المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 412545
يتصفح الموقع حاليا : 358

البحث

البحث

عرض المادة

الزعم أنه - صلى الله عليه وسلم - كان مجرد إنسان فاضل ولم يكن نبيا

                         الزعم أنه - صلى الله عليه وسلم - كان مجرد إنسان فاضل ولم يكن نبيا (*)

مضمون الشبهة:

يزعم بعض المتقولين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان مجرد إنسان فاضل، مبرهنين على ذلك بما ادعوه من أن دلائل صدق نبوته التي أوردها العلماء لا تفيد اليقين؛ لأن أكثرها جاء برواية آحاد، ثم إن الصفات التي تذكر محاسن أحواله لا تدل على نبوته صلى الله عليه وسلم؛ إذ إن أفاضل الحكماء في الأخلاق والمحاسن قد يتصفون بهذه الصفات، مما يجعلهم قدوة للناس في الأخلاق والعلم. هادفين من وراء ذلك إلى تجريده - صلى الله عليه وسلم - من خصوصية نبوته وما تقتضيه من خصوصية صفاته؛ وبذلك يتسنى لهم التشكيك في نبوته جملة وتفصيلا.

وجوه إبطال الشبهة:

1)  لقد ورد كثير من الأدلة على صدق نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - في القرآن الكريم، وهو متواتر وقطعي الثبوت، فكيف يقال إنها أخبار آحاد، كما أن القرآن نفسه أكبر دليل على صدق نبوته صلى الله عليه وسلم.

2)  لقد بلغ النبي - صلى الله عليه وسلم - ذروة الفضائل والمحاسن والخصال الحميدة، مما يؤكد أنه لم يكن مجرد إنسان فاضل فحسب، بل كان نبيا مرسلا من عند الله عز وجل.

3)  في الدستور الذي بعث به النبي صلى الله عليه وسلم، وفي السمات التي وسم بها ما يشهد له بالنبوة، وإلا فهل يجد الأدعياء في جعبتهم من المصلحين الفضلاء من له ما للنبي - صلى الله عليه وسلم - من الصفات؟! وإذا كانت الإجابة بالنفي، فهل من المنطق أن نسوي في الحكم بين متفاوتين في المؤهلات والسمات؟!

التفصيل:

أولا. القرآن الكريم أكبر دليل على صدق نبوته صلى الله عليه وسلم:

من استعرض آيات القرآن الكريم يجد التلازم الواضح بين التوجيهات الإلهية، وبين صاحب الرسالة محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، ويجد أيضا التنويه في مناسبات عديدة بهذا النبي وما خصه الله - عز وجل - به من أنواع التكريم الإلهي، وبيان مكانته لديه، ليظل هذا النبي عنوان الرسالة، وشعلة الحق، وقدوة الأمة والبشرية جمعاء.

ونذكر هنا بعضا من دلائل نبوته - صلى الله عليه وسلم - مما ورد في القرآن الكريم:

  • قصة الإسراء والمعراج:

 وردت في مطلع سورة الإسراء وسورة النجم، وقد بينت القصة عظيم منزلة النبي - صلى الله عليه وسلم - وقربه من ربه، ومشاهدته العجائب، قال الله سبحانه وتعالى: )سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير (1)( (الإسراء)، وقال - سبحانه وتعالى - أيضا: )لقد رأى من آيات ربه الكبرى (18)( (النجم).

إن العروج بالرسول - صلى الله عليه وسلم - بجسده وروحه معا في جزء يسير من ليلة واحدة، آية عظيمة دالة على صدق نبوته وتأييد الله له، وهذه معجزة واضحة لهذا النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يتحصل عليها إلا رسول، ولا يتسنى لرجل فاضل مهما بلغت درجته أن يرى ما رآه النبي صلى الله عليه وسلم؛ فقد رأى في الطريق بين مكة والقدس، وفي السماوات العلا أشياء كثيرة، مثل رؤية الأنبياء ومخاطبتهم، وعجائب الملكوت، وغرائب الجبروت، ومشاهدة الملائكة المقربين، وحملة العرش، ورؤية العرش المحيط بالسماوات والأرضين، مع العلم أن ما بين الأرض وسماء الدنيا مسافة خمسمائة عام، وكذا ما بين كل سماء وسماء، وكذا سمك كل سماء، وكون جميع السماوات والأرضين بجنب الكرسي كحلقة في فلاة، وهو بجنب العرش أيضا كحلقة أخرى في فلاة. والله قادر على جميع الممكنات، فلا مجال إذن لإنكار مثل هذه الحركة السريعة للنبي صلى الله عليه وسلم، بل إنها تثبت رسالته ونبوته وعظمته وقدره صلى الله عليه وسلم.

  • عصمة النبي - صلى الله عليه وسلم - من أذى الناس:

نجد ذلك في قوله سبحانه وتعالى: )والله يعصمك من الناس( (المائدة: 67)، أي: يحفظك من تعرض أعدائك لك، ومن أمثلة عصمة الله لنبيه قبل نزول آية العصمة إنجاؤه من أذى كفار قريش في حادث الهجرة، ومكرهم به حين اتفقوا على قتله بضربة واحدة بالسيوف من أشد فتيانهم، ليشكر نعمة ربه بخلاصه من مكرهم به واحتيالهم عليه، فقال الله سبحانه وتعالى: )وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين (30)( (الأنفال). وقد نزلت بعد تآمر المشركين في دار الندوة في مكة على قتل النبي - صلى الله عليه وسلم - بمشاركة القبائل العربية.

لقد نجى الله نبيه من هذه المؤامرة، وقد وصف ذلك في كتابه العزيز: )إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا والله عزيز حكيم (40)( (التوبة).

لقد دفع الله عن رسوله - صلى الله عليه وسلم - أذى قومه القرشيين، بعد اتفاقهم الجماعي على قتله، فأخذ الله أبصارهم وأعماهم، وغفلوا عن البحث عنه في غار بأعلى جبل ثور، يبعد عن يمين مكة مسيرة ساعة.

  • إعطاؤه في الجنة نهر الكوثر:

قال تعالى: )إنا أعطيناك الكوثر (1) فصل لربك وانحر (2) إن شانئك هو الأبتر (3)( (الكوثر) أعلمه الله ببعض ما أعطاه، والكوثر: حوضه، لما رواه أنس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «أتدرون ما الكوثر؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: نهر وعدنيه ربي، عليه خير كثير، هو حوضي ترده[1] أمتي يوم القيامة» [2].

  • تنزيل القرآن والفاتحة:

قال سبحانه وتعالى: )ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم (87)( (الحجر)؛ أي: أعطيناك علم ما اشتمل عليه القرآن من قصص ومواعظ فيها البلاغة والإعجاز، والثناء على الله بما هو أهله وغير ذلك.

إن هذه الميزات لنبينا - صلى الله عليه وسلم - تجعله خاتم الأنبياء وإمام الرسل، وتجعل الشهادة برسالته كالشهادة بوحدانية الله تعالى[3].

هذا وإن القرآن الكريم قد ثبت ثبوتا قطعيا يقينيا، إذ نقل إلينا عن طريق التواتر، ولم يكن من تأليف أحد من الخلق، ولا نظمه، فضلا عن أن يكون من تأليف محمد - صلى الله عليه وسلم - أو من نظمه، وهو الأمي الذي لا يقرأ ولا يكتب، إذ حكم العادة البشرية جار على أن من لم يقرأ ولم يكتب، ولم يجلس بين يدي معلم قط، يستحيل في حقه أن يأتي بمثل القرآن من نفسه، لا سيما وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد قضى أربعين سنة من عمره المبارك لم يتكلم فيها بوحي، ولم ينطق فيها بقرآن قط[4].

وبناء على ما سبق، فإنه لا يجوز لنا ولا لأحد - ألبتة - أن يعتبر القرآن الكريم أخبار آحاد أو ظني الثبوت، وإلا لما صدقت جميع الكتب والصحف المنزلة من عند الله تعالى، يقول المستشرق بودلي: "بين أيدينا كتاب فريد في أصالته وفي سلامته، لم يشك في صحته كما أنزل، وهذا الكتاب هو القرآن" [5].

ثانيا. تكامل أخلاق النبي - صلى الله عليه وسلم - يؤكد نبوته:

إنك قد تجد أناسا يتقدمون الصفوف في بعض المسائل، ولكنك تجدهم في أواخر الصفوف في مسائل ومجالات أخرى.

فمن أعظم دلائل النبوة الأخلاق الحسنة والفضائل العليا، فشتان بين الدعي الكاذب والنبي الصادق، فالدعي الكاذب تفضحه أخلاقه وتكشفه جرائمه، أما النبي الصادق فتلوح عليه علامات الصدق وتزينه الأخلاق الحسنة ويجافيه سيئها - فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان أحسن الناس خلقا، جمع الله له من أوصاف المدح والثناء ما تفرق في غيره، صانه الله - عز وجل - وحفظه من أدنى وصف يعاب به صاحبه، فلم يستطع أعداؤه الذين يتربصون به، ويقفون في طريق دعوته، مؤذين له محذرين منه تحصيل شيء يعيبونه من أخلاقه، وأنى لهم ذلك وقد شهدوا - هم أنفسهم - بصدقه وأمانته، وهما الغاية من الأخلاق[6].

وانطلاقا مما سبق من أن الصدق والأمانة هما الغاية في الأخلاق؛ فإن "من أعظم دلائل نبوة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن أعداءه شهدوا له بالصدق والأمانة، فها هو ذا أبو سفيان، وكان يوم لقائه مع هرقل على الشرك والعداوة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - يشهد أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يكذب قط في حياته، فما كان جواب هرقل على هذه الشهادة إلا أن قال: «ما كان ليترك الكذب على الناس ليكذب على الله»[7].

ولقد كان المشركون يعلمون يقينا صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد عاش بينهم أربعين عاما قبل البعثة، وتعامل معهم، وتعاملوا معه حتى لقبوه بالأمين.

ولا يفوتنا في هذا الشأن قولهم له في أول دعوته لهم حين جمعهم، «فقال: أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلا بالوداي تريد أن تغير عليكم، أكنتم مصدقي؟ قالوا: نعم، ما جربنا عليك إلا صدقا» [8].

ولما قال الأخنس بن شريق لأبي جهل: "يا أبا الحكم أخبرني عن محمد، أصادق هو أم كاذب؟ فقال: "ويحك، والله إن محمدا صادق وما كذب محمد قط" [9].

فهذا أبو جهل أكبر أعداء النبي - صلى الله عليه وسلم - يقر بأخلاقه - صلى الله عليه وسلم - وصدقه، وما حمله على عداوته إلا الحسد والبغي، كما اعترف هو قائلا: «تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف؛ أطعموا فأطعمنا، وحملوا فحملنا وأعطوا فأعطينا، حتى إذا تجاثينا على الركب وكنا كفرسي رهان قالوا: منا نبي يأتيه الوحي من السماء، فمتى ندرك هذه؟ والله، لا نؤمن به أبدا، ولا نصدقه» [10].

ومن عجائب الأخبار أ«ن سعد بن معاذ - رضي الله عنه - أخبر أمية بن خلف أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - زعم أنه قاتله، فقال أمية: إياي، قال: نعم، فقال أمية: والله، ما يكذب محمد إذا حدث، فرجع إلى امرأته، فأخبرها فقالت: والله ما يكذب محمد، فلما كانوا يوم بدر أراد عدم الخروج، فقال له أبو جهل: إنك من أشراف الوادي، فسر يوما أو يومين فسار معهم، فقتله الله»[11].

فهؤلاء أشراف مكة قد حاربوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وطاردوه، ورغم ذلك لم يستطيعوا أن ينكروا أخلاقه وصدقه صلى الله عليه وسلم، ولو كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كاذبا ما وجد أعداؤه مطعنا فيه أفضل من ذلك[12].

ومما سبق يظهر لنا بجلاء أن كثيرا من أهل زمانه - صلى الله عليه وسلم - قد شهدوا بأخلاقه وصدقه، بل قد جاءت هذه الشهادة من أعدائه، بل من أعتى وأعدى أعدائه، والفضل ما شهدت به الأعداء.

ولا شك أنهم عدد كبير وليسوا آحادا، وذلك عندما دعاهم - صلى الله عليه وسلم - أول مرة، وكذلك عندما سألهم هرقل، فقد كانت قافلة تجارية كبيرة من قريش، فأجلسهم هرقل خلف أبي سفيان، فشهد شهادة الحق وهو يومئذ على شركه، ولم يكذبه أحد منهم. فإذا كان أعدى أعداء النبي - صلى الله عليه وسلم - قد اعترف بأخلاقه وصدقه، فما بالك بمن خلفه، ناهيك عن أقوال الصحابة واعترافهم بذلك، ناهيك أيضا عن أقوال كثير من أهل الكتاب، فكيف يقال بعد ذلك إنها أخبار آحاد؟

إنا نرى القائد في ساحات القتال، وفي فنون الحرب مهما بلغ في مهاراته هذه فإنه لا يكاد يبلغ درجة إنسان رحيم في ساحات أخرى، كالشفقة ورقة العاطفة والفهم، بل لكونه معتادا على القتل فلن يكون إنسانا رحيما في معظم الأحوال؛ ذلك لأن عواطفه وأحاسيسه قد فقدت حساسيتها ودقتها من كثرة ما اقترف من أعمال القتل، فلا يشعر بأدنى عاطفة وهو يقوم بقتل إنسان، وقد يكون هناك سياسي ناجح في ميدان السياسة، ولكنك قد تراه مبتعدا عن الصدق بنسبة نجاحه هذا، وقد لا يحترم حقوق الناس، أي أن ابتعاده عن الصدق، وعن المروءة بنسبة نجاحه في ميدان السياسة - يكون أمرا واردا. وهذا يعني أن ارتفاعا في ميدان ما قد يستتبعه هبوط في ميدان آخر.

ولكنه - صلى الله عليه وسلم - كان ذروة الكمال في جميع الميادين، فكيف يكون غيره - صلى الله عليه وسلم - مساويا له؟ كما تستطيع مشاهدة كيف أن الإنسان الذي افتتن بتيار الوضعية، فأصبح يجري وراء إجراء التجارب على كل شيء. وكيف أن الحياة الروحية والقلبية لمثل هذا الرجل لا تتجاوز خط الصفر، بل هناك أشخاص وصلوا بعقولهم إلى قمة إفرست، ولكنهم في حياتهم القلبية والروحية تراهم هابطين إلى مستوى قاع البحر الميت. فكم من شخص انساب عقله إلى عينيه فلا يرى شيئا سوى المادة، يقف ذاهلا أحمق أمام منطق الوحي، قد عميت عيناه عن رؤية الحقيقة.

من هذا الشرح الوجيز، يعرف أن هناك أشخاصا ينجحون في ساحات وميادين معينة، ولكنهم يفشلون في ساحات وميادين أخرى أكثر أهمية، أي أن الصفات المتناقضة الموجودة في الإنسان تعمل إحداها ضد الأخرى، فعندما تتوسع صفة ما وتقوى يكون هذا ضد صفات أخرى، وعندما تنمو إحداها وتقوى، تضمر الأخرى وتضعف.

ولكن هذا الأمر غير وارد بالنسبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فهو إلى جانب كونه محاربا عظيما كان صاحب شفقة عظيمة.. كان سياسيا ولكنه في الوقت نفسه صاحب مروءة كبيرة. وبينما كان يعطي أهمية للأمور الملموسة وللتجارب، فإنه كان ذروة في حياة الروح، وفي حياة القلب، ويمكن العثور على أمثلة كثيرة بهذا الصدد في معركة أحد، ففي تلك المعركة استشهد عمه حمزة - رضي الله عنه - وقد كان يراه شقيق نفسه، لم يستشهد فقط بل مزق جسده تمزيقا، كما مزق جسد ابن عمته عبد الرحمن بن جحش تمزيقا، وشج رأسه المبارك صلى الله عليه وسلم، وكسرت أسنانه، وغطى الدم جسده الشريف.

وبينما يكثف أعداؤه الهجوم عليه جاهدين للوصول إليه لقتله، كان هذا الإنسان العظيم فوق كل عظمة رافعا يديه يبتهل إلى الله تعالى قائلا: «اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون» [13]، فما أعظم وما أروع هذه الشفقة في شخص يحاول أعداؤه قتله فلا يدعو عليهم، بل يبتهل لله تعالى أن يغفر لهم!!

 إنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يرد السيئة بالحسنة، فما أعظمه من رسول دانت له القلوب بالمحبة، وظهرت عظمته، وتجلت رحمته فوق كل البشر، وبطل القول بأن هناك من يدانيه أو حتى يقاربه، لقد حاربه القوم بكل ما أوتوا من قوة، حتى فتح مكة. لم يبق في يد أعدائه أية وسيلة للإيذاء ولم يجربوها معه، ولم يوجهوها نحوه.. تأملوا كيف أنهم أخرجوه هو وأهله وأصحابه من بيوتهم إلى منطقة صحراوية معلنين عليهم المقاطعة، ومعلقين بنود هذه المقاطعة الشريرة على جدار الكعبة، وكانت تقضي بعدم التعامل معهم بيعا وشراء، وعدم التزوج من بناتهم أو تزويج البنات لهم، وقد دامت هذه المقاطعة ثلاث سنوات، حتى اضطروا إلى أكل العشب والجذور وأوراق الأشجار، حتى هلك منهم الأطفال والشيوخ من الجوع، دون أن تهتز منهم شعرة، أو تتحرك عندهم عاطفة رحمة، ولم يكتفوا بهذا بل اضطروهم لترك بيوتهم وأوطانهم والهجرة إلى أماكن أخرى بعيدة، ولم يدعوهم في راحة هناك؛ فبدسائسهم المختلفة سلبوا منهم طعم الراحة والاطمئنان، وفي معارك بدر وأحد والخندق اشتبكوا معهم في معارك ضارية، وحرموهم حتى من أبسط حقوقهم كزيارة الكعبة، وأرجعوهم إلى ديارهم بعد إبرام معاهدة ذات شروط قاسية.

ولكن الله - سبحانه وتعالى - أنعم عليهم ففتحوا مكة، ودخلها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على رأس جيش عظيم[14]. فكيف كانت معاملته لأهل مكة بعد كل هذا التاريخ المملوء عداوة وبغضا؟ لقد كانت كما اعترف مشركو مكة أنفسهم، معاملة أخ كريم وابن أخ كريم.

فهل يمكن بعد كل هذا أن يقال: إن محمدا - صلى الله عليه وسلم - كان إنسانا عاديا غير مؤيد بالوحي؟ بالله عليك من يدانيه في عظمته؟ ومن يكون بجواره في حكمته وأخلاقه؟! ثم أين هذه الأخلاق، وفي قلوب من من البشر؟! لن تجد إلا جوابا واحدا: محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ثالثا. إن الدستور الذي بعث به النبي - صلى الله عليه وسلم - لخير شاهد على نبوته - صلى الله عليه وسلم - في مقابل ما ادعاه بعضهم:

إن شريعة الإسلام المحكمة التي شملت - أقوالا وأفعالا - جوانب الحياة كافة من اجتماع وسياسة واقتصاد وحرب وسلام - لخير شاهد - لمن أراد أن يبصر - على صدق نبوته صلى الله عليه وسلم، فلو كان - صلى الله عليه وسلم - مجرد إنسان فاضل، أو مصلح فحسب - لما تناولت الشريعة التي جاء بها جميع جوانب حياة الإنسان، وترتيبها على هذا النحو المحكم الدقيق، الذي نوه به أعداء الأمة الإسلامية.

إن ما تعارف عليه الناس في شأن المصلحين أو الأخيار من بني الإنسان أمر واضح، وهو لا يتعدى ظهور هذا الإنسان الخير أو المصلح في أزمة معينة أو مشكلة بعينها ليعالجها، ولم يذكر التاريخ أن هناك مصلحا أو إنسانا خيرا قام من تلقاء نفسه بتحمل أعباء تنظيم البشرية كلها كما فعل محمد صلى الله عليه وسلم.

هذا فضلا عن جملة شارات اتسم بها النبي خاصة يعرفه بها الناس فيدركون أنه النبي المرسل، وهذا لا يتأتى لمصلح أو رجل فاضل، فمن من المصلحين والفضلاء وصل إلى ما حققه النبي - صلى الله عليه وسلم - من الإصلاح؟ لم يؤثر أن أحدا من هؤلاء المصلحين - بالغا من الإصلاح ما بلغ ومن الفضل ما بلغ - كان له ما كان للنبي المصطفى صلى الله عليه وسلم.

ونحن نتوجه بالكلام لكل من يطعن في نبوة محمد صلى الله عليه وسلم: إذا كنتم توقنون أن ثمة أناسا اتصفوا بأخلاق حسنة وخصال حميدة، لا تختلف في كثير أو قليل عن صفات النبي صلى الله عليه وسلم؛ لكي تصلوا من ذلك إلى الزعم بأنه - صلى الله عليه وسلم - مجرد إنسان فاضل وليس نبيا مرسلا من قبل الله - عز وجل - فأتوا لنا باسم واحد فحسب من هؤلاء الذين ذكرتموهم، ولم تعينوا لنا أسماءهم. ثم هل أثر عن واحد من هؤلاء الكثيرين المزعومين - أن شهد له أعداؤه قبل أصدقائه وأتباعه بالصدق والأمانة والأخلاق الفاضلة مثلما شهد للنبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك؟! وهل أتى واحد من أولئك المزعومين بمعجزة واحدة من المعجزات التي أجراها الله - عز وجل - على يدي رسولنا صلى الله عليه وسلم؟!

الخلاصة:

  • القرآن الكريم أكبر دليل على صدق نبوته - صلى الله عليه وسلم - وما خصه الله - سبحانه وتعالى - به من أنواع التكريم الإلهي، وبيان مكانته لديه، ليظل هذا النبي عنوان الرسالة، وشعلة الحق وقدوة الأمة والبشرية جمعاء, والقرآن قطعي الثبوت ومتواتر وليس أخبار آحاد.
  • ثم إن الأعداء قد شهدوا بأخلاق النبي صلى الله عليه وسلم، وحديث هرقل مع أبي سفيان شاهد بذلك، وحديث النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى قومه أول مرة وقولهم له: "ما جربنا عليك كذبا قط" شهد بذلك، وكذا أقوال الأتباع، وكثير من أهل الكتاب، فكيف يقال إن كل هذا أخبار آحاد؟!
  • ثم إن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان ذروة في جميع الأخلاق، ولم يكن يدانيه أحد، أو حتى يقترب منه في عظمته ونجاحه في جميع الميادين، على خلاف أي إنسان آخر قد يكون ناجحا في جانب على حساب الهبوط في جانب آخر، أما محمد صلى الله عليه وسلم، فكان غاية في العظمة وفي الأخلاق وفي كل ميادين الحياة، فمن يدانيه صلى الله عليه وسلم؟!
  • إن النور الذي جاء به صلى الله عليه وسلم، والهدي الرباني الشامل لجميع أمور الدين والدنيا ليقطع بكونه - صلى الله عليه وسلم - نبيا رسولا ولم يكن مجرد إنسان فاضل. أما الأخيار من بني الإنسان فأدوارهم معلومة محددة، وهم يهبون لإصلاح خلل ما أو فساد من نوع معين تفشى في وقت معين، ولم يسطر التاريخ أن خيرا أو مصلحا، جاء لإصلاح شئون العالمين جميعا.

 

 

(*) التبشير العالمي ضد الإسلام، د. عبد العظيم المطعني، مكتبة النور، القاهرة، 1413هـ/ 1992م.

[1]. ترده: تشرب منه.

[2]. أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الصلاة، باب حجة من قال: البسملة آية من أول كل سورة سوى براءة (921).

[3]. شمائل المصطفى صلى الله عليه وسلم، د. وهبة الزحيلي، دار الفكر، دمشق، ط1، 1427هـ/ 2006م، ص57: 63 بتصرف.

[4]. عقيدة المؤمن، أبو بكر جابر الجزائري، دار الكتب السلفية، القاهرة، 1405هـ/ 1985م، ص186.

[5]. المختصر القويم من أدلة نبوة الرسول الكريم، د. وليد نور، مكتبة الصفا والمروة، الإسكندرية، ط1، 1427هـ/ 2006م، ص126.

[6]. المختصر القويم من أدلة نبوة الرسول الكريم، د. وليد نور، مكتبة الصفا والمروة، الإسكندرية، ط1، 1427هـ/ 2006م، ص189 بتصرف.

[7]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب التفسير، باب سورة آل عمران (4278)، وفي مواضع أخرى، ومسلم في صحيحه، كتاب الجهاد والسير، باب كتاب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى هرقل يدعوه إلى الإسلام (4707).

[8]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب التفسير، باب سورة الشعراء (4492)، وفي مواضع أخرى، ومسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب في قوله تعالى: ) وأنذر عشيرتك الأقربين (214) ( (الشعراء) (529).

[9]. أخرجه ابن جرير في تفسيره (11/ 333)، تفسير سورة الأنعام، الآية (33).

[10]. أخرجه محمد بن إسحاق في السيرة، الجزء الرابع من عذب في الله بمكة من المؤمنين، ومن طريقه البيهقي في دلائل النبوة، جماع أبواب المبعث، باب اعتراف مشركي قريش بما في كتاب الله تعالى من الإعجاز.

[11]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب المناقب، باب علامات النبوة في الإسلام (3433)، وفي موضع آخر.

[12]. المختصر القويم من أدلة نبوة الرسول الكريم، د. وليد نور، مكتبة الصفا والمروة، الإسكندرية، ط1، 1427هـ/ 2006م، ص195: 198 بتصرف.

[13]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الأنبياء، باب: ) أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم ( (الكهف: 9) (3290)، وفي موضع آخر، ومسلم في صحيحه، كتاب الجهاد والسير، باب غزوة أحد (4747).

[14]. عظمة الفطنة في نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، محمد فتح الله كولن، ترجمة: أورخان محمد علي، دار النيل، القاهرة، ط3، 1425هـ/ 2005م، ص127: 129.

 

  • الجمعة AM 12:23
    2020-09-18
  • 1590
Powered by: GateGold