المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 412400
يتصفح الموقع حاليا : 381

البحث

البحث

عرض المادة

الصهيونيــة الحلولية العضويـة

الصهيونيــة الحلولية العضويـة
Organic Immanentist Zionism
«الصهيونية الحلولية العضوية» مصطلح قمنا بسكه لوصف أحد اتجاهات الفكر الصهيوني. ورغم أن الديباجات الدينية التي يستخدمها دعاة هذا التيار فاقعة إلا أننا يجب أن نضعها في إطار الحلولية اليهودية حيث تختفي الحدود بين الإله والإنسان والأرض ويحل الإله في الشعب والأرض ويتوحَّد بهما إلى أن يصبح الإله هو الشعب والشعب هو الإله. ويعبر دعاة الديباجات الدينية بطريقة متبلورة عن هذه الحلولية فهم أكثر تمرساً فيها من الصهاينة العلمانيين، ولكن هذا لا يعني أن الاتجاه الصهيوني الحلولي العضوي مقصور عليهم، فهو يضم في صفوفه كثيراً من الصهاينة العلمانيين الملحدين.


يرى دعاة الخطاب الديني أن الصهيونية وصلت إلى ما وصلت إليه من تدنٍّ متمثل في وضع المجتمع الإسرائيلي بسبب خلل أساسي في الصهيونية التقليدية، ويتمثل (حسب رأي هارولد فيش) في محاولتها تبرير المشروع الصهيوني على الطريقة العلمانية الغربية ("دولة بموافقة القانون العام"). وهو يرى أن مثل هذه الديباجة كانت مفيدة في وقتها إذ أنها جعلت الصهيونية مفهومة أو مقبولة للأغيار ولليهود أنفسهم، ولكنها مع هذا تمثل انحرافاً عن جوهر الصهيونية. وكان هذا الجوهر (رغم ذلك) يعبِّر عن نفسه،بطريقة متعثرة، الأمر الذي أدَّى إلى ظهور ازدواجية داخل الصهيونية. ويظهر ذلك في وثيقة إعلان إسرائيل التي صدرت في 5 أيار 5708 (14 مايو 1948)، أي أنها تتبع تقويمين: أحدهما يهودي والآخر غير يهودي. وتتبدَّى نفس الازدواجية في عبارة «تسور يسرائيل» (صخرة إسرائيل) التي وردت في تلك الوثيقة واختيرت عن عمد لإبهامها، فهي قد تعني «الأب» وقد تعني «الملك المقدَّس الذي يتوجه إليه اليهودي المتدين»، كما أنها قد تكون "هوية إسرائيل الجمعية الصخرية (الصلبة)" ويضيف هارولد فيش أنها يمكن أن تكون الإرادة القومية التي تحدَّث عنها روسو (وآحاد هعام من بعده)، والتي توجِّه مصير الأمم، "نوعاً من الجوقة الإغريقية التي تمثل الماضي والحاضر والمستقبل".

وقد قام مفكر ديني إثني آخر، هو جويل فلورشايم، بتحليل ديباجة وثيقة إعلان إسرئيل، فقال إن ما جاء فيها ليس مقصوراً على الشعب اليهودي وإنها ليست إلا تعبيراً عن رغبة الصهاينة في تطبيع اليهود وتاريخهم. ثم يقوم فلورشايم بإظهار زيف مقولات الديباجات العلمانية الواحدة تلو الأخرى. فالشعب اليهودي لم يُولَد في إرتس يسرائيل ـ كما جاء في الديباجة ـ وإنما في مصر وفي الصحراء، وهويته الروحية والدينية والقومية تمت صياغتها في المنفى، خارج أرض إسرائيل. ومثل هذه الديباجات، حسب تصوُّره، إن هي إلا بقايا عصر الانعتاق والاستنارة، ولابد من العودة إلى الجذور، إلى الخطاب الإثني الديني، أي إلى اليهودية، لأن التخلي عن اليهودية (كما يفهمها هارولد فيش) وعن القيم اليهودية والعقائد اليهودية، وإحلال الديباجة العلمانية محلها، هما اللذان أديا إلى فقدان اليهود احترامهم لأنفسهم وإلى فشل الصهيونية في علاج الروح.

ولكن كانت هناك دائماً محاولات داخل الصهيونية تتجاوز هذه الازدواجية الانشطارية (حسب تعبير كوك) وصولاً إلى الواحدية الصهيونية. ويرى هارولد فيش أن ثمة خطاً أساسياً يجمع كتابات هس وجوردون (مُنظِّرا الصهيونية العمالية) وبوبر (مُنظِّر الصهيونية الثقافية) وكوك (مُنظِّر الصهيونية الدينية). هذا الخط هو إيمانهم بأن الصهيونية الحقة لا تُفرِّق بين الدين والتاريخ اللذين يصبحان في كتابات هؤلاء المفكرين شيئاً واحداً، والمنظور وغير المنظور يمتزجان في وحدة مثالية تتجاوز الواقع. وجوهر الصهيونية، حسب تصوُّر فيش، كامن وراء بعث مقولة القداسة في الحياة الخاصة والعامة. فالصهيونية، من هذا المنظور، هي شكل من أشكال الواحدية المقدَّسة.

ويشرح فيش لاهوت/أيديولوجية الصهيونية الجديدة (الصهيونية التي وعت ذاتها الحقة)، فيبين أن هذه الصهيونية ستكتشف أن جذورها ليست في التاريخ الغربي أو تاريخ الشرق الأدنى القديم أو ما يُسمَّى «التاريخ اليهودي» (كما فسره العلمانيون) وإنما في الميثاق الذي عُقد بين الرب والشعب، أي في التاريخ المقدَّس. وليس هذا الميثاق مجرد تفسير ممكن للواقع، وإنما هو الواقع نفسه كما تعرفه إسرئيل، وهو مصدر الحياة الأزلية لهذا الشعب (ولنلاحظ أن الواقع الآن، واقع إسرائيل، مجال له قوانينه المقدَّسة الخاصة، المقصورة على الشعب اليهودي، ولا يستطيع غير اليهود التساؤل عن معناه والاحتجاج عليه حتى إن سقطوا ضحايا له).

ويذكر هارولد فيش أن مبدأ الحوار عند بوبر (الحلولي العلماني) هو أدق فكرة لوصف الصهيونية الجديدة، وأن مشكلة بوبر تكمن في أنه لم يهتم كثيراً بعالم السياسة بسبب تَوجُّهه الوجودي، فقلَّص مبدأه وقصره على العالم الفردي رغم أن نسقه الفكري يتضمن عالم التاريخ والسياسة. وهذا ما يفعله فيش والصهاينة الجدد، فهم يطبقون مبدأ الحوار على كل مجالات الحياة العامة والخاصة. ولعله كان ينبغي، انطلاقاً من هذا، أن نسميها «الصهيونية الحوارية». ولكننا نرى أن تسميتها «الصهيونية الحلولية العضوية» أكثر دقة لأن الصورة المجازية العضوية، بشكلها المادي (كما عند آحاد هعام)، والحلولي (كما عند كوك)، ترد في كتابات كل الصهاينة بشكل جزئي إلى أن تصل إلى تحقُّقها الكامل في هذه الصهيونية الجديدة. كما أن هذه الصورة المجازية محورية في كتابات بوبر، وما الحوار سوى شكل من أشكال الوحدة العضوية وتعبير عن الحلولية. كما أننا حينما نصفها بأنها «صهيونية حلولية عضوية» فإنما نعني أنها صهيونية صفّت كل الازدواجيات والانشطارات، وملأت كل الفراغات، وسدّت كل المسافات، وربطت بين المقدمات والنتائج، وطهَّرت الصيغة الصهيونية تماماً من الشوائب، بحيث أصبح الشكل ملتحماً بالمضمون وأصبحت القومية هي الدين وأصبح الدين هو القومية. وهي، فوق هذا، لا تبحث لنفسها عن تبرير خارج نفسها من خلال أية ديباجات غير يهودية، وإنما تتخذ شكلاً دائرياً ملتفاً حول نفسه مكتفياً بذاته، فالدال هنا هو نفسه المدلول. ويُفسِّر هذا الوجود العضوي سر عزلة هذا الشعب وسر نبذ الشعوب الأخرى له. ولعل العضوية (والحلولية) الكاملة تظهر في شعار الجماعات السياسية التي تحاول ترجمة الفلسفة الصهيونية الجديدة إلى ممارسة: "أرض إسرائيل لشعب إسرائيل تبعاً لتوراة إسرائيل" وهي عبارة كان يرددها موشي ديان العلماني! ولنتأمل العضوية والحلولية، فالأرض والشعب (التربة والدم) مرتبطان بسبب التوراة التي هي مصدر قداسة كل منهما. وأخيراً، فإننا حين نصف هذه الصهيونية بالعضوية نكون قد بيَّنا صلتها بالحركـات السياسـية المماثلة وبالفكر القومي العضوي المتطرف، كالنازية التي تتسـم بهذه العضوية المتطرفة.

وتصل هذه الصهيونية العضوية إلى ذروتها في التفسير الحرفي للعهد القديم. فالتفسير الحرفي يفترض أن الظاهر هو الباطن، وأن القصص الديني هو التاريخ، وأن الوعد الإلهي هو رخصة بالاستيطان (كما عند الصهاينة المسيحيين تماماً). وفي هذا الإطار التوراتي، بإمكان فيش أن يتوجَّه للجماعات المسيحية الأصولية في الولايات المتحدة (المعروفة برجعيتها وحبها العميق وكرهها الأعمق لليهود)، وأن يطلب منها أن تعترف بالمغزى الديني لأحداث التاريخ، وبدلالة الصهيونية والدولة.

وفي داخل هذا الإطار العضوي الحلولي المتسق مع نفسه، المتناسق مع مقدماته، المكتفي بذاته، الذي لا يكلف نفسه الإشارة إلى ما هو خارجه، تكتسب الأطروحات الصهيونية التقليدية بُعداً مدهشاً جديداً. فالتاريخ اليهودي ليس تاريخاً عادياً، وكذلك القومية اليهودية ليسـت قوميـة عادية (كما كان يدَّعي هرتزل وأتباعه)، وإنما هو كيان فريد. والشعب اليهودي ليس شعباً عادياً مثل كل الشعوب وإنما هو شعب إلهي المصدر. ويحلو لأتباع هذا الاتجاه أن يقتبسوا كلمات بلعام العراف الذي دعاه ملك مؤاب ليلعن العبرانيين القدامى عند اقترابهم من مملكته، فقال: "هو ذا شعب يسكن وحده. وبين الشعوب لا يُحسَب" (عدد 23/9). ويمكن ترجمة ذلك إلى: "هو ذا شعب عضوي مقدَّس لا يختلط بالشعوب الأخرى ولا يندمج معها ولا يُحسَب بين الشعوب، فهو منبوذ". فعزلة اليهود هي الشيء الطبيعي، ففي أعماق اليهودي تُوجَد جذور القلق، ولذا فهو يسبب القلق للعالم كله ولا يعطيه أي سلام، وهو (كجسم غريب) يشبه الخميرة التي توضع في المادة فتغيِّرها دون أن تتغيَّر هي. ومن ثم فإن معاداة اليهود والرغبة العارمة في نبذهم ليستا ظاهرتين اجتماعيتين يمكن شفاء الأغيار منهما، وإنما هما تعبير طبيعي عن وجود إسرائيل الغريب الذي يحدده الميثاق. إنهما اعتراف بسر إسرائيل وثناء عليها.

وقد فسَّر الحاخام يهودا عميتال (رئيس إحدى المدارس الدينية) أهداف الصهيونية كما تحددها الفلسفة الجديدة بقوله: "إن الصهيونية لا تبحث عن حل لمشكلة اليهود من خلال تشييد دولة يهودية وإنما من خلال تشييد دولة هي أداة في يد الخالق الذي يعد شعب إسرائيل للخلاص... وليس هدف هذه العملية تطبيع شعب إسرائيل ليصبح أمة مثل كل الأمم، وإنما ليصبح شعباً مقدَّساً، شعب الله الحي".

ووجود هذا الشعب في فلسطين ليس استيطاناً أو استعماراً أو احتلالاً أو اغتصاباً ولا حتى لحماية اليهود أو للحفاظ على أمن الوطن أو لخدمة الاستعمار أو من أجل الديموقراطية أو الاشتراكية أو الحضارة الغربية، أو أي شيء من هذا القبيل، كما يظن كثير من الأغيار، وإنما هو تحقيق للمشيئة الإلهية: واجب مقدَّس، وعبء ديني، يحمله اليهودي ويهدف إلى خلاص الشعب المقدَّس وتحقيق الوعد الإلهي والميثاق بين الإله وإسرائيل، هو جزء من الحوار الأزلي بين الشعب والإله. ومن ثم فهي عملية لا تنتهي ولا "حدود" لها. ورسالة هذا الشعب المقدَّس تفرض عليه أن يفرغ الأرض المقدَّسة من سكانها الأصليين العرضيين.

أما موضوع مركزية إسرائيل في حياة الدياسبورا فيكتسب بعداً دينياً عميقاً إذ أن عبء «المصير اليهودي» انتقل بعد تأسيس الدولة إلى المستوطن. فما يحدد الشعب اليهودي ليس ذكريات الأسلاف المشتركة بين إسرائيل وأعضاء الجماعات اليهودية خارج فلسطين وحسب وإنما يحدده أيضاً المصير الفريد. وقد استقر عبء التفرُّد هذا بكليته على أكتاف الأمة الجديدة التي ظهرت في أرض إسرائيل.

وهذه كلها كلمات كبيرة تحتاج إلى تفسير فهي تنطوي في واقع الأمر على تصور للمسألة الإسرائيلية ولحلها. فحينما يتحدث أحد عن قداسة شعبه الذي يحتل أرض شعب آخر، فلابد أن تكون هناك علاقة ما بين الديباجات والسلوك. ففي فترة ما قبل الدولة، كان الصهاينة يتحدثون عن العمل العبري (لا المقدَّس) لأنهم كانوا يودون أن يحلوا محل العربي. ولذا، فقد كانت الديباجة الاشتراكية ومفهوم اليهودي الخالص شـعارين مناسبين. فلـمَ الديباجـة الحلولية العضوية الآن؟ ولم تصعيد معدلات الحلول؟ يضع جويل فلورشايم يدنا على المفتاح حينما يقول إنه بدون الوعد الإلهي، بدون التسويغ الحلولي، تصبح إعادة الأرض إلى اليهود (أي استيلاء اليهود عليها) فعلاً غير عقلاني يوقع الظلم بسكان فلسطين العرب، ويصبح من العسير شرح المطالبة اليهودية بالأرض المقدَّسة، كما يصعب تبرير أسبقية المطالب اليهودية على الحقوق العربية. وهكذا، فإن الصهيونية الجديدة تسويغ للوضع الجديد.

ويتلخص الوضع الجديد في أن الاستعمار الصهيوني قد ضم رقعة كبيرة من الأرض بدون وجه حق، واحتلها واستعبد أهلها، خارقاً بذلك كل الأعراف الدينية والخلقية والدولية. وليس بإمكان أي منطق إنساني مهما بلغ من الحذق والصقل أن يبرر ذلك، وخصوصاً أن العرب يرفضون قبول الأمر الواقع، كما أنهم لم يختفوا بعد، كما كان من المفروض أن يفعلوا حسب تصوُّر المشروع الصهيوني. وليس عند الصهاينة أية حلول، حتى ولو نظرية، لهذا الوضع. ولذا، فلابد من اللجوء إلى منطق هو في جوهره غير منطقي، منطق الحلولية العضوية التي تخلع على البشر وأفعالهم قداسة ومطلقية بحيث يشير العقل إلى نفسه ويصبح مرجعية ذاته، مكتفياً بذاته، يستمد معياريته من ذاته، ولا يحتاج إلى تبرير خارجي. والواقع أنه حينما يتم ذلك، يفعل الإنسان ما يحلو له فيضم الجولان وغزة والنيل والفرات، ويُفسَّر هذا على أنه جزء من الحوار مع الرب وتعبير عن الميثاق وعبء فريد لا يطيق أحد غير المستوطن الصهيوني (اليهودي المطلق المقدَّس) حمله. وهذا تسويغ فريد لحالة فريدة هي الحالة الانتشارية الصهيونية التي لا حدود لها، فهي هنا تصبح فعلاً مقدَّساً، والأفعال المقدَّسة لا بداية لها ولا نهاية، ولا سبب لها ولا تفسير.

ويمكن تفسير حالة العزلة الدائمة التي يعاني منها المُستوطَن الصهيوني هي الأخرى بالطريقة نفسها. فالشعب اليهودي المقدَّس هو كما تقدَّم شعب يسكن وحده وبين الشعوب لا يحسب، فهو شعب عضوي منبوذ حقاً. ولذا، فبإمكانه أن يستوطن الجليل ونابلس، في جزيرة صغيرة معزولة وسط المحيط العربي، ويرى أن وجود منزله بجوار البركان أمر طبيعي تماماً ومنصوص عليه في التراث الديني. وأما حالة الحرب الدائمة، فهي الأخرى حالة تستند إلى القداسة. وقد قال الحاخام تسفي يهودا كوك (ابن الحاخام كوك) "إن جيش الدفاع الإسرائيلي هو قداسة كاملة فهو يمثل حكم شعب الله فوق أرضه". واليهودي العضوي حقاً لا يبحث قط عن السلام. وكما قال الحاخام يعقوب أرييل، فإن اليهودي المتدين يعترض على السلام. فهو يحتفظ بوعي تاريخي دائم لا يدعه ينسى أحداث الماضي بل يولِّد في وجدانه موقفاً حذراً تجاه العالم الخارجي. وفي نهاية الأمر، فإن من الخير لنا أن ننعزل عن الأمم، كما قال الحاخام أفرايم زيميل.

والصراع العربي الإسـرائيلي داخل إطار القداسـة صراع لا ينتهي ولا حل له، إذ يجب النظر إليه لا في ضوء المصالح المتصارعة وعمليات الاستيلاء على الأرض وإنما في ضوء سرّ حب اليهودي لصهيون وسر الكره العربي لإسرائيل (ويُلاحَظ أن كلمة «سر» هنا مستخدمة بالمعنى الديني الحرفي). والصراع إن هو إلا جزء من "الميراث الشيطاني" إذ يتربص كل نسل عيسو (أي الشعوب المجاورة للعبرانيين، أي العرب) بأبناء إسرائيل ليلحقوا بهم الأذى ويدمروهم أينما سنحت الفرصة (ابتداءً من الهجمات الفدائية وانتهاءً بالأطفال العرب الذين يلقون الحجارة على المستوطنين الأبرياء). فقوى الشيطان لن تصبر على وجود شعب إسرائيل الذي يعيش داخل دائرة الحلول والقداسة. وداخل هذه الدائرة العضوية الحلولية المقدَّسة، يصبح العرب هم العمالقة واليبوسيون وشعوب أرض كنعان الذين ورد ذكرهم في العهد القديم وهم شعوب يجب طردهم أو إبادتهم. ولذا، فقد أصدر الحاخامات أوامرهم الدينية بقتل المدنيين من العرب، فهذا هو أمر الشريعة.

وهكذا تكون الصهيونية العضوية الحلولية قد زودت المستوطن الصهيوني بإطار إدراكي يعقلن عزلته الكاملة، ويبرر بطشه وسطوته وغزوه ووحدته، بحيث يجعل حالته هذه استمراراً لما كان واستعداداً لما سيكون وتحقيقاً للرؤى التوراتية. إن المستوطن الذي بنى بيته بجوار البركان، ويحيا في خطر دائم، يمكنه أن يسوغ موقفه بخلع القداسة على نفسه، بحيث يرى نفسه أداة من أدوات الخلاص وجزءاً من عملية إلهية ضخمة لا يمكنه التحكم فيها، بنفس طريقة الجندي الغربي الذي كان يعقلن وجوده في غابات أفريقيا الحارة السوداء على أساس لون جلده الأبيض والأعباء الأخلاقية الناجمة عن ذلك. وبذا، تكون الصهيونية العضوية قد صفّت أية ثنائية، وأسكتت أية تساؤلات، وجردت المستوطن الصهيوني من أية إنسانية متعينة، وخلعت عليه قداسة تحرمه من وجوده الإنساني الحق، وبذا تكون الصيغة الصهيــونية الأسـاسية الغــربية التـي لـم تر اليهــودي إلا على أنه شـيء أو سلـعة قد تحقــقت تحققاً كاملاً، كما يكون أعضـاء المــادة البشـرية قـد استــبطنوا الرؤية تمام الاستبطان.

ويقول هارولد فيش إن الصهاينة أخيراً قد بدأوا يكتشفون سر القداسـة وحلـم الخلاص والتفرُّد ومغزى الوعد الإلهي والميثاق مع الرب. وهو يرى أن جماعة جوش إيمونيم هي أول تنظيم سياسي يحمل أيديولوجية الصهيونية الجديدة، الصهيونية التي أدركت ذاتها. وقد يكون فيش محقاً في هذا من الناحية الإمبريقية المباشرة، لكن يمكن القول بأن النموذج الكامن وراء الصهيونية الجديدة هو أيضاً النموذج الكامن وراء فكر ما يُسمَّى «اليمين الإسرائيلي» بغض النظر عن الانتماء الديني، فما يهم في الإطار الحلولي هو الشعب والأرض وليس الإله، ولذا يستطيع شارون الملحد، ونتنياهو صاحب الفضائح العامة والخاصة، أن يتحركا في إطار النموذج نفسه، نموذج الحلولية الصلبة، حيث يقف اليهودي المقدَّس في أرضه المقدَّسة ويواجه كل الأغيار.

  • الثلاثاء PM 12:08
    2021-05-18
  • 1308
Powered by: GateGold