المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 409079
يتصفح الموقع حاليا : 374

البحث

البحث

عرض المادة

اللـوبي اليهــودي والصهـيوني: الولايات المتحدة الأمريكيـة

اللـوبي اليهــودي والصهـيوني: الولايات المتحدة الأمريكيـة
Jewish and Zionist Lobby: The United States of America
يمكن القول بأن كل الأمثلة التي وردت في المدخل السابق مستمدة من تاريخ إنجلترا أو فرنسا أو الاتحاد السوفيتي وأن الولايات المتحدة حالة مختلفة تماماً وأن النفوذ الصهيوني مُسيطر عليها بشكل لم يحدث من قبل أو بعد. ولذا فلنحاول اختبار نموذجنا التفسيري الأساسي: إن المصالح الإستراتيجية/الغربية (الأمريكية في هذه الحالة) هي التي تحدد القرار الأمريكي، وأن الضغوط الصهيونية ـ من خلال اللوبي أو الإعلام ـ ذات أهمية ثانوية، فهي قد تُؤخر القرار قليلاً، وقد تُعدل شكله ولكنها لا تُحدِّده أو تُعدِّل اتجاهه الأساسي. ويمكننا أن نذكر الأحداث المهمة التالية للبرهنة على مقولتنا:


1 ـ هناك عدد كبير من رؤساء الجمهورية في الولايات المتحدة ممن دعوا لإنشاء دولة يهودية في فلسطين، حتى قبل أن توجد جماعة يهودية ذات وزن من الناحية العددية والنوعية في أمريكا الشمالية. ويمكن أن نذكر ـ في هذا المضمار ـ الرئيس جاكسون (الذي كان قد لعب دوراً أساسياً في عملية الإجهاز على البقية الباقية من السكان الأصليين في الولايات المتحدة الأمريكية)

2 ـ المؤسِّس الحقيقي للوبي الصهيوني في الولايات المتحدة (بالمعنى العام غير الشائع الذي نطرحه) هو وليام بلاكستون (1841 ـ 1935) الصهيوني غير اليهودي، الذي أرسل عام 1891 التماساً إلى الرئيس الأمريكي هاريسون يحثه فيه على "إعادة" فلسطين لليهود. وقد وقَّع على هذا الالتماس عدد من الشخصيات المسيحية واليهودية. ولكن كان هناك معارضة يهودية قوية لمثل هذه الاتجاهات الصهيونية، إما من منظور ديني أو منظور اندماجي. وقد تصاعدت هذه الاتجاهات بين أعضاء النخبة الحاكمة الأمريكية (البروتستانتية) مع تزايُد اهتمام الولايات المتحدة بالشرق الأوسط. فأيَّدت الولايات المتحدة وعد بلفور، وحنث الرئيس ولسون بوعوده الخاصة بحق تقرير المصير، لا خضوعاً لأي ضغط صهيوني أو يهودي وإنما لأنه رأى أن مصير الشرق الأوسط لا يمكن أن يُصاغ دون أن يكون للولايات المتحدة دخل فيه، ووجد أن تأييده لوعد بلفور هو وسيلته لذلك. (وقد فعل ذلك رغم احتجاج عدد كبير من أعضاء الجماعة اليهودية)

3 ـ كانت الأقلية اليهودية في الولايات المتحدة في منتصف القرن التاسع عشر أقلية تؤمن باليهودية الإصلاحية التي تشجع الاندماج. وهذه الأقلية كانت تشكل نخبة ثرية مندمجة من أصل ألماني ولذا لم تكن متحمسة لهجرة يهود شرق أوربا الأرثوذكس السلاف «المتخلفين» المتحدثين باليديشية. ومع هذا اتُخذ القرار الأمريكي بفتح أبواب الولايات المتحدة لجميع المهاجرين لأن هذا ما كانت تتطلبه المصالح الأمريكية، وبالفعل هاجر الملايين من يهود شرق أوربا حتى أصبحوا يُشكِّلون غالبية يهود أمريكا.

4 ـ في عام 1924 قررت الولايات المتحدة أن تحد من عدد المهاجرين بسبب الأزمة الاقتصادية فأصدرت قانون النصاب عام 1923، ثم قانون جونسون عام 1924، فانخفض عدد المهاجرين اليهود انخفاضاً ملحوظاً (من 119 ألفاً عام 1921، و49 ألفاً عام 1924 إلى 10 آلاف عام 1925، و2.755عام 1932). وبعد أن كانت الولايات المتحدة تستوعب 85% من المهاجرين اليهود أصبحت تستوعب ما يقل عن 25% وأحياناً عن 10%. ويجب أن نُذكِّر أنفسنا بأن القرارات الخاصة بالهجرة في الولايات المتحدة هي قرارات ذات طابع إستراتيجي، فالولايات المتحدة دولة استيطانية، وكانت حينذاك لا تزال في طور التشكيل، وتشكل المادة الاستيطانية الإنتاجية القتالية بالنسبة لها عنصراً إستراتيجياً، وبالتالي فالقرارات كانت تُتخذ في ضوء المصالح الأمريكية وحدها، وسواء سعد اليهود بهذا القرار أم ابتأسوا له فهذه مسألة ثانوية تماماً.

5 ـ أثناء ما يمكن تسميته بالمرحلة النازية (1933 ـ 1948) رفضت الولايات المتحدة ومعظم بلاد أوربا فتح أبوابها للمهاجرين اليهود (رغم كل التباكي في الوقت الحالي على ضحايا الإبادة). ويُفسَّر هذا الوضع على أساس حالة الاقتصاد الأمريكي المتردية والخوف من تَسلُّل الجواسيس الألمان، بل إن القوات الأمريكية بقيادة إيزنهاور رفضت ضرب قضبان السكك الحديدية المؤدية لمعسكرات الإبادة لوقف عملية نقل اليهود إليها. ويُقال في تفسير هذا إن أيزنهاور قائد القوات الأمريكية كان لا يريد تبديد طاقته العسكرية في هذا العمل الجانبي. ومهما كانت التفسيرات التي تُساق فإن القرار كان أمريكياً والمصالح كانت أمريكية.

6 ـ حينما أُعلنت دولة إسرائيل عام 1948 اعترفت الولايات المتحدة بها فوراً، ولم يكن اللوبي الصهيوني قوياً أخطبوطياً بعد، حتى باعتراف أولئك الذين يروجون لأسطورة قوته وأخطبوطيته. كما أن اللوبي اليهودي المعادي للصهيونية كان لا يزال قوياً إذ كان يضم عدداً كبيراً من أثرياء اليهود المندمجين، وهو ما يعني أن مسارعة الولايات المتحدة بالاعتراف لا يمكن تفسيرها إلا على أساس المصالح الأمريكية وليس لها علاقة بالضغوط اليهودية أو الحملات الإعلامية.

7 ـ حينما تحالفت إسرائيل مع إنجلترا وفرنسا عام 1956 وشنت العدوان الثلاثي على مصر، دون موافقة الولايات المتحدة، عوقبت أشد العقاب، إذ أن الإستراتيجية الأمريكية حينذاك كانت أنْ تلعب الإمبريالية الأمريكية دوراً نشيطاً في الشرق الأوسط وتحل محل الاستعمار التقليدي (الإنجليزي والفرنسي) وتملأ هي "الفراغ" الناجم عن انسحابهما منه. والدولة الصهيونية باشتراكها في هذه المغامرة وقفت ضـد المخطـط الأمـريكي ولذا كان من الضروري تأديبهـا، ومن هنا مـوقف أيزنهـاور "النزيه" و"العـادل" و"المحايد".

8 ـ لم تشن إسرائيل حرب عام 1967 إلا بموافقة صريحة من الولايات المتحدة التي وجدت أن من صالحها تصفية حكم عبد الناصر آنذاك، وعلى كلٍّ ليس بإمكان إسرائيل أن تشن أي حرب أو تدخل أية مغامرة عسكرية إلا بموافقة الولايات المتحدة التي تمدها بالسلاح والدعم والمظلة الأمنية.

9 ـ شاهدت الفترة من 1967 ـ 1974 تنامي العلاقة بين إسرائيل والولايات المتحدة وذلك قبل أن يُعاد تنظيم إيباك، وفي فترة حكم نيكسون الذي كان لا يكن حباً خاصاً لليهود.

10 ـ حينما حاولت إسرائيل أن تؤكد استقلالها النسبي في الآونة الأخيرة جاءتها الرسالة واضحة من واشنطن ألا تتجاوز حدودها.

أ ) وأولى المحاولات الإسرائيلية لتأكيد شيء من الاستقلال كان في حادثة جوناثان بولارد وهو موظف أمريكي يهودي تجسَّس على الولايات المتحدة لحساب إسرائيل، وكان رد المؤسسة الأمريكية الحاكمة حاسماً، إذ قُبض على بولارد وأُدخل السجن لمدة عشرين عاماً وأُجري تحقيق في إسرائيل لتحديد المسئولية، كما أن الجماعة اليهودية في الولايات المتحدة ثارت ثائرتها ضد الدولة الصهيونية. وصرح جيكوب نيوزنر، أهم عالم تلمودي في العالم ومن زعماء يهود الولايات المتحدة، أن يهود أمريكا يؤمنون بأرض ميعاد واحدة هي الولايات المتحدة وأن عاصمتهم هي واشنطن وحسب. بل إن موظفاً مدنياً يهودياً يعمل في وزارة الخارجية الأمريكية منذ 25 عاماً سُحب منه تصريحه الأمني (الذي يمكن بمقتضاه أن يطَّلع على وثائق سرية) لأن ثلاثة من أولاده يعيشون في إسرائيل بعد حادثة بولارد وزيادة الاحتياطات الأمنية (جيرو ساليم بوست 11 فبراير 1989)، ولو حدث شيء مماثل في أي بلد آخر لاتُهم هذا البلد على الفور بأنه معاد لليهود. ولكن الإعلام الصهيوني لزم الصـمت لأن الجمـيع يعرف أن هذا هو الخـط الذي لا يسـتطيع أحد عبوره، فهو خط إستراتيجي أحمر راسخ واضح. وقد حاول اللوبي الصهيوني أن يستفيد من قرار بوش بالعفو عن المتهمين في قضية إيران ـ كونترا عند انتهاء مدة رئاسته وحاولوا استصدار عفو عن بولارد ولكن الطلب رُفض. وقد رفض كلينتون أيضاً العفو عن بولارد.

ب) أما الواقعة الثانية فهي إلغاء مشروع طائرة اللافي. فالمؤسسة الحاكمة الصهيونية كانت حريصة كل الحرص على إنتاج هذه الطائرة محلياً في إسرائيل (بعون أمريكي) لأسباب عديدة من بينها تحقيق شيء من الاستقلال الإسرائيلي وتحسين صورة إسرائيل القومية أمام المستوطنين الصهاينة الذين يشعرون باعتماد دولتهم المذل على الولايات المتحدة. كما أن الطائرة لافي كانت تعني أيضاً إنشاء صناعة طائرات محلية تخلق عشرات الوظائف للمهندسين والفنيين الإسرائيليين بأمل أن يحد ذلك بعض الشيء من ظاهرة هجرة العقول من إسرائيل ونزوح عناصر النخبة الفنية منها. ولكن المؤسسة الصناعية العسكرية في الولايات المتحدة وجدت أنه ليس من صالحها السماح لإسرائيل بإنتاج اللافي فأُلغي المشروع رغم المحاولات اليائسة والمريرة لمدة عامين، ولم ينجح اللوبي الصهيوني أو غيره في أن يؤثر على القرار الأمريكي. وقد تزايد عدد النازحين بالفعل عن الدولة الصهيونية، كما أنه قلل مقدرة إسرائيل الاسـتيعابية للمهـاجرين الجدد، وبخاصـة من ذوي المؤهلات العالية، وهو الأمر الذي شـكَّل مشـكلة خطيرة مع هجرة اليهـود السـوفييت.

11 ـ لوحظ أن بعض الإسرائيليين واليهود السوفييت المقيمين في الولايات المتحدة قد أسسوا عصابات تمارس الجريمة المنظمة (المافيا) ولها نشاط في عالم المخدرات والجنس وتزييف النقود. ولم يتردد الكونجرس الأمريكي في إجراء تحقيق في الموضوع ونشر نتائج التحقيق، وهو ما أساء لصورة اليهود الإعلامية (جيروساليم بوست 19 أبريل 1988) ولكنه فعل ذلك دون تردُّد لأن الجريمة تهدد أمن الولايات المتحدة القومي، ولم يخش أحد من سطوة الإعلام الصهيوني.

12 ـ ثم جاءت حرب الخليج فأثبتت بما لا يقبل أي شك أن الدولة الصهيونية تتحرك داخل إطار المصالح الإستراتيجية الغربية وليس داخل إطار المصالح اليهودية أو الصهيونية الوهمية، فالدولة الصهيونية قد أُعدت عبر تاريخها للاضطلاع بدور الأداة العسكرية الكفء، وقد موَّلها الغرب لهذا السبب، وهذا السبب وحده. ولكن تبيَّن للغرب أن اشتراكها في القتال سيُسبِّب خسارة للمصالح الغربية، فاسم إسرائيل لا يزال كريهاً لدى الجماهير العربية التي تدرك بفطرتها السليمة طبيعة هذه الدولة الاستعمارية، ووقوف أي دولة عربية في القتال جنباً إلى جنب مع إسرائيل (حتى ولو كان ضد العراق) كان سيؤدي إلى غضب هذه الجماهير وثورتها، ولذا طلبت الولايات المتحدة من الدولة الصهيونية أن تتنحى عن دورها التقليدي وأن تلزم القوات الإسرائيلية ثكناتها وأن تتلقى الصواريخ العراقية دون أن تحرك ساكناً. وقد امتثلت الدولة الصهيونية لهذه الأوامر، وسُمِّي هذا «ضبط النفس». وسلوك الدولة الصهيونية ـ مرة أخرى ـ يبيِّن مدى ذكاء أهل الحكم فيها ومعرفتهم تماماً بقوانين اللعبة.
ولعل التنازل الوحيد الذي قدمه الأمريكيون للإسرائيليين في هذه الحالة هو اختيار كولونيل يهودي ليترأس طاقم صواريخ باتريوت الذي أُرسل لحماية الدولة الصعهيونية من الصواريخ العراقية، وكان ضمن الطاقم عشرون يهودياً! وهو تنازل له طابع رمزي وحسب ولا يمتد بأية حال للأهداف النهائية.

13 ـ أثناء المعركة الانتخابية الأخيرة للرئاسة الأمريكية ادعى مدير إيباك في مكالمة تليفونية مع أحد المليونيرات اليهود أن كلينتون يقوم باستشارته بشأن المرشحين لمنصب وزير الخارجية (وذلك بهدف تضخيم دور اللوبي). ولكن المليونير كان قد قام بتسجيل المكالمة وسربها للصحف التي قامت بنشرها، ويُعدُّ مثل هذا التصريح خرقاً للعقد الاجتماعي الأمريكي الذي يسمح لأعضاء الأقليات بالتعبير عن هويتهم الإثنية بشرط ألا يتناقض هذا مع الصالح الأمريكي العام وأن يأتي الولاء للولايات المتحدة في المقام الأول. وقد اعتذر مدير إيباك عما بدر منه وأكد أن ما قاله في المكالمة التليفونية بشأن تعيين وزير الخارجية لم يكن إلا من قبيل الدعاية للإيباك لحث المليونير اليهودي على أن يجزل العطاء للإيباك، وقدَّم المدير استقالته بعد ذلك.

إلى جانب هذه الوقائع التاريخية التي تثبت أن المرجعية النهائية هي المصلحة الإستراتيجية الغربية، يمكننا أن نكتشف بعض جوانب آليات الضغط اليهودي الصهيوني لنرى مدى علاقتها بالمصالح اليهودية والصهيونية المستقلة:

1 ـ يمكن أن نطرح سؤلاً بشأن مدى تأثير الصوت اليهودي في سياسـات الولايات المتحـدة وانحـيازها لإسرائيل. وتبعاً للأطروحة الشائعة، لابد أن يزيد الانحياز مع تزايُد قوة هذا الصوت، والعكس صحيح. ولنا أن نلاحظ أن العلاقة بين الدولة الصهيونية والولايات المتحدة أثناء حكم الرؤساء الجمهوريين (نيكسون ـ ريجان ـ بوش) قد توثقت عراها بشكل مذهل، رغم أن ما بين 70 ـ 80 %من مجمل الأصوات اليهودية ذهبت للديموقراطيين. وقد لوحظ في انتخابات الكونجرس لعام 1994 تقلُّص في عدد الممثلين اليهود إذ انخفض عدد الشيوخ من 10 إلى 9 وعدد النواب من 41 إلى 33، وهو ما يعني تراجع المقدرة الصهيونية المزعومة على الضغط. ومع هذا لم يتوقع أحد أن تتغيَّر سياسة الولايات المتحدة تجاه إسرائيل، بل زادت درجة الانحياز كما زاد عدد أعضاء الجماعة اليهودية في مؤسسات صنع القرار. (انظر: «الصوت اليهودي»).

2 ـ ويمكن أن نثير قضية سيطرة رأس المال اليهودي وهيمنته. ولنا أن نشير هنا إلى أن حجم رأس المال الذي يتحكم فيه بعض أعضاء الجماعات اليهودية يشكل نسبة ضئيلة للغاية بالنسبة لرأس المال الكلي للولايات المتحدة. والمنظومة الرأسمالية ـ كما هو معروف ـ منظومة متكاملة متداخلة، لها قوانينها وآلياتها التي تتجاوز إلى حدٍّ كبير إرادة الأفراد وأهواءهم. ويمكن أن نضيف هنا أنه على الرغم من ثراء يهود الولايات المتحدة (يوجد 140 يهودي بين أكثر من 400 شخص يُعَدون الأكثر ثراء) فإنه لا يوجد رأس مال يهودي في الصناعات الأساسية (الحديد ـ الصلب ـ السيارات)، كما أن المصارف الأساسية لا تزال في أيدي الواسب (البروتستانت). وعلى المنادين بأطروحة السيطرة اليهودية أن يبينوا أن ثمة علاقة طردية بين تزايد رأس المـال المتـوافر في أيدي اليهود والانحياز الأمريكي لإسرائيل.

3 ـ وقل الشيء نفسه عن الإعلام وسيطرة اليهود عليه. فثمة وجود يهودي ملحوظ في قطاع الإعلام. ولكن هل تزايد هذا النفوذ أو تراجع في الأعوام العشرين الماضية؟ وهل زادت نسبة ملكية اليهود لوسائل الإعلام أو قلت؟ وهل هناك علاقة واضحة بين تزايد الهيمنة اليهودية على الإعلام ومنحنى الانحياز؟ كل المؤشرات تدل على أن العناصر غير اليهودية التي دخلت مجال الإعلام الأمريكي أعلى بكثير من العناصر اليهودية، ومع هذا لم يتغيَّر منحنى الانحياز المتزايد.

4 ـ ويمكن أن نثير قضية أن أعضاء الجماعة اليهودية يلعبون دوراً متميِّزاً داخل المؤسسات الأمريكية لصنع القرار. وفي تقرير كُتب في السبعينيات، أُشير إلى أن 20.9% من كل أعضاء هيئات التدريس في الجـامعات و25.8% من مجـموع العـاملين في الإعـلام من اليهود، وأن هناك بين 545 شخصية قيادية حوالي 11.4% من اليهود. وقد تزايد عدد اليهود في إدارة كلينتون الأخيرة (1996) وبخاصة في المراكز الحساسة مثل وزير الخارجية ووزير الدفاع وعضوية مجلس الأمن القومي. ويشار إلى كل هذا باعتباره دليلاً على مدى سيطرة اليهود. ولكن عملية صنع القرار في الولايات المتحدة ـ كما أسلفنا ـ عملية مؤسسية في غاية التركيب، ولا تستطيع أية أقلية واحدة التحكم فيها. كما أن اليهود لا يشكلون الأقلية الوحيدة داخل مؤسسات صنع القرار، إذ توجد أقليات وجماعات ضغط أخرى كبيرة ومهمة مثل جماعة الضغط الكاثوليكية.

ويمكن تشبيه اليهودي داخل مؤسسات صنع القرار الأمريكية بالموظف الحركي النشيط في إحدى الشركات الكبرى الأمريكية. فهذا الموظف إن أبدى ذكاءً غير عادي في فهم أهداف المؤسسة التي يعمل فيها وأخذ بزمام المبادرة وتحرك نحو تنفيذها، فلابد أنه سيترقى ويتحرك نحو القمة، ولكن حركته الصاعدة تظل في نهاية الأمر محكومة بالهدف المؤسسي الذي يتم تحديده بشكل مؤسسي، كما أن من الصعب على فرد أو مجموعة أفراد تغييره.

ويمكننا أيضاً أن نستخدم تشبيهاً مستمداً من تجربة أهم الجماعات اليهودية في التاريخ (من منظور تاريخ الصهيونية)، أي يهود الأرندا، وهم كبار المموِّلين من أعضاء الجماعة اليهودية الذين لعبوا دور الوكلاء الماليين (أرنداتور) للنبلاء الإقطاعيين البولنديين (شلاختا) في أوكرانيا، فكانوا أداتهم في استغلال الفلاحين الأوكرانيين. وقد كان للأرندانور سلطة مطلقة داخل المزرعة التي يقوم بإدارتها. وكان النبيل الإقطاعي الغائب في بولندا يستمع لمشورته ويأخذ بنصيحته. ولكن القرار النهائي كان في يد النبيل الإقطاعي، كما أن الأرنداتور كان يستمد قوته وسطوته لا من ذاته وإنما من النبيل الإقطاعي، ولذا رغم هذه القوة والسطوة، كان استمراره، بل وجوده، يستند إلى رضا النبيل الإقطاعي.

5 ـ ونحب أن نثير قضـية مبدئية وهي قضـية مصـطلح «يهـودي» نفسه، ومدى "صهيونية" هؤلاء اليهود؟ وهل يَصدُر يهود الولايات المتحدة عن رؤية يهودية وصهيونية لأنفسهم، أم يَصدُرون عن رؤية أمريكية؟. تدل كل المؤشرات على أن يهود الولايات المتحدة قد اندمجوا إلى حدٍّ كبير في المجتمع الأمريكي (رغم كل الثرثرة عن الشخصية اليهودية والجيتو اليهودي) . وحسب دراسات علم الاجتماع الأمريكي تُعَد الأقلية اليهودية من أكثر الأقليات اندماجاً وقبولاً للعقد الاجتماعي الأمريكي وقيم هذا المجتمع البرجماتية. ومنذ أمد طويل عرَّف أحد الزعماء الصهاينة في الولايات المتحدة البرنامج الصهيوني بأنه تداخل صهيونية اليهودي مع أمريكيته، حتى لا ينفصل الواحد عن الآخر.

ومن المعروف أن عدد اليهود في كليات إدارة الأعمال في الجامعات الأساسية في أمريكا (هارفارد ـ برنستون) حتى منتصف الستينيات كان صغيراً للغاية، إذ أنه لم يكن بإمكان اليهودي أن يصبح مديراً في الشركات الكبرى (التي تحكم أمريكا)، كما أن المناصب الوزارية المهمة التي كانوا يتقلدونها كانت دائماً هامشية. ولكن في عام 1974 حدث تغيُّر جوهري إذ شـهد هـذا العام تعيين كيسـنجر وزيراً للخارجية الأمريكية، وعُيِّن شابيرو مديراً لشركة دي بونت للكيماويات. ويبدو أن النخبة الحاكمة في أمريكا قد وجدت أن يهود أمريكا أصبحوا أمريكيين لهم مصالح أمريكية، أي ليسوا مجرد يهود لهم مصالح يهودية، وأنه تم دمجهم وأمركتهم تماماً، بحيث أصبحوا جزءاً لا يتجزأ من المجتمع الأمريكي خاضعين لحركيات المجتمع الأمريكي (الذي لا يمانع في الحفاظ على بعض معالم الهوية الإثنية، طالما أنها لا تؤثر في ولاء الشخص وفي سلوكه في رقعة الحياة العامة).

وقد أثبت يهود أمريكا صدق حدس النخبة الحاكمة. فرغم الهستريا الواضحة في تأييد الدولة الصهيونية (الذي لا يختلف في واقع الأمر عن تأييد المواطن الأمريكي العادي لها إلا في النبرة) فثمة انصراف واضح عن المنظمة الصهيونية وعن التبرع لها وعن حضور مؤتمراتها وانتخاباتها. وقد ظهر ولاء يهود الولايات المتحدة بشكل واضح لا مراء فيه ـ كما أسلفنا ـ في حادثة جوناثان بولارد (حيث جنَّدت المخابرات الإسرائيلية مواطناً أمريكياً يهودياً للتجسس على الولايات المتحدة) إذ ثارت ثائرة المتحدثين باسم يهود أمريكا ضد إسرائيل لأنها تُعرِّض وضعهم داخل مجتمعهم للخطر.

6 ـ بل يمكن القول بأن هناك عناصر تسبب بعض التوتر بين يهود الولايات المتحدة والدولة الصهيونية، فالصورة الإعلامية للدولة الصهيونية ليست صورة رائعة طيلة الوقت (حرب لبنان ـ الانتفاضة ـ التشدد الصهيوني ـ بناء المستوطنات). وكثيراً ما يجد يهود أمريكا، الذين يعيشون في مجتمع ليبرالي يدَّعي الدفاع عن حقوق الإنسان، أنه ليس من صالحهم أن يُوحَّد فيما بينهم وبين الكيان الصهيوني، ولذا تتخذ قيادات الأمريكيين اليهود أحياناً موقفاً مستقلاًّ عن الدولة الصهيونية وناقداً له. ويُلاحَظ كذلك أن سقوط الإجماع القومي في إسرائيل حول المستوطنات انعكس على الأمريكيين اليهود، إذ أن ذلك أعطاهم حرية حركة لم تكن متاحة لهم من قبل. فنجد أن حركة السلام الآن لها فروع في الولايات المتحدة بل لها صندوق جباية مستقل عن الصندوق القومي اليهودي. كما أن الصراع بين الدينيين الأرثوذكس واللادينيين يجد صداه بين الأمريكيين اليهود ويقلل التفافهم حول الدولة الصهيونية التي تتحكم فيها المؤسسة الأرثوذكسية التي لا تعترف بهم كيهود.

إذن ثمة عناصر، داخل المجتمع الأمريكي، بعضها يزيد من اقتراب الأمريكيين اليهود من الفكرة الصهيونية، والبعض الآخر يبعدهم عنها. ولكن، مهما كانت الصورة مركبة، فإن العنصر الأساسي في تحديد سلوك اليهود السياسي، سلباً أو إيجاباً، اقتراباً أو ابتعاداً من الصهيونية، هو كونهم مواطنين أمريكيين لهم مصالحهم الخاصة والمباشرة التي تفوق ولاءهم العقائدي للصهيونية. بل إن تأييد الأمريكيين اليهود لسياسة بلادهم في الشرق الأوسط لا تختلف كثيراً عن تأييد الأمريكيين البروتستانت لها لا في النسبة ولا في الحدة. ولعل يهودية الأمريكي اليهودي تفسر علو النبرة فقط. ومما يجدر ذكره أن بعض المحللين السياسيين يرون أن التظاهر السياسي لصالح إسرائيل، وارتفاع النبرة، هو شكل من أشكال التملُّص اليهودي من الصهيونية. فالأمريكي اليهودي يدفع الأموال للدولة الصهيونية ويمارس الضغط السياسي من أجلها خوفاً منها وليس حباً فيها (حتى يرضي ضميره) فهو يرفض الهجرة الاستيطانية تماماً.

كما أن هناك من المحللين من يذهب إلى أن نفوذ الجماعة اليهودية في الولايات المتحدة يستند إلى قوة إسرائيل وليس العكس. فاعتماد الولايات المتحدة على إسرائيل في كثير من الأمور الأمنية وحاجتها إليها كقاعدة عسكرية وحاملة طائرات، يجعلها توسِّع رقعة حركة المنظمات الصهيونية حتى تقوم بعملية تعبئة الرأي العام الأمريكي (بما في ذلك الرأي العام الأمريكي اليهودي) ليساند الولايات المتحدة في دعمها الدائم والمستمر للكيان الصهيوني بما يتضمنه ذلك من دعم مالي قد يبدو باهظاً من منظور الإنسان العادي ولكنه استثمار إستراتيجي جيد من منظور المؤسسة الحاكمة، الأمر الذي يتطلب عملية قومية سياسية تقوم بها المنظمـات الصهيونية على أكمل وجه. كما أن المنظمات الصهيونية تسـاهم، عن طريق عمليات جمع التبرعات، في دفع الفاتورة. والنفوذ الصهيوني، من هذا المنظور، ليس سبباً لسياسات الولايات المتحدة وإنما هو نتيجة لهما. ولاستيعاب هذه النقطة، يمكن مقارنة النفوذ الصهيوني ومدى نجاحه بفشل الجماعات الأيرلندية في جمع الدعم والأسلحة لجيش التحرير الأيرلندي رغم قوة الجماعة الأيرلندية، النوعية والعددية، ورغم أن أحد رؤساء الولايات المتحدة (كنيدي) كان من أصل أيرلندي!

  • الاحد PM 11:53
    2021-05-09
  • 1205
Powered by: GateGold