المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 415304
يتصفح الموقع حاليا : 223

البحث

البحث

عرض المادة

كاميـل بيســارو (1830 – 1903)

Camille Pissaro
فنان فرنسي وأحد مؤسسي المدرسة الانطباعية أو التأثيرية، وهو أول فنان حديث عظيم من أصل يهودي. وُلد لأسرة سفاردية (من أصل ماراني) هاجرت من بوردو إلى جزيرة سانت توماس (التي كانت تابعة آنذاك للدنمارك). تلقَّى تعليمه في إحدى الكنائس في الجزيرة. ثم انتقل إلى فرنسا لإكمال تعليمه ثم عاد عام 1847 إلى سانت توماس ليدير أعمال الأسرة التجارية، ولكنه قرَّر العودة إلى باريس عام 1855 ليكرس حياته للفن، وهناك تعرَّف إلى مونيه وسيزان، وقابل بازيل ورينوار وسيسلي. تزوج من جولي فيلاي، وهي فتاة صغيرة كاثوليكية كانت تعمل في المطبخ عند أسرته وظلت زوجته الوفية عبر حياتهما معاً وأنجب منها أطفاله الثمانية. كان بيسارو ملحداً ويؤمن بالفكر الفوضوي، وكان كوزمبولتانياً، يرى أنه مواطن عالمي ليست له أية جذور دينية أو عرْقية أو قومية. وهو لم يَختنْ أطفاله أو يعمِّدهم، ولم يرسم لوحة واحدة ذات مضمون يهودي.


انتقل بيسارو عام 1869 إلى مدينة لوفيسين وكان مونيه ورينوار يعيشان بالقرب منه، وكان جميعهم قد بدأوا تجاربهم في الرسم في الخلاء وبلورة أفكارهم التي أصبحت الأساس النظري للمدرسة الانطباعية. ومع اندلاع الحرب الفرنسية البروسية، اضطر بيسارو إلى أن يرحل هو وأسرته إلى إنجلترا، وعند عودته عام 1871 وجد أن كل أعماله الفنية التي رسمها عبر الخمسة عشر عاماً السابقة دُمِّرت أو سُرقت، ولكن هذا لم يَفُت في عضده.
انتقل عام 1872 إلى بونتواز واستقر هناك حيث رسم كثيراً من لوحاته والتي بلور من خلالها لغته الخاصة والتي تُعبِّر في الوقت نفسه عن الأفكار الأساسية للمدرسة الانطباعية ولغتها الفنية. ويمكن القول بأن الانطباعية هي الحقيقة الأساسية في حياة بيسارو الفنية والشخصية، ولذا يكون التعريف بها هو التعريف بفكره ولغته الفنية. والمدرسة الانطباعية تُعبِّر عن استجابة عدد من الفنانين الفرنسيين للحقائق السياسية والاقتصادية والاتجاهات الفلسفية والعلمية في عصرهم. ثار مؤسسو هذه المدرسة على التقاليد الأكاديمية والاتجاهات الواقعية والرومانسية، وحاولوا أن يُدخلوا على الفن دقة العلوم الطبيعية ومناهجها (تمركز حول الموضوع)، ولكنهم في الوقت نفسه كانوا يؤمنون بأن الواقع متغيِّر وأنه لا يبقى منه إلا ما ينطبع على مخيلة المدرك (تمركز حول الذات). وفنهم هو مزيج من هذين القطبين المتنافرين. حاول أتباع هذه المدرسة أن ينقلوا إلى لوحاتهم الجوانب المتغيِّرة للواقع المرئي بسرعة خاطفة كما تنعكس على وجدان الرسام في لحظة محدَّدة من خلال مواجهة مباشرة مع الطبيعة وتفاعُل إيجابي معها دون أية حواجز أو وسائط. ولذا، هجروا المراسم ليسجلوا انطباعاتهم المرئية المتغيِّرة في الخلاء لإبراز أثر الضوء على الألوان وتسجيله مباشرة وبسرعة حتى لا يتأثر الانطباع المباشر بتحركات الضوء المستمرة. ورسموا لوحاتهم بضربات الريشة اللونية السريعة وقاموا بتجارب مع الظلال الملونة وانعكاسات الضوء. وكان موضوع لوحاتهم هو الطبيعة ومناظر الحياة اليومية التي صوروها بطريقة غير رومانسية وغير عاطفية. ولكن الموضوع الأثير لديهم كان ما يمكن تسميته بالنقطة الحدودية، حيث تلتقي القرية بالمدينة واليابس بالماء والسماء بالأرض، وحيث ينعكس الضوء على الماء وتذوب أعمدة الكنائس في الأشجار والبشر في المناظر الطبيعية المحيطة بهم (ويُقال إن الرسوم اليابانية التي اكتشفها الأوربيون في ذلك الوقت كان لها تأثير عميق فيهم(.

ومن رواد هذه المدرسة مانيه ومونيه وسيزلي، وشارك فيها رينوار وديجا. وكان بيسارو أحد مؤسسيها، وكتب الميثاق القانوني للجماعة، كما كان العضو المؤسس الوحيد الذي قدَّم أعمالاً للمعارض الثمانية التي أقامها الانطباعيون بين 1874 و1886.

وفن بيسارو ينتمي إلى هذا التيار الانطباعي، فكان يستوعب الطبيعة داخله، ثم يعيد إنتاجها حسب إحساسه ومعرفته الخاصة بها وملاحظته « الموضوعية » لها. فكان يحاول أن يرصد تقلبات الجو وتحولات الضوء بكل دقة، فيرسم المنظر الواحد في لحظات مختلفة ومن زوايا رؤية مختلفة. لكل هذا، كان بيسارو يفضل رسم الطرق الملتوية منظورياً، وتلك التي تنحو جانباً، وكانت لوحاته تركِّز على العناصر البنائية والمعمارية للفضاء وتؤلِّف الظلال والأضواء المتعرجة وتجعل العين تُركِّز على وسط المسافة. وقد ركَّز على انسياب الضوء وانكسار أشعته على الماء المترقرق. وتبيِّن لوحاته رغبة حقيقية وعميقة في البحث عن النظام في الكون، وإحساساً أكثر عمقاً بحركيته وتنوع سطحه، ولذا نجده في معظم الأحيان يحاول أن يوجد توازناً بين المعمار والطبيعة، وأحياناً أخرى كان يمزج العناصر الحضرية والصناعية الحديثة بالعناصر الطبيعية، وكثيراً ما تظهر في خلفية المنظر الطبيعي مدينة صناعية. يظهر هذا في أعماله في فترة بونتوييز حيث يُبيِّن مدى تغلغل العنصر الصناعي في العصر الطبيعي، فدخان المصانع المتماوج يمتزج بالسحب، ومداخن المصنع تتوارى مع الأشجار العالية.

في عام 1885، قابل بيسارو بول سينياك الذي قدَّمه إلى جورج سيورا الذي كانت لوحته الشهيرة " عصر يوم الأحد في جزيرة جراند جات "، التي وضح فيها طريقته الجديدة في الرسم من خلال النقط الملونة، تُعَدُّ أساساً لما كان يُعرَف بالمدرسة التنقيطية (وهي أساساً تنويع على المدرسة الانطباعية). والتنقيطية هي أسلوب فني في استخدام نقط لونية صافية نقية بجوار بعضها البعض تكوِّن نسيج الصورة، فيكون ثمة امتزاج وهمي بين الألوان داخل عين الرائي، فكأن اللوحة في ذاتها ليست موجودة في الواقع ولا في عين الرائي وإنما يتم توليدها من خلال علاقة الرائي بالمرئي. والمدرسة التنقيطية هي امتداد للمدرسة الانطباعية، ولكنها أكثر حدةً وتطرُّفاً، ولذا نجد أن أعضاء المدرسة التنقيطية يبتعدون عن التلوين العابر والتكوين الفني الذي يسم المدرسة الانطباعية ويلجأون إلى المكونات الشكلية الصارخة، ولذا تُسمَّى هذه المدرسة أيضاً بالانطباعية الجديدة. وتبنَّى بيسارو هذا المنهج بعض الوقت بحماس بالغ باعتباره أكثر « علمية »، بل توقفت علاقته بعض الوقت مع أصدقائه الانطباعيين بين 1886 و1889 وتعمقت علاقته مع الانطباعيين الجـدد. ولكنه سَئم هـذه الجماعة بعد فترة. ومع مـوت سيورا، انتهت المرحلة التنقيطية وعاد مرة أخرى إلى الرسم في الخلاء. ولكن أسلوبه، مع هذا، تأثَّر بشكل دائم بمنهجهم في الرسم، بما في ذلك استخدام مجموعات من الألوان الصارخة، كما أن إحساسه بأهمية واستقلالية كل نقطة لون كان عالياً.

رسم بيسارو في الثمانينيات لوحات بها أشخاص، ولكنه فعل ذلك بطريقة جديدة. فالفلاحون في هذه اللوحات مُستوعَبون تماماً في أنفسهم ولا يحاولون أن يقصوا قصته. كما رسم بيسارو صوراً شخصية (بورتريهات) لأعضاء أسرته (زوجته وأمه). وفي عام 1894، أُصيب بيسارو بمرض في عينيه منعه من الرسم في الخلاء، ولكنه استفاد من مرضه هذا فكان يجلس في غرفة وينظر من النافذة إلى مناظر المدينة الحية وشوارعها فرسم الميناء والكباري والكاتدرائيات ومعمار المدينة، وكان يرسم المنظر الواحد عدة مرات في أوقات مختلفة (تماماً مثل مونيه في سلسلة لوحات « أكوام القش» التي رسمها في الفترة نفسها). وكان بيسارو يغيِّر محل إقامته حينما يشعر أنه استنفد المنظر الذي أمامه، وفي هذه الفترة (التي امتدت حتى نهاية حياته) رسم ما يزيد على 355 لوحة. ويعتبر بيسارو من مؤسسي فن الليثوجراف.

ويرى بعض النقاد أن أعمال بيسارو تتسم بعدم الاتساق في المستوى، فقد كان مضطراً لإنتاج الكثير من الأعمال حتى ينفق على أسرته الكبيرة المُكوَّنة من ثمانية أشخاص. وقال زولا عن بيسارو: « هذا الفنان يهتم بالحقيقة فقط، وحين يقف في إحدى زوايا الطبيعة، ينقل الآفاق بأوسع ما فيها من جهامة دون محاولة إضفاء أي شيء من تحويراته. لم يكن شاعراً أو فيلسوفاً، بل فناناً طبيعياً وحسب ينقل المشاهد الطبيعية.. تمتَّع أنت بحلمك إن شئت، أما هو فإنه يُريك ما يراه مباشرةً.. هذه الواقعية أرفع شأناً من الحلم ». وعبارة زولا هذه تُبيِّن هذا التأرجح الحاد بين الذات والموضوع الذي يسم الفلسفة الغربية والنظرية الجماليـة الغربيـة في القـرن التاسع عشر.

ومن الواضح أن بيسارو ثمرة خلفيته الفكرية والفنية التي اسـتقى منها أفكاره ولغته الفنية وقد سـاهم في تطوير هـذه الأفكار واللغة، فلم يكن متلقياً، وإنما كان فناناً ومفكراً عميقاً يستقي عظمته وعُمقه من المنظومة الفكرية واللغة الفنية السائدة في عصره. فتأثَّر بالفكر الفوضوي وبالأفكار العلمية عن السببية ونظريات الضوء واختراع الصور الفوتوغرافية، واستوعب الثورة الصناعية وآثارها العميقة في الإنسان والبيئة، وتأثَّر بالرسامين الإنجليز كونستابل وترنر، وبالفرنسيين كورو وكوربيه ومانيه ومونيه وسيرا. وأثَّر بدوره في سيزان (الذي كان يُعتبَر في منزلة أب له) وجوجان وفان جوخ. وهذا يفضي بنا إلى أن نطرح سؤالاً بشأن يهودية بيسارو. فاسمه يظهر في جميع الموسوعات اليهودية باعتباره فناناً يهودياً. وقد أشرنا من قبل إلى إلحاده وعدم تناوله موضوعاً يهودياً واحداً في لوحاته. ورغم كل هذا يبحث دليل بلاكويل للثقافة اليهودية وغيرها من الموسوعات عن عناصر تبرِّر تصنيفه باعتباره يهودياً.

1 ـ فدليل بلاكويل ـ على سبيل المثال ـ يرى أن هناك خصوصية يهودية لبيسارو، ولكنها تظهر « بطريقة أكثر اتساعاً وأقل طائفية ». ثم يستمر الدليل ليشير إلى بعض مظاهر هذه اليهودية المتسعة غير الطائفية، فيرى أن تبنِّي بيسارو المُثُل العليا اليسارية ومواقفه الإنسانية العميقـة والتي تُعبِّر عن نفسـها بشـكل فني في الصور التي رسمها للريف، هي من بين هذه المظاهر.

2 ـ ثم يشير الدليل بعد ذلك إلى ما يسميه « الجدية الأخلاقية التي نظر بها بيسارو للمشروع الانطباعي في محاولته أن يجعل حياة الناس العاديين موضوعاً مناسباً للفن ». ويؤكِّد الدليل أن العنصرين السابقين إن هما إلا تعبير عن يهودية بيسارو. وغني عن القول أن هذا أمر متهافت تماماً، إذ يصعب على المرء أن يرى أي ترادف موضوعي بين «اليهودية» و«الإنسانية العميقة» و«المُثُل العليا اليسارية»، أو بين «اليهودية» وبعض أهداف المدرسة الانطباعية.

3 - ثم يأتي الدليل بعنصر آخر يؤكد يهودية بيسارو. وهذا العنصر أكثر تهافتاً وكوميدية من سابقيه، إذ يشير الدليل إلى أن ملامح بيسارو كانت يهودية، ولذا كان معاصروه يقولون حينما يرونه: «ها هو موسى قد جاء يحمل لوحي الشريعة »، ولا ندري ما هذه الملامح اليهودية؟ وحتى لو كانت مثل هذه الملامح موجودة بالفعل، وحتى لو كان بيسارو ذا ملامح يهودية تجعله شبيهاً بموسى!! فهل هذا يجعل منه فناناً يهودياً؟!

4 ـ أما العنصر الرابع الذي يشير إلى يهودية بيسارو فهو أن الهجوم على أعماله الفنية، لم يكن ينطلق في واقع الأمر من الاعتبارات الفنية وإنما من العداء لليهود. ولم يُبيِّن لنا الدليل كيف أن عداء النقاد التقليديين لأعمال مانيه أو مونيه (التي استُقبلت استقبالاً عاصفاً غير حافل) عداءٌ فنيّ في حين أن عداءهم لأعمال بيسارو عداء عنصري!

5 ـ تذكر إحدى الموسوعات أن بيسارو كان مؤمناً ببراءة دريفوس، وأنه كتب لإميل زولا يؤيده في موقفه. وقد سبَّب هذا جفاءً بينه وبين ديجا ورينوار، فكأن هناك فنانين يهوداً مؤيدين لدريفوس وفنانين أغياراً معادين لليهود. وهذا تقسيم غير حقيقي بالمرة، فزولا لم يكن يهودياً، ولكنه كان مع ذلك أكثر رجالات الفن والأدب تأييداً لدريفوس، وقد كتب مقالاته الشهيرة إني أتهم دفاعاً عنه. كما أن معظم أبطال قصة دريفوس المدافعين عنه كانوا من غير اليهود.

6 ـ ذكرت دراسة صدرت عن المتحف اليهودي في نيويورك أن يهودية بيسارو تتضح في إستراتيجيته في فصل الدين عن الخلفيات الدينية والثقافية، وهي إستراتيجية تبنَّاها كثير من الفنانين اليهود تُعبِّر عن رغبتهم في الوصول إلى الأممية الحقة. ولكن هل هذه النزعة الأممية الكوزموبوليتانية كانت أمراً مقصوراً على اليهود أم أنه كان أمراً كامناً في مفهوم الإنسان الطبيعي وفي فكر حركة الاستنارة على وجه العموم؟ ولعل أعضاء الجماعات اليهودية أكثر تطرفاً في أمميتهم، ولكنهم لا يختلفون في هذا كثيراً عن أعضاء الأقليات الأخرى. ومع ذلك، فإن أممية بيسارو لم تكن متطرفة بأية حال.

7 ـ يمكن الإشارة إلى أن المدرسة الانطباعية، بتركيزها على النقط الحدودية المتوترة، وحيث ينفرج التوتر (التقاء الماء باليابس والسماء بالأرض والمدينة بالريف والمداخن بالأشجار والدخان بالسحاب)، تشبه إلى حدٍّ ما وضع اليهودي في المجتمع الغربي باعتباره عضو الجماعة الوظيفية. ولكن تهميش الإنسان وتوظيفه أصبح سمة أساسية في المجتمع الحديث ولم تعد مقصورة على اليهود (بعد تهويد المجتمع). ومهما يكن الأمر، فإن التركيز على النقط الحدودية جزء من لغة المدرسـة الانطباعية ككل وليـس مقصوراً على بيسـارو اليهودي. ولكل هذا، فإن الحديث عن بيسارو باعتباره فناناً يهودياً ليس ذا قيمة تفسيرية تُذكَر.

  • الاثنين AM 11:23
    2021-04-05
  • 1060
Powered by: GateGold