المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 412294
يتصفح الموقع حاليا : 320

البحث

البحث

عرض المادة

إنكار إعجاز القرآن العلمي في إخباره عن رتق السماوات والأرض وفتقهما

إنكار إعجاز القرآن العلمي في إخباره عن رتق السماوات والأرض وفتقهما(*)

 

 

مضمون الشبهة:

في محاولة يائسة لنفي الخلق والتنكُّر للخالق سبحانه وتعالى، أنكر بعض المغالطين إعجاز القرآن العلمي في قوله تعالى: )أولم ير الذين كفروا أن السماوات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما((الأنبياء:30)؛ انطلاقًا من اعتقادهم بأزلية الكون وعدم محدوديته، وهؤلاء هم المادِّيُّون الذين وقفوا ضد نظرية الانفجار العظيم. أما الذين يؤمنون بتلك النظرية فيوجد من بينهم من يقول: إن هذه الرؤية القرآنية لخلق السماوات والأرض -الرتق والفتق- لا تستقيم مع نظرية الانفجار العظيم؛ ذاك أن كلمة الفتق تعني لغويًّا الشق، والشق ليس تفجيرًا، وفي هذا دليل على عدم صحة المصطلح القرآني.

وجها إبطال الشبهة:

 

1) أجرى العلماء بحوثًا لا حصر لها حول موضوع خلق الكون وتوصلوا إلى نظريات متباينة، وبالنسبة إلى العلماء الذين تدبروا النظام والتصميم الموجودَيْن في الكون باستخدام عقولهم وضمائرهم، فإنهم لم يجدوا صعوبة على الإطلاق في تفسير هذا الكمال والاتزان. أما أولئك العلماء الذين يتجاهلون أدلة الخلق، فإنهم يواجهون صعوبة كبيرة في الإجابة عن هذه الأسئلة التي لا تنتهي عن نشأة الكون، ومع ذلك فإن جميع التطورات التي حدثت في دنيا العلوم مؤخرًا -حتى بداية القرن الحادي والعشرين- تقودنا إلى حقيقة واحدة، هي: أنه قد تم خلق الكون من العدم بمشيئة الله سبحانه وتعالى، الذي يمتلك القدرة المطلقة والحكمة السامية.

2) أصابت نظرية الانفجار العظيم -أو الدَّوِيِّ الكبير- في قولها: إن مادة الكون نشأت جميعها من أصل واحد؛ لأن نسيج الكون كله متشابه في كل شيء، ولكن كلمة "الانفجار" ليست دقيقة؛ ذاك أن الانفجار لا يُنتج النظام الذي نراه في الكون، وإنما ينتج الفوضى والدمار، ومن ثم فالمصطلح القرآني "الرتق والفتق" دقيق جدًّا من الناحية العلمية؛ فالعلماء يقولون: إن الكون في بداية أمره كان عبارة عن مادة على شكل نسيج متراكم بعضه فوق بعض، ثم بدأت خيوط هذا النسيج في التباعد.

التفصيل:

 

أولا. الكمال والوحدة والاتزان في الكون لا يمكن أن يتأتَّى إلا بإحكام خالق مبدع:

الحقائق العلمية:

 

فكرة الكون اللامحدود:

مضت قرون والناس يبحثون عن إجابة للسؤال الآتي: كيف نشأ الكون؟ فقد قُدِّمت على مدار التاريخ عشرات بل مئات النظريات لتفسير نشأة الكون، ومع ذلك تبيَّن من استعراض هذه النظريات أنها جميعًا تقوم في جوهرها على أحد نموذجين مختلفَيْن، يدور النموذج الأول حول فكرة الكون اللامحدود الذي لا بداية له، وهو ما لم يعد له أي أساس علمي. في حين يدور النموذج الثاني حول فكرة نشأة الكون من العدم، وهو ما يعترف به المجتمع العلمي حاليًّا بوصفه النموذج المعياري.

لقد دافع أصحاب النموذج الأول -الذي ثبت تهافته وعدم قدرته على الصمود- عن الافتراض القائل بأن الكون قد وجد منذ وقت غير محدَّد وسيظل موجودًا -على حالته الراهنة- إلى ما لا نهاية، وقد نشأت فكرة الكون اللامحدود في اليونان القديمة، وتردَّدت أصداؤها في العالم الغربي نتيجة للفلسفة المادية التي انتعشت في عصر النهضة؛ ذاك أن عصر النهضة كان يقوم على إعادة البحث في أعمال المفكرين اليونانيين القدماء؛ ومن ثم نُفض الغبار عن رفوف التاريخ وأُخذت منها الفلسفة المادية وفكرة الكون اللامحدود -التي تدافع عنها هذه الفلسفة- بسبب اهتمامات فلسفية وأيديولوجية، وقُدِّمت للناس وكأنها حقائق علمية، وقد اعتنق هذه الفكرة بحماس العديد من الفلاسفة، من أمثال "كارل ماركس"([1]) و"فريديريك إنجلز"([2])؛ لأنها أَعدَّت أساسًا متينًا ظاهريًّا لأيديولوجياتهم المادية، الأمر الذي لعب دورًا مهمًّا في تقديم هذا النموذج إلى القرن العشرين، وطبَّقها على شعب روسيا قبل الاتحاد السوفيتي رئيسه الأسبق "لينين".

ووفقًا لنموذج "الكون اللامحدود" الذي حظي بقبول كبير في خلال النصف الأول من القرن العشرين، فإنه ليس للكون بداية ولا نهاية، كما أن الكون لم ينشأ من العدم، ولن يفنى أبدًا، ووفقًا لهذه النظرية -التي شكَّلت أيضًا أساس الفلسفة المادية- يتسم الكون بتركيب سكوني، ولكن فيما بعد، كشفت نتائج البحوث العلمية أن هذه النظرية خاطئة وغير علمية على الإطلاق، فالكون لم يوجد دون بداية؛ بل كانت له بداية كما أنه نشأ من العدم، ولطالما كانت فكرة الكون اللامحدود منطلقًا أساسيًّا لحركات الزندقة والإلحاد والأيديولوجيات الفكرية المنحرفة التي ترتكب خطأ إنكار وجود الله جل جلاله؛ ذاك أن أصحاب هذه الأيديولوجيات يعتقدون أنه إذا لم يكن للكون بداية، فلن يكون له خالق([3]).

الأدلة العلمية على خلق الكون من العدم:

 

سرعان ما كشف العلم -بأدلة دامغة- أن حجج الماديين القائلين بنظرية الكون اللامحدود باطلة، وأن الكون قد بدأ بانفجار يُعرف بـ "الانفجار العظيم" (Big Bang)([4])، وكان لنشأة الكون من العدم معنى واحد فقط: "الخلق"؛ أي إن الله القوي خلق الكون كله. ولقد كان الفلكي البريطاني سير فريد هويل من بين أولئك الذين أزعجتهم هذه الحقيقة؛ فقد قبل هويل تمدد الكون في نظرية "الحالة المستقرة" التي قدَّمها، ولكنه رأى أن الكون لا محدود في مداه وليست له بداية ولا نهاية، ووفقًا لهذا النموذج، كلما تمدَّد الكون، نشأت المادة تلقائيًّا وبالكميات المطلوبة.

وتجدر الإشارة إلى أن هذه النظرية التي قامت على فرضيات غير علمية على الإطلاق، وتطورت بسبب الاهتمام بشيء واحد فقط هو دعم فكرة "الكون اللامحدود الذي ليس له بداية أو نهاية"، ناقضت بشكل مباشر نظرية الانفجار العظيم، التي ثبت علميًّا أنها أقرب إلى الواقع.

 

 

 

شكل يوضح نشأة الكون من العدم

 

  • بعض الشواهد التي تؤيد نظرية الانفجار العظيم:

 

  1. توسُّع الكون:

بقي الفلكيون إلى مطلع العشرينيات من القرن الماضي مصرِّين على ثبات الكون وعدم تغيره، وفي السنوات (1914م - 1925م) أثبت الفلكي الأمريكي "ف. م سلايفر" أن معظم المجرات التي قام برصدها خارج مجرتنا -درب التبانة- تتباعد عنَّا وعن بعضها بعضًا بسرعات كبيرة.

وفي سنة 1929م تمكَّن "إدوين هابل" ([5]) من تأكيد ظاهرة توسع الكون، وتوصَّل إلى الاستنتاج الصحيح -أن سرعة تباعد المجرات الخارجية عن مجرتنا تتناسب تناسبًا طرديًّا مع بعدها عنا- وفي سنة 1934م اشترك هو وأحد مساعديه في قياس أبعاد وسرعات تحرك 32 من تلك المجرات الخارجية بعيدًا عن مجرتنا وعن بعضها بعضًا.

من جانب آخر استطاع علماء كل من الفيزياء النظرية والفلكية تأكيد حقيقة توسع الكون بتوظيف القوانين الرياضية في عدد من الحسابات النظرية؛ ففي سنة 1917م أطلق "ألبرت "إينشتاين"" ([6]) نظرية النسبية العامة لشرح طبيعة الجاذبية كقوة مؤثِّرة في الكون المدرك، وأشارت المعادلات الرياضية المستنتجة من تلك النظرية إلى أن الكون الذي نحيا فيه كون غير ثابت، فهو إما أن يتمدَّد وإما أن ينكمش وفقًا لعدد من القوانين المحددة له، وجاءت هذه النتيجة على عكس ما كان يعتقد ""إينشتاين"" نفسه وجميع معاصريه من الفلكيين وعلماء الفيزياء النظرية، ولقد أصاب "إينشتاين" الذعرُ حينما أدرك أن معادلاته تُنبئ -رغم أنفه- بأن الكون في حالة تمدد مستمر، فعمد إلى إدخال معامل من عنده أطلق عليه اسم "الثابت الكوني" ليلغي به تمدُّد الكون، ويؤكد ثباته واستقراره على الرغم من دوران الأجرام التي يحتويها وحركتها المتعددة، ثم عاد ""إينشتاين"" ليعترف -أمام سيل ملاحظات الفلكيين عن تمدد الكون- بأن تصرفه هذا كان أكبر خطأ علمي اقترفه في حياته.

وفي السنوات (1917م - 1924م) قام الروسي "ألكسندر فريدمان"([7]) بإدخال عدد من التحسينات على معادلات ""إينشتاين""، وقدَّم نموذجَيْن لتفسير نشأة الكون، يبدأ كل منهما بحالة متفرِّدة تتميز بكثافة لا نهائية، وتتمدَّد منها إلى حالات ذات كثافة أقل.

وتحدَّث "فريدمان" عن انحناء الكون، وعن تحدُّبه تبعًا لكمية المادة الموجودة فيه‏، فإن كانت تلك المادة أقل من قدر معين -كمية حرجة- وجب أن يستمر تمدد الكون إلى الأبد‏، وفي هذه الحالة يكون نظام الكون مفتوحًا‏ (Opened universe)، أما إذا كانت كمية المادة بالكون أقل من الكمية الحرجة غدت الجاذبية على قدر من القوة بحيث تجذب الكون إلى درجة تتوقف عندها عملية التمدُّد في لحظة معينة من المستقبل‏، عندها يبدأ الكون في الانطواء على ذاته ليعود إلى حالة الكثافة اللانهائية الأولى التي بدأ بها، وفي هذه الحالة يكون نظام الكون مغلقًا‏ (Closed universe)، وقد أثبت كل من "وليام دي سيتر" في سنة ‏1917م و"آرثر إدنجتون" ([8]) في سنة 1930م أن الكون كما صوَّرته معادلات ""إينشتاين"" هو كون غير ثابت‏، ولكن تصوُّر كل منهما للكون كان تصورًا بدائيًّا‏، فبينما كان نموذج ""إينشتاين"" للكون نموذجًا ماديًّا دون حركة، ونموذج "دي سيتر" حركيًّا دون مادة‏، جاء نموذج "إدنجتون" وسطًا بين النموذجَيْن، بمعنى أن الكون بدأ بحالة ساكنة‏، ثم أخذ في التمدُّد نظرًا لطغيان قوى الدفع للخارج على قوى الجاذبية‏، ولكن انطلاقًا من فكر الإلحاد السائد في عصره اضطر "إدنجتون" إلى أن يفترض أن للكون ماضيًا لا نهائيًّا؛ ليتخلص من حقيقة الخلق‏، ومن شبح الانفجار الكبير الذي سمَّاه باسم "البداية الكارثية".

 

 

 

 

شكل يوضح مراحل خلق الكون بعد عملية الانفجار العظيم

 

وفي السنوات (1932م - 1934م) اقترح "ريتشارد تولمان" نموذجًا متذبذبًا للكون يبدأ وينتهي بعملية الانفجار الكبير‏. وأخيرًا اقترح "آلان جوث" نموذج الكون المتضخِّم‏، الذي يقترح فيه أن الكون المبكر تمدَّد في أول الانفجار تمددًا رأسيًّا سريعًا جدًّا مع سطوع فائق، ثم أخذت معدَّلات التوسع في التباطؤ إلى معدلاتها الحالية‏.

 

ومن منطلق إنكار الخلق ينادي الفلكيون المعاصرون بفكرة الكون المفتوح (Opened universe) أي الذي يتمدَّد إلى ما لا نهاية، ولكن حسابات الكتل المفقودة تؤكد انغلاق الكون، هذا الانغلاق الذي سيقف بتمدده عند لحظة في المستقبل يعود الكون فيها إلى الانكماش والتكدس على ذاته ليعاود سيرته الأولى‏.

 

وبالتدريج بدأت فكرة "تمدُّد الكون إلى حدٍّ ما في المستقبل" تلقى القبول من الغالبية الساحقة من علماء الفلك والفيزياء الفلكية والنظرية‏، وإن بقي منهم من ظل يدعو إلى ثبات الكون حتى مشارف الخمسينيات من القرن العشرين‏؛ مثل مجموعة علماء الفلك في جامعة كمبردج المكونة من كل من "هيرمان بوندي"‏([9])، و"توماس جولد"‏، و"فريد هويل". وقد قام هذا الفريق بنشر سلسلة من المقالات والبحوث في السنوات (1946م، 1948م، 1949م) دفاعًا عن النموذج الثابت للكون، ثم اضطروا إلى الاعتراف بحقيقة تمدُّده بعد ذلك بسنوات قليلة، ومن عجائب القدر بهؤلاء الجاحدين لحقيقة الخلق، المتنكرين لجلال الخالق سبحانه وتعالى، المنادين كذبًا بأزلية العالم ـ أن يكون أحد زعمائهم وهو "فريد هويل" الذي حمل لواء الادعاء بثبات الكون واستقراره وأزليته لسنوات طويلة، هو الذي يعلن بنفسه في سخرية لاذعة تعبير "الانفجار الكبير للكون"، وذلك في سلسلة أحاديث له عبر الإذاعة البريطانية في سنة ‏1950م كان ينتقد فيها ظاهرة تمدُّد الكون، ويحاول إثبات بطلانها، ثم جاء بعد ذلك بسنوات ليكون من أشد المدافعين عنها‏.

 

      وكانت نظرية خلق الكون من جرم أولي واحد عالي الكثافة قد توصَّل إليها البلجيكي "جورج لوميتر"([10]) في سنة ‏1927م، وذلك في رسالة تقدَّم بها إلى معهد (مساشوسيش) للتقنية، دافع فيها وفي عدد من بحوثه التالية عن حقيقة تمدُّد الكون‏، ولم تلقَ أبحاثه أي انتباه إلى أن جاء "إدنجتون" في سنة ‏1930م ليلفت إليها الأنظار، ومن هنا أطلق على "لوميتر" لقب صاحب فكرة الانفجار الكبير في صورتها الأولى. ‏

 

  1. بقايا الإشعاع الكوني([11]):

 

      في سنة 1948م أعلن كل من "جورج جامو" وزميله "رالف ألفر" أن تركيز العناصر في الجزء المدرك من الكون يشير إلى أن الجرم الأولي الذي بدأ به الكون كان تحت ضغط وفي درجة حرارة لا يكاد العقل البشري أن يتصورهما‏، وعند انفجاره انتقلت تلك الحرارة إلى سحابة الدخان الكوني التي نتجت عن ذلك الانفجار‏، وسمحت بعدد من التفاعلات النووية التي أدَّت إلى تكون العناصر الأولية مثل الإيدروجين والهيليوم‏.

 

 

 

 شكل يمثل الخلفية الإشعاعية للجزء المدرك من الكون

 

وفي السنة نفسها ‏1948م قدَّم كل من "ألفر" و"هيرمان" اقتراحًا بأن الجرم الابتدائي للكون كان له إشعاع حراري يشابه إشعاع الأجسام المعتمة، وأن هذا الإشعاع تناقصت شدَّته مع استمرار تمدُّد الكون وتبرُّده، ولكن لا بد أن تبقى منه بقية في صفحة السماء، وإذا أمكن البحث عنها وتسجيلها، كانت تلك البقية الإشعاعية من أقوى الأدلة على بدء خلق الكون بعملية الانفجار الكبير‏. ‏

 

   وفي سنة ‏1964م تمكَّن عالمان من مختبرات"بل" للأبحاث وهما "أرنو بنزياس" و"روبرت ويلسون" كلٌّ على حدة وبمحض المصادفة ـ من اكتشاف تلك البقايا الأثرية للإشعاع الحراري الكوني، على هيئة ضوضاء لاسلكية محيرة تَفِد بانتظام إلى الهوائي الذي كانا قد نصباه لغاية أخرى، من جميع الجهات في السماء حيثما وجه الهوائي‏، وقدَّروها بثلاث درجات مطلقة (‏270 درجة مئوية تحت الصفر المئوي).

 

   في الوقت نفسه كان كل من "روبرت دايك" وتلميذه "بيبلز"قد استنتجا من معادلاتهما الرياضية الفلكية أن النسب المقدَّرة لغازي الإيدروجين والهيليوم في الكون تؤكد الكمية الهائلة من الإشعاع التي نتجت عن الانفجار الكبير، وتدعم نظريته، ومع تمدد الكون ضَعُفَ هذا الإشعاع بالتدريج وانخفضت درجة حرارته إلى بضع درجات قليلة فوق الصفر المطلق.

 

  1. تصوير بقايا الدخان الكوني:

 

في سنة 1989م أرسلت(مؤسسة ناسا الأمريكية) إلى الفضاء مركبة فضائية لجمع المعلومات حول الإشعاع الحراري الكوني، أطلق عليها اسم "مكتشف الخلفية الإشعاعية" (COBE) "كوب" وزُوِّد بأجهزة فائقة الحساسية أثبتت وجود تلك الأشعة الأثرية المتبقية عن عملية الانفجار العظيم. وكان في هذا الاكتشاف التفسير المنطقي لسبب الأزيز اللاسلكي المنتظم الذي يعجُّ به الكون، الذي يأتي إلينا من مختلف أطراف الكون المدرك، والذي بقي على هيئة صدى لعملية الانفجار الكبير، وقد قامت هذه المركبة الفضائية بإرسال ملايين الصور إلى الأرض عن بقايا الدخان الأول الذي نتج عن عملية الانفجار العظيم من على مسافة تقدَّر بعشرة مليارات من السنين الضوئية.

 

وقد منح كل من"بنزاياس" و"ولسون" جائزة "نوبل" في سنة 1978م على اكتشافهما الذي كان فيه الدليل المادي الملموس لدعم نظرية الانفجار الكبير، والارتقاء بها إلى مقام الحقيقة شبه المؤكدة، ودفع بالغالبية الساحقة من علماء الفلك والفيزياء الفلكية إلى الاعتقاد بصحتها([12]).

 

  • القرآن الكريم وخلق السماوات والأرض:

في ظل سيادة الاعتقاد الخاطئ بأن الكون الذي نحيا فيه كان منذ الأزل، وسيبقى إلى الأبد، وأنه كون لا نهائي، لا تحدُّه حدود ـ جاء القرآن الكريم مؤكِّدًا أن الكون مخلوق له بداية، ولا بد أن ستكون له في يوم من الأيام نهاية، وأنه محدود بحدود لا يتجاوزها، وإن كنا لا نستطيع أن ندركها، قال تعالى: )أولم ير الذين كفروا أن السماوات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما((الأنبياء: ٣٠).

 

وهذه الآية الكريمة واضحة الدلالة على أن الكون الذي نحيا فيه كون مخلوق له بداية، بدأ الله عز وجل خلقه من جرم ابتدائي واحد "مرحلة الرتق"، وهو القادر على كل شيء، ثم أمر الله عز وجل بفتق هذا الجرم الابتدائي فانفتق "مرحلة الفتق".

 

 

 

 

 

 

شكل يبين ولادة الكون بالرتق ثم توسع السماء

 

 

 

                                                                                                                  

 

 

 

 

 

رسم توضيحي لعملية انفجار وتمدُّد الكون "عملية فتق الرتق"

 

 

 

والخطاب في الآية الكريمة لم يكن مقتصرًا على الكفار في عصر النبوة فحسب؛ لأن المراد به العموم، فيشمل الكفار في كل زمان ومكان، فإن لم تكن الرؤية قد تحققت للكفار في العصور القديمة، فقد تحققت لهم في عصرنا هذا، فرأوا بأعينهم هذه الظاهرة العجيبة، التي أخبر القرآن عنها منذ أكثر من ألف وأربع مئة سنة مضت؛ ولكنهم بدلًا من أن يؤمنوا كفروا عنادًا واستكبارًا، وهذا ما أنكره الله عز وجل عليهم بقوله:) أولم ير الذين كفروا((الأنبياء: 30)؛ لأن المتوقع ممن رأى هذه الظاهرة الكونية أن يعترف بوحدانية الخالق سبحانه، وأن يؤمن به، ولا يشرك به أحدًا من خلقه؛ ولذا أنكر عليهم سبحانه وتعالى كفرهم به، ثم وبَّخهم عليه في نهاية الآية بقوله:)أفلا يؤمنون (30 )(([13])؟(الأنبياء)

لقد أقر جمهور علماء الطبيعة أن خلق هذا الكون جاء من مادة واحدة ملأت الكون في بدايته، وأن هذه المادة المنتشرة التي ملأت الكون في بداية خلقه جاءت جميعها من أصل واحد ومن نبت واحد، بحيث تشابهت في كل أرجاء هذا الكون؛ فقد رأوا الذرات والعناصر والمركبات نفسها في كل أركان الأرض، بل على سطح القمر وفي المريخ والشمس والكواكب الأخرى، وفي النجوم والمجرات جميعها، فالمعادن التي على الأرض هي المعادن نفسها التي وجدتها مركبات الفضاء فوق سطح القمر والمريخ، والغازات التي تكوِّن الشمس وتحيط بها، هي الغازات نفسها التي نجدها في معاملنا على الأرض. وجميع الكواكب تخضع في حركتها للقوانين نفسها التي تخضع لها الأرض، والنجوم جميعها تخضع في تفاعلاتها للقوانين نفسها التي تخضع لها الشمس ولها المكونات نفسها.

 

لهذا وضع العلماء نظرياتهم عن بداية هذا الكون على أساس أن المادة التي جاء منها خلق الكون، كانت جميعها مجتمعة في حالة انضغاط لا نهائي قبل ولادة الكون، ثم وقع على قدر تخيُّلهم حدث، بدأ وانتهى في لحظة واحدة، ونشأ عنه انتشار هذه المادة في الكون كله، وأسمَوا هذا الحدث "الانفجار الكبير"، ثم تحوَّلت مادة الكون بعد هذا الانفجار إلى إشعاع ملأ الكون كله، ثم تحوَّل الإشعاع بفعل برودة الكون إلى ذرات تماثلت جميعها في تكوينها وأشكالها، ثم تجمَّعت الذرات في نظام واحد إلى نجوم ثم كواكب تابعة للنجوم، وتجمعت النجوم في مجرَّات وحارات؛ أي تشابهت النجوم والكواكب والمجرات منذ بداية الكون، واتّزنت وانتظمت بجميع مكوناتها بفعل انفجار كبير لم يستغرق سوى لحظة واحدة.

 

ولقد أصابت النظرية في أن مادة الكون كما رآها هؤلاء نشأت جميعها من أصل واحد ومن مصدر واحد؛ لأن نسيج الكون كله متشابه في كل شيء، ولكن إنكار يد الخالق الذي دبَّر أن يأتي هذا الكون من منشأ واحد، ثم إرجاع هذه النشأة إلى انفجار كبير جاء في لحظة واحدة، يمثل تعاميًا عن الحقائق؛ فما ينشأ عن انفجار كبير هو الدَّمار، وليس عمارة الكون بهذا النظام الكامل والوحدة الرائعة.. هو الفوضى، وليس اتزان النجوم ودورانها دوريًّا في مجراتها والكواكب في أفلاكها منذ اللحظة الأولى.. هو الاختلاف، و ليس تشابه الكون في كل أركانه وأنحائه.

 

كيف يكون هذا الكمال والاتزان والتماثل نتيجة لانفجار عشوائي؟ ثم ما الذي أحدث انفجار هذه المادة وفي هذا الوقت القصير، بحيث تملأ مادته الكون كله على اتساعه بهذه الدقة المتناهية والتماثل التام، فينشأ عنه كون متسع يتَّسم بالكمال والجمال والوحدة والاتزان منذ لحظته الأولى؟ إن العلم المجرد من الإيمان يقف عاجزًا عن الرد على هذه الاستفسارات، ولا يستطيع أحد أن يملك الرد على كل هذه الاستفسارات سوى خالق هذا الكون الذي أنشأه وشهد نشأته. خالق لم يرضَ أن يترك الناس في حيرة وشك عندما يدركون ما في هذا الكون من تماثل أو تشابه جاء منذ بدايته دون أن يجدوا لهذا تفسيرًا، فأرسل كتابًا يهدي به إلى الحق والحقيقة وإلى صراط الله المستقيم. فجاءت هذه الآية بالرد الحق على كل ما رآه العلماء وحاولوا أن يجدوا له سببًا([14]).

 

إن وهم أزلية المادة لا سند له في الأصل كما هي حال كافة ادعاءات الملحدين التي تلبس ثوب العلم، ونظرية الانفجار العظيم ليست إلا تصورًا وليد تجارب علمية أيَّدت عمليًّا بدء الخلق الذي نادى به رسل الله -عليهم السلام- بالإضافة إلى جزئيات نظرية قابلة للتعديل وفق معطيات الكشوف العلمية.

 

ولا يخفى أن التسمية بالانفجار -مهما كانت عظمته- فيها بعض التضليل؛ لأنها تقصر العودة في تلاشي الكون إلى مادة أولية مُكوَّمة وليس إلى مجرد العدم، ولا مسوِّغ مقبول لتلك التسمية سوى التهرب السافر من الخلق من العدم المحض الذي يلزم بوجود الخالق، ولكنها لم تمنع أحد أعلام الفيزياء وهو البروفيسور "ستيفن هاوكنج" البريطاني من الاعتراف بأن وحدة البدء تقطع بوجود الخالق، وقد أشار إلى هذا في كتابه المعنون (تاريخ موجز للزمن)، وعلى الرغم من أن الكتاب مملوء بالاستنتاجات المؤكدة لحقيقة الخلق وعظمة الخالق سبحانه وتعالى، إلا أنها جاءت مغلَّفة بسحابة من الاستحياء والتردُّد الشديدَيْن؛ نظرًا لجو الإلحاد الذي يسود الغرب بصفة عامة في زمن العلم والتقنية الذي نعيشه.

 

وبالمثل قال"ألفريد هويل": "تقول نظرية الانفجار الكبير بأن الكون نشأ نتيجة انفجار كبير، ونحن نعلم أن كل انفجار يبعثر المادة دون نظام، ولكن الانفجار الكبير عملالعكس. إذ عمل على جمع المادة وفق تصميم وقدرة فريدة لتشكيل المجرات والنجوم والتوابع، ونشأة الإنسان على هذه الأرض"، والنتيجة الحتمية التي توصل إليها العالم الأمريكي"جورج كرنشتاين" قد أعلنها بقوله: "كلما دقَّقنا في الأدلة التي يقدِّمها الكون المفتوح الصفحات أمامنا واجهتنا على الدوام الحقيقة نفسها، وهي أن هناك قدرة إلهية خلف بدء الخلق وكافة الأحداث"، ولكن المدهش أن علامات بدء الخلق التي تعلنها رسالة الكون إلى أهل النظر قد أمر القرآن بالبحث عنها في قوله تعالى: )قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق ثم الله ينشئ النشأة الآخرة إن الله على كل شيء قدير (20)((العنكبوت)([15]).

 

  • اعترافات:

 

اضطر طائفة من العلماء -سواء أكانوا مؤمنين بالله أم غير مؤمنين به- إلى الاعتراف بحقيقة أن لهذا الكون خالقًا عظيمًا، وعلى الرغم من أنهم قد يرفضون الاعتراف بهذه الحقيقة على المنابر العلمية، فإن اعترافاتهم الموجودة بين السطور تفضح أمرهم؛ فقد قال الفيلسوف الملحد المعروف "أنطوني فلو" (AnthonyFlew):"من المعروف أن الاعتراف يفيد الروح؛ لذا سوف أبدأ بالاعتراف بأن الملحد العنيد يجب أن يربكه الإجماع الكوني المعاصر؛ إذ يبدو أن علماء الكونيات يقدمون إثباتات علمية لا يمكن -على ما رأى القديس توماس- إثباتها فلسفيًّا؛ أي إن للكون بداية، وطالما أمكن التفكير في الكون بشكل مريح بوصفه ليس فقط دون نهاية ولكنه دون بداية أيضًا، يظل من السهل المجادلة بأن وجوده غير المنطقي، وسماته الأساسية الغالبة أيًّا كانت، لا بد من قبولها بوصفها التفسير النهائي لوجوده، وعلى الرغم من أنني أؤمن بأن ذلك لا يزال صحيحًا، فإنه ليس من السهل -بالتأكيد- ولا من المريح الاستمرار على هذا الموقف في مواجهة قصة الانفجار العظيم".

 

كما اعترف بعض العلماء من أمثال الفيزيائي المادي البريطاني"إتش بي ليبسون" (H.P. Lipson): "بأنهم مضطرون لقبول نظرية الانفجار العظيم سواء رغبوا في ذلك أم لم يرغبوا، فإذا لم تنشأ المادة الحية نتيجة تفاعل الذرات، والقوى الطبيعية والإشعاع، فكيف نشأت؟ أنا أعتقد مع ذلك أننا ينبغي أن نعترف بأن التفسير الوحيد المقبول هو الخلق، أنا أعلم أن هذا أمر بغيض بالنسبة إلى الفيزيائيين، كما هي الحال بالنسبة إليَّ، ولكننا ينبغي ألا نرفض ما نكرهه إذا أيَّدته الأدلة التجريبية".

 

وها هو "إسحاق نيوتن"([16]) ـ وهو أبو الفيزياء الحديثة والميكانيكا الفلكية، الذي يشار إليه بوصفه أحد أعظم العلماء في التاريخ على الإطلاق. يقول: "لا يمكن أن ينشأ هذا النظام فائق الجمال، المؤلَّف من الشمس والكواكب والمذنبات إلا نتيجة لتخطيط وسلطان كيان حكيم ومقتدر، ويسيطر هذا الكيان بسلطانه على كل شيء، ليس بوصفه روح العالم، ولكن بوصفه رب كل شيء، ويُطلق على هذا الكيان عادة الله الرب، حاكم الكون".

 

  • وجه الإعجاز:

 

قال الله تعالى: )أولم ير الذين كفروا أن السماوات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما( (الأنبياء: ٣٠)، وهذه الآية تشير إلى حقيقتين من حقائق الكون الكبرى:

 

الأولى: ابتداء خلق الكون من جرم أولي واحد "مرحلة الرتق".

 

الثانية: فتق هذا الجرم الأولي "مرحلة الفتق".

 

هذه الحقائق الكونية في خلق السماوات والأرض، لم يستطع الإنسان الوصول إلى إدراك شيء منها إلا في منتصف القرن العشرين أو بعد ذلك بقليل، حين تبلورت نظرية فلكيةباسم "نظرية الانفجار العظيم"، وهذه النظرية هي الأكثر قبولًا اليوم عند علماء الفلك وعلماء الفيزياء الفلكية والنظرية في تفسير نشأة الكون.

 

وهذا السبق القرآني بالإشارة إلى حقيقة الفتق بعد الرتق من أعظم الشهادات بأن القرآن الكريم هو كلام الله الخالق، ولا يمكن أن يكون كلام أحد غير الله، كما يشهد لهذا النبي الخاتم صلى الله عليه وسلم بأنه كان موصولًا بوحي السماء، ومعلَّمًا من قبل خالق السماوات والأرض؛ حيث لم يكن لأحد من الخلق علم بهذه الحقائق الكونية الكبرى في زمن الوحي، ولا لقرون متطاولة من بعد نزوله.

 

ثانيًا. المصطلح القرآني الرتق والفتق دقيق جدًّا من الناحية العلمية:

 

1)  الحقائق العلمية:

 

توصَّل العلماء إلى أن هناك خيوطًا كونية توضع عليها المجرات، وهذه الخيوط تتباعد عن بعضها تمامًا كما تتباعد خيوط النسيج؛ فهم يقولون: إن الكون في بداية أمره كان عبارة عن مادة على شكل نسيج متقارب ومتراكم بعضه فوق بعض، ثم بدأت خيوط هذا النسيج تتباعد في خلال بلايين السنين.

 

والعجيب أنهم صوَّروا هذه العملية -أي عملية الفتق وتباعد خيوط النسيج- باستخدام السوبر كمبيوتر، ووصلوا إلى نتيجة شبه يقينية مفادها أن خيوط النسيج الكوني تتباعد عن بعضها باستمرار تمامًا كما تتباعد خيوط القماش نتيجة تمزُّقه([17]).

 

 

 

 

 

                                                             في هذا الشكل تمثل الصورة اليمنى الخيوط الكونية، وتمثل الصورة اليسرى الخيوط نفسها، ولكن بعد مدة من الزمن، ونلاحظ أن الخيوط تتباعد وكأننا أمام قطعة نسيج تنفتق وتتمزق ولكن بإحكام مذهل!

 

                                                                         ويلاحظ العلماء أن المجرات تتدفق على طول الخيوط، باتجاه العقد في هذا النسيج، وكل نقطة مضيئة في هذه اللوحة هي تجمُّع للمجرات، فتأملوا عظمة هذا الرتق الكوني

 

2)  التطابق بين الحقائق العلمية والآية القرآنية:

 

قال الله تعالى: )أولم ير الذين كفروا أن السماوات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما((الأنبياء: ٣٠).

 

  • المعنى اللغوي للآية:

 

الرتق في اللغة عكس الفتق؛ لأن الرتق: هو الضم والالتحام والالتئام سواء كان ذلك طبيعيًّا أو صناعيًّا، يقال: رتقت الشيء فارتتق؛ أي: فالتأم والتحم. والفتق لغة: هو الفصل والشق والانشطار. والمعنى الواضح لنا من هذه الآية الكريمة أن السماوات والأرض كانتا في الأصل شيئًا واحدًا متصلًا، ملتئمًا وملتحمًا، ففتقه ربنا سبحانه وتعالى بأمر منه إلى الأرض التي نحيا عليها، وإلى سبع سماوات من فوقنا([18]).

 

وجاء في القاموس المحيط: فتقه: شقَّه، ومَفْتَق القميص: مشقه([19]).

 

وهاتان الكلمتان تستخدمان مع النسيج، فعندما يمزَّق النسيج ويباعد بين خيوطه نقول: فتق الثوب. والرتق هو العكس؛ أي: جمع وضم هذا النسيج.

 

  • أقوال المفسرين:

 

جاء في جامع البيان للطبري: "أي يقول تعالى ذكره: أولم ينظر هؤلاء الذين كفروا بالله بأبصار قلوبهم فيروا بها، ويعلموا أن السماوات والأرض كانتا رتقًا، يقول: ليس فيها ثقب، بل كانتا ملتصقتين، يقال منه: رتق فلان الفتق إذا شدَّه، فهو يرتقه رتقًا ورتوقًا، ومن ذلك قيل للمرأة التي فرجها ملتحم: رتقاء، ووحَّد الرتق، وهو من صفة السماء والأرض، وقد جاء بعد قوله تعالى: )كانتا(لأنه مصدر"([20]).

 

وفي تفسير القرطبي: "الرتق: السد، ضد الفتق، وقد رتقت الفتق أرتقه فارتتق؛ أي التأم، ومنه الرتقاء للمنضمة الفرج. قال ابن عباس والحسن وعطاء والضحاك وقتادة: يعني أنها كانت شيئًا واحدًا ملتزقتين ففصل الله بينهما بالهواء. وكذلك قال كعب: خلق الله السماوات والأرض بعضها على بعض ثم خلق ريحًا بوسطها ففتحها بها، وجعل السماوات سبعًا والأرضين سبعًا"([21]).

 

وفي تفسير ابن كثير: "ألم يروا أن السماوات والأرض كانتا رتقًا؛ أي كان الجميع متصلًا بعضه ببعض متلاصق متراكم بعضه فوق بعض في ابتداء الأمر ففتق هذه من هذه، فجعل السماوات سبعًا والأرض سبعًا، وفصل بين السماء الدنيا والأرض بالهواء"([22]).

 

ومن ثم؛ فإن ابن كثير وغيره من المفسرين فهموا من الآية أن الكون (السماوات والأرض) كان عبارة عن مادة متلاصقة متقاربة من بعضها متراكمة فوق بعضها، وكان هذا - بالطبع- في بداية الخلق، ثم باعد الله بين السماء والأرض وفصل بينهما.

 

ولو تأملنا ما يتحدث به العلماء لوجدناهم يقولون: إن الكون في بداية أمره كان عبارة عن مادة على شكل نسيج متراكم بعضه فوق بعض، ثم بدأت خيوط هذا النسيج تتباعد.

 

لقد فسَّر علماؤنا في العصر الحديث هذه الآية على أنها تتحدث عن الانفجار العظيم، وهي نظرية لم تثبت بعد، ولكنها أفضل التفسيرات لنشوء الكون. وملخصها -كما ذكرنا آنفًا- أن الكون كان كتلة صغيرة ثم انفجر وتباعدت أجزاؤه، ثم تشكلت الذرات ومنها تشكَّلت النجوم والمجرات والشمس والقمر كما هو الوضع عليه اليوم([23]).

 

ولكن مشكلة هذه النظرية أنها لا تقول: من أين جاءت الكتلة الأولية؟ من الذي أحدث الانفجار؟ وكيف لانفجار عشوائي أن يخلق كونًا منظمًا بهذه الدقة الفائقة؟ ومن ثم فإن ما يؤخذ على القول بالانفجار العظيم ونردُّه ولا نقبله هو "الانفجار"؛ لأن الانفجار يدل على العشوائية وعدم الانضباط؛ لذلك يجب أن يحل المصطلح القرآني "الرتق والفتق" محل لفظة الانفجار؛ لأنه أدق في التعبير عن بداية خلق الكون، وأفصح وأوضح لغة وحقيقة([24]).

 

 

 

 

                                                          نظرية الانفجار العظيم صحيحة جزئيًّا، فهي من حيث المبدأ صحيحة أي إن الكون كان كتلة واحدة ثم انفصلت أجزاؤها مُشكِّلة المجرات والنجوم والكواكب، ولكن يوجد خطأ بالتعبير عنها بلفظة الانفجار؛

 

    لأن الانفجار لا يُنتج النظام الذي نراه في الكون، بل الانفجار ينتج الفوضى والدمار

 

لقد تطوَّر العلم وبدأ العلماء يتحدثون عن الخيوط العظمى، وأن هذه الخيوط من المادة كانت متماسكة وقريبة من بعضها في بداية نشوء الكون، ثم بدأت تتباعد وفق نظام محكم يعدُّه العلماء من أعظم الظواهر الكونية، هذه النظرية الجديدة أصبحت أقرب للحقيقة اليقينية؛ لأنها مشاهدة، فالمجرات تم رصدها في الكون ووضعها على شبكة ثلاثية الأبعاد على الكمبيوتر العملاق، وطُلب منه أن يضع كل مجرة في مكانها فكانت المفاجأة للعلماء أنهم رأوا خيوطًا من المجرات تتشابك وتتباعد عن بعضها عبر بلايين السنين([25]).

ومن ثم نستطيع أن نقول: إن وجود هذه الخيوط الكونية المتقاربة في بداية الخلق هو الرتق الذي حدثنا عنه القرآن، وتباعد هذه الخيوط بنظام محكم هو الفتق، وهكذا يتحقق معنى الآية لغويًّا وتفسيريًّا؛ وعليه فالمصطلح القرآني دقيق جدًّا من الناحية العلمية، على عكس ما ادعاه الطاعن.

وهكذا جاءت كلمتا "الرتق والفتق" بكل المعاني التي عبَّرت عن كل ما وجده العلماء وحاروا في تفسيره، وليرد على كل من ينكر أن وراء نظم هذا الكون وانتظامه -بالمنطق والتفسير والعلم والحكمة- خالقًا قديرًا عظيمًا، وهل يتأتَّى إحكام هاتين الكلمتين لأحد سوى خالق السماوات والأرض، خالق الرتق ومُحدِث الفتق، إنها حكمة لا تتأتى لأحد غيره، وهذا هو الرد المعجز على كل من ينكر فضله وآياته في عمارة هذا الكون([26]).

  • وجه الإعجاز:

 

قال الله تعالى: )أولم ير الذين كفروا أن السماوات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما((الأنبياء: ٣٠).

 

تبلغنا هذه الآية الكريمة أن كل النجوم والكواكب والمجرات وما يملأ الكون جاء من نسيج واحد، تفتَّق بيد خالق واحد فجاء متوازنًا متماثلًا، وقد وصل العلم إلى وحدة نسيج هذا الكون، ولكنه عجز عن سر تفسير هذه الوحدة؛ فلجأ العلماء إلى نظرية الانفجار الكبير، ولو نظر هؤلاء العلماء إلى هذا الإعلان القرآني الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم لَسَلِمَوا من هذا الخلط.

 

قال البروفيسور "ألفريد كرونر" - من أشهر علماء الجيولوجيا- معلِّقًا على هذه الآية: "إن هذا لا يمكن أن يكون من عند محمد ولا يمكن أن يكون من المعلومات البشرية في عصره، فشخص لا يعرف شيئًا عن الفيزياء النووية ما كان له في رأيي أن يكون في وضع يكشف فيه بعقله أن الأرض والسماوات كانت لهما نفس الأصول".

 

إن هذه الآيات الكونية الواردة في كتاب الله تشهد له بالدقة والشمول والكمال، وبالصياغة المعجزة التي يفهم منها أهل كل عصر معنى من المعاني يتناسب مع المستوى العلمي للعصر، وتظل هذه المعاني تتسع باستمرار مع اتساع دائرة المعرفة الإنسانية في تكامل لا يعرف التضاد، وهذا من أبلغ جوانب الإعجاز في كتاب الله.

 

 

 

(*) موقع: الكلمة www.alkalema.net.

 

[1]. كارل ماركس (Karl Marx) (1818م-  1883م): عالم اقتصاد وفيلسوف اجتماعي ألماني. نشر مع صديقه فريدريك إنجلز البيان الشيوعي عام 1848م. أُبعد عن ألمانيا وفرنسا فرحل إلى لندن عام 1849م. أشهر آثاره: "رأس المال" في ثلاثة مجلدات، نشر أولها عام 1867م، وثانيها عام 1885م، وثالثها عام 1894م.

 

[2]. فريدريك إنجلز ( Friedrich Engels) ( 1820م - 1895م): فيلسوف اشتراكي ألماني. قضى شطرًا كبيرًا من حياته في إنجلترا. التقى بماركس عام 1844م، وأسهم معه في وضع "البيان الشيوعي"، وبعد وفاة ماركس نشر المجلدين الثاني والثالث من كتاب "رأس المال".

 

[3]. الأدلة العلمية على خلق الكون من العدم، هارون يحيى، مقال منشور بموقع:www.harunyahya.com.

 

[4]. عماد نظرية الانفجار العظيم هو أن انفجارًا قد وقع للمادة الأولية للكون الأمر الذي أدَّى لتوسعته، ومن ثم برودته، وفي اللحظات الأولى من عمر الكون كانت درجة الحرارة هائلة نتيجة لتجمع المادة، وقد سادت فيها الجسيمات الأولية التي تمثل لبنات الذرات، ثم وجدت الذرات، ومنها تألف الغبار الكوني الذي نشأت منه فيما بعد المجرات. وتأسيسًا على ذلك؛ فإن الكون كله كان متركزًا في البدء في نقطة صغيرة، كثافتها تبلغ ألف مليون مليون مليون مليون مليون مليون طن للسنتيمتر المكعب، ولكنها قد جمعت كل كتلة الكون الحالي، وبسبب الانضغاط الهائل كانت البداية ذات حرارة هائلة لا تبلغها اليوم أعظم النجوم، ومع كل درجة حرارة يصدر إشعاع ذو طول موجي محدد يميزها، فلو كان هذا التصور صحيحًا فلا بد من إشعاع يغمر الكون كله الآن يعكس تلك الحرارة الهائلة، وهو ما كشفه بالفعل بنزياس وولسون عام 1965م، وتأكد وجود هذا الإشعاع عندما أرسلت مؤسسة ناسا الأمريكية لأبحاث الفضاء قمرًا اصطناعيًّا عام 1989م، وبهذا أصبحت نظرية الانفجار العظيم (Big Bang) مقبولة لدى معظم العلماء وأساسها تجمع مادة أولية في حيز صغير، ولك أن تواصل تشغيل الفيلم عكسيًّا حتى تصل إلى لحظة (الإبداع العظيم) التي لا يسبقها سوى انعدام المادة.

 

[5]. إدوين هابل (1889م - 1953م): فلكي أمريكي معاصر، قام برصد ملايين النجوم والمجرات من مرصد جبل بالومار، وقام بتصنيفها في مجموعات، أعلن أن الكون أكبر مما يتصور العلم آنذاك.

 

[6]. ألبرت "إينشتاين" (A. Einstein) ( 1879م - 1955م): الفيزيائي الألماني - الأمريكي، الذي طور النظريات الخاصة والعامة للنسبية، فاز عام (1921م) بجائزة نوبل للفيزياء، وذلك للشروحات التي قدمها حول التأثير الكهروضوئي. واعتبر في زمانه كواحد من أكبر المفكرين والمبدعين في التاريخ الإنساني. وفي السنوات الخمس عشرة الأولى من القرن العشرين قدم "إينشتاين" سلسلة من النظريات، التي اقترحت بشكل كامل طرقًا جديدة في التفكير في الفضاء والوقت والجاذبية. حققت نظرياته تقدمًا عميقًا على الفيزياء النيوتونية القديمة، وثورة استعلام علمي وفلسفي، كما اشتهر من خلال تصريحه لمعادلة (الطاقة - والكتلة)، التي تنص على أن المادة يمكن تحويلها إلى كمية هائلة من الطاقة، من خلال برهانه الرائع لخلق القنابل الذرية والهيدروجينية.

 

[7]. ألكسندر فريدمان (Alxander fredman) (1888م - 1925م): قال إنه:

 

  • لا يوجد مركز للكون؛ بل إن أي نقطة فيه تصلح أن تكون مركزًا.

 

  • تتزايد سرعة النقاط المتباعدة عن بعضها بنسبة المسافات بينها (تحقيق قانون هابل نظريًّا).

 

  • عمر الكون 20 - 12 مليار سنة.

 

[8]. إدنجتون، السير آرثر ستانلي (1882م - 1944م): فلكي بريطاني، كان مولعًا منذ وقت مبكر بنظام الكون، وبحركة النجوم وتكوينها الداخلي. وفي عام 1916م انتهى إلى أن الضغط الإشعاعي عامل رئيسي من عوامل الحفاظ على توازن النجم، إلى جانب الجاذبية وضغط الغاز، بعد ذلك وضَّح العلاقة بين الكتلة وضوء النجم، وهذه العلاقة أساسية في البحث الفلكي، خاصة في دراسة حركة النجوم، وقاده هذا وعمله الآخر في طبيعة النجوم إلى البحث عن العلاقة بين كل المرتكزات الأساسية للطبيعة. كتب أدنجتون عدة كتب، وضَّحت طبيعة الكون في مصطلحات مألوفة لدى الجمهور. من كتبه: الحركات الكوكبية، بناء الكون، البناء الداخلي للكواكب، فيزياء العالم الطبيعي.

 

[9]. بوندي، السير هيرمان: عالم رياضيات بريطاني وفلكي وفيزيائي، اشتهر بمساهماته في دراسة الكون وأصله. عمل مع السير فريد هويل وآخرين أواخر الأربعينيّات لصياغة نظرية حالة الاستقرار، وتخلى -مثل بقية زملائه- فيما بعد عن هذه النظرية لصالح نظرية الانفجار العظيم.

 

[10]. جورج لوميتر (1894م - 1966م): عالم الفضاء والفلك البلجيكي الذي صاغ نظرية الانفجار الكبير. كان لوميتر مهندسًا مدنيًّا وخدم كضابط للمدفعية في الجيش البلجيكي في خلال الحرب العالمية الأولى، ثم درس في جامعة كمبردج (1923م - 1924م) في مختبر الفيزياء الشمسية ثم في قسم التكنولوجيا (1925م - 1927م). وفي عام 1927م حين أصبح بروفيسورًا في الفيزياء الفلكية في جامعة لوفاين، افترض نظريته الشهيرة "الانفجار الكبير" التي شرح فيها انحسار المجرات ضمن نطاق نظرية النسبية العامة ل"إينشتاين"، ولم تلبث نظرية لوميتر التي قام بتعديلها وتوضيحها جورج جامو أن أصبحت النظرية السائدة في علم الفلك. كما قام لوميتر بأبحاث حول الإشعاعات الكونية. ومن أعماله: شروحات حول تطور الكون، وفرضيات حول الذرة البدائية.

 

[11]. هو إشعاع راديوي يغمر الكون كله، وله الخواص الفيزيائية نفسها في أي مكان رُصد فيه. وهذا الإشعاع من بقايا الحرارة الهائلة التي كانت سائدة في الكون بعد قليل من الانفجار العظيم.

 

[12]. من آيات الإعجاز العلمي: السماء في القرآن الكريم، د. زغلول النجار، دار المعرفة، بيروت، ط4، 1428هـ/ 2007م، ص97 - 103.

 

[13]. الرتق والفتق نظرة علمية قرآنية، محمد إسماعيل عتوك، بحث منشور بموقع: موسوعة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة www.55a.net.

 

[14]. تأملات في سورة الأنبياء، د. سلامة عبد الهادي، بحث منشور بموقع: موسوعة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة www.55a.net.

 

[15]. بدء الخلق ووهم أزلية المادة، د. محمد دودح، بحث منشور بمجلة الإعجاز العلمي، الهيئة العالمية للإعجاز العلمي في القرآن والسنة، السعودية، العدد (14)، ذو القعدة 1423هـ، ص63.

 

[16]. إسحاق نيوتن ( Isaac Newton) ( 1643م - 1727م ): رياضي وفيزيائي إنجليزي. يُعدُّ أبرز وجوه الثورة العلمية في القرن السابع عشر. وضع النظرية الجُسيميّة في الضوء، وقانون الجاذبية العام، وقوانين الحركة. من أشهر مصنفاته: "علم البصريات" عام 1704م.

 

[17]. الفتق الكوني: حقائق جديدة، عبد الدائم الكحيل، بحث منشور بموقع: المهندس عبد الدائم الكحيل www.kaheel7.com.

 

[18]. من آيات الإعجاز العلمي: السماء في القرآن الكريم، د. زغلول النجار، مرجع سابق، ص107.

 

[19]. القاموس المحيط، مادة: فتق.

 

[20]. جامع البيان عن تأويل آي القرآن، الطبري، تحقيق: أحمد محمد شاكر، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط1، 1420هـ/ 2000م، ج9، ص19.

 

[21]. الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1405هـ/ 1985م، ج11، ص283.

 

[22]. تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، دار المعرفة، بيروت، 1400هـ/ 1980م، ج3، ص176، 177.

 

[23]. الفتق الكوني: حقائق جديدة، عبد الدائم الكحيل، بحث منشور بموقع: المهندس عبد الدائم الكحيل www.kaheel7.com.

 

[24]. الإعجاز القرآني في ضوء الاكتشاف العلمي، مروان وحيد شعبان التفتنازي، دار المعرفة، بيروت، ط1، 1427هـ/ 2006م، ص182.

 

[25]. الفتق الكوني: حقائق جديدة، عبد الدائم الكحيل، بحث منشور بموقع: المهندس عبد الدائم الكحيل www.kaheel7.com.

 

[26]. تأملات في سورة الأنبياء، د. سلامة عبد الهادي، بحث منشور بموقع: موسوعة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة www.55a.net.

 

  • الخميس AM 02:32
    2020-09-03
  • 1906
Powered by: GateGold