المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 412444
يتصفح الموقع حاليا : 396

البحث

البحث

عرض المادة

فلاديمــير جابوتنسـكي (1880-1940)

فلاديمــير جابوتنسـكي (1880-1940(Vladimir Jabotinsky
مفكر صهيوني وقائد حركة الصهيونيين التصحيحيين. وُلد في أوديسا (روسيا) لعائلة من الطبقة الوسطى حل بها الفقر لموت العائل (الأب). وكان اهتمامه باليهودية ضئيلاً للغاية، إذ كان ينظر إليها من الخارج، ولم تكن له معرفة بالعبرية وقد أتقنها فيما بعد وطالب بأن تُكتَب بحروف لاتينية.


لم يهتم جابوتنسكي كثيراً بحركة أحباء صهيون عندما سمع بها. ومع هذا، يُقال إنه كانت لديه نزعات صهيونية منذ صباه. درس القانون في سويسرا وإيطاليا حيث تعلَّم الإيطالية واستوعب الرؤية المعرفية الإمبريالية تماماً؛ فتبنَّى رؤية توماس هوبز للواقع ورفض كل المُثُل الإنسانية، وأعلن أن العالم إن هو إلا ساحة لصراع الجميع ضد الجميع، كما تأثر بالفكر الدارويني والنيتشوي والفاشي وتأثر على وجه الخصوص بأفكار أنطونيو لابريولا عن الإرادة وعن قدرة الإنسان على صياغة المستقبل بإرادته. وكانت ثمرة هذا كله رؤية جابوتنسكي لما سماه «الأنانية المقدَّسة» (أي أن تصبح الذات مركز الحلول)، فطالب أن يتعلم اليهودي الذبح (ذبح الآخرين) من الأغيار، أي أن جابوتنسكي كان يحاول دمج اليهودي في عالم أوربا الإمبريالي بحيث يكتسب اليهودي أخلاقياته ورؤيته وهويته من هذا العالم. وقد عمل جابوتنسكي أثناء إقامته في روما (1898 ـ 1901) مراسلاً لصحيفة ليبرالية تصدر في أوديسا وكان ينشر مقالاته باسمه المستعار «التالينا».

بدأ جابوتنسكي نشاطه الصهيوني عام 1903 بحضور المؤتمر الصـهيوني السـادس (1903)، فاطَّلع على كتابات الصهاينة الأوائل، مثل بنسكر وهرتزل وليلينبلوم، وتعرَّف إلى أوسيشكين وبياليك، وحاول تنظيم بعض خلايا الدفاع اليهودية في روسيا، كما أيد زيارة هرتزل لفون بليفيه وزير داخلية روسيا الذي يُقال إنه دبر عدة مذابح ضد أعضاء الجماعـة اليهودية. وكان جابوتنـسكي من معارضي مشـروع شرق أفريقيا، ربما لإدراكه القيمة التي سيكتسبها المشروع الصهيوني إن تم تأسيسه في منطقة إستراتيجية مهمة للغرب مثل فلسطين.

انتقل جابوتنسكي إلى إستنبول حيث كان مسئولاً بصورة رسمية عن أجهزة الدعاية الصهيونية وعن الصحف الصهيونية هناك (التي كانت تَصدُر بالعبرية والفرنسـية واللادينـو)، وذلك بعد سـقوط الخلافـة العثمانية. وانتُخب جابوتنسـكي عضواً في اللجنـة الصهـيونية عـام 1921. وأثناء المؤتمر الصهيوني الثاني عشر (1921)، تَوصَّـل بصفته هذه إلى اتفاق مع مندوب حكومة بتليورا الأوكرانية التي قامت بعدة مذابح ضد اليهود. وكان الاتفاق يقضي بأن تلحق قوة يهودية غير محاربة بقوات بتليورا أثناء زحفها ضد الحكومة البلشفية (وقد أثار ذلك احتجاج كثير من أعضاء الجماعات اليهودية). ويرجع إعجاب جابوتنسكي بالقومية الأوكرانية إلى عام 1911 حيث كتب مقالاً ينوه فيه بهذه القومية وحيويتها وتفجُّرها باعتبارها قومية عضوية.

قَبل جابوتنسـكي الورقـة البيضـاء التي طرحها تشرشـل عام 1922، إلا أنه استقال من اللجنة التنفيذية للمنظمة الصهيونية عام 1923 احتجاجاً على قبولها هذه الورقة، وأسس في العام نفسه منظمة بيتار، كما أسَّس عام 1925 الاتحاد العالمي للصهاينة التصحيحيين، وقد جاء الاسم تأكيداً لموقفهم الرامي إلى ضرورة تصحيح السـياسة الصهـيونية وتنقيـحها، أي تصفــيتها من أيـة شوائب، حتى تقترب من الصيغة الهرتزلية الأصلية، وهي الصيغة الصهيونية الأساسية الشاملة قبل تهويدها وقبل إدخال الديباجات عليها. وقد أعلن التصحيحيون في دستورهم أن "هدف الصهيونية هو تحويل أرض إسرائيل، وضمنها شرق الأردن، إلى كومنولث يهودي... [يتمتع بـ] حكم محلي وأكثرية يهودية ثابتة"، على أن يسود الدولة الاقتصاد الحر ويتم تأجيل الصراع الطبقي وقبول التحكيم الإجباري لحسم الخلافات بين العمال والرأسماليين. وبعد أن قامت المنظمة الصهيونية بتوسيع الوكالة اليهودية عام 1929 وضم عناصر يهودية غير صهيونية (وكانت المنظمة قد رفضت لأسباب تكتيكية إعلان أن هدف الصهيونية هو إقامة الدولة اليهودية)، وبعد اغتيال الزعيم الصهيوني العمالي أرلوسوروف ودفاع جابوتنسكي عن المتهمين باعتبارهم أبرياء، توترت العلاقة بين جابوتنسكي من جهة والمنظمة الصهيونية العمالية الواقعة آنذاك تحت هيمنة الصهاينة العماليين من جهة أخرى.

وعلى صعيد الاستيطان، أسس جابوتنسكي في هذه الفترة منظمة عمالية صهيونية تنافس الهستدروت وتُسمَّى «الهستدروت القومي للعمال»، كان مستعداً للتعاون مع مشاريع رؤوس الأموال الخاصة لإقامة مجتمع صهيوني طابعه العام رأسمالي. والواقع أن جابوتنسكي صهيوني دبلوماسي (يهودي غير يهودي)، لا تختلف صهيونيته أبداً عن صهيونية الغرب الاستعماري التي تدور في إطار فكرة الشعب العضوي وتنظر لليهود باعتبارهم شعباً عضوياً منبوذاً. وينطلق جابوتنسكي من الفكر القومي العضوي، فالأمة كيان عضوي مستقل وقيمة مطلقة صافية لا تشوبها أية شوائب ولا تحتاج إلى أية نقط مرجعية خارجها، فهي مطلق مكتف بذاته يجب أن تُستبعَد كل العناصر الأخرى الدخيلة مثل الدين والاشتراكية (شأنها شأن القوميات في العالم الغربي آنذاك التي لا تحتاج إلى أي تبرير أو منطق خارجي، ووجودها العضوي هو المبرر الوحيد). ولهذا، لجأ جابوتنسكي إلى ما سماه «الصهيونية بدون صفات إضافية»، أي القومية اليهودية دون ديباجات أو تبريرات.

ويرفض جابوتنسكي الدين اليهودي تماماً، فهو يدور في إطار الحلولية بدون إله، ولذا فقد صرح بأن الشعب اليهودي هو المعبد الذي يتعبد فيه. وهو على كلٍّ لم يكن يعرف اليهودية بقدر كاف، وكان يرى أن الصهيونية يجب أن تظل بمنأى عن اليهودية وألا تبتلع إلا أصغر جرعة منها. ولكنه، بطبيعة الحال، لم يمانع في مرحلة لاحقة (بعد عام 1932) في توظيف الدين في خدمة الصهيونية. كما رفض جابوتنسكي الموروث الإثني كمصدر للهوية على عكس دعاة الصهيونية الإثنية، ولذا فقد ذهب إلى إمكان الاستغناء عن هذا الموروث تماماً. بل إنه يذهب إلى أن الموروث الحضاري لليهود "هو الحضارة الغربية نفسها"، فاليهود مُستوعَبون تماماً في الحضارة الغربية.

ولكن ما مصدر خصوصية اليهود؟ يرى جابوتنسكي أن ثمة مصدرين أساسيين:

أ) أولهما وضع اليهود الشاذ في المجتمعات الغربية، فهم جسم غريب تلفظه هذه المجتمعات، ومن هنا فإن الشعب اليهودي شعب رديء يكرهه جيرانه (وهم على حق في ذلك). ومعنى هذا أن جابوتنسكي يقبل مقولات معاداة اليهود ويجدها استجابة معقولة للشخصية اليهودية وصفة لصيقة بالحضارة الغربية، كما أنه يرى أن الجانب الإيجابي للعداء لليهودية هو أنها تُولِّد إحساس اليهودي بنفسه.

ب) يرى جابوتنسكي أن العرْق هو المحور الأساسي للمجتمع، بحيث يمكن القول بأن القومية والعرْق كانا بالنسبة إليه شيئاً واحداً. بل يرى أن السمات العرْقية أكثر أهمية من الأرض والدين واللغة والقومية (أي أن المطلق هو العرْق والدم وليس الهوية الإثنية). ولذا، فهو، في حديثه عن الصهيونية، يشير باستخفاف إلى جميع الأحلام الإثنية "مجتمع نموذجي وثقافة عبرية وربما طبعة ثانية من التوارة" مقابل ما يراه الضرورات الواقعية المادية، أي إنقاذ الشعب اليهودي العضوي المنبوذ من الخطر المحدق.

تترجم هذه المنطلقات نفسها إلى حل وإجراءات، والحل هو إخلاء أوربا من اليهود تماماً، وتصفية الجماعات اليهودية في العالم ونَقْل ملايين اليهود إلى فلسطين ليفرضوا أنفسهم بالقوة كأغلبية سكانية داخل دولة يهودية. وكان جابوتنسكي يؤمن إيماناً قاطعاً بأن الجهود الذاتية للصهاينة لا جدوى من ورائها وأنه لا سبيل إلى النجاح دون الدعم الغربي للمشروع الصهيوني. وستقوم الحكومات الغربية، ومنها تلك التي تقوم باضطهاد اليهود، بالمساعدة في هذه الخطة (أشاد جابوتنسكي في شهادته عام 1937 أمام اللجنة الملكية لفلسطين بجهود الحكومة البولندية الرامية إلى لفت نظر عصبة الأمم والبشرية جمعاء إلى واجب البشرية أن تقدم لليهود منطقة يستطيعون أن يبنوا فيها كيانهم الاجتماعي. وهو يشعر أن مثل هذه الاقتراحات قد تثير الشكوك، ولكنه يرجو ألا توضع مثل هذه الاقتراحات موضع الشبهة بل يجب على العكس أن تُشكَر ويُعترَف لها بفضلها).

ولكن التحـالف مع إنجلترا (أكبر قـوة استعمارية) هو الحل الحقيقي، فهـو «تحالف عضوي»، وهـناك تماثل كامل في المصالح. ولذا، ساهم جابوتنسكي عام 1928 في تأسيس جماعة بريطانية تطالب بجعل فلسطين دولة صهيونية وجزءاً من الكومنولث البريطاني وهي جماعة الدومنيون السابع (حُلَّت عام 1929 بناءً على نصيحة رئيسها الكولونيل ودجـود بعد أن أخـذت الحكومة البريطانية موقفاً متشـدِّداً من المستوطنين). بل لقد صرح في إحدى المرات بأن ثمة أساساً إلهياً لتحالف يُعقَد بين بريطانيا وفلسطين اليهودية. ورغم هذا الالتزام المبدئي تجاه بريطانيا، فإن الخطة التاكتيكية عند جابوتنسكي كانت تختلف عن خطة وايزمان الذي راهن على حسن نية بريطانيا فاتخذ سياسة تتسم بالذيلية الكاملة. أما جابوتنسكي، فكان يلجأ إلى ما يسميه الضغوط الدولية، وهذا يُفسِّر بحثه الدائم عن حليف غير بريطانيا، فاتصل بموسوليني الذي عبَّر عن إعجابه "بالفاشي جابوتنسكي"، كما اتصل بمعظم حكومات شرق أوربا، وعارض مشروع تقسيم فلسطين وسياسة بريطانيا فيما يخص مسألة الهجرة، وعمل على تشجيع الهجرة غير الشرعية إلى فلسطين. وكان الهدف من هذه التحالفات والمناورات هو الضغط على بريطانيا وليس استبدالها، وقد فشلت كل مساعيه فلم يحقق شيئاً. ولعل هذا استمرار لأسلوب هرتزل الدبلوماسي، أي البحث عن راع مع توضيح فائدة الدولة اليهودية له إن وُضعت في خدمته.

إن نَقْل اليهود، كأغلبية سكانية، سيُحقِّق عدة أهداف من وجهة نظر جابوتنسكي:

1 ـ تحويل اليهود إلى أمة مثل كل الأمم، أو تطبيع الشخصية اليهودية الهامشية.

2 ـ تقوم هذه الأمة بخدمة المصالح الغربية في المنطقة وتصبح قاعدة لها. وعلى حد قول نوردو أستاذ جابوتنسكي "سنجيء إلى فلسطين لنوسع حدود أوربا ونصل بها إلى الفرات"، أي أن الدولة الصهيونية ستصبح دولة وظيفية.

3 ـ بهذه الطريقة سيصبح الشعب العضوي اليهودي جزءاً من الحضارة الغربية، أي أنه سيحقق من خلال التشكيل الإمبريالي الغربي ما فشل في تحقيقه من خلال التشكيل الحضاري الغربي.

وماذا عن العرب؟ هنا يتضح الجانب الإحلالي من فكرة جابوتنسكي عن الشعب العضوي اليهودي الغربي، فهذا الشعب جزء من عرْق سيِّد، فالتفاوت بين الأجناس الراقية والمتخلفة هو التبرير الأساسي للعملية الاستعمارية. واليهود سيصلون إلى فلسـطين باعتبارهم هذا الجنس المتفوق. ومن ثم، فلا حقوق للعرب، فـهم متخلفون ولن يفهموا طبيعة المسألة اليهودية، ولذا فلا مفر من العنف العسكري لفرض أغلبية يهودية على العرب وإقامة دولة صهيونية على ضفتي نهر الأردن بالقوة. وقد استخدم جابوتنسكي صورة مجازية «الجدار الحديدي» ليصف الطريق الوحيد للاتفاق مع العرب؛ جدار حديدي من الحراب اليهودية.

نادى جابوتنسكي، خلال الحرب العالمية الأولى، بتجنيد فرقة من الكتائب اليهودية العسكرية لكي تحارب على الجبهة الفلسطينية مع القوات الإنجليزية الغازية لفلسطين. ووصل جابوتنسكي إلى الإسكندرية في ديسمبر 1914، وأسَّس في العام التالي، مع جوزيف ترومبلدور، فرقة البغالة الصهيونية. وقد وافقت الحكومة الإنجليزية عام 1917 على إنشاء الفرقة 38 من الكتائب حملة البنادق الملكية وتَطوَّع فيها جابوتنسكي وأصبح قائدها، وكان يظن أن هذه الوحدة العسكرية الصهيونية هي من الدوافع الأساسية وراء صدور وعد بلفور، وهو ما يبيِّن مدى ضيق أفقه وافتقاره إلى معرفة الدوافع المركبة في السياسة، فالمُخطَّط الإمبريالي البريطاني بشأن فلسطين وُضع قبل الحرب، وكان جزءاً لا يتجزأ من السياسة الإمبريالية البريطانية في المنطقة بعد تقسيم الدولة العثمانية. وقد أصبح جابوتنسكي عضواً في البعثة الصهيونية إلى فلسطين كما أصبح رئيس القسم السياسي فيها.
لعب جابوتنسكي دوراً أساسياً في تنظيم كتائب الهاجاناه لقمع المظاهرات العربية في القدس عام 1920، وتبنَّى سياسة «الردع النشيط» ضد العرب لإرغامهم على الاعتراف بالوجود اليهودي. ولذا، فقد قامت منظمة الأرجون، بوحي من أفكاره، بإلقاء القنابل على المدنيين دون تمييز لخلق ما سماه «الوقائع الجديدة» التي جاء ديان فيما بعد ليجعل منها محوراً لسياسة المؤسسة العسكرية الإسرائيلية. والهدف من هذه التنظيمات مزدوج، فهي تهدف إلى الدفاع عن المستوطنين ضد السكان الأصليين، ولكنها على حد قول جابوتنسكي خير دفاع عن المصالح الإمبريالية كما أنها حماية لطرق إمدادات الإمبراطورية لحماية المصالح الغربية ضد القومية العربية.

وأطروحات جابوتنسكي لا تختلف كثيراً عن أطروحات الصهيونية. ومع هذا، كان جابوتنسكي يُعَدُّ متطرفاً بالمقاييس الصهيونية. فما مصدر هذا التطرف؟ يؤمن جابوتنسكي بما كان يسميه «الواحدية» وهي فكرة شمولية تعبر عن نفسها كما يلي:

1 ـ الإيمان بدور العـقـائد الصافية البســيطة الواضـحة في دفع الجماهير. بل إنه كان يرى في خضوع الجماهير للقائد بعداً جمالياً (ففي روايته شمشون يعبِّر البطل عن إعجابه بنظام الفلستيين الوثني وخضوعهم الكامل للكهنة)

2 ـ الإيمان بفكرة اليهودي الخالص الذي لا تشوبه أية شائبة، فاليهود الذين يحاولون الاستيطان في فلسطين ليسوا بورجوازيين أو بروليتاريا وإنما هم مجرد رواد ليس لهم انتماء طبقي.

وهذه الواحدية الصريحة هي ما يُميِّز جابوتنسكي عن كل المفكرين الصهاينة، فهو يرفض الديباجات، كل الديباجات، ليبرالية كانت أم عمالية، علمانية كانت أم دينية. فالصهيونية مكتفية بذاتها، ومن ثم فلا داعي للتاكتيكات والمناورات، ولا مبرر للمراوغة وعدم المجاهرة. وموقف جابوتنسكي هذا ينم عن السذاجة والجهل بطبيعة العمل السياسي، وخصوصاً إذا كـان ثمـة ساحـات كثيـرة (فلسـطين ـ يهـود العالم ـ الدولة الإمبريالية الزراعية)

وكان في وسع الحركة الصهيونية امتصاص التيار التصحيحي وتوظيفه في المجالات التي يريدها وبالطريقة التي تروق لقادته، فالمجال كان دائماً مفتوحاً أمام الجميع. ولكن جابوتنسكي وأعوانه تَحدّوا المؤسسة الصهيونية لا عن طريق طرح فكر يميني متطرف، فالفكر الصهيوني ابتدأ فكراً استعمارياً استيطانياً، وإنما برفض بعض القواعد الخاصة بطريقة تناول الأمور، وهو تحدٍّ يدل في نهاية الأمر على قصر نظر جابوتنسكي وهو ما جعله يبدو متطرفاً من منظور صهيوني.

وأول نقط الاختلاف رفضه الخطاب الصهيوني المراوغ، إذ كان يرفض الشعار الداعي إلى الصمت والعمل والابتعاد عن السياسة والتظاهر "بأننا نذهب إلى فلسطين لمجرد حرث الأرض". فقد كان يؤمن بضرورة الإيضاح والإعلان عن الأهداف دون مواربة، وهي مسألة غير عملية ولا واقعية ولا تعود على الصهاينة بأية فائدة. وحينما اكتفت سلطات الانتداب البريطاني مثلاً بنقش حرفيE.I. (وهما اختصار عبارة «إرتس يسرائيل Eretz Israel») على العملة في فلسطين بدلاً من نقش الكلمتين كاملتين (وهذا حل مراوغ) رفض جابوتنسكي الأمر وطالب بأن يُكتَب الاسم كاملاً أو أن لا يكتب على الإطلاق. كما طالب بأن تُعلن الحركة الصهيونية بكل وضوح أن هدفها هو إنشاء دولة يهودية، وهو هدف كان الجميع متفقين عليه منذ أيام بنسكر، وهم يتحدثون عنه ولكنهم يؤثرون عدم إعلانه، لأن الصياح والإفصاح لا يفيدان في رأيهم. أما العرب، فكان جابوتنسكي يطالب بأن تُوضَّح لهم الأمور (أي أنهم سيتم طردهم)، إذ أن المشروع الصهيوني، سيتم بكل بساطة كما يتم أي مشروع استعماري كبير. وهو أمر كان مُتفَّقاً عليه تماماً، ولا ينصرف الاخـتلاف بين الصــهاينة إلا إلى جدوى الإعلان عن الأهداف النهائية.

وثاني أوجه الاختلاف بين جابوتنسكي والمنظمة هو إصراره على حـل الحـد الأقصى الذي يتســم بالشمول والفورية. ومرة أخرى، لم يكن ثمة اختلاف على الهدف، فالاختلاف كان على طبيعة المرحلة. وعلى سبيل المثال، كان جابوتنسكي يرى أن الدولة المزمع إنشاؤها يجب أن تتم دفعة واحدة عن طريق رفع قيود الهجرة إلى فلسطين ونقل اليهود وطرد العرب، ومن هنا كان لجوؤه إلى عقد اتفاق مع حكومة بولندا في نهاية الثلاثينيات (1938) يقضي بتهـجير ملــيون ونصف مليون يهودي إلى فلسطين خلال عشر سنوات، وذلك بهدف خلق أغلبية يهودية فورية في فلسطين. وكان جابوتنسكي يتصوَّر أن هذا ممكن مع تفاقم ظاهرة العداء لليهود في بولندا التي كانت تضم آنذاك أكبر جماعة يهودية في العالم. والرؤية الطفولية الساذجة نفسها تكمن وراء أوهامه المتعددة في أن يصل الدعم الإمبريالي دفعة واحدة وأن تُقام الدولة على ضفتي نهر الأردن وأن تُصادَر جميع الأراضي العامة المنزرعة في فلسطين وأن تُوضَع تحـت تَصرُّف الحــركة الصهيونية. وكلها أهداف صهيونية كامنة. كما كان جابوتنسكي ينادي بضرورة تصفية الجماعات اليهودية في الخارج وعبرنة التعليم، أي جَعْله تعليماً قومياً عضوياً يعبِّر عن الذات القومية ويؤدي إلى تطبيع اليهود تطبيعاً كاملاً. وهذه موضـوعات قـديمة ومطروحــة في أدبيــات الصهاينة من كل الاتجاهات، ولكن الإصرار عليها في تلك المرحلة كان من الممكن أن يَنتُج عنه صدع في القيادة الصهيونية وانشقاقات في المنظمة. والواقع أن التحالف مع الاستعمار الغربي كان قائماً بالفعل، ولكن هناك صعوبات خاصة بسبب طبيعة المادة البشرية المُستهدَفة وطبيعة ساحة القتال في فلسطين. فالدولة الراعية التي يعتمدون عليها لها مصالح عالمية ليست بالضرورة متفقة تمام الاتفاق مع مصالح المستوطنين، من ذلك رغبة الإمبراطورية في عدم الدخول في صراع مع القومية العربية أثناء الحرب. ولذا، كان ضرورياً أن تُظهر القيادة الصهيونية تَفهُّماً لهـذه الرغبـة وأن تأخـذ الحسـاسيات في الاعتبار، الأمر الذي لم يدركه جابوتنسكي حينذاك ولا أدركه أتباعه (وقد أدركه شتيرن وبيجين بدرجة أقل فيما بعد). أما تصفية الدياسبورا، فهو تَجاهُل لحقيقة وجود صهيونيتين. وقد كان المستوطنون الصهاينة يعتمدون كل الاعتماد على الصهاينة التوطينيين في الخارج، وخصوصاً في مرحلة ما قبل إنشاء الدولة.

أما الوجه الثالث من أوجه الاختلاف، فهو إصراره على الاقتصاد الحر وتقوية البورجوازية اليهودية في فلسطين (ومن هنا صُنِّف فكره خطأً باعتباره فكراً يمينياً). ولم يكن العماليون يمانعون في التعاون معه حين يكون ثمة مجال للتعاون، فقد كانوا في نهاية الأمر يتعاونون مع السلطات الاستعمارية غير الاشتراكية ومع يهود الخارج البورجوازيين. ولكن طبيعة الاستعمار الصهيوني الاستيطانية الإحــلالية هي التي فرضت عليهم أسـلوباً جـماعياً عمالياً، وهو أسلوب لا يرتبط بالضرورة بأي مضمون اشتراكي إنساني حتى لو استُخدمت ديباجة اشتراكية لتسـويغه. فالمستوطنون الأوائل في الولايات المتحدة من طائفة البيوريتان، وفلسفتهم في الحياة فلسفة فردية متطرفة، وكان ماكس فيبر يعتبرها الأساس الفلسفي لعملية التراكم الرأسمالي، ومع هذا تبنوا أشكالاً جماعية في الاقتصاد والحياة كضرورة استيطانية، إذ هل يمكن حرث الأرض وقتل أصحابها الأصليين في إطارالمشروع الحر؟ وهكذا، لم يكن هناك مجال للتعاون بسبب طبيعة الموقف نفسه لا بسبب الاختلافات على التوجُّه السياسي.

ولقد أطلق بن جوريون على جابوتنسكي اسم «تروتسكي الحركة الصهيونية»، وهذا يعني أنه شخص يصر على الحد الأقصى والحلول الشاملة ويجاهر بذلك ولا يدرك طبيعة المرحلة متجاهلاً أن من الممكن تحقيق الشيء نفسه ببطء مع إطلاق شعارات هادئة جميلة عن الأخوة والتضامن. ولعل هذا يفسر نجاح العماليين فيما فشل فيه جابوتنسكي. فتاريخ الاستيطان (بشقيه الزراعي والعسكري) هو تاريخ الصهيونية العمالية.

ولا يعني هذا أن أتباع جابوتنسكي لم يلعبوا دوراً في تأسيس الدولة، فقد استمروا في جهودهم الاستيطانية العسكرية التي كانت تستفيد منها المؤسسة العمالية في نهاية الأمر. ولم يَدُم انشقاقهم طويلاً على كل حال، فقد مات جابوتنسكي عام 1940 وحل محله بيجين في قيادة هذا الاتجاه. وفي منتصف الأربعينيات، بدأ التعاون مرة أخرى مع العماليين، وعادت المنظمة الصهيونية الجديدة إلى صفوف المنظمة الأم عام 1946 بعد أن أصبح موقفهما متفقاً تجاه كل القضايا، واشترك الجميع في المؤتمر الصهيوني الثاني والعشرين (1946). وتُعَدُّ مذبحة دير ياسين، وهي من أكثر العمليات الإرهابية الصهيونية اتقاناً ونجاحاً، ثمرة هذا التعاون، إذ قام بها فريق من جماعة الأرجون ذات التوجه التصحيحي بالتعاون مع الهاجاناه التي يسيطر عليها العماليون. وقد استنكر الصهاينة العماليون هذه العملية الإرهابية، ولكن من الثابت تاريخياً أنه تم التنسيق المسبق بشأنها بين الاتجاهين الصهيونيين الاستيطانيين. وقد صدرت أعمال جابوتنسكي الكاملة بالعبرية في إسرائيل.

  • الاحد PM 03:48
    2021-05-09
  • 1222
Powered by: GateGold