المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 412661
يتصفح الموقع حاليا : 361

البحث

البحث

عرض المادة

إنكار استقلال السنة بالتشريع

إنكار استقلال السنة بالتشريع(*)

مضمون الشبهة:

 

ينكر بعض المغرضين استقلال السنة النبوية بالتشريع فيما سكت عنه القرآن؛ بحجة أن ذلك يقدح في القرآن. زاعمين أن وظيفة السنة تقتصر على التفسير والبيان فقط، ولا تتعداهما إلى التشريع الذي هو حق إلهي محض. ويستدلون على ذلك بـما يأتي:

 

  • أنالحكموالأمروالنهي والتشريع لله سبحانه فقط، قال عز وجل:)إن الحكم إلا لله( (الأنعام: ٥٧).

 

  • قولالنبيصلىاللهعليهوسلم: «إنيلاأحرمإلاماحرماللهفيكتابه».

 

  • ويضيفونإلىذلكأنالسنةخالفتالقرآنفيكثيرمنالأحكامالتيشرعتها - ممايعداتهاماللقرآنبالنقص - وذلك في نحو:

 

o      حرم القرآن الجمع بين الأختين فقط، ثم قال عز وجل: )وأحل لكم ما وراء ذلكم( (النساء: ٢٤). فخالفت السنة، وحرمت زواج المرأة على عمتها وخالتها.

 

o      أن القرآن حرم الأم والأخت من الرضاع فقط، وأحل ما عداهن، فخالفت السنة ذلك وقالت: «يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب».

 

o      أن السنة حرمت لبس الذهب والحرير للرجال، وفي ذلك مخالفة للقرآن إذ يقول الله تعالى: )قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق( (الأعراف: ٣٢).

 

ويتساءلون: كيف نأخذ بتشريعات السنة مع وجود التشريع الإلهي المتمثل في القرآن؟!! رامين من وراء ذلك إلى الطعن في الأحكام التي استقلت السنة بتشريعها لإنكار حجيتها.

 

وجوه إبطال الشبهة:

1) إن وظيفة السنة لا تقف عند مجرد بيان ما في القرآن فقط، حتى وهي تفسر القرآن، فإن التفسير ذاته لا يخلو من إضافة؛ ما بين تخصيص عام أوتقييد مطلق أو تفصيل مجمل، وهذا في حد ذاته إضافة جديدة، ولو اقتصر دور السنة على بيان ما في القرآن، لتنافى ذلك مع حكمة الله - سبحانه وتعالى - القادر على إنزال الكتاب مفصلا لا يحتاج إلى سنة تبينه, وهذا ما لم يكن!

2) إن الاستدلال بقوله تعالى: )إن الحكم إلا لله( على قصر التشريع على الله وحده دون رسوله - استدلال خاطئ؛ إذ الحكم المقصود في الآية هو الحكم على الكافرين بتأخير العذاب وتأجيله، وهذا الأمر حكمه لله وحده إن شاء عذبهم في الدنيا وإن شاء أجله إلى الآخرة.

3) حديث: "إني لاأحرم إلا ما حرم الله في كتابه"، حديث منقطع لا يصلح الاستدلال به، وعلى فرض صحته، فإنه لا يصلح أيضا أن يكون دليلا على صحة قولهم وادعائهم؛ لأن لفظ "كتابه" يشمل القرآن والسنة معا.

4) إن الخلاف بين القرآن والسنة خلاف مزعوم؛ إذ كيف يعقل أن يختلفا، وهما من مشكاة واحدة، وما يزعم أنه مخالفة، إنما هو زيادة علم تولت السنة تبليغه، والأمور التي بينتها السنة ولم ترد في القرآن دليل على استقلال السنة بالتشريع لا على اتهام القرآن بالنقص كما يزعم المفترون.

التفصيل:

أولا. وظيفة السنة لا تقتصر على بيان ما في القرآن فقط:

إن وظيفة السنة لا تقتصر على بيان ما في القرآن وشرحه فقط، إنما قررت تشريعات جديدة لم يذكرها القرآن، فهي حين تنص على تحريم الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها وغير ذلك، إنما تأتي بتشريع جديد، ولو اقتصر دور السنة على بيان ما في القرآن فقط دون إضافة، لتنافى ذلك مع حكمة الله تعالى القادر على إنزال القرآن واضحا مفصلا، لا يحتاج إلى سنة تبينه أو تشرحه، وما ذلك إلا لأن السنة أوسع من القرآن؛ إذ إنها تستطيع أن تتحمل ما لا يتحمله القرآن من أحكام تحتاج إلى شرح وبسط في القول.

وإن المتأمل في الكتب الفقهية على تنوعها، يجدها تعتمد في مبدئها ومنتهاها على السنة النبوية، ولو فرغنا كتب الفقه من الحديث، لما بقي عندنا فقه يذكر, وفي تقرير هذه الحقيقة يقول د. القرضاوي: "والحق الذي لا مراء فيه، أن جل الأحكام التي يدور عليها الفقه في شتى المذاهب المعتبرة، قد ثبت بالسنة، ومن طالع كتب الفقه تبين له ذلك بكل جلاء، ولو حذفنا السنن وما تفرع عليها، واستنبط منها من تراثنا الفقهي ما بقي عندنا فقه يذكر"[1].

ثم يتطرق بعد ذلك إلى إثبات أن السنة لها أن تستقل بتشريعات فيما سكت عنه القرآن من أحكام، فيقول: "والناظر فيما حفلت به كتب السنة، يجده على ثلاثة أقسام:

  1. قسم مؤكد ومؤيد لما جاء به القرآن دون أن يضيف تفصيلا أو بيانا، مثل الأحاديث التي جاءت تدعو إلى بر الوالدين، والتحذير من عقوقهما.
  2. قسم مبين للقرآن، إما بتفصيل ما أجمله، أو تخصيص ما عممه، أو تقييد ما أطلقه أو نحو ذلك.
  3. وقسم دل على حكم سكت القرآن عنه، فلم ينفه، ولم يثبته، كحديث "تقضي الحائض الصوم ولا تقضي الصلاة"، وتحريم الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها، وميراث الجدة والعصبة، وأحكام الشفعة، وأن يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب... وغير ذلك مما وردت به الأحاديث الكثيرة في العبادات والمعاملات، وهذا القسم الثالث لا يعارض القرآن بوجه ما، كما قال ابن القيم رحمه الله وإنما هو تشريع مبتدأ من النبي - صلى الله عليه وسلم - تجب طاعته فيه، ولا تحل معصيته، وليس هذا تقديما لها على كتاب الله، بل امتثال لما أمر الله به من طاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، ولو كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يطاع في هذا القسم لم يكن لطاعته معنى، ولسقطت طاعته المختصة به، وإنه إذا لم تجب طاعته إلا فيما وافق القرآن لا فيما زاد عليه كذلك، لم يكن له طاعة خاصة تختص به، ولا معنى لقوله عز وجل: )من يطع الرسول فقد أطاع الله( (النساء: ٨٠)[2].

وبناء على ما سبق يتضح أن ما ادعاه المشتبهون من اختصاص القرآن بالتشريع دون السنة كلام لا تزكيه الأدلة الشرعية، بل تدحضه وتفنده.

ثانيا. قوله تعالى: )إن الحكم إلا لله( أي في تأخير العذاب وتأجيله للكافرين وليس في الأمور التشريعية:

إن استدلال الطاعنين بقوله تعالى: )إن الحكم إلا لله( على عدم صلاحية التشريع استدلال باطل؛ إذ إن سياق الآيات التي وردت فيها يوضح أنها تتحدث عن شيء آخر غير ما زعموا، وليتضح الأمر نسوق الآيتيتن، يقول تعالى: )قل إني نهيت أن أعبد الذين تدعون من دون الله قل لا أتبع أهواءكم قد ضللت إذا وما أنا من المهتدين (56) قل إني على بينة من ربي وكذبتم به ما عندي ما تستعجلون به إن الحكم إلا لله يقص الحق وهو خير الفاصلين (57)( (الأنعام).

والمعنى أنه ليس عندي من العذاب الذي تستعجلون به؛ فإن الكافرين "كانوا لفرط تكذيبهم يستعجلون نزوله استهزاء نحو قولهم: )أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا( (الإسراء: ٩٢)، )اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء( (الأنفال: ٣٢)، وقيل: ما عندي من الآيات التي تقترحونها، )إن الحكم إلا لله( أي: ما الحكم إلا لله في تأخير العذاب وتأجيله"[3].

يقول الشعراوي: "إن الحكم لله وحده، فإن شاء أن ينزل عذابا ويعجل به في الدنيا كما أنزل على بعض الأقوام من قبل فلا راد له، وإن شاء أن يؤخر العذاب إلى أجل أو إلى الآخرة فلا معقب عليه"[4].

فالحكم المقصود في الآية هو الحكم على هؤلاء الكافرين بالعذاب في الدنيا أو تأجيله إلى الآخرة، ولا علاقة لها بأن التشريع لله - سبحانه وتعالى - دون رسوله صلى الله عليه وسلم. وكيف يقتصر التشريع على القرآن دون السنة، وقد أمرنا الله - عز وجل - بالرجوع إلى حكم النبي - صلى الله عليه وسلم - في مثل قوله عز وجل: )فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم( (النساء: ٦٥). أمر الحق - سبحانه وتعالى - بالرجوع إلى حكم النبي - صلى الله عليه وسلم - والنزول عليه حال التنازع، قال تعالى: )فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر( (النساء: ٥٩).

ومما يزيد الأمر وضوحا ما جاء به القرآن الكريم من آيات كثيرة تفيد حجية السنة واستقلالها بالتشريع - وقد بسطنا القول فيها في موضعها - وكذلك الأحاديث الصحيحة التي تثبت ذلك.

وفي هذا السياق يحسن بنا أن نعرض لموقف الصحابة حيال العمل بالسنة ليزيد الأمر وضوحا، فقد روي عن أبي جحيفة قال: «قلت لعلي: هل عندكم كتاب؟ قال: لا، إلا كتاب الله، أو فهم أعطيه رجل مسلم أو ما في هذه الصحيفة... إلخ»[5]، والصحيفة إنما هي مدونة أحاديث في الأحكام، كتبها علي - رضي الله عنه ـعن النبي - صلى الله عليه وسلم - يلجأ إليها عندما تنزل به النوازل الفقهية.

وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: «اتخذ النبي - صلى الله عليه وسلم - خاتما من ذهب فاتخذ الناس خواتيم من ذهب، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إني اتخذت خاتما من ذهب فنبذه وقال: إني لن ألبسه أبدا، فنبذ الناس خواتيمهم»[6].

فانظر كيف تأسى الصحابة بالنبي - صلى الله عليه وسلم - في الفعل والترك دون أن يسألوا عن العلة، هكذا كانت حالتهم، خلع خاتمه فخلعوا خواتمهم، ونزع نعله في الصلاة فنزعوا، ولما حلق وذبح يوم الحديبية حلقوا وذبحوا رغم ما كانوا يجدونه في نفوسهم من شروط الصلح الجائرة، ولما واصل الصيام واصلوا مثله حتى نهاهم عن ذلك[7].

ومما سبق يتبين أن الآية معناها أنه لا حكم إلا لله في تأخير العذاب وتأجيله، أما الاستدلال بها على أن الأحكام التشريعية لله وحده دون السنة فهو استدلال خاطئ ليس في موضعه.

وفي النهاية نستطيع القول - مع كثير من الاطمئنان: "إنه لا مانع عقلا من وقوع استقلال السنة بالتشريع ما دام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - معصوما، ولله أن يأمر رسوله بتبليغ أحكامه على الناس من أي طريق، سواء كان بالكتاب أم كان بغيره، وما دام جائزا عقلا، وقد وقع فعلا باتفاق الجميع، فلماذا لا نقول به[8]؟

ثالثا. الحديث المستدل به منقطع, والمنقطع ضعيف لا يصلح الاستدلال به:

إن الحديث المستدل به "إني لا أحل إلا ما أحل الله في كتابه، ولا أحرم إلا ما حرم الله في كتابه". قال عنه السيوطي أخرجه الشافعي والبيهقي من طريق طاووس، وقال الشافعي: وهذا حديث منقطع[9]. والحديث المنقطع[10] لا يجوز الاحتجاج به.

هذا وإن سلمنا - جدلا - بصحة هذا الحديث فإنه ليس فيه ما يزكي شبهتهم ولا ما يقوي دليلهم، فها هو البيهقي يوجهه توجيها سليما على افتراض صحته فيقول: إن صحت هذه فإنما أراد فيما أوحى الله، ثم إن ما أوحي إليه نوعان: أحدهما وحي يتلى، والآخر وحي لا يتلى[11].

ومما تجدر ملاحظته في هذا الصدد أن البيهقي فسر الكتاب، بما هو أعم من القرآن، وقد أطلق لفظ الكتاب بهذا المعنى في حديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حيث قال لوالد الزاني بامرأة الرجل الذي صالحه على الغنم والخادم: «والذي نفسي بيده، لأقضين بينكما بكتاب الله جل ذكره، المائة شاة والخادم رد، وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام، واغد يا أنيس على امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها، فغدا عليها فاعترفت فرجمها»[12].

وفي هذا المعنى يقول ابن حزم في تعليقه على هذا الحديث: "وهذا حديث مرسل إلا أن معناه صحيح، لأنه - صلى الله عليه وسلم - إنما أخبر في هذا الخبر بأنه لم يقل شيئا من عند نفسه بغير وحي من الله تعالى به إليه، وأحال بذلك على قول الله تعالى في كتابه: )وما ينطق عن الهوى (3) إن هو إلا وحي يوحى (4)( (النجم) فنص كتاب الله تعالى يقضي بأن كل ما قاله - صلى الله عليه وسلم - فهو عن الله تعالى"[13].

ومن ثم فلا مانع من إجراء الكتاب على ما هو دون القرآن وهي السنة، فإن ما يحرمه أو يحله الرسول - صلى الله عليه وسلم - مما ليس في القرآن، هو من كتاب الله، الذي أمرنا بطاعته، ونهينا عن مخالفته، ونخلص من جملة ما سبق إلى أن هذا الحديث الذي استند إليه أصحاب هذه الشبهة، لم يثبت لدى أهل العلم، وعلى فرض صحته فليس فيه ما يستدل به هؤلاء على زعمهم, وكيف تستدلون بحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بهذه الدرجة من الضعف على أن السنة ليس فيها تشريع، وقد ورد في السنة الصحيحة ما يثبت خلاف ذلك؟!

ومن ذلك ما أخرجه الإمام البخاري من حديث علي رضي الله عنه «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن متعة النساء يوم خيبر، وعن أكل لحوم الحمر الإنسية»[14].

ولا يسعنا في النهاية إلا أن نقول: إن إنكار حجية السنة والادعاء بأن الإسلام هو القرآن وحده، كلام لا يقول به مسلم يعرف دين الله وأحكام شريعته تمام المعرفة؛ لأنه يصادم الواقع، فإن أحكام الشريعة إنما ثبت أكثرها بالسنة، وما في القرآن من أحكام، إنما هي مجملة وقواعد كلية في الغالب، وإلا فأين نجد في القرآن أن الصلوات خمس؟ وأين نجد عدد ركعات الصلاة، ومقادير الزكاة، وتفاصيل شعائر الحج، وسائر أحكام المعاملات والعبادات؟

كما أن في القرآن جملا لو تركنا وإياها لم ندر كيف نعمل فيها، وإنما المرجوع إليه في كل ذلك، النقل عن النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك الإجماع إنما هو على مسائل يسيرة، وعلى هذا فالرجوع إلى السنة ضرورة، إذ في تركها ضياع للشريعة.

فمثلا من لا يأخذ إلا بالقرآن لا يلزمه إلا ركعة ما بين دلوك الشمس إلى غسق الليل، وأخرى عند الفجر؛ لأن ذلك هو أقل ما يقع عليه اسم صلاة، ولا حد للأكثر في ذلك، وفاعل هذا وقائله كافر مشرك[15]؛ لأنه أنكر معلوما من الدين بالضرورة، وقد أثبتته السنة.

 وعلى هذا النحو نستطيع أن نتصوركثيرا من الأحكام والعبادات والتشريعات إن هي أخذت من القرآن وحده بمعزل عن السنة؛ ومن ثم وجب العمل بالسنة.

رابعا. القرآن والسنة نابعان من مشكاة واحدة، وكلاهما متمم للآخر:

إنه لا تعارض بين ما ورد في القرآن وما جاء في السنة من أحكام فقهية حتى ولو أوردت السنة أحكاما لم يذكرها القرآن، وليس في ذلك اتهام للقرآن بالنقص؛ لأن القرآن وحي والسنة وحي، وكلاهما منزل من عند الله سبحانه وتعالى، وقد دل على ذلك أكثر من آية في كتاب الله؛ منها قوله عز وجل: )وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم( (النساء: ١١٣)، وقوله عز وجل: )واذكروا نعمت الله عليكم وما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة يعظكم به( (البقرة: ٢٣١).

فالله - عز وجل - قد فرق بين الكتاب والحكمة بالعطف المقتضي للمغايرة، وأفرد الضمير العائد عليهما ليدل على وحدة مصدرهما، وطالما أن القرآن والسنة يستحيل أن يتعارضا فوقوع التعارض من وجهة نظر الطاعن يتوقف على أحد أمرين:

الأول: وجود الأحاديث الموضوعة والمنكرة - التي لا يعلمون مدى صحتها - والتي تؤدي إلى وقوع هذا النوع من اللبس، أو من توهم الخلاف.

الثاني: عدم فهم القرآن بإغفال النظر والتأمل فيه، ثم إصدار الاتهام بوقوع الاختلاف فيه، دونما تأمل ولا روية.

ومما اتخذوه ذريعة للقول بوقوع الخلاف بين الكتاب والسنة، قولهم: إن الحديث جاء: «لا يجمع بين المرأة وعمتها، ولا بين المرأة وخالتها»[16]، وأنه «يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب»[17]، والله تعالى لما ذكر تلك المحرمات لم يذكر من الرضاع إلا الأم، والأخت، ومن الجمع إلا الجمع بين الأختين، وقال بعد ذلك: )وأحل لكم ما وراء ذلكم (، فاقتضى أن المرأة تنكح على عمتها وعلى خالتها، وكل رضاعة سوى الأم والأخت حلال.

الجواب عن هذا كله بأن ذلك من باب تخصيص العموم الذي لا تعارض فيه[18].

وعن قولهم في التعارض بين الحديث الذي يحرم على الرجال لبس الذهب والحرير[19] مع قول الله عز وجل: )قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق( (الأعراف: ٣٢). فذلك أيضا من باب التخصيص الذي لا تعارض فيه؛ إذ إن الآية جاءت بخطاب عام والسنة قامت بتخصيصه.

وعليه يتضح أنه لا تعارض بين القرآن والسنة في شيء، وأن هذا التعارض إنما هو تعارض مزعوم لا يوجد إلا في عقول مدعيه؛ لأن كلا من القرآن والسنة متمم للآخر.

الخلاصة:

  • لمتقفوظيفةالسنةعندمجردتبيينالقرآنفقط؛بل استقلت بتشريعات أيضا، وتلك ميزة اختصت بها ليستقيم الأمر ويتضح أمام ناظريه.
  • لاتعارضبينماشرعهالله - عزوجل - وماشرعهالنبيصلىاللهعليهوسلم,ذاكأنحكمالنبي - صلىاللهعليهوسلم - داخلفيحكمالله - سبحانهوتعالى - قالعزوجل: )وماينطقعنالهوى (3) إن هو إلا وحي يوحى (4)( (النجم)، ولهذا فقد أثبت القرآن استقلالية السنة في كثير من آياته، قال عز وجل: )وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا( (الحشر: ٧) فهو حين يأمر إنما يشرع، وهذا يعني أن التشريع يلزم من طريق السنة، كما يلزم من القرآن.
  • إن الاستدلال بقوله تعالى: )إن الحكم إلا لله( على قصر التشريع على الله وحده دون رسوله استدلال خاطئ؛ إذ المقصود بالحكم في الآية هو عقاب الكافرين بإنزال العذاب عليهم في الدنيا أو تأجيله للآخرة، وليس ذلك لأحد غير الله.
  • لايصحالاحتجاجبخبر "إنيلاأحرمإلاما حرم الله في كتابه" على عدم استقلال السنة بالتشريع؛ لأنه حديث منقطع ولا يحتج به في الأحكام والتشريعات, وعلى فرض صحته، فإن تفسير لفظ الكتاب أوسع وأشمل معنى من القرآن؛ إذ يشمل القرآن والسنة معا.
  • إنالقولبالتعارضبينالقرآنوالسنةإنماهوزعمخاطئ؛وذلك لأن مصدر القرآن والسنة واحد، قال عز وجل: )وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة( (النساء: ١١٣). وصدق الله إذ يقول: )ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا (82)( (النساء: ٨٢).
  • الأحاديثالتياستدلوابهاعلىأنالسنةجاءتبأحكاملميأتبهاالقرآنإنما هي دلائل على استقلال السنة بالتشريع، وهو نقيض ما أرادوا إثباته، وليس فيه دليل على التنقيص من القرآن، إذ القرآن قد أوجب اتباع السنة وأخبر أنهما ينبعان من مشكاة واحدة وهي الوحي الإلهي، قال تعالى: )وما ينطق عن الهوى (3) إن هو إلا وحي يوحى (4)( (النجم).

 

 

(*) تحرير علوم الحديث, عبد الله يوسف الجديع، مؤسسة الريان، بيروت، ط1، 1428هـ/ 2007م. السنة النبوية بين كيد الأعداء وجهل الأدعياء, حمدي عبد العظيم الصعيدي، مكتبة أولاد الشيخ، مصر، ط1، 2007م. الميزان بين السنة والبدعة، محمد عبد الله دراز،، تحقيق: أحمد مصطفى فضيلة، دار القلم، القاهرة، ط2، 1427هـ/ 2006م.

[1]. المدخل لدراسة السنة النبوية, د. يوسف القرضاوي، مكتبة وهبة، مصر، ط5، 1425هـ / 2004م,ص45، 46.

[2]. المدخل لدراسة السنة النبوية, د. يوسف القرضاوي، مكتبة وهبة، مصر، ط5، 1425هـ / 2004م، ص69: 71.

[3]. الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1405هـ/ 1985م، (6/ 439).

[4]. تفسير الشعراوي، محمد متولي الشعراوي، دار أخبار اليوم، القاهرة، 1991م، (6/ 3666).

[5]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: العلم، باب: كتابة العلم، (1/ 246)، رقم (111).

[6]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: الاعتصام بالكتاب والسنة، باب: الاقتداء بأفعال النبي صلى الله عليه وسلم، (13/ 288)، رقم (7298).

[7]. انظر: فتح الباري بشرح صحيح البخاري، ابن حجر، تحقيق: محب الدين الخطيب وآخرين، دار الريان للتراث، القاهرة، ط1، 1407هـ/ 1987م، (13/ 289) بتصرف.

[8]. السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي، د. مصطفى السباعي، دار السلام، القاهرة، ط3، 1427هـ/ 2006م، ص347.

[9]. مفتاح الجنة في الاحتجاج بالسنة, السيوطي، الجامعة الإسلامية، المدينة المنورة، ط3، 1399هـ، ص27 بتصرف.

[10]. الحديث المنقطع: هو كل ما لا يتصل إسناده.

[11]. مفتاح الجنة، السيوطي، الجامعة الإسلامية، المدينة المنورة، ط3، 1399هـ، ص27.

[12]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: الحدود، باب: الاعتراف بالزنا، (12/ 140)، رقم (6827، 6828). صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: الحدود، باب: من اعترف على نفسه بالزنا، (6/ 2638)، رقم (4355).

[13]. الإحكام في أصول الأحكام، ابن حزم، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1405هـ/ 1985م، (1/ 212).

[14]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: المغازي، باب: غزوة خيبر، (7/ 549، 550)، رقم (4216).

[15]. السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي, د. مصطفى السباعي، دار السلام، القاهرة، ط3، 1427هـ/ 2006م، ص158, 159 بتصرف.

[16]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: النكاح، باب: لا تنكح المرأة على عمتها، (9/ 64)، رقم (5109). صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: النكاح، باب: تحريم الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها في النكاح، (5/ 2171)، رقم (3375).

[17]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: الشهادة، باب: الشهادة على الأنساب، (5/ 300)، رقم (2645).

[18]. الميزان بين السنة والبدعة, د. محمد دراز،، تحقيق: أحمد مصطفى فضيلة، دار القلم، القاهرة، ط2، 1427هـ/ 2006م، ص156: 165بتصرف.

[19]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: اللباس، باب: خواتيم الذهب، (10/ 327)، رقم (5863). صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: اللباس والزينة، باب: النهي عن لبس الرجل الثوب المعصفر، (8/ 3201)، رقم (5338).

  • الجمعة PM 03:30
    2020-10-16
  • 1130
Powered by: GateGold