المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 412308
يتصفح الموقع حاليا : 255

البحث

البحث

عرض المادة

توهم أن القرآن الكريم اضطرب فنصب المعطوف على المرفوع

              توهم أن القرآن الكريم اضطرب فنصب المعطوف على المرفوع(*)

مضمون الشبهة:

يدعي بعض المشككين أن القرآن الكريم لم يوافق اللغة العربية؛ حيث نصب ما حقه الرفع في قوله عز وجل: )لكن الراسخون في العلم منهم والمؤمنون يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك والمقيمين الصلاة والمؤتون الزكاة والمؤمنون بالله واليوم الآخر( (النساء: ١٦٢)؛ حيث يرون أنه يجب رفع "المقيمين"؛ لأنها معطوفة على الأسماء المرفوعة قبلها "الراسخون"، "المؤتون"، "المؤمنون"، ويؤيدون دعواهم هذه بما روي عن عائشة، وأبان بن عثمان رضي الله عنهم أجمعين من أن نصب (المقيمين) كان خطأ من الكتاب، وكذلك ما روي عن عثمان بن عفان - رضي الله عنه - من أنه قال: "إن في القرآن لحنا ستقيمه العرب بألسنتها"**.

وجوه إبطال الشبهة:

الأصل أن يتبع المعطوف المعطوف عليه في إعرابه رفعا ونصبا وجرا، ويزعم بعض أصحاب الشبهات حول القرآن الكريم أن هناك مخالفة لقواعد النحو في قوله تعالى: )لكن الراسخون في العلم منهم والمؤمنون يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك والمقيمين الصلاة والمؤتون الزكاة والمؤمنون بالله واليوم الآخر (162)( (النساء: ١٦٢)؛ حيث كان المعطوف منصوبا، في حين جاء المعطوف عليه مرفوعا، والصواب في زعمهم أن يقال: "والمقيمون الصلاة" حتى يستقيم الأمر، ويتبع المعطوف المعطوف عليه في إعرابه.

وقد رد العلماء على ذلك بما يلي:

1)  قال سيبويه وجمهور المفسرين: إن "المقيمين" منصوبة على القطع، والتقدير: "أعني المقيمين"، وقد تبعه الزمخشري[1]، فقال: إنها منصوبة على الاختصاص، المراد منه المدح، وهذا الرأي هو المشهور عند النحاة والمفسرين والقراء.

2)  وقيل: إنها وقعت مجرورة لا منصوبة، إما لأنها معطوفة على الضمير المجرور محلا في "منهم" أو على "ما" في قوله: )بما أنزل إليك(.

3)  إن الرواية الواردة عن عائشة - رضي الله عنها - أنها قالت في هذه الآية: "يا بن أخي، الكتاب أخطئوا" رواية باطلة، وكذلك ما روي عن أبان بن عثمان - رضي الله عنهما - وأما الرواية الواردة عن عثمان - رضي الله عنه - من أنه قال: "إن في القرآن لحنا ستقيمه العرب بألسنتها" فهي رواية واهية السند، وعليه فليس في الآية خطأ ولا لحن كما زعموا.

التفصيل:

أولا. إن أشهر الآراء في مجيء "المقيمين" بالياء خلافا لنسق ما قبلها وما بعدها، أنها جاءت منصوبة على الاختصاص المراد منه المدح بدلالة المقام؛ لأن المؤدين للصلاة بكامل ما يجب لها من طهارة ومبادرة وخشوع، جديرون بأن يمدحوا من الله عز وجل، ومن الناس.

يقول الإمام الزمخشري: "و "المقيمين" نصب على المدح؛ لبيان فضل الصلاة، وهو باب واسع، ولا يلتفت إلى ما زعموا من وقوعه لحنا في خط المصحف، وربما التفت إليه من لم ينظر في الكتاب، ولم يعرف مذاهب العرب وما لهم في النصب على الاختصاص من الافتنان"[2]، وقد أوردوا عليه شواهد عدة من الشعر العربي المحتج به لغويا ونحويا؛ ومن ذلك ما أورده سيبويه:

ويأوي إلى نسوة عطل

وشعثا مراضيع مثل السعالي[3]

ومنها قول الخرنق بنت هفان:

لا يبعدن قومي الذين هم

سم العداة وآفة الجزر

النازلين بكل معترك

والطيبون معاقد الأزر

والشاهد في بيت سيبويه: نصب "شعثا" في البيت الأول وهو معطوف على مجرور "عطل"، والشاهد في البيتين: نصب "النازلين"، وهو معطوف على مرفوع، وهو "سم ".

هذا، وقد قلنا من قبل: إن القرآن غير مفتقر إلى شواهد من خارجه على صحة أساليبه؛ إذ من المقرر أنه يستدل بالقرآن على صحة القاعدة، ولا يستدل بالقاعدة على صحة ما جاء في القرآن؛ فالقرآن يحتج به ولا يحتج عليه. ومع هذا فإن ورود هذه الشواهد يعتبر حجة على من لا يؤمن بالقرآن.

ثانيا. جر بعض العلماء "المقيمين" على سبيل العطف على الضمير المجرور محلا في "منهم"، والمعنى على هذا: لكن الراسخون منهم والمقيمين الصلاة. ومنهم من جرها بالعطف على الكاف في "أنزل إليك"، ومنهم من عطف على "ما " في قوله: "بما أنزل إليك"، وقال بعضهم أو هي مجرورة بالعطف على "الكاف" في قبلك.

والراجح: إن الذي ينبغي الركون إليه - لقوته - هو الرأي الأول، المنسوب إلى سيبويه، والزمخشري، وابن عطية، وأبي البقاء العكبري، أما ما عداه من آراء فلا تخلو من التكلف أو الضعف.

فالنصب على الاختصاص لا مناص من قبوله؛ لأنه أسلوب شائع في الاستعمال اللغوي العربي، وفيه من البلاغة أمر زائد على مجرد التوجيه النحوي، الذي لا يتجاوز بيان عامل النصب أو الجر[4].

وأيا ما كان الأمر، فليس لمثيري هذه الشبهات أية حجة يستندون إليها في مزاعمهم هذه، فهم حاطبو ليل، لا يميزون بين حقائق الأشياء ولا ذواتها؛ لإحاطة الظلام بهم من كل جهة، وهم في طغيانهم وجهلهم يعمهون.

ثالثا. الاستدلال بما روي عن عائشة - رضي الله عنها - أنها سئلت عن هذه الآية، وعن قوله تعالى: )إن هذان لساحران( (طه: ٦٣)، وكذلك قوله تعالى: )والصابئون( (المائدة: ٦٩)، فقالت للسائل: يا بن أخي، الكتاب أخطئوا - استدلال باطل، وكذلك استدلالهم بقول أبان بن عثمان: كان الكاتب يملى عليه فيكتب، فكتب )لكن الراسخون في العلم منهم والمؤمنون يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك( ثم قال: ما أكتب؟ فقيل له: اكتب "والمقيمين الصلاة"، فمن ثم وقع هذا.

ومثله في بطلانه ما استدلوا به مما روي عن عثمان بن عفان - رضي الله عنه - أنه قال: إن في القرآن لحنا ستقيمه العرب بألسنتها.

وبيان بطلان هذه الروايات ما يلي:

قال القشيري: وهذا مسلك باطل؛ لأن الذين جمعوا الكتاب كانوا قدوة في اللغة، فلا يظن بهم أنهم يدرجون في القرآن ما لم ينزل[5].

وقال الزمخشري: "والمقيمين" نصب على المدح لبيان فضل الصلاة، وهو باب واسع قد قصره سيبويه على أمثلة وشواهد، ولا يلتفت إلى ما زعموا أن وقوعه لحن في خط المصحف، وربما التفت إليه من لم ينظر في الكتاب، ولم يعرف مذاهب العرب، وما لهم في النصب على الاختصاص من الافتنان، وغاب عنه أن السابقين الأولين الذين مثلهم في التوراة والإنجيل كانوا أبعد همة في الغيرة على الإسلام، وذب المطاعن عنه من أن يتركوا في كتاب الله ثلمة ليسدها من بعدهم، وخرقا يرفوه من يلحق بهم[6].

كما أن الرواية الواردة عن عائشة - رضي الله عنها - في ذلك ضعيفة لا تثبت، ففي سندها أبو معاوية محمد بن خازم الضرير، عن هشام بن عروة، وقد قال أبو داود: "قلت لأحمد: كيف حديث أبي معاوية عن هشام بن عروة؟ قال: فيها أحاديث مضطربة، يرفع منها أحاديث إلى النبي صلى الله عليه وسلم".

وقال الإمام أحمد: "أبو معاوية الضرير في غير حديث الأعمش مضطرب، لا يحفظها حفظا جيدا"، وقال ابن خراش: "صدوق فيه إرجاء، وهو في الأعمش ثقة، وفي غيره فيه اضطراب".

هناك علة أخرى وهي أن أبا معاوية الضرير مدلس، وقد وصفه بالتدليس ابن حجر، والمقدسي، والحلبي.

أما عن قول عثمان - رضي الله عنه ـ"إن في القرآن لحنا ستقيمه العرب بألسنتها"، فكلها آثار لا تقوم بها حجة؛ لأنها منقطعة غير متصلة، قاله السيوطي، ثم زاد: "وما يشهد عقل بأن عثمان إمام الأمة الذي هو إمام الناس في زمنه وقدوتهم، يجمعهم على المصحف الذي هو الإمام، فيتبين فيه خللا، ويشاهد في خطه زللا فلا يصلحه.. ولم يكن عثمان ليؤخر فسادا في هجاء ألفاظ القرآن من جهة كتب ولا نطق، ومعلوم أنه كان مواصلا لدرس القرآن متقنا ألفاظه، موافقا على ما رسم في المصاحف المنفذة إلى الأمصار والنواحي"[7].

قال الألوسي: "وأما ما روي أنه لـما فرغ من المصحف أتي به إلى عثمان - رضي الله عنه - فقال: "قد أحسنتم وأجملتم، وأرى لحنا قليلا ستقيمه العرب بألسنتها، ولو كان المملي من هذيل، والكاتب من قريش لم يوجد فيه هذا"، فقد قال السخاوي: إنه ضعيف، والإسناد فيه اضطراب وانقطاع؛ فإن عثمان رضي الله عنه جعل للناس إماما يقتدون به، فكيف يرى في القرآن لحنا، ويتركه لتقيمه العرب بألسنتها، وقد كتب عدة مصاحف وليس فيها اختلاف أصلا، إلا فيما هو من وجوه القراءات، وإذا لم يقمه هو ومن باشر الجمع - وهم من هم - فكيف يقيمه غيرهم؟

وتأول قوم اللحن في كلامه - على تقدير صحته عنه - بأن المراد: الرمز والإيماء، كما في قول الشاعر:

منطق رائع وتلحن أحيا

نا وخير الكلام ما كان لحنا

أي: المراد به الرمز بحذف بعض الحروف خطا، مما يعرفه بعض القراء إذا رأوه، وكذا زيادة بعض الحروف[8].

الأسرار البلاغية في الآية الكريمة:

  • في قوله تعالى: )لكن الراسخون في العلم( استدراك من قوله: )وأعتدنا( (النساء: ١٦١)، وبيان لكون بعضهم على خلاف حالهم عاجلا وآجلا، وقوله تعالى: )سنؤتيهم أجرا عظيما (162)(: السين لتوكيد الوعد، ونكر الأجر للتفخيم، كما مر غير مرة، ولا يخفى ما في هذا من المناسبة التامة بين طرفي الاستدراك؛ حيث أوعد الأولين بالعذاب الأليم، ووعد الآخرين بالأجر العظيم[9].
  • السر البياني في قطع و "المقيمين الصلاة" عما قبلها وما بعدها؛ أنها نصبت على المدح بإضمار فعل لبيان فضل الصلاة، على ما قاله سيبويه، والتقدير: أعني أو أخص المقيمين الصلاة، الذين يؤدونها على وجه الكمال، فإنهم أجدر المؤمنين بالرسوخ في الإيمان. والنصب على المدح هنا لا يأتي في الكلام البليغ إلا لنكتة، والنكتة هنا هي ما ذكرنا آنفا من مزية الصلاة؛ حيث إن تغيير الإعراب في كلمة بين أمثالها ينبه الذهن إلى وجوب التأمل فيها، ويهدي التفكير لاستخراج مزيتها، وهو من أركان البلاغة[10].

  

 

(*)عصمة القرآن وجهالات المبشرين، إبراهيم عوض، مكتبة زهراء الشرق، مصر، 2004م. الأخطاء اللغوية في القرآن، إبراهيم عوض، مكتبة زهراء الشرق، مصر، د. ت.

[1]. الكشاف، الزمخشري، الدار العالمية للطباعة والنشر والتوزيع، القاهرة، د. ت، ج1، ص582.

[2]. انظر: حقائق الإسلام في مواجهة شبهات المشككين، د. محمود حمدي زقزوق، المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، القاهرة، ط2، 1425هـ/ 2004م، ص174: 177.

[3]. انظر: الكتاب، سيبويه، تحقيق: عبد السلام محمد هارون، دار الجيل، بيروت، ط1، د. ت، ج1، ص399.

[4]. الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1405هـ/ 1985م، ج6، ص14.

[5]. الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1405هـ/ 1985م،ج6، ص15.

[6]. الكشاف، الزمخشري، الدار العالمية للطباعة والنشر والتوزيع، القاهرة، د. ت، ج1، ص582.

[7]. الإتقان في علوم القرآن، السيوطي، مكتبة نزار مصطفى الباز، الرياض، ط1، 1417هـ/ 1996م، ج1، ص182، 183.

[8]. روح المعاني، الألوسي، دار الفكر، بيروت، 1406هـ/ 1987م، عند تفسير الآية.

[9]. روح المعاني، الألوسي، دار الفكر، بيروت، 1406هـ/ 1987م، عند تفسير الآية.

[10]. إعراب القرآن الكريم وبيانه، محيي الدين الدرويش، دار الإرشاد، دمشق، 1408هـ/ 1988م، ج2، ص376، 377.

 

  • الاثنين AM 03:36
    2020-09-07
  • 1104
Powered by: GateGold