المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 409150
يتصفح الموقع حاليا : 297

البحث

البحث

عرض المادة

دعوى تعارض حديث "إذا أنزل الله بقوم عذابا" مع القرآن والواقع

دعوى تعارض حديث "إذا أنزل الله بقوم عذابا" مع القرآن والواقع(*)

مضمون الشبهة:

يدعي بعض المشككين تعارض حديث: «إذا أنزل الله بقوم عذابا أصاب العذاب من كان فيهم، ثم بعثوا على أعمالهم» مع قوله تعالى: )ولا تزر وازرة وزر أخرى( (فاطر: ١٨) وكذلك قوله تعالى: )وهل نجازي إلا الكفور (17)( (سبأ)، ويستدلون على ذلك أنه ليس من عدل الله أن يعذب إنسانا لمجرد وجوده في قوم يستحقون العذاب، بالإضافة إلى أن الله - عز وجل - إذا سلط كارثة على قوم يعزل الصالحين منهم ويهلك الظالمين، وعليه فهذا الحديث يتعارض مع القرآن، ويخالف الحس والواقع.

هادفين من وراء ذلك إلى الطعن في الأحاديث الصحيحة، ومحاولة إثبات تعارضها مع القرآن الكريم.

وجها إبطال الشبهة:

1)  إن حديث نزول العذاب على الأمم الظالمة - حديث صحيح، ولا يتعارض مع القرآن الكريم، فالقرآن يقرر ذلك في آيات كثيرة، ووجود أناس صالحين في الأمة المقضي عليها بالعذاب أو الإهلاك لا يمنع من نزوله بهم جميعا، فأولئك الصالحون يدخلون في عموم الإهلاك، إما لأنهم ساكتون عن المنكر الذي انتشر بين الناس فيعذبون بذلك، أو أن ذلك يعتبر ابتلاء لهم، لرفع درجاتهم في الآخرة، وعليه يكونون قد اشتركوا جميعا في عذاب الدنيا، إلا أنهم سيحاسبون يوم القيامة كل على حسب عمله.

2)  لقد ثبت في الشرع والواقع أن الله - سبحانه وتعالى - قد يعزل الصالحين عن الطالحين إذا أراد أن ينزل كارثة، كما فعل مع قوم نوح وقوم لوط وأصحاب السبت، لكن الله - سبحانه وتعالى - قد ينزل الكارثة على الجميع ابتلاء للصالحين وعذابا للطالحين ولمن سكت عن المنكر منهم؛ ومن ثم فلا تعارض بين الحديث الشريف وبين الحس والواقع.

التفصيل:

أولا. إن حديث:«إذا أنزل الله بقوم عذابا» حديث صحيح ولا يتعارض مع أي من آيات القرآن التي ذكرها هؤلاء:

 إن الحديث الذي يزعم الطاعنون أنه يتعارض مع آيات القرآن الكريم وكذلك الواقع المشاهد - حديث صحيح، بل في أعلى درجات الصحة، إذ اتفق على صحته الشيخان؛ البخاري ومسلم، وأخرجاه من طريق ابن عمر - رضي الله عنهما -، فقد روى البخاري في صحيحه قال: حدثنا عبد الله بن عثمان أخبرنا عبد الله أخبرنا يونس عن الزهري أخبرني حمزة بن عبد الله بن عمر أنه سمع ابن عمر - رضي الله عنهما - يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا أنزل الله بقوم عذابا أصاب العذاب من كان فيهم، ثم بعثوا على أعمالهم»[1].

ورواه مسلم[2] - أيضا - بلفظ قريب من لفظ البخاري.

فلا مجال إذن للطعن في هذا الحديث من ناحية السند، والآن ننتقل إلى متنه لنرى هل يتعارض حقا مع القرآن الكريم والواقع كما يزعم المشككون؟ أم أنهما مجرد دعوى لا تستند إلى أي دليل؟

فمما لا شك فيه أن الإسلام يحض أتباعه على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهذا ما يجب فعله من المؤمنين الصالحين عند ظهور المعاصي وانتشار المنكر، فإذا لم يتغير وجب على المؤمنين المنكرين - لهذه المعاصي والفتن - بقلوبهم هجران تلك البلاد التي وقع بها الفساد والهرب منها، حتى إذا نزل عليهم العذاب بجريرة هؤلاء الظالمين يكونون قد نجوا منه، أما السكوت والتقاعد عن دفع المنكر والظلم؛ فهو ظلم في حد ذاته، ومن يفعل ذلك فإنه يستحق العقوبة من الله مع الظالمين، فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من واجبات الإيمان.

فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان»[3].

قال النووي: أما قوله صلى الله عليه وسلم:«فليغيره» فهو أمر إيجاب بإجماع الأمة، وقد تطابق على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الكتاب والسنة وإجماع الأمة، وهو أيضا من النصيحة التي هي الدين[4].

وقد علق محققا شرح صحيح مسلم على كلام النووي بقولهما:

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، هو القطب الأعظم في الدين، وهو المهم الذي ابتعث الله به النبيين أجمعين، ولو طوي بساطه، وأهمل عمله وعلمه؛ لتعطلت النبوة واضمحلت الديانة وعمت الفترة، ونسيت الصلاة، وشاعت الجهالة، وانتشر الفساد، واتسع الخرق، وخربت البلاد وهلك العباد، وإن لم يشعروا بالهلاك إلى يوم التناد... وقد قال الله تعالى: )ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون (104)( (آل عمران)، وقال تعالى: )وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان( (المائدة: ٢) وهذا أمر جزم، ومعنى التعاون: الحث عليه، وتسهيل طريق الخير، وسد سبيل الشر والعدوان بحسب الإمكان [5].

والحديث الذي معنا إذا نظرنا إليه بعين الموضوعية والتأمل لشرح لنا نفسه وأبان عن مراد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولوجدنا بينه وبين القرآن الكريم توافقا من حيث تقرير عدالة الله العظيم.

فالحديث يقرر عدالة الله كما تقررها الآيات سواء بسواء، فإذا غضب الله على قوم وسلط عليهم عذابا عاما أو خاصا فهلكوا، أو ماتوا وفيهم طائفة من الصالحين، فإنهم يستوون في المصير الدنيوي، ثم يفترقون في الدار الآخرة، فريق في الجنة وفريق في السعير، بل إن السنة النبوية ترفع هؤلاء الصالحين الذين يموتون في الكوارث إلى درجات الشهداء، فأين الظلم الإلهي الذي يدعون؟! ثم ما الفرق بين هذا الحديث: «إذا أنزل الله بقوم عذابا أصاب العذاب من كان فيهم، ثم بعثوا على أعمالهم»[6]، وبين قوله عز وجل: )واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة واعلموا أن الله شديد العقاب (25)( (الأنفال)؟!

و"الفتنة": مشتقة من "الفتن" وهو وضع الذهب على النار؛ ليظهر جيده من رديئه، أو أصيله من مغشوشه، والفتنة - في علم البيان - استعيرت للشدائد والمحن التي يبتلي الله بها عباده؛ للتمييز بين الصادق والكاذب والصابر والجزع، وفي أوائل سورة العنكبوت قال تعالى: )أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون (2) ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين (3)( (العنكبوت) [7].

قال البيضاوي: والمعنى أن ذلك سنة قديمة جارية في الأمم كلها، فلا ينبغي أن يتوقع خلافه، وذلك لتمييز الله بين الصادقين في دعوى الإيمان، وبين الكاذبين فيه[8]، فالابتلاء والاختبار سنة الله في عباده، وكذلك نجد قوله تعالى: )ونبلوكم بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون (35)( (الأنبياء) أي: نختبركم بالمصائب والنعم، لنرى الشاكر من الكافر، والصابر من القانط. وقال ابن عباس: نبتليكم بالشدة والرخاء، والصحة والسقم، والغنى والفقر، والحلال والحرام، والطاعة والمعصية، والهدى والضلال، وقال ابن زيد: نختبركم بما تحبون؛ لنرى كيف شكركم، وبما تكرهون؛ لنرى كيف صبركم![9].

وقال ابن حجر في شرح هذا الحديث: قوله صلى الله عليه وسلم: «ثم بعثوا على أعمالهم» أي: بعث كل واحد منهم على حسب عمله، إن كان صالحا فعقباه صالحة، وإلا فسيئة، فيكون ذلك العذاب طهرة للصالحين، ونقمة على الفاسقين.

وفي صحيح ابن حبان عن عائشة - رضي الله عنها - أنها قالت: قلت: «يا رسول الله إن الله إذا أنزل سطوته بأهل الأرض، وفيهم الصالحون فيهلكون بهلاكهم؟ فقال: يا عائشة، إن الله إذا أنزل سطوته بأهل نقمته، وفيهم الصالحون فيصابون معهم، ثم يبعثون على نياتهم وأعمالهم»[10].

قال ابن بطال: هذا الحديث يبين حديث زينب بنت جحش حيث قالت: «أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم، إذا كثر الخبث»[11]. فيكون إهلاك الجميع عند ظهور المنكر والإعلان بالمعاصي[12].

قال ابن حجر: و"الخبث" فسروه بالزنا وبأولاد الزنا وبالفسوق والفجور، وهو أولى؛ لأنه قابله بالصلاح، قال ابن العربي: فيه البيان بأن الخير يهلك بهلاك الشرير، إذا لم يغير عليه خبثه، وكذلك إذا غير عليه، لكن حيث لا يجدي ذلك ويصر الشرير على عمله السييء، ويفشو ذلك ويكثر حتى يعم الفساد فيهلك حينئذ القليل والكثير، ثم يحشر كل أحد على نيته. [13]، فيكون إهلاك الجميع عند ظهور المنكر والإعلان بالمعاصي. وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه، يوشك أن يعمهم الله بعقاب»[14].

وروى البخاري في صحيحه عن النعمان بن بشير أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «مثل القائم على حدود الله والواقع فيها؛ كمثل قوم استهموا على سفينة، فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها، إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم، فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقا، ولم نؤذ من فوقنا، فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعا، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعا»[15].

قال القرطبي: ففي هذا الحديث تعذيب العامة بذنوب الخاصة، وفيه استحقاق العقوبة بترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

قال علماؤنا: فالفتنة إذا عملت هلك الكل، وذلك عند ظهور المعاصي وانتشار المنكر وعدم التغيير، وإذا لم تغير وجب على المؤمنين المنكرين لها بقلوبهم هجران تلك البلدة والهرب منها. وهكذا كان الحكم فيمن كان قبلنا من الأمم؛ كما في قصة أصحاب السبت حين هجروا العاصين، وقالوا: لا نساكنكم، وبهذا قال السلف - رضي الله عنهم - روى ابن وهب عن مالك - رضي الله عنه - أنه قال: تهجر الأرض التي يصنع فيها المنكر جهارا ولا يستقر فيها. واحتج بصنيع أبي الدرداء في خروجه عن أرض معاوية حين أعلن بالربا، فأجاز بيع سقاية الذهب بأكثر من وزنها...، وروى البخاري عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا أنزل الله بقوم عذابا أصاب العذاب من كان فيهم ثم بعثوا على أعمالهم»[16]، فهذا يدل على أن الهلاك العام منه ما يكون طهرة للمؤمنين، ومنه ما يكون نقمة للفاسقين.

وروى مسلم عن عبد الله بن الزبير أن عائشة - رضي الله عنها - قالت: «عبث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في منامه، فقلنا: يا رسول الله، صنعت شيئا في منامك لم تكن تفعله فقال: "العجب، إن ناسا من أمتي يؤمون هذا البيت برجل من قريش قد لجأ بالبيت، حتى إذا كانوا بالبيداء خسف بهم". فقلنا: يا رسول الله، إن الطريق قد يجمع الناس، قال: نعم، فيهم المستبصر والمجبور وابن السبيل، يهلكون مهلكا واحدا، ويصدرون مصادر شتى، يبعثهم الله تعالى على نياتهم» [17][18].

قال النووي: أي: يبعثون مختلفين على قدر نياتهم، فيجازون بحسبها. وفي هذا الحديث من الفقه: التباعد من أهل الظلم، والتحذير من مجالستهم ومجالسة البغاة ونحوهم من المبطلين؛ لئلا يناله ما يعاقبون به، وفيه أن من كثر سواد قوم جرى عليه حكمهم في ظاهر عقوبات الدنيا [19].

قال القرطبي: فإن قيل: فقد قال الله تعالى: )ولا تزر وازرة وزر أخرى( (فاطر: ١٨). )كل نفس بما كسبت رهينة (38)( (المدثر). )لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت( (البقرة: ٢٨٦). وهذا يوجب ألا يؤخذ أحد بذنب أحد، وإنما تتعلق العقوبة بصاحب الذنب. فالجواب أن الناس إذا تظاهروا بالمنكر، فمن الفرض على كل من رآه أن يغيره; فإذا سكت عليه فكلهم عاص. هذا بفعله وهذا برضاه. وقد جعل الله في حكمه وحكمته الراضي بمنزلة العامل; فانتظم في العقوبة.

ومقصود قوله تعالى: )واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة واعلموا أن الله شديد العقاب (25)( (الأنفال) أي: واتقوا فتنة تتعدى الظالم، فتصيب الصالح والطالح[20].

قال الطاهر ابن عاشور: "فعلى عقلاء الأقوام وأصحاب الأحلام منهم إذا رأوا دبيب الفساد في عامتهم أن يبادروا للسعي إلى بيان ما حل بالناس من الضلال في نفوسهم، وأن يكشفوا لهم ماهيته وشبهته وعواقبه، وأن يمنعوهم منه بما أوتوه من الموعظة والسلطان، ويزجروا المفسدين عن ذلك الفساد حتى يرتدعوا، فإن هم تركوا ذلك، وتوانوا فيه لم يلبث الفساد أن يسري في النفوس، وينتقل بالعدوى من واحد إلى غيره، حتى يعم أو يكاد، فيعسر اقتلاعه من النفوس، وذلك الاختلال يفسد على الصالحين صلاحهم، وينكد عيشهم على الرغم من صلاحهم واستقامتهم، فظهر أن الفتنة إذا حلت بقوم لا تصيب الظالم خاصة، بل تعمه والصالح، فمن أجل ذلك وجب اتقاؤها على الكل؛ لأن أضرار حلولها تصيب جميعهم.

وبهذا تعلم أن الفتنة قد تكون عقابا من الله تعالى في الدنيا، فهي تأخذ حكم العقوبات الدنيوية التي تصيب الأمم، فإن من سنتها أن لا تخص المجرمين إذا كان الغالب على الناس هو الفساد"[21].

"فالجماعة التي تسمح لفريق منها بالظلم في صورة من صوره - وأظلم الظلم نبذ شريعة الله ومنهجه للحياة - ولا تقف في وجه الظالمين؛ ولا تأخذ الطريق على المفسدين - جماعة تستحق أن تؤخذ بجريرة الظالمين المفسدين، فالإسلام منهج تكافلي إيجابي لا يسمح أن يقعد القاعدون عن الظلم والفساد، والمنكر يشيع (فضلا على أن يروا دين الله لا يتبع؛ بل أن يروا ألوهية الله تنكر وتقوم ألوهية العبيد مقامها!) وهم ساكتون. ثم هم بعد ذلك يرجون أن يخرجهم الله من الفتنة؛ لأنهم هم في ذاتهم صالحون طيبون![22].

ويتبين من ذلك عدم وجود تعارض بين حديث: "إذا أنزل الله بقوم عذابا" وبين قوله تعالى: )وهل نجازي إلا الكفور (17)( (سبأ)، وأيضا قوله: )ألا تزر وازرة وزر أخرى (38)( (النجم)؛ لأن العقاب هنا يقع على الظالم بسبب ما وقع منه من ظلم ويقع على المظلوم؛ لأنه سكت عن الظلم، أو أن العذاب قد نزل بالصالحين من باب الابتلاء في الدنيا ورفع الدرجات في الآخرة، وذلك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين في الحديث أن كل واحد سوف يبعث على عمله ونيته، فهم ليسوا سواء في الآخرة مع تساويهم في العقوبة في الدنيا.

ثانيا. سنة الله إذا أراد أن يهلك قرية:

إن الزعم بأن الله - سبحانه وتعالى - لا يوقع عذابه على الظالمين إلا إذا أخرج من بينهم الصالحين والمطيعين حتى لا يشملهم العذاب الواقع على الظالمين - زعم باطل لا دليل عليه، فالله - سبحانه وتعالى - قد يخرج الصالحين كما فعل مع قوم نوح وقوم لوط وأصحاب السبت، وقد لا يخرجهم ويقع العذاب على الجميع عقوبة للظالمين وابتلاء للصالحين، أما من زعم بأن العذاب لا يقع إلا بإخراج الصالحين فسوف نرد عليه من ناحية الشرع وشواهد الواقع.

أما من ناحية الشرع: فقد قال الله - عز وجل - في سورة الإسراء بعد أن قرر أن العذاب لا ينزل على من لم يبعث فيهم رسول، ولم تبلغهم الحجة مهما بلغت بهم الذنوب والخطايا: )وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا (15)( (الإسراء)، وبهذه الآية تتضح عدم مؤاخذة أحد بذنب ما لم تبلغه دعوة رسول من الله. هذا أولا.

وبعد هذه الآية تحدث الله عن إهلاك القرى الظالم أهلها وكيف يتم، فقال: )وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا (16)( (الإسراء).

ونظم الآيتين مع بعضهما يكون المعنى: وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا، ونأمر مترفي قرية بما نأمرهم به على لسان الرسول فيفسقوا عن أمرنا فيحق عليهم الوعيد فنهلكهم إذا أردنا إهلاكهم[23].

ففي قوله عز وجل: )فدمرناها تدميرا (16)( دليل على استئصالها بالهلاك جميعا؛ وذلك أن المعاصي إذا ظهرت ولم تغير كانت سببا في هلاك الجميع.

وبهذه الآية يثبت لدينا ما ذكرناه آنفا من أن الخبث إذا انتشر في قوم، ولم يجد من يدفعه ويرده من الصالحين عم البلاء والعذاب كل القرية بما فيهم الصالحون، وبذلك تبطل دعوى الذين توهموا اشتراط العزل بين الصالحين والطالحين عند نزول العذاب، وذلك أن هذه الآية التي معنا لا يفهم منها أن القرية التي يراد هلاكها كلها فسقة، كلا بل إنها صريحة جدا في أن هناك أقواما صالحين بدليل قوله: )أمرنا مترفيها ففسقوا فيها(، فليس الفسق واقعا من كل القرية، بل من بعضها، وبسببهم تهلك القرية ويدخل معهم الصالحون.

فلقد ثبت في الشرع إذن أن الله - سبحانه وتعالى - قد يعزل الصالحين عن الطالحين إذا أراد أن ينزل كارثة كما فعل مع قوم نوح في قوله تعالى: )فأنجيناه وأصحاب السفينة وجعلناها آية للعالمين (15)( (العنكبوت(، وكما فعل - سبحانه وتعالى - مع قوم لوط في قوله تعالى: )قال إن فيها لوطا قالوا نحن أعلم بمن فيها لننجينه وأهله إلا امرأته كانت من الغابرين (32)( (العنكبوت(، وكما فعل مع المؤمنين المعاصرين لأصحاب السبت في قوله تعالى: )فلما نسوا ما ذكروا به أنجينا الذين ينهون عن السوء وأخذنا الذين ظلموا بعذاب بئيس بما كانوا يفسقون (165)( (الأعراف).

لكن الله - سبحانه وتعالى - قد ينزل الكارثة على الجميع ابتلاء للصالحين وعذابا للطالحين ولمن سكت عن المنكر منهم؛ كما في قوله تعالى: )واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة( (الأنفال: ٢٥(، وكما في قوله تعالى: )وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا (16)( (الإسراء).

كل هذا إذا لم يقم الصالحون بالنهي عن المنكر، أما إذا قاموا بذلك، فقد يرفع الله العذاب عن كل القرية، كما في قوله عز وجل: )فلولا كان من القرون من قبلكم أولو بقية ينهون عن الفساد في الأرض إلا قليلا ممن أنجينا منهم واتبع الذين ظلموا ما أترفوا فيه وكانوا مجرمين (116) وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون (117)( (هود)، وهذا شرط في رفع الهلاك أن يقوم الصالحون بالإصلاح.

وبهذا يكتمل دليلنا في تفنيد دعوى المتوهمين اشتراط العزل بين الصالحين والطالحين عند نزول العذاب، فإن الله - سبحانه وتعالى - إما أن ينجي جماعة العاصين مع الصالحين إذا أذعنوا إليهم، ولا يكون إهلاك من أساسه، وإما أن ينجي المصلحين فقط، وذلك إذا لم يستجب لهم الطالحون والمعتدون، وإما أن يهلك الجميع عذابا للطالحين، وابتلاء للصالحين.

وهناك أمثلة عديدة من الواقع المشاهد تثبت أن الله - سبحانه وتعالى - قد ينزل العذاب على الجميع، وإليك بعض هذه الأمثلة:

  1. فقد وقع زلزال في قاع المحيط الهندي بجنوب آسيا سنة 2004م بلغت قوته حوالي تسع درجات على مقياس ريختر، وقال العلماء: إنه رابع أقوى زلزال شهده العالم من عام 1900م، وقد بلغت سرعة أمواج البحر العاتية (800 كم/س)، وارتفاعها زاد على عشرة أمتار مما يعني أنها كانت تسير بسرعة الطائرة، وهي قوة وسرعة كافية لتدمير كل شيء أتت عليه لو شاء الله ذلك، وبلغ عدد قتلاه ما يزيد على 250 ألف قتيل!!

وقد عم هذا الزلزال الطالح والصالح، وذلك لانتشار الفواحش والزنا وعدم وجود الرادع والمنكر[24].

  1. حادث الطائرة المصرية القادمة من ليبيا التي حطمتها إسرائيل في السبعينات، وفيها أكثر من ثلاثمائة مدني: رجال ونساء وأطفال، أليست هذه كارثة وقعت، وبعلم الله؟ فهل كان ركابها جميعا ظالمين؟ وهل الأطفال الأبرياء الذين لقوا مصرعهم كانوا مجرمين؟ وبقية الركبان في سائر الطائرات بررة مظلومون لا ظالمون؟ ولماذا لم يعزل الله الأطفال الذين قتلوا فيها؟ هل تتهمون الله بالظلم بناء على فهمكم العاجز عن إدراك حقائق الإيمان؟ أم تقولون إن هذه الكارثة لم تقع؟!
  2. الزلزال الذي وقع بمصر عام 1992م هل الذين أضيروا فيه بالموت أو التشريد هم الظالمون فقط؟ وأن جميع الذين نجوا ملائكة بررة؟ وما أكثر الأطفال الذين ماتوا في تلك الكوارث، فلماذا لم يعزلهم الله ثم يهلك من هلك من الكبار الظالمين؟ أتتهمون الله بالظلم أم تقولون: لم يقع زلزال ولم يمت أطفال؟!
  3. ومثال أخير: حادث عمارة "مركز أشعة مصر" الذي وقع ومات فيه نساء ورجال وشباب وأطفال، هل أولئك كانوا أظلم الظالمين في مصر؟ لذلك جمعهم الله في ذلك المكان، ثم سوى طوابق العمارة عليهم. لا نزاع أن في كل كارثة يكون في الضحايا أبرياء صالحون، ومع ذلك يصيبهم ما يصيب غيرهم، والابتلاء هو سنة الله في عباده[25]. كل هذه الأمثلة عم العذاب فيها الصالح والطالح، ولم يعزل الصالحون عن العذاب بل حتى الأطفال الأبرياء؛ وبذلك تبطل دعواهم ويسقط احتجاجهم بأدلة الواقع. وقد أجاد ابن حجر في شرحه لحديث "إذا أنزل الله بقوم عذابا" حين قال: "لا يلزم من الاشتراك في الموت الاشتراك في الثواب والعقاب، بل يجازي كل أحد بعمله على حسب نيته"[26].

الخلاصة:

  • إنحديث: «إذاأنزلاللهبقومعذابا»لايعارضآياتالقرآنالكريم،فالحديثيقررعدالةاللهكماتقررهاالآياتسواء بسواء،؛ لأن العذاب الذي ينزله الله يكون نقمة على الظالمين وطهرة للصالحين.
  • لاتعارضبينهذاالحديث: «إذاأنزلاللهبقومعذابا»وبينقولهتعالىفيسورةالأنفال: )واتقوافتنةلاتصيبنالذينظلموامنكمخاصةواعلمواأناللهشديدالعقاب (25)( (الأنفال)، فكلاهما يبين أن العذاب يعم العاصي والطائع، فالناس إذا تظاهروا بالمنكر فمن الفرض على كل من رآه أن يغيره، فإذا سكت عنه فكلهم عاص، هذا بفعله، وهذا برضاه، فالعقاب يقع على الظالم والمظلوم.
  • إنالسكوتعندفعالظلمونصرةكلمةالحقيؤديإلىغضباللهعلىعباده وإنزال عقابه عليهم، حتى وإن كانوا صالحين؛ لأن من واجبات الإيمان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإذا أنزل العذاب وقع على الظالم لظلمه، ووقع على المظلوم لسكوته عن دفع هذا الظلم.
  • إنسنةاللهفيإهلاكالعاصينأنيرسلإليهمالرسلفإنعصواالرسلوفسقوا وأراد الله إهلاكهم أنزل عليهم العذاب المدمر فدمر كل شيء وكل أحد.
  • إنالزعمبأنالله - سبحانهوتعالى - لايوقععذابهعلىالظالمينإلابإخراجالصالحينمنبينهم - زعمباطل؛لأنالله - سبحانهوتعالى - قديخرجالصالحينفعلاكماحدثمعقومنوحوقوملوط وأصحاب السبت، وقد لا يخرجهم ويعم العذاب الجميع عقوبة للظالمين وابتلاء للصالحين.
  • الحديثلايخالفالحسوالواقعالمشاهد،فكممنبلدفيهالصالحونوالأبرار،والأطفالوالكبارأصابتهزلازلفهلكبهالبروالفاجر،والصالحوالطالح.

 

 

(*) أخطاء وأوهام في أضخم مشروع تعسفي لهدم السنة النبوية، د. عبد العظيم المطعني، مكتبة وهبة، القاهرة، ط1، 1419هـ/ 1999م.

[1]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: الفتن، باب: إذا أنزل الله بقوم عذابا، (13/ 64)، رقم (7108).

[2]. صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: الجنة وصفة نعيمها، باب: الأمر بحسن الظن بالله تعالى عند الموت، (9/ 3981)، رقم (7101).

[3]. صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: الإيمان، باب: بيان كون النهي عن المنكر من الإيمان، (1/ 413)، رقم (175).

[4]. شرح صحيح مسلم، النووي، تحقيق: عادل عبد الموجود وعلي معوض، مكتبة نزار مصطفى الباز، مكة المكرمة، ط2، 1422هـ/ 2001م، (1/ 415).

[5]. شرح صحيح مسلم، النووي، تحقيق: عادل عبد الموجود وعلي معوض، مكتبة نزار مصطفى الباز، مكة المكرمة، ط2، 1422هـ/ 2001م، (1/ 415) هامش.

[6]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: الفتن: باب: إذا أنزل الله بقوم عذابا، (13/ 64)، رقم (7108).

[7]. أخطاء وأوهام في أضخم مشروع تعسفي لهدم السنة النبوية، د. عبد العظيم المطعني، مكتبة وهبة، القاهرة، ط1، 1419هـ/ 1999م، ص92، 93.

[8]. صفوة التفاسير، محمد علي الصابوني، المطبعة العربية الحديثة، القاهرة، (2/ 1037) بتصرف.

[9]. صفوة التفاسير، محمد علي الصابوني، المطبعة العربية الحديثة، القاهرة، (2/ 847).

[10]. صحيح: أخرجه ابن حبان في صحيحه، كتاب: إخباره ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن مناقب الصحابة، باب: إخباره ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن البعث وأحوال الناس في ذلك اليوم، رقم (7314). وقال عنه شعيب الأرنؤوط في تعليقه على صحيح ابن حبان: صحيح لغيره.

[11]. صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: الفتن وأشراط الساعة، باب: اقتراب الفتن، وفتح ردم يأجوج ومأجوج، (9/ 3982)، رقم (7104).

[12] . فتح الباري بشرح صحيح البخاري، ابن حجر العسقلاني، تحقيق: محب الدين الخطيب وآخرين، دار الريان للتراث، القاهرة، ط1، 1407هـ/ 1987م، (13/ 65).

[13]. فتح الباري بشرح صحيح البخاري، ابن حجر العسقلاني، تحقيق: محب الدين الخطيب وآخرين، دار الريان للتراث، القاهرة، ط1، 1407هـ/ 1987م، (13/ 117).

[14]. صحيح: أخرجه ابن حبان في صحيحه، كتاب: البر والإحسان، باب: الصدق والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، رقم (305). قال شعيب الأرنؤوط: إسناده صحيح على شرط الشيخين.

[15]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: الشركة، باب: هل يقرع في القسمة والاستهام فيه، (5/ 157)، رقم (2493).

[16]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: الفتن، باب: إذا أنزل الله بقوم عذابا، (13/ 64)، رقم (7108).

[17]. صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: الفتن وأشراط الساعة، باب: الخسف بالجيش الذي يؤم البيت، (9/ 3985)، رقم (7111).

[18]. الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، ط1، 1405هـ/ 1985م، )7/ 392، 393).

[19]. شرح صحيح مسلم، النووي، تحقيق: عادل عبد الموجود وعلي معوض، مكتبة نزار مصطفى الباز، مكة المكرمة، ط2، 1422هـ/ 2001م، (9/ 3986).

[20]. الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، ط1، 1405هـ/ 1985م، (7/ 393).

[21]. التحرير والتنوير، ابن عاشور، دار ابن سحنون، تونس، د. ت، (9/ 317).

[22]. في ظلال القرآن، سيد قطب، دار الشروق، القاهرة، ط13، 1407هـ/ 1987م، (3/ 1496).

[23]. التحرير والتنوير، ابن عاشور، دار ابن سحنون، تونس، د. ت، (15/ 54).

[24]. قاصف من البحر: تسونامي بين قراءتين، إسماعيل القرشي الشريف، مقال بـ: مجلة الإعجاز العلمي، العدد العشرون، 1426هـ، ص43 بتصرف.

[25]. أخطاء وأوهام في أضخم مشروع تعسفي لهدم السنة النبوية، د. عبد العظيم المطعني، مكتبة وهبة، القاهرة، ط1، 1419هـ/ 1999م، ص95:93 بتصرف.

[26]. فتح الباري بشرح صحيح البخاري، ابن حجر العسقلاني، تحقيق: محب الدين الخطيب وآخرين، دار الريان للتراث، القاهرة، ط1، 1407هـ/ 1987م،(13/ 65).

 

  • الاربعاء PM 02:28
    2020-10-14
  • 1268
Powered by: GateGold