيها تنحصر في تربية الجيل المؤمن الذي يستطيع أن يحمل عبء الدعوة، وتكاليف الجهاد لحمايتها ونشرها في الآفاق، ولهذا لم تكن المرحلة المكية، مرحلة تشريع بقدر ما كانت مرحلة تربية وتكوين[21]. أليس في إخبار السنة عن هذه الأحداث التي ذكرناها وتطوراتها ومعالجتها - تعبيرا عن المرحلة المكية وروحها؟!

ثانيا. أهمية السنة النبوية في المرحلة المدنية:

مما لا شك فيه أن السنة النبوية كلها ذات أهمية، وخاصة أحاديث المرحلة المدنية؛ وذلك لأن أكثرها يتعلق بدقائق التشريع، وتفاصيل الأحكام، وأنواع القوانين المدنية، والجنائية، والحربية، والاجتماعية، والدولية، والحقوق الشخصية، وسائر ضروب العبادات والمعاملات والحدود وغيرها[22]؛ فهي مرحلة التشريعات بعد رسوخ عقيدة التوحيد في الأمة الإسلامية.

ومن هذا نجد أن السنة قد حددت مجرى الحياة الإسلامية في ظل النبوة، فقد كان الوحي ينزل على الرسول - صلى الله عليه وسلم - وفق الحوادث الصغيرة التي تتولد من حركة النشاط اليومي، فيتكفل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بإيجاد حلول لها عن طريق الوحي المتلو وغير المتلو، وقد أخبر الله نبيه - صلى الله عليه وسلم - أنه أنزل إليه الذكر ليبين للناس ما نزل إليهم، فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يبين ما أراده الله من بعض القضايا، إما بالقول أو بالفعل، أو بهما معا أو بإقرار فعل الصحابة.

وعلى هذا فالسنة لها وظيفة لا تتركز في المرحلة المدنية فقط، توضح لنا هذه الوظيفة إدارة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لمجالات الحياة اليومية للمسلمين، بما يكشف لنا وقوع العمل بالسنة، وقوعا واضحا وفعليا.

لذا سنوضح بعض الأمثلة المتنوعة التي تبين وتوضح أهمية السنة في الجانب التشريعي في المرحلة المدنية؛ لتبين لنا بطلان هذا الزعم الفاسد:

  1. في مجال العبادة:

فقد فرض القرآن الكريم على المسلمين الصلاة والزكاة؛ فقال عز وجل: )وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة( (البقرة: ٤٣). ولم يبين كيفية الصلاة، وعدد ركعاتها، وعددها في اليوم والليلة، وما يجهر فيه، وما يسر، ولكن السنة هي التي وضحت كل ذلك، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «صلوا كما رأيتموني أصلي»[23].

وكذلك الزكاة فالسنة هي التي بينت أنواعها ومقاديرها.

  1. في مجال المال:

عندما حددت آية الفرائض حقوق الورثة، لم تتعرض لتوريث الكافر من المسلم، ولا العبد من الحر، ولا القاتل من قتيله، ولكن السنة هي التي أضافت تلك الأحكام إلى القواعد العليا في القرآن المتعلقة بالمواريث[24].

وأيضا حرم الله الربا، وكان الربا ربا الجاهلية، فنسخ الدين بالدين، فكان المدين، إما أن يربي أو يقضي الدين في الحال، ولكن السنة تلحق به كل ما يشترك معه في العلة، وهي الزيادة من غير عوض فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: «الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، مثلا بمثل، سواء بسواء، يدا بيد، فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد»[25]. وفي رواية: «فمن زاد أو استزاد فقد أربى، الآخذ والمعطى فيه سواء»[26].

  1. في مجال الجناية:

لقد أمر الله - سبحانه وتعالى - بقطع اليد في السرقة، فقال عز وجل: )والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما( (المائدة: ٣٨).

ولكن الآية جعلت قطع اليد على إطلاقه، "ولم تبين قدر المسروق الذي يجب فيه القطع، ولا مكان القطع، وفي أي اليدين يكون، فجاءت السنة لتحديد قدر المسروق الذي يجب فيه القطع، وأنه ربع دينار من الذهب، أو عشرة دراهم من الفضة، وحددت مكان القطع، وأنه من الكوع لا من المرفق، وأنه من اليد اليمنى فقط"[27][28].

  1. في مجال الأسرة:

بينت السنة تحريم الجمع بين البنت وعمتها أو خالتها في عصمة زوج واحد في وقت واحد، وقد بين النبي - صلى الله عليه وسلم - الحكمة التشريعية من الجمع.

ولم يرد في القرآن إلا تحريم هذا الجمع بين الأختين فحسب، وأضافت السنة إلى ذلك التحريم ما ماثل تلك العلاقة من طريق الرضاع لا من النسب، فقال: «يحرم من الرضاعة ما يحرم بالنسب»[29].

والذي ورد تحريمه من الرضاع في القرآن هو الأمهات من الرضاعة والأخوات من الرضاعة فقط )حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم وخالاتكم وبنات الأخ وبنات الأخت وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة وأمهات نسائكم وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف إن الله كان غفورا رحيما (23)( (النساء)[30].

وبينت السنة أيضا الأحكام التشريعية المتعلقة بالزواج، والطلاق، والخلع، وغيرها من الأمور المتعلقة بالأسرة.

  1. الحاجات اليومية:

وضحت السنة النبوية الحلال من الحرام، والطيب من الخبيث، وأشياء لم يوضح القرآن علاقتها بأحد الأصلين، ومن ذلك «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن أكل كل ذي ناب من السباع، وكل ذي مخلب من الطير، ونهى عن أكل لحم الحمر الأهلية»[31].

فالقرآن الكريم أحل صيد البحر وحرم الميتة، فبقيت بينهما مسائل لم تتعلق بأحد الحكمين مثل ميتة البحر، هل هي من صيده الحلال، أو هي من الميتة الحرام؟ فبين الرسول - صلى الله عليه وسلم - أنها من صيده الحلال بقوله: «هو الطهور ماؤه الحل ميتته»[32] [33].

ومن خلال ما سبق يتضح دور السنة، وأهميتها في حياة المسلمين، حيث إنها لم تترك أمرا من أمور المسلمين إلا ووضحته من خلال الدور المنوط بها، وهو تفسير القرآن وبيانه وتشريع الأحكام التي أمر الله نبيه بها.

ومما يؤكد أهمية السنة النبوية أن غالب الأحكام التي يدور عليها الفقه في شتى المذاهب المعتبرة مرجعها إلى السنة، ولو حذفنا السنة وما تفرع عليها واستنبط منها من تراثنا الفقهي، ما بقي عندنا فقه يذكر.

ولهذا كان مبحث "السنة" باعتبارها المصدر الثاني من مصادر التشريع في جميع كتب أصول الفقه، ولدى جميع المذاهب المعتبرة مبحثا صافيا طويل الذيل يتناول حجيتها وثبوتها، وشرط قبولها، ودلالتها، وأقسامها إلى غير ذلك، مما لا يخفى على الدارسين[34].

وفي ضوء ما سبق يتبين أن السنة النبوية جاءت مفصلة لكل مراحل الدعوة الإسلامية وما في كل مرحلة من تشريعات ومبادئ وأحكام، وخاصة المدنية التي حوت النصيب الأوفر من تلك التشريعات بعد قيام الدولة الإسلامية واستقرار المجتمع في المدينة، كما أن جميع الأبواب الفقهية مأخوذة من تلك الأحاديث، فكيف ينكرون أهميتها؟!

الخلاصة:

  • إنالمرحلةالمكيةلمتكنمهملةفيكتبالمحدثين،وإنماذكرتبكلتفصيلاتها؛فقدامتلأتكتبالسنة بالأحاديث التي سردت أحاديث هذه المرحلة كاملة، وفي هذا دحض لفرية الطاعنين.
  • منالأحاديثالتيعبرتعنالمرحلةالمكيةحديثنزولالوحيعلىالنبي - صلىاللهعليهوسلم - وتعذيبالمسلمينالأوائل،والاستهزاءبالنبي - صلىاللهعليهوسلم - وسؤالملكالرومأبا سفيان، وملك الحبشة جعفر بن أبي طالب عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وحديث الإسراء والمعراج وغيرها كثير.
  • أحاديثالمرحلةالمكيةلمتركزعلىالأحكامالفقهيةبقدركبير،وإنمااهتمتفيالمقامالاولبنشرعقيدةالتوحيدبينالناس،وتزكيةالنفوس،والقرآنالمكي نفسه جاء مؤكدا لذلك؛ نظرا لطبيعة المرحلة المكية وأنها كانت بداية الدعوة إلى الإسلام.
  • إنمازعمهالمشككونمنعدمأهميةالسنةفيالمرحلةالمدنيةمجافللحقائق؛لأنهاهيالتيفصلتجميعالأحكاموالتشريعاتالتينزلبهاالقرآنالمدني.
  • إنمداركتبالفقه ابتداء وانتهاء، يقوم على أحاديث السنة لا سيما المدني منها، ولو فرغنا كتب الفقه من الحديث، لما بقي عندنا فقه يذكر، ولو لم تكن للسنة أهمية لما اعتمد عليها الفقهاء.
  • هكذاجاءتالسنةالنبويةمعبرةعنكلمرحلةمنمراحلالدعوةالإسلاميةوتطوراتكلمرحلةفيمجالات الدعوة والتشريع والعقيدة وكل أحكام الإسلام.

 

 

(*) الإسلام في تصورات الغرب, د. محمود حمدي زقزوق، مكتبة وهبة، مصر، 1407هـ/ 1987م.

[1]. صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، مسند آل البيت، مسند جعفر بن أبي طالب، (3/ 182)، رقم (1740). وقال الشيخ أحمد شاكر في تعليقه على المسند: إسناده صحيح.

[2]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: بدء الوحي، باب: رقم (6)، (1/ 42)، رقم (7).

[3]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: بدء الوحي، باب: رقم (3)، (1/ 30)، رقم (3).

[4]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: بدء الخلق، باب: إذا قال أحدكم "آمين" والملائكة في السماء فوافقت إحداهما الأخرى غفر له ما تقدم من ذنبه، (6/ 361)، رقم (3238).

[5]. سأبلها ببلالها: سأصلها، وشبهت قطيعة الرحم بالحرارة، ووصلها بإطفاء الحرارة ببرودة، ومنه: بلو أرحامكم، أي: صلوها.

[6]. صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: الإيمان، باب: في قوله تعالى: ) وأنذر عشيرتك الأقربين (، (2/ 701)، رقم (491).

[7]. مناهل العرفان في علوم القرآن, محمد عبد العظيم الزرقاني، مكتبة نزار مصطفى الباز، الرياض، 1417هـ/ 1996م، (1/ 171, 172).

[8]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: الجنائز، باب: ما قيل في أولاد المشركين، (3/ 290)، رقم (1385). صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: القدر، باب: معنى كل مولود يولد على الفطرة، (9/ 3772)، رقم (6631).

[9]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: الشهادات، باب: ما قيل في شهادة الزور، (5/ 309)، رقم (2653).

[10]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: الإيمان، باب: قوله تعالى: ) فإن تابوا وأقامـوا الصـلاة وآتـوا الزكـاة فخلـوا سبيلهـم إن الله غفـور رحيـم (، (1/ 95)، رقم (25). صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: الإيمان، باب: الأمر بقتال الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، (1/ 147)، رقم (124).

[11]. صحيح: أخرجه النسائي في السنن الكبرى، (6/ 325)، رقم (11112). وصححه الألباني في صحيح وضعيف سنن النسائي برقم (3086).

[12]. الميشار: المنشار

[13]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: مناقب الأنصار، باب: ما لقي النبي ـ صلـى الله عليـه وسلـم ـ وأصحـابه مـن المشركيـن بمكــة، (7/ 202)، رقم (3852).

[14]. الجهاد في الإسلام, محمد شديد، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط7، 1405هـ/ 1985م، ص69، 70.

[15]. صحيح: أخرجه الترمذي في سننه (بشرح تحفة الأحوذي)، كتاب: البر والصلة، باب: ما جاء في حسن الخلق، (6/ 118)، رقم (2071). وصححه الألباني في صحيح وضعيف سنن الترمذي برقم (2003).

[16]. حسن: أخرجه الترمذي في سننه (بشرح تحفة الأحوذي)، كتاب: البر والصلة، باب: ما جاء في حسن الخلق، (6/ 120)، رقم (2072). وحسنه الألباني في صحيح وضعيف سنن الترمذي برقم (2004).

[17]. صحيح: أخرجه الترمذي في سننه (بشرح تحفة الأحوذي)، كتاب: البر والصلة، باب: ما جاء في معالي الأخلاق، (6/ 135)، رقم (2087). وصححه الألباني في صحيح وضعيف سنن الترمذي برقم (2018).

[18]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: مناقب الأنصار، باب: ما لقي النبي ـ صلـى الله عليـه وسلـم ـ وأصحابـه مـن المشركيـن بمكــة، (7/ 203)، رقم (3856).

[19]. صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: الإيمان، باب: الإسراء برسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى السماوات وفرض الصلوات، (2/ 602)، رقم (404).

[20]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: الصلاة، باب: كيف فرضت الصلاة في الإسراء، (1/ 547)، رقم (349).

[21]. السيرة النبوية "عرض وقائع وتحليل أحداث", د. علي محمد محمد الصلابي، دار الفجر، القاهرة، ط1، 1424هـ/ 2003م، (1/ 141) بتصرف.

[22]. مناهل العرفان في علوم القرآن, محمد عبد العظيم الزرقاني، مكتبة نزار مصطفى الباز، الرياض، 1417هـ/ 1996م، (1/ 173) بتصرف.

[23]. صحيـح البخـاري (بشـرح فتـح البـاري), كتـاب: الأذان، بـاب: الأذان للمسافريــن، (2/ 131)، رقم (631).

[24]. السنة الإسلامية بين إثبات الفاهمين ورفض الجاهلين, د. رءوف شلبي، دار الطباعة الحديثة، مصر، 1987م، ص54: 58 بتصرف.

[25]. صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: المساقاة، باب: الصرف وبيع الورق بالذهب نقدا، (6/ 2465)، رقم (3986).

[26]. صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: المساقاة، باب: الصرف وبيع الورق بالذهب نقدا، (6/ 2465)، رقم (3987).

[27]. راجع ما أخرجه البخاري في صحيحه (بشرح فتح الباري)، كتاب: الحدود، باب: قول الله تعالى: ) والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما (، (12/ 99، 100)، أحاديث رقم (6789: 6798).

[28]. من جهود الأمة في حفظ السنة, أحمد حسين محمد إبراهيم، مطبعة الحسين الإسلامية، القاهرة، ط1، 1419هـ/ 1999م، ص38.

[29]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: الشهادات، باب: الشهادة على الأنساب والرضاع، (5/ 300)، رقم (2645). صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: الرضاع، باب: يحرم من الرضاعة ما يحرم من الولادة، (5/ 2246)، رقم (3505).

[30]. انظر: الشبهات الثلاثون المثارة لإنكار السنة النبوية، عبد العظيم المطعني، مكتبة وهبة، القاهرة، ط1، 1420هـ/ 1999م، ص180.

[31]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: المغازي، باب: غزوة خيبر، (7/ 550)، رقم (4218). صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: الصيد والذبائح، باب: تحريم أكل لحم الحمر الإنسية، (7/ 3014)، رقم (4918).

[32]. صحيح: أخرجه الترمذي في سننه (بشرح تحفة الأحوذي)، كتاب: الطهارة، باب: ما جاء في ماء البحر أنه طهور، (1/ 187)، رقم (96). وصححه الألباني في صحيح وضعيف سنن الترمذي برقم (69).

[33]. السنة الإسلامية بين إثبات الفاهمين ورفض الجاهلين, د. رءوف شلبي، دار الطباعة الحديثة، مصر، 1987م، ص60، 61 بتصرف.

[34]. المدخل إلى دراسة السنة النبوية، د. يوسف القرضاوي، مكتبة وهبة، مصر، ط5، 1425هـ/ 2004م، ص45، 46.

 

  • الجمعة PM 04:55
    2020-10-16
  • 1216
Powered by: GateGold