المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 409098
يتصفح الموقع حاليا : 201

البحث

البحث

عرض المادة

إنكار حديث "فضل عائشة على النساء"

إنكار حديث "فضل عائشة على النساء"(*)

مضمون الشبهة:

يدعي بعض منكري السنة بطلان حديث فضل عائشة على النساء، والذي رواه الشيخان عن أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كمل من الرجال كثير، ولم يكمل من النساء إلا آسية امرأة فرعون، ومريم بنت عمران، وإن فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام»، ويستدلون على ردهم لهذا الحديث بأن هذا التفضيل من النبي - صلى الله عليه وسلم - يعتبر تعصبا وانحيازا لإحدى زوجاته دون غيرها، كما أن العبارات التي استخدمت في هذا الحديث لم تعبر عما يريده - صلى الله عليه وسلم - تعبيرا صحيحا، ولا تتناسب مع ما ذكر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من أنه أوتي جوامع الكلم، فكيف ينسب إليه هذا الحديث؟! رامين من وراء ذلك إلى رد هذا الحديث، وتشكيك المسلمين في جميع ما صح عنه صلى الله عليه وسلم.

وجها إبطال الشبهة:

1) ليس في الحديث - المتفق على صحته - ما يوهم بتعصبه - صلى الله عليه وسلم - وانحيازه لعائشة - رضي الله عنها؛ فهي - رضي الله عنها - قد نالت التفضيل على سائر النساء بوحي من الله - عز وجل - إلى نبيه؛ وذلك بسبب علمها وفقهها في الدين، وليس في ذلك تعصب منه صلى الله عليه وسلم؛ فهذا لا يستلزم ثبوت الأفضلية المطلقة لها؛ فقد وردت أحاديث أخرى تنص على تفضيل خديجة بنت خويلد وفاطمة - رضي الله عنهما - على سائر النساء دون ذكر عائشة - رضي الله عنها - وهذا يعني أن لكل منهن فضلها.

2) لقد أوتي النبي - صلى الله عليه وسلم - جوامع الكلم في الفصاحة والتعبير، وهذا الحديث ضرب من ذلك، فالتعبير بالثريد وفضله بين سائر الطعام لبيان فضل عائشة - رضي الله عنها - على سائر النساء تعبير بليغ؛ إذ قد عبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالمثل لتقريب المعنى المعقول إلى معنى محسوس، وهو في هذا ليس بدعا، فقد استخدمه القرآن الكريم كثيرا، وهو مستعمل في لغة العرب بكثرة.

التفصيل:

أولا. حديث «فضل عائشة على النساء» حديث صحيح، ولا يعتبر تعصبا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لها:

يواصل أعداء الإسلام محاولاتهم إضعاف الاحتجاج بالسنة النبوية، فيتلقفون بعض الأحاديث النبوية، ثم يثيرون حولها مطاعن يتوهمون أنها عقلية - وليست بعقلية - ومن تلك الأحاديث التي تعرضت لهذه الطعون الواهية حديث تفضيل النبي - صلى الله عليه وسلم - للسيدة عائشة - رضي الله عنها - على بقية النساء، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه البخاري ومسلم عن أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - قال: «كمل من الرجال كثير، ولم يكمل من النساء إلا آسية امرأة فرعون، ومريم بنت عمران، وإن فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام»[1]، وللحديث رواية أخرى عن عبد الله بن عبد الرحمن أنه سمع أنس بن مالك - رضي الله عنه - يقول: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام»[2]؛ ومن ثم فنحن نعجب من إنكار مثيري الشبه لهذا الحديث المتفق على صحته، والذي رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما، ورواه كذلك الترمذي، والنسائي، وابن ماجه في سننهم، وكذا أحمد في مسنده، وابن حبان في صحيحه، والدارمي، والبيهقي وغيرهم بأسانيد قوية صحيحة لا يطعن فيها.

أما عن متنه، فإنه لا يدل بحال على تعصبه صلى الله عليه وسلم، أو انحيازه لعائشة - رضي الله عنها - دون باقي نسائه، أو النساء بصفة عامة، والأدلة على ذلك كثيرة، تتضح أولا من بيان المعنى الصحيح لهذا الحديث، والمقصود بأفضلية عائشة - رضي الله عنها، وتوجيه العلماء لذلك.

 يقول الملا علي القاري: "والأظهر أنها أفضل من جميع النساء، كما هو ظاهر الإطلاق، من حيث الجامعية للكمالات العلمية والعملية المعبر عنهما في التشبيه بالثريد؛ لأنه أفضل طعام العرب، وأنه مركب من الخبز واللحم والمرقة، ولا نظير له في الأغذية، ثم إنه جامع بين الغذاء، واللذة، والقوة، وسهولة التناول، وقلة المؤونة في المضغ، وسرعة المرور في الحلقوم والمريء؛ فضرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لها المثل به ليعلم أنها أعطيت مع حسن الخلق، وحسن الخلق، وحسن الحديث، وحلاوة المنطق، وفصاحة اللهجة، وجودة القريحة، ورزانة الرأي، ورصانة العقل، والتحبب إلى البعل، فهي تصلح للتبعل، والتحدث، والاستئناس بها، والإصغاء إليها، وإلى غير ذلك من المعاني التي اجتمعت فيها، وحسبك من تلك المعاني أنها عقلت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما لم تعقل غيرها من النساء، وروت عنه ما لم يرو مثلها من الرجال، والله أعلم بالحال"[3].

وقد أكدت هذه الأفضلية أحاديث كثيرة منها: «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سئل ذات مرة: أي الناس أحب إليك؟ قال: عائشة، قيل: ومن الرجال؟ قال: أبوها»[4].

يقول الذهبي في ترجمته لها في السير: "وحبه - صلى الله عليه وسلم - لعائشة كان أمرا مستفيضا، ألا تراهم كيف كانوا يتحرون بهداياهم يومها تقربا إلى مرضاته، كما جاء في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما، وقد ذكر في آخره قوله - صلى الله عليه وسلم - لأم سلمة: «والله، ما نزل علي الوحي وأنا في لحاف امرأة منكن غيرها»[5].

وهذا الجواب منه - صلى الله عليه وسلم - دل على أن فضل عائشة - رضي الله عنها - على سائر أمهات المؤمنين بأمر إلهي وراء حبه لها، وأن ذلك الأمر من أسباب حبه لها[6].

وقد روى أبو سلمة أن عائشة حدثته أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لها: «إن جبريل يقرئك السلام، فقالت: وعليه السلام ورحمة الله»[7].

وأما عن علمها وفقهها، فحدث ولا حرج، قال عنها الزهري: "لو جمع علم عائشة إلى علم جميع النساء، لكان علم عائشة أفضل"[8].

وروى مغيرة بن زياد عن عطاء، قال: "كانت عائشة أفقه الناس وأعلمهم، وأحسن الناس رأيا في العامة"[9].

وقال عنها الذهبي: "أفقه نساء الأمة على الإطلاق"[10].

وقد كان الصحابة - رضي الله عنهم - يعظمونها ويعترفون بمنزلتها العلمية، بل ويرجعون إليها فيما يشكل عليهم ويختلفون فيه، ويثقون بحديثها عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غاية الثقة[11].

قال أبو موسى الأشعري رضي الله عنه: «ما أشكل علينا - أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم - حديث قط فسألنا عائشة إلا وجدنا عندها منه علما»[12].

وعن الأعمش عن مسلم قال: «سألنا مسروقا: هل كانت عائشة تحسن الفرائض؟ قال: والذي لا إله غيره لقد رأيت الأكابر من أصحاب محمد يسألونها عن الفرائض»[13].

وهذا غيض من فيض فضائل عائشة - رضي الله عنها - الدينية.

ومن ثم، فإن مرجع العلم في ذلك التفضيل هو الله عز وجل، وليس للإنسان دخل فيه، فهو ـعز وجل - الذي يرفع الدرجات، ويمنح الإنسان مكانته بين أقرانه، قال تعالى في شأن سائر الخلق: )ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات( (الزخرف: ٣٢)، وقال جل شأنه في شأن الأنبياء: )تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض( (البقرة: ٢٥٣).

وإذا كان هذا التفضيل من فعل الله عز وجل، والعلم به لا يكون إلا من الله عز وجل، فإنه ليس أمامنا من طريق إلا طريق الوحي، وهو لا يكون إلا للأنبياء، وقد أوحى الله إلى النبي صلى الله عليه وسلم، والنبي قد بلغ أمته ما أوحي إليه[14].

وليست عائشة - رضي الله عنها - وحدها دون زوجات النبي - صلى الله عليه وسلم - هي التي فضلت على غيرها من النساء؛ وإنما فضلت مع عائشة - بل وقبل أن تكون عائشة زوجة للنبي صلى الله عليه وسلم - خديجة أم المؤمنين؛ فقد روى الترمذي في سننه من حديث قتادة عن أنس: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:«حسبك من نساء العالمين: مريم بنت عمران، وخديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد، وآسية امرأة فرعون»[15].

وهذا الحديث وغيره يدل دلالة واضحة على أن تفضيل عائشة - رضي الله عنها - على النساء لا يستلزم ثبوت الأفضلية المطلقة[16]، إذ لو كان ذلك كذلك لذكرت في الحديث، فقد ذكر فيه خديجة بنت خويلد زوجة النبي صلى الله عليه وسلم، وفاطمة ابنته، وهذا يدل على أن لكل من خديجة وعائشة وفاطمة فضلها الذي تمتاز به عن الأخرى.

يقول ابن القيم فيما حكاه عنه ابن حجر في "الفتح": "إن أريد كثرة العلم، فعائشة لا محالة، وإن أريد شرف الأصل، ففاطمة لا محالة، وهي فضيلة لا يشاركها فيها غير أخواتها، وإن أريد شرف السيادة، فقد ثبت النص (الحديث الوارد في ذلك) لفاطمة وحدها.

وقد عقب ابن حجر قائلا: امتازت فاطمة عن أخواتها بأنهن متن في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وأما ما امتازت به عائشة من فضل العلم، فإن لخديجة ما يقابله، وهي أنها أول من أجاب إلى الإسلام، ودعا إليه وأعان على ثبوته بالنفس والمال والتوجه التام، فلها مثل أجر من جاء بعدها، ولا يقدر قدر ذلك إلا الله"[17].

وعليه، فلا يحق لمدع أن يتهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بالانحياز والتعصب لعائشة - رضي الله عنها - دون باقي نسائه، أو حتى لأحد من الناس دون الآخرين؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - متصف بالعدل والإنصاف في جميع أقواله وأفعاله، وهاك صور عظيمة من عدله - صلى الله عليه وسلم - وإنصافه ليتضح لهؤلاء بطلان ما ذهبوا إليه:

  • عنعائشة - رضياللهعنها: «أنقريشاأهمهمشأنالمرأةالمخزوميةالتيسرقت، فقالوا: من يكلم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالوا: ومن يجترئ عليه إلا أسامة بن زيد، حب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فكلمه أسامة، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أتشفع في حد من حدود الله تعالى، ثم قام فاختطب، ثم قال: إنما هلك من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وايم الله، لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها»[18].
  • وعنهاأيضاأنهاقالتلعروةبنالزبير: «ياابنأختي،كانرسولالله - صلىاللهعليهوسلم - لايفضلبعضناعلىبعضفيالقسممنمكثه عندنا، وكان قل يوم إلا هو يطوف علينا جميعا، فيدنو من كل امرأة من غير مسيس، حتى يبلغ إلى التي هو يومها فيبيت عندها...»[19].
  • وعنأنس - رضياللهعنه - قال: «كانالنبي - صلىاللهعليهوسلم - عندبعضنسائه،فأرسلتإحدىأمهاتالمؤمنينبصحفةفيهاطعام،فضربتالتيالنبي - صلىاللهعليهوسلم - فيبيتهايدالخادم،فسقطتالصحفةفانفلقت،فجمعالنبي - صلىاللهعليهوسلم - فلقالصحفة،ثم جعل فيها الطعام الذي كان في الصحفة، ويقول: غارت أمكم، ثم حبس الخادم حتى أتى بصحفة من عند التي هو في بيتها، فدفع الصحفة الصحيحة إلى التي كسرت صحفتها، وأمسك المكسورة في بيت التي كسرت»[20].

وبهذه الأحاديث - ومثلها كثير - يتبين لنا عدل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعدم محاباته لأحد في بيته أو خارجه، فلا تعصب في أحكامه، ولا ظلم في تشريعاته.

ونخلص مما سبق إلى أن حديث فضل عائشة على النساء ليس فيه انحياز أو تعصب منه - صلى الله عليه وسلم - لعائشة - رضي الله عنها - دون باقي نسائه؛ لأنها قد أوتيت من العلم والفقه في الدين ما يؤهلها لذلك، كما أن الفضل الوارد في الحديث لا يستلزم ثبوت الأفضلية المطلقة لها؛ وذلك لورود أحاديث أخرى تنص على فضل خديجة بنت خويلد وفاطمة - رضي الله عنهما - ولا تذكر عائشة معهما، فعلم بذلك أن فضل عائشة - رضي الله عنها - على النساء هو ما ذكرناه من علمها وفقهها في الدين.

ثانيا. ضرب الرسول - صلى الله عليه وسلم - المثل في الحديث بالثريد إنما هو لتقريب المعنى العقلي بمعنى محسوس، وذلك نوع من أساليب البلاغة العربية:

يزعم هؤلاء المنكرون أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم ينجح في اختيار العبارات التي يعبر بها عن مراده في تفضيل السيدة عائشة على سائر النساء، وهذه الأساليب لا تتناسب مع فصاحة النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي أوتي جوامع الكلم، وهذا كفيل بتضعيف الحديث ورده.

نقول: إن هذا الكلام لا أساس له من الصحة؛ لأن الحديث - كما قدمنا - صحيح، وقد رواه الشيخان، ومعناه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - استعمل ضرب الأمثال في هذا الحديث؛ لتقريب المعاني إلى الأذهان، ورفع اللثام عنها حتى لا تبقى غامضة في مكانها، وضرب الأمثال معناه: أنه يقوم بوظيفة وسيلة إيضاح بالغة التأثير، فهو ينقل السامع من تصوره صورة معقولة قد تصعب عليه إلى رؤية أو سماع صورة محسة تستحدث له في الخيال أو الواقع. هذا الشيء المحس المتحدث عنه كأنه يراه رأي العين، وهذه الصورة لا يتأتي فيها جدل، ولا يتعلق بها نقاش، ولا يحتاج التصديق بها إلى دليل أو برهان.

والقرآن الكريم قد استعمل هذه الوسيلة في العديد من آياته، وقد اعترض عليها من لا صلة له بلغة أو بدين، فقالوا: كيف يضرب الله هذه الأمثال، وهي غير حضارية...؟

والحقيقة أن مادة المثل لا علاقة لها في ضرب الأمثال، فقد تكون مادة المثل بعوضة فما فوقها، ويضرب الله بها الأمثال، وقد تكون مادة المثل لحما أو ثريدا، أو ما دون ذلك أو فوقه، ويضرب النبي - صلى الله عليه وسلم - بها الأمثال.

 الغاية من المثال إذا هو إيضاح المعنى المطلوب للقارئ فحسب؛ لأنه وسيلة وليس غاية في نفسه، وقد فهم العرب أيام النبي - صلى الله عليه وسلم - ما يريد أن يقوله النبي صلى الله عليه وسلم، فما الذي كان يريده هؤلاء من النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يفعله؟! أكانوا يريدون أن يضرب المثل بصواريخ أسكود، أم بهذه الغواصات التي ترتفع فوقها ظلمات البحر بعضها فوق بعض؟[21].

إن الحقائق السامية في معانيها وأهدافها تأخذ صورتها الرائعة إذا صيغت في قالب حسي يقربها إلى الأفهام بقياسها على المعلوم اليقيني، والتمثيل هو القالب الذي يبني المعاني في صورة حية تستقر في الأذهان، بتشبيه الغائب بالحاضر، والمعقول بالمحسوس، وقياس النظير على النظير، وكم من معنى جميل أكسبه التمثيل روعة وجمالا، فكان ذلك أدعى لتقبل النفس له، واقتناع العقل به، وهو من أساليب القرآن الكريم في ضروب بيانه ونواحي إعجازه.

وكما عني العلماء بأمثال القرآن، فإنهم عنوا كذلك بالأمثال النبوية، وعقد لها أبو عيسى الترمذي بابا في جامعه، أورد فيه أربعين حديثا، قال القاضي أبو بكر ابن العربي: "لم أر من أهل الحديث من صنف فأفرد للأمثال بابا غير أبي عيسى"[22].

فما فعله النبي - صلى الله عليه وسلم - فهو مقتبس منهجا من كتاب الله عز وجل، فقد ضرب الله الأمثال الكثيرة في القرآن الكريم بأشياء عديدة؛ لينقل الإنسان من التصور الذهني المجرد إلى التصور المحسوس، فيكون التخيل أقرب، والتصديق أوقع.

ومن هذه الأمثال ما ضربه الله - عز وجل - مثلا على عجز المتخذين آلهة من دون الله عن خلق ذبابة، فقال عز وجل: )يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له( (الحج: ٧٣)، والذباب محسوس أيضا، وقال أيضا: )مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتا وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت( (العنكبوت: ٤١)، فالله - عز وجل - يضرب هذه الأمثال لتقريب المعاني غير المتخيلة، بأشياء محسوسة لتقريبها إلى الذهن.

وقد جاءت السنة النبوية بضرب الأمثال كذلك - من باب تقريب المعقولات بالمحسوسات - لتتأكد في نفس الإنسان الأشياء بأسلوب حسي معهود، فيصدق بها دون شك أو تكذيب، كما في الحديث الذي جاء معنا بضرب المثل في فضل السيدة عائشة - رضي الله عنها - على النساء بفضل الثريد على سائر الطعام.

ومن هذه الأمثال كذلك ما مثل به - صلى الله عليه وسلم - على مكانته بين الأنبياء، فقال صلى الله عليه وسلم: «مثلي ومثل الأنبياء قبلي كمثل رجل بنى بيتا، فأحسنه وأجمله إلا موضع لبنة فيه، فجعل الناس يمرون حوله ويقولون: هلا وضعت هذه اللبنة، فأنا اللبنة، وأنا خاتم النبيين»[23].

وقال - صلى الله عليه وسلم - في مثل آخر: «مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة، فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم، فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقا ولم نؤذ من فوقنا، فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعا، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعا»[24].

فالتعبير بالثريد ليس بمستنكر كما يدعون؛ فالثريد كان له مكانة عظيمة عند العرب آنذاك، يقول ابن القيم - رحمه الله: "الثريد: الخبز واللحم، قال الشاعر:

إذا ما الخبز تأدمه بلحم

فذاك أمانة الله الثريد" [25]

وقال - رحمه الله - أيضا: "والثريد وإن كان مركبا فإنه مركب من خبز ولحم، فالخبز أفضل الأقوات، واللحم سيد الإدام، فإذا اجتمعا لم يكن بعدها غاية"[26].

وقد تقدم كلام الملا علي القاري في بيان فضل الثريد عند العرب، وأنه مركب من الخبز واللحم والمرقة، ولا نظير له في الأغذية، وأنه قد اجتمعت له صفات عديدة تجعله أفضل طعام العرب آنذاك دون منازع.

وهذا الأسلوب - أسلوب التمثيل - كما رأينا في تلك الأحاديث يبين المعنى المراد بطريقة سهلة وموحية، وهو أسلوب فيه بلاغة ظاهرة، ومن تأمل لغة العرب وأشعارهم، فسيجد هذا الأسلوب متوفرا بكثرة في تعبيراتهم، فإذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - عربيا، ومن قريش، فلماذا يعاب تعبيره إذا استخدم هذا الأسلوب؟! ومن ثم فإن بلاغة النبي - صلى الله عليه وسلم - وفصاحته جعلت أحاديثه حجة في البلاغة، وآية في الفصاحة.

وبهذا يتبين أن ضربه - صلى الله عليه وسلم - المثل على فضل السيدة عائشة على سائر النساء بفضل الثريد على سائر الطعام؛ إنما هو لزيادة البيان، وتقريب المعنى العقلي بمعنى محسوس، وليس هذا بدعا منه صلى الله عليه وسلم، بل هو في هذا جار على طريقة القرآن ولغة العرب.

الخلاصة:

  • إنحديث«فضلعائشةعلىسائر النساء» متفق على صحته؛ فقد رواه الشيخان في صحيحيهما عن أبي موسى الأشعري، وأنس بن مالك - رضي الله عنهما، ورواه كذلك كثير من أصحاب السنن والمسانيد وغيرهم بأسانيد قوية صحيحة.
  • ليسفيالحديثمايوهمبتعصبه - صلىاللهعليهوسلم - وانحيازهلعائشة - رضيالله عنها، فهي قد نالت الفضل على سائر النساء بعلمها وفقهها في الدين، وبما لها من مكانة علمية في تاريخ الإسلام.
  • التفضيلوالتفاضلبينالبشرفيأمورالدينلايكونإلابوحيمنعنداللهتعالى،وليسللرسولدخلفيهإلاالبلاغ.
  • إنالفضلالواردفيالحديثلايستلزم ثبوت الأفضلية المطلقة لعائشة - رضي الله عنها، وذلك لورود أحاديث أخرى تنص على تفضيل خديجة بنت خويلد وفاطمة - رضي الله عنهما - على النساء، دون ذكر عائشة - رضي الله عنها.
  • لقددلتأحاديثكثيرةصحيحةعلىعدله - صلىاللهعليهوسلم - فيكلشيء،وفيجميعالأحوال،مماينفيعنهتهمةالانحيازوالتعصب.
  • لقدضربرسولالله - صلىاللهعليهوسلم - المثلعلىفضلعائشةعلىسائرالنساءبفضلالثريدعلسائرالطعام،وذلكمنبابتقريبالمعنى المعقول إلى معنى محسوس، كي يصل إلى الأفهام بسهولة، وتتصوره العقول دون اشتباه.
  • ضربالأمثالأسلوبمستخدمفيالقرآنالكريموالسنةالنبوية؛لتقريبالمعانيالغامضةبأمثلةواضحة،فقدأوضحالقرآنالكريممثلاللذينيدعونمندوناللهأنهملنيخلقواذبابا ولو اجتمعوا له، فقال تعالى: )يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له( (الحج: ٧٣) وللذين يتخذون من دون الله أولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتا، وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت قال تعالى: )مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتا وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت( (العنكبوت:٤١).
  • لميكنالرسول - صلىاللهعليهوسلم - بدعافياستعمالهضربالأمثالفيسنته،بلهوعربيينطقبلسانقريش،وهيأفصحقبائلالعرب،ويقتديبأساليبالقرآنالكريم.

 

 

 

 

(*) ضلالات منكري السنة، د. طه حبيشي، مطبعة رشوان، القاهرة، ط2، 1427هـ/ 2006م.

[1]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: أحاديث الأنبياء، باب: قوله تعالى: ) وضرب الله مثلا للذين آمنوا امرأت فرعون (، (6/ 514)، رقم (3411). صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: فضائل الصحابة، باب: فضل خديجة أم المؤمنين، (8/ 3561)، رقم (6155).

[2]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: فضائل الصحابة، باب: فضل عائشة رضي الله عنها، (7/ 133)، رقم (3770). صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: فضائل الصحابة، باب: في فضل عائشة رضي الله عنها، (8/ 3569)، رقم (6182).

[3]. مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح، ملا علي القاري، (18/ 60).

[4]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: فضائل الصحابة، باب: في فضل أبي بكر، (7/ 22)، رقم (3662). صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: فضائل الصحابة، باب: من فضائل أبي بكر رضي الله عنه، (8/ 3518)، رقم (6060).

[5]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: فضائل الصحابة، باب: فضل عائشة رضي الله عنها، (7/ 134)، رقم (3775).

[6]. سير أعلام النبلاء، الذهبي، تحقيق: شعيب الأرنؤوط وآخرين، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط7، 1410هـ/ 1990م، (2/ 142، 143).

[7]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: الاستئذان، باب: إذا قال: فلان يقرئك السلام، (11/ 40)، رقم (6253). صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: فضائل الصحابة رضي الله عنهم، باب: فضل عائشة رضي الله عنها، (8/ 3569)، رقم (6184).

[8]. سير أعلام النبلاء، الذهبي، تحقيق: شعيب الأرنؤوط وآخرين، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط7، 1410هـ/ 1990م، (2/ 185).

[9]. سير أعلام النبلاء، الذهبي، تحقيق: شعيب الأرنؤوط وآخرين، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط7، 1410هـ/ 1990م، (2/ 200).

[10]. سير أعلام النبلاء، الذهبي، تحقيق: شعيب الأرنؤوط وآخرين، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط7، 1410هـ/ 1990م، (2/ 135).

[11]. المهدي بين أهل السنة والروافض، ربيع بن هادي المدخلي، (1/ 17).

[12]. صحيح: أخرجه الترمذي في سننه (بشرح تحفة الأحوذي)، كتاب: المناقب، باب: فضل عائشة، (10/ 258)، رقم (4134). وصححه الألباني في صحيح وضعيف سنن الترمذي برقم (3883).

[13]. صحيح: أخرجه الدارمي في سننه، كتاب: الفرائض، باب: في تعليم الفرائض، (2/ 442)، رقم (2859). وقال حسين سليم أسد: إسناده صحيح.

[14]. ضلالات منكري السنة، د. طه حبيشي، مطبعة رشوان، القاهرة، ط2، 1427هـ/ 2006م، ص116 بتصرف.

[15]. صحيح: أخرجه الترمذي في سننه (بشرح تحفة الأحوذي)، كتاب: المناقب، باب: فضل خديجة رضي الله عنها، (10/ 265)، رقم (4145). وصححه الألباني في صحيح وضعيف سنن الترمذي برقم (6181).

[16]. فتح الباري بشرح صحيح البخاري، ابن حجر العسقلاني، تحقيق: محب الدين الخطيب وآخرين، دار الريان للتراث، القاهرة، ط1، 1407هـ/ 1987م، (7/ 134، 135) بتصرف.

[17]. فتح الباري بشرح صحيح البخاري، ابن حجر العسقلاني، تحقيق: محب الدين الخطيب وآخرين، دار الريان للتراث، القاهرة، ط1، 1407هـ/ 1987م، (7/ 136).

[18]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: الأنبياء، باب: رقم (54)، (6/ 593)، رقم (3475). صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: الحدود، باب: قطع السارق والشريف وغيره...، (6/2627)، رقم (4331).

[19]. صحيح: أخرجه أبو داود في سننه (بشرح عون المعبود)، كتاب: النكاح، باب: في القسم بين النساء، (3/ 6/ 122)، رقم (2135). وصححه الألباني في صحيح وضعيف سنن أبي داود برقم (2135).

[20]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: النكاح، باب: الغيرة، (9/ 230)، رقم (5225).

[21]. ضلالات منكري السنة، د. طه حبيشي، مطبعة رشوان، القاهرة، ط2، 1427هـ/ 2006م، ص117، 118 بتصرف.

[22]. مباحث في علوم القرآن، مناع القطان، مكتبة وهبة، القاهرة، ط12، 1423هـ/ 2002م، ص274، 275.

[23]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: المناقب، باب: خاتم النبيين، (6/ 645)، رقم (3535). صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: الفضائل، باب: كونه ـ صلى الله عليه وسلم ـ خاتم النبيين، (8/ 3424)، رقم (5851).

[24]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: الشركة، باب: هل يقرع في القسمة؟ والاستفهام فيه، (5/ 157)، رقم (2493).

[25]. زاد المعاد في هدي خير العباد، ابن القيم، تحقيق: شعيب الأرنؤوط وعبد القادر الأرنؤوط، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط8، 1405هـ/ 1985م، (4/ 371، 372).

[26]. زاد المعاد في هدي خير العباد، ابن القيم، تحقيق: شعيب الأرنؤوط وعبد القادر الأرنؤوط، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط8، 1405هـ/ 1985م، (4/ 295).

  • الخميس PM 10:37
    2020-10-15
  • 1233
Powered by: GateGold